الوفاء بالشرط الاجتماعي أساس العلاقة بين الناس

الوفاء بالشرط الاجتماعي أساس العلاقة بين الناس

 

يوسف أبا الخيل

 

باتت تطرح، بين الفينة والأخرى، مسألة العلاقة مع الآخر تحت وطأة إحساس المجتمعات الإسلامية بما يترتب على تلك العلاقة وما يلزم عنها من آثار تؤثر، سواء بسلبياتها أو بإيجابياتها، على قدرته على تحقيق شروط الاندماج الحضاري الذي يعتمد، من ضمن ما يعتمد عليه، على قدرة المجتمع على تجذير علاقة إيجابية ومتكافئة، سواء فيما بين أفراده كمواطنين، أو مع الآخرين الذين لا يشاركونه الوطن أو الديانة، تتخذ من الشأن الاجتماعي، أساسا تتكئ عليه كمرجعية أساسية أفرزها تطور الفكر السياسي المعاصر بابتكاره نموذج الدولة القومية الذي ضيق من مجال الحاكميات الفردية فيما يتعلق بتنظيم وتكييف الاجتماع البشري المعاصر الذي يختلف، في تركيبته ومتطلباته وعلاقاته، عن النماذج الاجتماعية السابقة التي كانت الهويات الروحية تشكل مرجعيتها الوحيدة.

وقد اقتحمت مسألة أو قضية (الغيرية) التي كانت محسوبة فيما مضى على المجال غير المفكر فيه، بكل حمولتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، المشهد الثقافي الإسلامي، نتيجة إحساس المجتمعات الإسلامية بثقل استحقاقات العولمة الجديدة وما أدت إليه من تداخل المصالح بين المجتمعات المعاصرة، بغض النظر عن هوياتها الروحية ، بعيدا عن أن تلقي بظلالها على مسيرة تلك المصالح التي تشابكت على إثرها العلاقات بين تلك المجتمعات، بعد أن أصبحت مفتوحة قِبَلَ بعضها بشكل هدم جدران الخصوصية، وأذاب جليد الفواصل بكل تجلياتها. وهو وضع بدأ يلح على المجتمعات الإسلامية بأن تعَظِّم من جانب الشأن الاجتماعي القابل بطبيعته، بحكم دنيويته التي أناط الإسلام بالفاعلين الاجتماعيين جانب تكييفه القانوني وفقا لمقتضيات المصلحة الاجتماعية المتغيرة( قصة تأبير النخل)، حتى تستطيع النأي به بعيدا عن حياض الشأن العقائدي الذي لا بد وأن يكون الأمر، بشأنه، مقطوعا ثابتا، بينما الشأن الدنيوي، بطبيعته، نسبي متغير.

أحد أهم مفاصل هذه (الغيرية)، والتي بدورها تشكل أحد أهم لوازم التداخل بين المجتمعات المعاصرة، وأحد أهم أسئلة ما بعد الانصهار السياسي في النموذج القومي القطري، الذي ذابت فيه كافة الهويات الفردية، ما بات يطرح حاليا على بساط البحث الشرعي من تساؤلات حول (مدى) جواز مشاركة- تهنئة الآخرين بمناسباتهم الاجتماعية من عدمه. ومثل هذا الطرح، بالإضافة إلى أنه إفراز طبيعي لهذه الغيرية الضاغطة على الأنا الإسلامية، فإنه يشكل -في تقديري - بداية انعتاق ثقافي من أسءر مقولات طالما رهنت كثيرا مما هو محسوب بطبيعته على المجال الاجتماعي الذي ينظمه ضابط "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، أو ما هو محسوب على جانب الإباحة الشرعية، لصالح الجانب التحريمي، إما مراعاة لقاعدة سد الذرائع، وإما أخذا بالجانب الأحوط الذي يلزم عنه التحرج من الأخذ بالمباح خوفا من الولوج في الحرام!!.يحدث كل هذا، في الوقت الذي يؤكد فيه القرآن الكريم أن الله تعالى قد فصَّل لعباده ما حرمه عليهم . فقد قال تعالى في الآية 119من سورة الأنعام: (وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)، وهو ما يعني، بمفهوم المقابلة، أن ما لم يُفصِّل الله لنا تحريمه - كما يقول ابن حزم - فليس بحرام. ومع ذلك فمن الضروري أن يدخل التكييف الشرعي على خط هذا التطور النوعي في العلاقات الاجتماعية ليكشف (شرعية) مثل هذه الممارسات المحسوبة أساسا على قيم التطور الاجتماعي الذي يستلزم بطبيعته إنشاء قيم جديدة تستطيع التعايش مع الوضع الاجتماعي الجديد.

والحكم الشرعي المعتمد على الأصل الدلالي، إن لم يكن يؤكد على ندب أو وجوب مشاركة الآخرين مناسباتهم، فهو، على الأقل يؤكد جوازها، فقد أكد الله تعالى في القرآن الكريم على وجوب بر وصلة كافة بني الإنسان المحققين لشروط العلاقة السلمية الاجتماعية بقوله تعالى في سورة الممتحنة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم). والقسط، كما يقول المفسرون، هو أن تأخذ حقك من الآخر وتعطيه حقه بلا زيادة ولا نقصان، أما البر فهو درجة أعلى من القسط، تشير إلى إعطائه ما لم يطلبه أو زيادته على ما أعطاك. ومن ثم فإن من مقتضيات تفسير هذه الآية أن تكون التهنئة بمناسبات الفرح محسوبة على أعمال البر، هذا فيما إذا لم يبادر الآخر بالتهنئة. أما إذا بادر بذلك، فستكون مسألة تهنئته بمناسباته محسوبة على أعمال القسط الذي لا يعذر المكلف بعدم أدائها. وربما نجد في قصة استفسار أسماء بنت أبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم عما يمكنها فعله تجاه أمها المشركة التي كانت راغبة في صلتها ما يدل على قيمة العلاقة مع الآخرين باعتبارها محسوبة في الأساس على ما يمتلكه ذلك الآخر من قدرة على الوفاء بالشرط الاجتماعي، ناهيك عن قيمة البر والصلة للقريب. فقد أجابها صلى الله عليه وسلم بقوله: "صلي أمك".

وإذا كان هذا في حق المشرك، فإن من المعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف كثيرا من موقفه مع المشركين. وقد أكد جمع من المفسرين، على رأسهم الطبري والقرطبي، على أن آية سورة الممتحنة الآنفة الذكر نزلت بعد حادثة أسماء بنت أبي بكر، لتؤكد موقف الإسلام الحاث على صلة وتهنئة الناس جميعا متى ما أوفوا بالشرط السلمي للعلاقة الاجتماعية.، سواء بالمبادرة، أو بالرد بالمثل. يؤيد ذلك ما ذكره الله تعالى في قصة لقمان من أمره له بأن يصاحب والديه المشركين معروفا. وربما يعترض معترض على هذا الاستدلال بأن ما جاء في حديث أسماء وقصة لقمان يخص الوالدين غير المسلمين فقط، ودفع هذا الاعتراض يتأكد إذا علمنا أن القرآن شدد على (حرمة) إقامة أي نوع من أنواع العلاقة مع المعتدين على الأوطان، حتى ولو كانوا من الآباء أو الأبناء أو الإخوان، فقد قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم). ومعلوم أن هذه الآية نزلت فِي أبي عبيدة بن الجراح عندما قتل أباه عبدالله بن الجراح يوم أحد، وقيل: يوم بدر. فقد كان الجراح يتصدى لابنه أبي عبيدة الذي كان يحيد عنه، فلما أكثر الجراح من التصدي لابنه، قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله هذه الآية. وهذا يعني أنه إذا كان دفع الوالد المحارب مما يحض عليه الإسلام، فتهنئته بالمناسبات يجب أن تكون، من باب أولى، ممالا تجوز المبادرة به.

المصدر: http://www.alriyadh.com/2008/05/28/article346050.html

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك