مبادئ للتقريب بين المذاهب الإسلامية

مبادئ للتقريب بين المذاهب الإسلامية

يوسف القرضاوي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، أولئك هم المفلحون، ورضي الله عمن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد..

 

فقد تنادى الكثيرون في المشرق والمغرب -ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001- إلى الحوار بين الأديان، وخصوصاً الدينين الكتابيين الكبيرين: المسيحية والإسلام، وتجاوب الكثيرون مع هذه الدعوة، والتقى المسلمون والنصارى في عدة لقاءات ومؤتمرات في أكثر من بلد، وشاركتُ شخصيًّا في حضور مؤتمرين كبيرين: أحدهما في روما بدعوة من جمعية سانت جديو الشهيرة، وهو المؤتمر الذي سموه (القمة الإسلامية المسيحية) نظراً لأهمية الذين شاركوا فيه من الجانبين، والثاني كان في القاهرة بدعوة من المجلس الأعلى العالمي للدعوة والإغاثة ومنتدى الحوار الإسلامي، وكان التركيز فيه على نصارى الشرق أكثر من غيرهم. كما شاركت في مؤتمرات ولقاءات أخرى، وإن لم تكن على هذا المستوى.

 

وهنا تعالت أصوات كثيرة داخل العالم الإسلامي تنادي: لماذا لا يتحاور المسلمون بعضهم مع بعض؟ أليس هذا من الأولويات؟ أليس الحديث يقول: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"؟

 

تُرى هل ما بيننا نحن -المسلمين- من الخلاف أوسع وأكبر مما بيننا وبين أهل الأديان الأخرى؟ ولماذا إذن لا نتحاور، بغية التفاهم والتقارب؟

 

ولا شك أن منطق الدين والعلم والواقع يؤكد أن حوار المسلمين بعضهم مع بعض أحق وأولى بالاهتمام من الحكماء والعقلاء من أبناء الأمة، وإذا كنا مأمورين بالحوار مع مخالفينا من أهل الديانات الأخرى، بقوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125] أفلا نحاور من يجمعنا به العقيدة الواحدة، والقبلة الواحدة، وكلمة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)؟

 

لهذا أعتقد بأن اهتمامنا بالحوار الإسلامي المسيحي لا يجوز أن يزيد على اهتمامنا بالحوار الإسلامي الإسلامي، ولا سيما بين الفئتين الكبيرتين: السنة والشيعة، بغية التقريب بينهما بالحق لا بالباطل.

 

إن اللقاء والحوار وتبادل الأفكار يساعدنا على أن يفهم بعضنا بعضا، ويقترب بعضنا من بعض، ويزيل الجفوة، وينشئ المودة، ويجلو كثيرا من الغوامض، ويزيح الكثير من الشبهات؛ وذلك إذا خلصت النيات، وصحت الأهداف، وقويت العزائم، وغلب العقل على الهوى، والحكمة على التهور، والوسط على الشطط.

 

على أن هنا عاملا مهمًا يدعو الأمة كلها، بجميع مذاهبها ومدارسها وطوائفها أن تتقارب وتتلاحم وتتضامن فيما بينها، وهو الخطر الداهم الذي يهدد الأمة جمعاء، إن لم تقف له بالمرصاد، إنه خطر تجمعت فيه اليهودية والصليبية والوثنية، رغم ما بين بعضها وبعض من خلافات، ولكن جمعهم العدو المشترك وهو الإسلام، وصدق قول الله تعالى: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية: 19].

 

وإذا جاز للأمة -وما هو بجائز- أن تفترق في أيام الرخاء والعافية، فلا يجوز لها أن تتفرق في أيام الشدة والبلاء، فإن الشدائد تجمع المتفرقين، والمحن توحد المختلفين، والأخطار تقرب المتباعدين، ورحم الله أحمد شوقي حين قال: إن المصائب يجمعن المصابين!

 

لهذا كتبت هذه الورقة راجيا بها أن أضيء شمعة في طريق التقريب بين الجماعات والمدارس الإسلامية في هذا الوقت العصيب الذي تتعرض فيه الأمة لكل أنواع الغزو: الديني، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي، والعسكري، وهي أحوج ما تكون إلى وحدة الهدف، ووحدة الصف، وأن تعتصم بحبل الله جميعاً ولا تتفرق، وواجب علماء الأمة أن ينبهوها إلى ذلك، حتى لا تغلب على أمرها، وتسقط في يد أعدائها، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. * معرفة الآخر من مصادره .. وحسن الظن به أول ما ينبغي أن تقوم عليه محاور الحوار الإسلامي الإسلامي، هو حسن الفهم؛ فمما لا ريب فيه أن حسن الفهم مطلوب في كل شيء، قبل البدء في أي عمل حتى يكون السير فيه على بصيرة؛ لأن صحة التصور ضرورية في صحة العمل والتصرف. ولهذا كان العلم في الإسلام مقدما على العمل، كما ترجم لذلك الإمام البخاري في صحيحه، واستدل لذلك بقوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19] فأمر بالعلم قبل أن يأمر بالاستغفار.

 

ومن هنا كان أول ما نزل من القرآن: (اقرأ) وثاني ما نزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 1-4]، فكانت القراءة وهي مفتاح العلم والفهم مقدمة على المطالبة بالأعمال.

 

ونعني بـ(حسن الفهم) حسن التعرف على حقيقة موقف الطرف الآخر، وذلك بأخذ هذا الموقف من مصادره الموثقة، أو من العلماء الثقات المعروفين، لا من أفواه العامة، ولا من الشائعات، ولا من واقع الناس؛ فكثيرا ما يكون الواقع غير موافق للشرع.

 

ومن المهم أن نفرق بين الأصول والفروع، وبين الفرائض والنوافل، وبين المتفق عليه والمختلف فيه، وبين الشائعات والحقائق، وبين ما يلزم به الفقه وما يعمله الناس من عند أنفسهم.

 

خذ مثلا قضية (تحريف القرآن)؛ فهناك من علماء الشيعة من قالوا: إن القرآن الكريم محرف؛ بمعنى أنه ناقص، وليس كاملا، وألفوا في ذلك كتبا، واستدلوا على ذلك ببعض الروايات التي تسند رأيهم من (الكافي) ومن غيره من كتبهم المعتبرة عندهم.

 

ولكن هذا الرأي ليس متفقا عليه؛ فهناك من علمائهم من رد عليه، وفند شبهاته، وهذا هو الذي يجب أن نعتمده، ولا نعتمد الرأي الآخر.

 

والذي يجعلنا نعتمد رأي نفاة التحريف في القرآن جملة أمور:

 

1ـ أنهم جميعا متفقون على أن ما بين دفتي المصحف كله كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

2ـ أن المصحف الذي عند الشيعة في كل العالم اليوم هو المصحف الذي يوجد عند أهل السنة؛ فالمصحف المطبوع في إيران هو نفسه المطبوع في السعودية وفي مصر وفي باكستان والمغرب وغيرها من بلاد العالم الإسلامي.

 

3ـ أن هذا القرآن -الذي يدعي البعض تحريفه- هو الذي يفسره مفسرو الشيعة من قديم إلى اليوم، لا يوجد قرآن غيره يقومون بتفسيره، وهو الذي يتحدثون عن بلاغته وإعجازه إلى اليوم.

 

4ـ أن هذا القرآن هو الذي يستدلون به على معتقداتهم في كتبهم العقائدية، وهو الذي يحتجون به على الأحكام في كتبهم الفقهية.

 

5ـ أن هذا القرآن هو الذي يعلمونه لأولادهم في المدارس الدينية والحكومية، وعلى شاشات التلفاز وغيرها.

 

فهذا ما جعلنا نؤكد وجوب التفرقة بين المتفق عليه والمختلف فيه، والمتفق عليه هو الذي يلزمنا.

 

وخذ مثلا قضية حرص الشيعة في صلاتهم على السجود على حصاة؛ فالشائع عندنا –أهل السنة- أن الدافع إلى ذلك هو تقديس الشيعة لهذه الحصاة؛ لأنها من طينة كربلاء التي قتل فيها الحسين، أو دفن فيها رضي الله عنه. وقد كنت أنا شخصيا أعتقد ذلك في أول الأمر، حتى زارنا في الدوحة في الستينيات من القرن العشرين الإمام موسى الصدر الزعيم الشيعي المعروف في لبنان، ورئيس المجلس الشيعي الأعلى بها، وقد تباحثنا في بعض الأمور، ومنها هذه الحصاة، فعلمت منه أن الشيعة الجعفرية يشترطون أن يكون السجود على جنس الأرض، فلا يجيزون السجود على السجاد أو الموكيت، أو الثياب أو نحوها.

 

ونظرا لأن أكثر المساجد أصبحت مفروشة بما لا يجوز السجود عليه في مذهبهم؛ فقد حاولوا أن يوفروا لكل مصل حصاة من جنس الأرض يصلي عليها، وليس من الضروري أن تكون من طينة كربلاء، ولا من غيرها. وقد عرفت ذلك بالقراءة والدراسة في كتب الجعفرية، وعندي عدد منها، من (المختصر النافع) إلى (جواهر الكلام).

 

وعندما زرت إيران سنة 1998م تأكدت من ذلك؛ فقد زارني كثير من العلماء في حجرتي في الفندق الذي أنزل فيه، وصلوا عندي، ولم يكن معهم هذا الحجر، بل وجدتهم أخذوا ورقة "كلينكس"، ووضعوها أمامهم ليسجدوا عليها بدلا من الحجر أو الحصاة، واعتبروا الكلينكس من جنس الأرض؛ لأنه ليس من المنسوجات كالسجاجيد ونحوها.

 

المهم أن فكرة (الطينة المقدسة) التي كانت ثابتة عندي قد زالت بسؤال العلماء الثقات والأخذ عنهم، والاطلاع على المراجع العلمية الموثقة، بدل الأخذ بما يشاع عند عوام الناس دون استناد إلى بينة أو دليل.

 

وقد قال آية الله الشيخ جعفر السبحاني في كتابه (الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف): إن المستحسن عند الشيعة هو اتخاذ تربة طاهرة طيبة، ليتيقن من طهارتها من أي أرض أخذت، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلها في ذلك سواء[1].

 

وهذا المبدأ -حسن الفهم- كما أطالب به أهل السنة في موقفهم من الشيعة.. أطالب به -من غير شك- الشيعة في موقفهم من السنة، وضرورة تفرقتهم بين الأصول والفروع، وبين الفرائض الأساسية والنوافل الهامشية، وبين المتفق عليه بين أهل السنة والمختلف فيه بينهم -وما أكثره!- وبين الشائع عند العوام والحقيقة عند أهل العلم الثقات، وبين عمل الناس وما يوجبه الشرع.

 

حسن الظن بالآخر

 

والمحور الثاني المطلوب في الحوار الإسلامي الإسلامي أو التقريب بين المذاهب هو حسن الظن بين الطرفين، وأساس ذلك أن الإسلام يقيم العلاقة بين أبنائه على حسن الظن؛ بمعنى أن يحمل حال غيره على أحسن المحامل، وإن كان يحتمل معنى آخر، وتصورا آخر.

 

وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12] وهذا الظن الآثم هو ظن السوء بالآخرين. يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية [2]: "يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فيجتنب كثير منه احتياطا. وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا.

 

وذكر ابن كثير هنا ما أخرجه ابن ماجه في سننه من حديث عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك! وما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه "وإن نظن به إلا خيرا" [3].

 

وذكر حديث الشيخين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا".

 

والواجب ظن الخير بالمسلمين ما لم يثبت لنا عكسه بيقين، قال تعالى في حديث الإفك: (لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [النور: 12]، وقال سبحانه يذم المنافقين: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح: 12].

 

إن سوء الظن يجعل الناس عند صاحبه متهمين، ينظر إليهم بمنظار قاتم أسود يخفي مزاياهم وحسناتهم، وينظر إلى عيوبهم وسيئاتهم من خلال ميكروسكوب ويضخمها؛ فيجعل الحبة قبة كما يقولون.

 

ولقد كنت ذكرت في كتابي (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف) من علامات التطرف ومظاهر الغلو (سوء الظن بالناس) وقلت هناك: (تجد الغلاة دائما يسارعون إلى سوء الظن والاتهام لأدنى سبب، فلا يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتشون عن العيوب، ويتقممون الأخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفرا)!!

 

وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شر وغواية، رجحوا احتمال الشر على احتمال الخير، خلافا لما أثر عن علماء الأمة من أن الأصل حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان.

 

وقد كان بعض السلف يقول: إني لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه! من خالف هؤلاء في رأي أو سلوك –تبعا لوجهة نظر عنده– اتهم في دينه بالمعصية أو الابتداع أو احتقار السنة، أو ما شاء لهم سوء الظن.

 

ولا يقتصر سوء الظن عند هؤلاء على العامة، بل يتعدى إلى الخاصة، وخاصة الخاصة؛ فلا يكاد ينجو فقيه أو داعية أو مفكر إلا مسه شواظ من اتهام هؤلاء. فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون بالدين. وإذا عرض داعية الإسلام عرضا يلائم ذوق العصر، متكلما بلسان أهل زمانه ليبين لهم؛ فهو متهم بالهزيمة النفسية أمام الغرب وحضارة الغرب.. وهكذا.

 

ولم يقف الاتهام عند الأحياء بل انتقل إلى الأموات الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة إلا صوّبوا إليها سهام الاتهام؛ فهذا ماسوني، وذلك جَهْمِيّ، وآخر معتزلي. حتى أئمة المذاهب المتبوعة –على ما لهم من فضل ومكانة لدى الأمة في عصورها كافة– لم يسلموا من ألسنتهم ومن سوء ظنهم.

 

بل إن تاريخ الأمة كله –بما فيه من علم وثقافة وحضارة- قد أصابه من هؤلاء ما أصاب الحاضر وأكثر؛ فهو عند جماعة تاريخ فتن وصراع على السلطة، وعند آخرين تاريخ جاهلية وكفر، حتى زعم بعضهم أن الأمة كلها قد كفرت بعد القرن الرابع الهجري![4].

 

وقديما قال أحد أسلاف هؤلاء لسيد البشر صلى الله عليه وسلم بعد قسمة قسمها: "إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! اعدل يا محمد فإنك لم تعدل!"، ومنهم من قال له: "اتق الله يا محمد"[5].

 

إن ولع هؤلاء بالهدم لا بالبناء ولع قديم، وغرامهم بانتقاد غيرهم وتزكية أنفسهم شنشنة معروفة، والله تعالى يقول: (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32].

 

إن آفة هؤلاء هي سوء الظن المتغلغل في أعماق نفوسهم، ولو رجعوا إلى القرآن والسنة لوجدوا فيهما ما يغرس في نفس المسلم حسن الظن بعباد الله، فإذا وجد عيبًا ستره ليستره الله في الدنيا والآخرة، وإذا وجد حسنة أظهرها وأذاعها، ولا تنسيه سيئة رآها في مسلم حسناته الأخرى، ما يعلم منها وما لا يعلم.

 

أجل.. إن التعاليم الإسلامية تحذر أشد التحذير من خصلتين: سوء الظن بالله، وسوء الظن بالناس، وأصل هذا كله الغرور بالنفس، والازدراء للغير، ومن هنا كانت أول معصية لله في العالم؛ معصية إبليس، وأساسها الغرور والكبر (أنا خير منه).

 

وحسبنا في التحذير من هذا الاتجاه الحديث النبوي الصحيح: "إذا سمعتم الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم"[6]. جاءت الرواية بفتح الكاف "فهو أهْلَكَهُمْ" على أنه فعل ماض؛ أي: كان سببا في هلاكهم باستعلائه عليهم وسوء ظنه بهم، وتيئيسهم من روح الله تعالى. وجاءت بضم الكاف أيضا؟ "فهو أهلكُهم" أي أشدهم وأسرعهم هلاكا، بغروره وإعجابه بنفسه، واتهامه لهم.

 

والإعجاب بالنفس أحد المهلكات الأخلاقية التي سماها علماؤنا (معاصي القلوب) التي حذر منها الحديث النبوي بقوله: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه"[7].

 

هذا مع أن المسلم لا يغتر بعمله أبدا، ويخشى أن يكون فيه من الدخَل والخلل ما يحول دون قبوله وهو لا يدري، والقرآن يصف المؤمنين السابقين بالخيرات، فيقول في أوصافهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60]، وقد ورد في الحديث أن هذه الآية فيمن عمل الصالحات، ويخاف ألا يقبل الله منه.

 

ومن حكم ابن عطاء: ربما فتح الله لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قدر عليك المعصية؛ فكانت سببا في الوصول، معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عجبا واستكبارا. وأصل هذا من حكمة للإمام علي رضي الله عنه قال: سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك.

 

وقال ابن مسعود: الهلاك في اثنين: العجب والقنوط، وذلك أن السعادة لا تدرك إلا بالسعي والطلب، والمعجب بنفسه لا يسعى لأنه قد وصل، والقانط لا يسعى لأنه لا فائدة للسعي في نظره)[8] انتهى.

 

لهذا أرى أن أول ما ينبغي أن نطرحه من طريقنا لكي نقرب الأمة بعضها من بعض هو سوء الظن، وأن نغلب فضيلة حسن الظن فيما بيننا، كما هو شأن أهل الإيمان.

 

حكيت لأحد المتشددين مواقف لبعض الشيعة، رأيت فيها الصدق والاستقامة والاعتدال والإخلاص، فما كان من هذا الأخ إلا أنه قال: هذا فعله تقيّة! فالتقية جزء من تكوين الشيعة الديني.

 

وذكرت لمتشدد آخر أن العلماء في إيران عندما زرتهم قدموني لأصلي بهم إماما، وأنا في دارهم، فقال: هذا من باب التقيّة! قلت: وما الداعي إلى التقية، ولست ممن يرجى ويخشى، ولم أطلب هذا ولم أتوقعه؟ والتقية إنما يقوم بها الضعيف، وبعد نجاح الثورة الإسلامية، وإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران أصبح القوم أقوياء.

 

إن حمل كل عمل طيب، أو تصرف صالح من الشيعة، على أنه من باب (التقية) هو ضرب من سوء الظن، لا مبرر له ولا داعي إليه. * لنتعاون في المتفق عليه.. ولنتحاور في المختلف فيه

 

أ.د يوسف القرضاوي

28/10/2003 ومن المبادئ المهمة في هذا الحوار أن نركز على مواضع الاتفاق، لا على نقاط التمايز والاختلاف، وخاصة أن معظم نقاط الاتفاق في الأمور الأساسية التي لا يقوم الدين إلا بها، بخلاف نقاط التمايز؛ فجلها في الفرعيات.

 

من هذه النقاط:

 

أ ـ الاتفاق على الإيمان بالله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم النبيين، وأنه جاء ليتمم رسالات السماء جميعا، والإيمان بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بجميع كتب الله، وجميع رسل الله، كما قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285]، فهذه قواعد الإيمان الأساسية نتفق جميعا على الإيمان بها، وهي أسس الدين وركائزه.

 

ب ـ الاتفاق على الإيمان بالقرآن الكريم، وأنه كتاب الله المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هود: 1] وأنه محفوظ من التحريف والتبديل بضمانة الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]. وأنه لا يخالف مسلم –سني أو شيعي – في أن ما بين الدفتين كلام الله.

 

وبهذا المصحف وآياته وكلماته يستدل المناظرون في العقائد، ويحتج بها المستنبطون للأحكام، ويرجع إليها أهل الدعوة والتربية والتوجيه؛ فينهلون من معينها العذب، ويقتبسون من سناها المضيء.

 

أما هل هناك زيادة على هذا القرآن -وهو ما زعمه قوم- فهذا لا نثيره؛ لأنه استطراد لا نحتاج إليه؛ فهذا القدر الذي اتفقنا عليه هو الذي يلزمنا، وهو المفروض علينا اتباعه والعمل به، وعدم الإخلال بأي جزء منه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50،49]. فهنا نجد النص القرآني يحذر الرسول من اتباع أهواء أهل الكتاب وأمثالهم، وأن يفتنوه عن (بعض ما أنزل الله إليه)، إشارة إلى أن كل ما أنزل الله واجب الاتباع.

 

جـ ـ ومن نقاط الاتفاق: الالتزام بأركان الإسلام العملية: من الشهادتين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. فالفريقان –سنة وشيعة- يؤمنون بهذه الأركان أو الفرائض، وإن وجد خلاف بينهم في بعض الأحكام؛ فهو كما يحدث بين مذاهب السنة بعضها وبعض، فكم من فرق بين المذهب الحنبلي مثلا والمذهب الحنفي أو المالكي، وكم من مسائل انفرد بها المذهب الحنبلي عن المذاهب الأربعة، عرفت باسم (مفردات المذهب) ونظمها بعضهم في منظومة معروفة.

 

ومن يقرأ كتابا يهتم بفقه الاختلاف مثل (نيل الأوطار) للإمام الشوكاني رحمه الله يجد أنه يذكر علماء الأمصار وأئمة الفقه من أهل السنة ومن الشيعة، أو كما يسميهم هو وغيره فقهاء (العترة) أو (آل البيت) مثل الباقر والصادق والناصر والهادي وغيرهم، فلا يكاد القارئ أو الدارس يحس بفرق معتبر بين هذه المذاهب ومذاهب السنة، إلا كما يحس الفرق بين مذاهب السنة بعضها وبعض.

 

وإذا كان هذا واضحا بينا في العبادات، فهو أبين وأوضح في المعاملات.

 

وإذا كانوا هم لا يعترفون بكتب أهل السنة التي تعد مراجعهم في الحديث النبوي، مثل الكتب التسعة: الموطأ ومسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي، وغيرها من الكتب، فإن معظم ما ثبت عندنا بالسنة ثبت عندهم من طريق رواتهم، إما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وإما عن طريق إمام من أئمتهم الذين يعتبرونهم معصومين.

 

والمهم: أن الفقهين في النهاية –فقه السنة وفقه الشيعة- يتقاربان إلى حد كبير؛ لأن المصدر الأصلي واحد، وهو الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة، والأهداف الأساسية والمقاصد الكلية للدين واحدة عند الفريقين، وهي: إقامة عدل الله ورحمته بين عباده.

 

وكثير من الآراء التي تعتبر شاذة عندنا من أحكامهم نجد بين أهل السنة من قال بها إذا أجدنا البحث والتنقيب.

 

خذ أشهر مسألة في الفقه حدث فيها الاختلاف بين المذهبين، وهي: زواج المتعة؛ فقد قال بها حبر الأمة ابن عباس، وإن قيل: إنه رجع عنها، ولكن ظل عدد من أصحابه في مكة وفي اليمن يفتون بها، مثل: عطاء وسعيد بن جبير وطاوس رضي الله عنهم جميعا.

 

التحاور في المختلف فيه

 

كان العلامة الشيخ محمد رشيد رضا صاحب (مجلة المنار) و(تفسير المنار) قد وضع قاعدة للتعامل بين المختلفين من (أهل القِبلة) سماها (القاعدة الذهبية) وهي القاعدة التي تقول: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).

 

وقد تبنى هذه القاعدة كل المصلحين من أهل الحكمة والاعتدال، وعلى رأسهم الإمام حسن البنا الذي ردد هذه الكلمة في بعض رسائله ومحاضراته، حتى حسبها بعض أتباعه من كلمات البنا نفسه. وقد شكك بعض إخواننا من السلفيين في الشق الثاني من هذه القاعدة، وقال: كيف نعذر المختلفين إذا خالفوا النص؟ وقد رددت على هؤلاء فيما كتبته في الجزء الثاني من كتابي (فتاوى معاصرة)، وبينت أن النصوص منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وهذا لا عذر لأحد في مخالفته، ولكن هذا النوع من النصوص قليل جدا.

 

ومعظم النصوص إما قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت قطعية الدلالة، أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة، وفي هذه (الظنية) مجال الاجتهاد والاختلاف، وهنا يكون عذر المخالف.

 

فقد يكون معك حديث في المسألة، ولكني أخالفك فيه؛ لأنه ثابت عندك، وليس بثابت عندي، ولهذا أمثلة لا تحصر. أو يكون ثابتا عند كلينا، ولكن فهمي له غير فهمك له، واستنباطي منه يخالف استنباطك، ومخالفتي لك هنا ليست مخالفة للحديث، بل لفهمك له، والحديث وحي، ولكن فهمك له ليس وحيا.

 

هذه القاعدة الذهبية حورها أحد إخواننا الباحثين المعاصرين، فجعلها بهذه الصيغة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ونتحاور فيما اختلفنا فيه). هكذا عدلها أخونا وصديقنا الباحث المدقق عبد الحليم محمد أبو شقة رحمه الله، صاحب موسوعة (تحرير المرأة في عصر الرسالة). وهو يرى رحمه الله: أن كل مختلف فيه قابل للحوار، إذا كان الحوار جادا ومخلصا في طلب الحقيقة، بعيدا عن التعصب والانغلاق. وربما أدى تلاقح الأفكار، وتفاعل الآراء، إلى جلاء نقطة غامضة، أو تقريب مسافة كانت بعيدة، أو الخروج بتفسير يقبله الطرفان أو غير ذلك.

 

ورأيي أن نركز في الحوار على (الجوانب العملية) ونؤجل الجوانب النظرية والتجريدية، فالغالب أن الجدل فيها لا يوصل إلى نتيجة، مثل (رؤية الله في الآخرة) فالخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة –ومنهم الشيعة الجعفرية والزيدية والإباضية- خلاف قديم عميق، والجدال حوله لا يقدم ولا يؤخر؛ لأن كل فريق متشبث برأيه، مُصِر على موقفه.

 

ذكر أبو حيان التوحيدي في (البصائر والذخائر) عن شيخه القاضي أبي حامد المَرْوَرُّوذي من أعلام الشافعية: أنه كان إذا رأى تراجع المتكلمين في مسائلهم، وثباتهم على مذاهبهم بعد طول جدلهم، ينشد:

 

ومَهْمَهٍ دليلُـه مطـوَّح يدأب فيه القوم حتى يَطلحوا

 

ثم يظلون كأن لم يبرحوا كأنما أمسوا بحيث أصبحوا![9]

 

و(الجوانب العملية) التي أشير إلى جدوى الحوار فيها أقصد بها أمرين:

 

الأمر الأول: ما يتعلق بمواقفنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ بحيث نجتمع حول هدف واحد، ونصدر عن موقف واحد، ونواجه المخططات المعادية بإستراتيجية واحدة.

 

وإذا كان في بعض الأحيان وقفت الجهات الإسلامية (الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والجمهورية الإيرانية الإسلامية) في مؤتمر السكان بالقاهرة صيف سنة 1994م مع ممثلي الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية في جبهة واحدة.. ضد دعاة الإباحية واستحلال الإجهاض بإطلاق، ودعاة العري والحرية الجنسية المطلقة، ورفع سلطة الأسرة عن التربية الجنسية للأطفال وغير ذلك؛ فقد اقتضت المصلحة المشتركة، والموقف الفكري المشترك أن يقف ممثلو الإسلام والنصرانية في خط واحد؛ فكيف لا يقف السنة والشيعة في خط واحد إذا كان العدو واحدا يريد الخلاص منهما جميعا؟!

 

والأمر الثاني: ما يتعلق بالأحكام الفقهية العملية؛ فالحوار فيها أيسر وأقرب منالا من البحث في الأمور العقائدية والكلامية. وربما كان البحث في المعاملات والفقه الاقتصادي أسهل من البحث في العبادات والشعائر والأركان الدينية. ولا مانع من البحث في العبادات بروح من يريد أن يجد حلا للمشكلات القائمة، لا بروح المتعصب المنغلق، الذي لا يريد أن يفتح بابا للتفاهم والتقارب.

 

ومن ذلك: البحث في "الجمع بين الصلاتين" (أي بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء) عند الشيعة: أهو رخصة يراد بها التيسير أم هو فريضة ملتزمة، كما نرى عند الشيعة اليوم في واقع الأمر؟ أم هل يقصد به مخالفة أهل السنة والتميز عنهم؟

 

والذي رأيته عند الشيعة ما قاله الشيخ السبحاني في كتابه (الإنصاف) الذي سبقت الإشارة إليه: "اتفقت الإمامية على أنه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا، وإن كان التفريق أفضل"[10].

 

ومن ذلك البحث في الشهادة الثالثة في الآذان: (وأشهد أن عليا ولي الله) أهذه الشهادة الزائدة على الشهادتين المتفق عليهما مما قرره الفقهاء وألزموا به؟ ومن أي عصر تقرر هذا؟ أم هذا من زيادات العوام، سكت عليها العلماء، خوفا من هياج العامة؟ وهو الظاهر.

 

مثل هذه المحاورات في الفقه العملي اليومي تكون مجدية إذا بحثت بروح الجدية والأخوة والتسامح، دون تشنج أو اتهام. * تجنب الاستفزاز.. والمصارحة بالحكمة ومن المبادئ المهمة في الحوار الإسلامي الإسلامي والتقريب بين المذاهب الإسلامية تجنب الاستفزاز من أحد الطرفين للآخر، فالحوار المنشود –أو الجدال بالتي هي أحسن كما سماه القرآن- يقتضي أن يتوخى كل من الطرفين في خطاب الآخر العبارات المثيرة، والكلمات المستفزة التي تحدث التوتر في الأعصاب، والإيغار في الصدور، واختيار الكلمات التي تقرب ولا تباعد، وتحبب ولا تبغض، وتجمع ولا تفرق.

 

ومن ذلك: ترك الألقاب التي لا يحبها أحد الفريقين: كتسمية الشيعة – بـ(الرافضة) وأهل السنة بـ (الناصبة). وخطاب كل فئة باللقب الذي تسمي به نفسها وقد قال تعالى: (وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) [الحجرات: 11] ومن أدب المسلم إذا لقي أخاه المسلم أن يدعوه بأحب الأسماء إليه. وقد اعتاد العرب أن ينادي بعضهم بعضا بكنيته، مثل: يا أبا حفص، أو يا أبا الحسن، أو يا أبا ذر.

 

ومن ذلك: البعد عن الموضوعات ذات الحساسية الخاصة التي إذا أثيرت اشتعلت النار، وارتفع الدخان، مثل الإساءة إلى آل البيت من قبل السنة، أو إلى الصحابة من قبل الشيعة. ومن النادر –بل الشاذ- أن يمس أحد من السنة آل البيت؛ لأن لآل البيت عندهم من الكرامة والمنزلة والقرب ما يجعلهم محببين إلى كل قلب، ممدوحين على كل لسان، ومَن من أهل السنة لا يحب أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه، وفاطمة الزهراء رضي الله عنها أحب الناس إلى رسول الله رضي الله عنها، وابنيها الحسن والحسين سبطي رسول الله وسيدَيْ شباب أهل الجنة؟!

 

ولذلك تبقى المشكلة في (سب الصحابة) من قبل الشيعة، وخصوصا الكبار منهم، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، مثل الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، ومن كان من العشرة المبشرين بالجنة مثل طلحة والزبير، وهؤلاء جميعا من السابقين الأولين من المهاجرين، الذين كان لهم فضل السبق إلى الإيمان برسول الله، فصدقوه حيث كذبه الناس، وآمنوا به حيث كفر به الناس، ولذا أثنى عليهم الله تعالى في كتابه، ورضي الله عنهم ورضوا عنه.

 

ومثل ذلك: من برّأها الله من فوق سبع سماوات؛ الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وغيرهم من الصحابة الذين هم دون هؤلاء في المنزلة، ولكنهم سعدوا بصحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وكلهم على خير، كما قال تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد: 10].

 

وهذه هي النقطة الحساسة، بل الشديدة الحساسية بيننا وبين إخواننا من الشيعة، فليس يمكن أن نتفاهم ونتقارب فيما بيننا، وأنا أقول: أبو بكر رضي الله عنه، وأنت تقول: أبو بكر لعنه الله!! فكم من الفرق البعيد بين الترضي عن شخص وقذفه باللعنة؟!

 

وقد تحدثت مع عدد من علماء الشيعة ممن أعرفهم من ذوي الأناة والحكمة، وقلت لهم: إن هذه القضية هي الحاجز الأول أمام التقارب، ولا بد للعقلاء أن يحاصروها، أو على الأقل يخففوا من آثارها، فإنها إذا تركت لغرائز العوام المشحونة بالغضب والحقد جديرة بأن تأكل الأخضر واليابس، ولا تدع لأهل العلم والحكمة فرصة في التوحيد أو التقريب.

 

والحق أقول: إن هؤلاء العقلاء -أمثال آية الله محمد علي التسخيري، وآية الله واعظ زاده وغيرهما- وافقوني تماما على ذلك، وأكدوا لي أن هذا الاتجاه يقوى عندهم وينتشر شيئا فشيئا، حتى إن المناهج الدارسية الجديدة في إيران تذكر في بعض كتبها مواقف تاريخية لأبي بكر وعمر فيها تمجيد لهما وثناء عليهما.

 

قلت لهم: هذا ما يجب أن يتبنى ويتوسع فيه في مؤسسات التربية الحكومية، وفي مجال التربية الأسرية الخاص؛ فإن الثقافة الشيعية الشعبية كثيرا ما تحمَّل بأوهام ومبالغات وخزعبلات، لا تثبت أمام النقد العلمي، ولكنها عند العامة حقائق -أو معتقدات- تحرك سواكنهم، وتثير كوامنهم.

 

والحقيقة أن هذه القضية الخطيرة في حاجة إلى تمحيص ومصارحة؛ لتصفيتها، وجلاء الغبار عنها، أو على الأقل للوقوف موقفا إيجابيا حكيما منها.

 

وأحب أن أضع هذه النقاط أمام إخواني الشيعة، لا أقصد بها إلا ابتغاء وجه الله، وخدمة دينه، وجمع الأمة كلها عليه..

 

أولا: أن هذا الذي حدث بين الصحابة بعضهم وبعض من خلاف -وإن دخلته المبالغات ولوثته الأهواء، وضخمته أجواء الفتن- قد أصبح تاريخا انتهى وطويت صفحاته بحلوه ومره، وخيره وشره، وسيسأل الله أصحابه ويجزيهم بأعمالهم ونياتهم، وأولى بنا أن ندع ذلك إلى الله ولا نكلف أنفسنا حسابهم. وقد قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 134].

 

وهذا ما جعل الخليفة الراشد المرضيّ عمر بن عبد العزيز يقول حينما سئل عن تلك الفتن وما جرى فيها: تلك دماء طهر الله فيها أيدينا، فلا نلطخ بها ألسنتا!

 

إن من قواعد التسامح بين المختلفين من أهل الديانات أن حساب الضال منا على ضلاله، والكافر على كفره، إنما هو إلى الله تعالى، وليس إلينا، وأن موعد هذا الحساب إنما هو في الآخرة، وليس في هذه الدنيا، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج: 17].

 

فإذا كان هذا شأن المختلفين من أهل الديانات المتباينة؛ فكيف بالمختلفين من أهل الدين الواحد؟

 

إن الأجدر بنا هنا أن نكل هؤلاء المختلفين إلى نياتهم وسرائرهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا.

 

على أن هؤلاء الصحابة لو سلمنا أنهم أخطئوا أو أذنبوا، لكان لهم من صحبتهم لرسول الله، ومن جهادهم معه ما يشفع لهم عند الله، كما قال الرسول لعمر في شأن حاطب بن أبي بلتعه، وقد قام بعمل من أعمال التجسس لحساب قريش قبيل فتح مكة، فقال عمر لرسول الله: "دعني أضرب عنقه فقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شهد بدرًا: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"[11].

 

وقد قال الإمام القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرن): (لا يجوز أن يُنسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبّدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بحسن الذكر، لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. هذا مع ما قد ورد من الإخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصيانا لم يكن بالقتل فيه شهيدا. وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيرا في الواجب عليه، لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة، فوجب حمل أمرهم على ما بيناه.

 

ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من إخبار عليّ بأن قاتل ابن صفية في النار. وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بشر قاتل ابن صفية بالنار". وإذا كانت كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصين ولا آثمين بالقتال؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة: "شهيد". ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار.

 

وكذلك من قعد غير مخطئ في التأويل بل صواب أراهم الله الاجتهاد. وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم، وإبطال فضائلهم وجهادهم، وعظيم غنائهم في الدين، رضي الله عنهم.

 

وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 134].

 

وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: تلك دماء قد طهر الله منها يدي، فلا أخضب بها لساني. يعني في التحرز من الوقوع في الخطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه.

 

قال ابن فُورَك: ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حدّ الولاية والنبوة؛ فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة.

 

وقال المحاسبي: فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم. وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم، فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغِبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا. قال المحاسبي: فنحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، ونتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف عند ما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متّهمين في الدين. ونسأل الله التوفيق.[12]

 

ثم إن علينا -من ناحية أخرى- أن نشتغل بحاضرنا، بدل أن يشغلنا ماضينا، وحاضرنا مليء بالمصاعب والآفات والعقبات التي تقف في وجوه المصلحين والمجددين، وهي تحتاج منا إلى جهود مضنية، كفيلة بأن تشغل عقولنا وقلوبنا وسواعدنا.

 

وقد سمعت شيخنا محمد الغزالي رحمه الله يرد على رجل يجادله فيما كان بين الصحابة، ويثير سؤالا لا معنى له: أيهما كان أحق بالخلافة: أبو بكر أم علي؟ فقال له الشيخ: لقد ذهب أبو بكر وذهب علي، وذهبت الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية، وألغيت الخلافة نهائيا من ديار الإسلام، وأصبح الذين يتحكمون فينا هم الخواجات الأجانب، لا أبو بكر ولا علي.. فإلى متى نظل في هذه المفاضلات الحمقاء؟!

 

ثانيا: أن مسألة "السب" في ذاتها ليست محمودة شرعا؛ فالمؤمن ليس سبابا ولا لعانا، والقرآن ينهى عن سب الأصنام، خشية أن يثير ذلك المشركين، فيسبوا الله تعالى دفاعا عن آلهتهم كما قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108].

 

ومن قرأ السنة النبوية وجد جملة من الأحاديث تنهى عن السب؛ ففي صحيح الجامع الصغير وزيادته تقرأ عدة أحاديث كلها تنهى عن السب من رقم

(7309) إلى (7322) [13]، ومنها:

 

"لا تسبوا أصحابي.. فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه".

 

"لا تسبوا الأموات، فإنهم أفضو إلى ما قدموا".

 

"لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر".

 

"لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة".

 

"لا تسبوا الريح، فإنها من رَوْح الله".

 

"لا تسبي الحُمّى فإنها تذهب خطايا بني آدم".

 

وأعجب هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الشيطان، وتعوذوا بالله من شره" حتى الشيطان الرجيم ينبغي ألا نشتغل بسبه، ولكن نتعوذ بالله من شره؛ لأن السب عمل سلبي، والاستعاذة من شر الشيطان عمل إيجابي.

 

والغربيون يقولون: بدل أن تسب الظلام أضئ شمعة. أي أن سب الظلام ولعنه لا يغير من الواقع شيئًا، وخير منه أن تعمل شيئا يضيء لك الطريق في الظلام، ولو كان شمعة صغيرة.

 

ثم إن عدم السب واللعن مطلقا لا يحمل أي مسؤولية، فليس سب الأشرار أو الكفار ولعنهم واجبا دينيا إذا لم يقم به المكلف كان معاتبا عليه أمام الله، حتى قال بعض الأئمة: لو عاش إنسان طول عمره دون أن يلعن فرعون، أو أبا جهل، أو إبليس، ما كان محاسبًا يوم القيامة على ذلك. ولو أنه لعن مرة واحدة من لا يستحق اللعنة لكان محاسبا أمام الله تعالى يوم الدين: لماذا لعنه؟

 

ولذا قال الإمام الغزالي: المؤمن ليس بلعان؛ فينبغي ألا يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم، دون الأشخاص المعنيين، فالاشتغال بذكر الله أولى، فإن لم يكن ففي السكوت سلامة.

 

قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون، فذكروا بلال بن أبي بردة (الوالي) فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه؛ وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن عون؛ إنما نذكره لما ارتكب منك! فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: "لا إله إلا الله"، "ولعن الله فلانا"، فلأن يخرج من صحيفتي: "لا إله إلا الله"؛ أحب إلي من أن يخرج منها : "لعن الله فلانا"!

 

وقال ابن عمر: أبغض الناس إلى الله كل طعان لعان"[14].

 

ثم إن سب الصحابة خاصة غير لائق بالمسلم، لصلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أصحابه وأخص الناس به، فهم قد تخرجوا في مدرسته، وتعلموا في حجره، واقتبسوا من مشكاة نبوته، وشاهدوا تنزيل القرآن، ووقائع السيرة، ومن الطبيعي والمنطقي أن ينالهم قبس من نور النبوة، وأن ينهلوا من فيض الرسالة، ومن سب أقرب تلاميذ الأستاذ له، فكأنما سب الأستاذ نفسه.

 

ولهذا كان التابعون أقرب في الفضل إليهم؛ لأنهم تتلمذوا عليهم، وأخذوا عنهم، ومن بعد التابعين بعدوا عن نور النبوة أكثر، وكل عصر يبعد أكثر من غيره.

 

وقد أثنى القرآن على الصحابة في مواضع منه، كما في سورة التوبة، وأواخر الأنفال، وآخر الفتح، وسورة الحديد، وسورة الحشر، وغيرها. بل أثنى القرآن على من اتبع الصحابة بإحسان، فقال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].

 

كما أثنى الرسول عليهم عموما وخصوصا في أحاديث انتشرت واستفاضت وبلغت مبلغ التواتر.

 

والتاريخ شاهد صدق على فضل هؤلاء؛ فهم الذين حفظوا لنا القرآن ونقلوه إلينا بالتواتر، وهم الذين رووا لنا سنن النبي وأقواله وأفعاله وتقريراته. وهم الذين فتحوا الفتوح، ونشروا الإسلام في آفاق الأرض، فلولاهم ما كنا نحن اليوم مسلمين، فهم الذين علموا الأمم الإسلام، بعد أن تعلموه من رسولهم عليه السلام.

 

نصيحة للفريقين:

 

وأود أن أنصح الفريقين من السنة والشيعة أن يحرصوا على نقل الأقوال التي من شأنها أن تجمع ولا تفرق، وأن تقرب ولا تباعد، وأن تزرع المحبة لا الأحقاد ولا البغضاء؛ فإنها هي الحالقة، لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.

 

من ذلك ما نقله العلامة الهندي الشيخ رحمة الله في كتابه القيم (إظهار الحق) الذي رد به على المنصِّرين فأفحمهم؛ قال رحمه الله: (وأنقل خمسة أقوال لأهل البيت عليهم السلام، على عدد الخمسة الطاهرين عليهم السلام.

 

(1) في "نهج البلاغة" الذي هو كتاب معتبر عند الشيعة، قول علي رضي الله عنه هكذا: (لله در فلان فلقد: 1: قوم الأَوْد، 2: وداوى العمد، 3: وأقام السنة، 4: وقمع البدعة، 5: ذهب نقي الثوب، 6: قليل العيب، 7: أصاب خيرها، 8: وسبق شرها، 9: أدى إلى الله طاعته، 10: واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال، ويستيقن المهتدي) انتهى.

 

والمراد بفلان -على مختار أكثر الشارحين، منهم البحراني- أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعلى مختار بعض الشارحين: عمر الفاروق رضي الله عنه، فذكر علي رضي الله عنه عشرة أوصاف، من أوصاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلا بد من وجودها، ولما ثبتت هذه الأوصاف له بعد مماته بإقرار علي رضي الله عنه، فما بقي في صحة خلافته شك.

 

(2) وفي "كشف الغمة" الذي هو تصنيف علي بن عيسى الأردبيلي الإثنا عشري الذي هو من الفضلاء المعتمدين عند الإمامية: (سئل الإمام جعفر عليه السلام عن حلية السيف: هل تجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. فقال الراوي: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه، فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق، فلا صدّق الله قوله في الدنيا والآخرة).

 

فثبت بإقرار الإمام الهمام أن أبابكر الصديق رضي الله عنه صديق حق، منكره كاذب في الدنيا والآخرة.

 

(3) ووقع في بعض مكاتيب علي رضي الله عنه -على ما نقل شارحو نهج البلاغة- في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هكذا: "لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لحرج في الإسلام شديد، رحمهما الله، وجزاهما الله بأحسن ما عملا".

 

(4) ونقل صاحب "الفصول" الذي هو من كبار علماء الإمامي

 

المصدر: موقع إسلام أون لاين

الأكثر مشاركة في الفيس بوك