التعددية السياسية والحرية في الاسلام
التعددية السياسية والحرية في الاسلام
نضير الخزرجي
يعد مفهوم التعددية والحرية السياسية، من الموضوعات الحساسة التي اخذت ابعادا مختلفة في الأدبيات الاسلامية منذ نحو قرن على يد شخصيات دينية وسياسية، واذا كان مفهوم التعددية السياسية قد طغى على الأدبيات الاسلامية الحركية السنية كما يبدو للعيان وهو المشهور، فإن الأدبيات الاسلامية الحركية الشيعية لا تخلو من ذلك، والذي أثار لدي هذا الموضوع هو ما لمسته من لغط يثار حول مفهوم التعددية السياسية ومدارات الحرية داخل الثقافة الاسلامية التي لا يمكن فصلها عن مراجعها ومراكزها الدينية التقليدية، وهو لغط اثاره العلمانيون بدعوتهم المستميتة لفصل الدين عن السياسة، وابعاد الدين عن مناحي الحياة الاخرى من اجتماعية واقتصادية وسياسية، وحصره في زوايا ضيقة بحيث يسهل السيطرة عليه وحجبه عن التفاعل مع مفردات الحياة، بما يوافق المنهجية العلمانية! وتغذي هذا اللغط عقليات اسلامية تظهر عن نيات طيبة حرصها على الدين، وترى ان سلامة الدين وصيانة المجتمع تبنيان على توخي الحذر واخذ الحيطة من التشاكل والتجانس مع الثقافة السياسية الغربية، وهي ثقافة عمودها التعددية السياسية والحرية السياسية، وركيزتها العمل الحزبي بشكل عام، فضلاً عن مناهج الاقتصاد الحر الذي لا يجد قبولا تاما لدى المؤسسة الاسلامية، وتعتقد ان مساوئ التعددية السياسية اكثر من منافعها، فلا تستسيغه، اضافة إلى وجود عقليات اسلامية مختلفة المستويات الثقافية والعلمية تعتقد ان التعددية السياسية من الامور المستحدثة الطارئة على الدين، وهي من الشبهات، وبعضهم يضعها على حد البدعة، والابتداع في دين الله من المحرمات الموجبة لغضب الرب.
وخلال قراءاتي المتعددة في الادبيات الاسلامية وعملي الاعلامي والصحافي، وتجاربي الخاصة، كان السؤال يحلق في ذهني دوما: ترى هل يجيز الاسلام التعددية السياسية؟ وهل تقع موقع الحرمة أم الوجوب ام تتأرجح في دائرة المباحات؟ وهل هناك مبان فقهية تجوز التعددية، متوفرة عند الفقهاء لكن البعض يحجم عن إعمالها كالعديد من المفاهيم الاسلامية التي وضعت في دائرة التجميد وحبيسة التعطيل؟ وهذا السؤال كان يزيده بروزا مجمل صراعات حزبية في الوسط الاسلامي وصلت ذروتها إلى حد تخطئة منهج حزبي بأكمله، ووضع القائمين والمؤمنين بالتعددية والحرية السياسية على حفرة من التخوين أو التكفير والخروج عن المألوف داخل المدرسة الاسلامية، أو تخطئة تصل الى الحرمة، ولو ضمن قطاعات خاصة من طبقات المجتمع، مثل حرمة تسيس طلبة العلوم الدينية، وهذه التخطئة لا تخص مدرسة حزبية دون غيرها، ولا مذهبا دون آخر، فنجد التخطئة في المدرسة السنية ونجدها في المدرسة الشيعية، على ان التخطئة في المدرسة الشيعية تزداد تعمقا نظرا لخصوصية الفكر الشيعي الامامي القائم على قاعدة الإمامة والنيابة العامة المتمثلة بالمرجعية الدينية التي تحتم على المسلم الشيعي التقليد في مسائل دينه الفرعية، والتعددية والحرية السياسية واحدة من المسائل الخاضعة للتقليد عند عدد من الفقهاء ومراجع التقليد، يقبلها القليل ويرفضها الكثير.
ولاحظت من خلال مطالعاتي وتنقلي بين المكتبات العامة والخاصة في عدد من البلدان التي زرتها كسورية وايران والسعودية والاردن، فضلا عن بلدي العراق، بحثا عن مصادر ومراجع موضوع الدراسة، ان المكتبة الاسلامية، خاصة المكتبة الشيعية الامامية تفتقر بشكل ملحوظ الى كتب ودراسات في هذا المجال، وهو ما قادني الى تناول هذا الملف الحساس ضمن اطروحة ماجستير الفلسفة، التي حملت عنوان «التعددية السياسية والحرية في الاسلام»، التي نوقشت يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) عام 2003 في المكتب العام للجامعة العالمية للعلوم الاسلامية في لندن، وتمت اجازتها.
لا يختلف اثنان على ان التنوع والتعدد والاختلاف من المفاهيم البادية للعيان يلامسها كل امرئ ويعايشها ويشاهدها في كل محور من محاور الكون، وهي من المسلمات في حياة الانسان بحيث لا تحتاج في البرهنة عليها الى كثير عناء، ولكن البحث العلمي والاكاديمي يقتضي البرهنة حتى يتم تجذير الموضوع ومفاهيمه وتعميق اصوله ومبانيه، وهو ما تمت معالجته في الفصل الأول المعنون (مظاهر التعددية والاختلاف في الاسلام) وفي ستة مباحث. تم في المبحث الأول تناول مفهوم التعددية بشكل عام، وانتهى البحث الى ان للتعددية جانبين أحدهما سلبي والآخر ايجابي، والسلبي ما خلص الى التشرذم والتخالف والتقاطع، والايجابي ما خلص الى التكامل والرقي.
وفي المبحث الثاني، تم التطرق الى سنة التعدد والاختلاف، وكانت النتيجة التي خرج بها البحث ان التعدد مسألة فطرية وسنة كونية لا يمكن دفعها عن مسارها، وعلى الانسان السير ضمن خطوطها الطبيعية المؤدية الى الخير لا السباحة خلاف تيارها، لأن مثل ذلك ينتهي بالمرء الى التمزق والضياع وتضييع الحقوق، بل وضرورة التسليم بأن التعدد قائم في كل جزئية من جزئيات الحياة والكون من اصغر شيء الى اكبره.
وتناول المبحث الثالث جوهر التعدد والاختلاف، وكانت خلاصة المقال في هذا المقام، ان الثبات والصمدية وعدم التعدد هي من صفات الله تعالى الذاتية، وما دونه يقع التعدد والتنوع والاختلاف، فالله جل وتعالى ليس محلا للتفاضل والتسامي، وما دونه يقع فيه التفاضل ودرجات التعدد والكمال، وهذا هو جوهر ولب التعدد والاختلاف.
وتناول المبحث الرابع الحديث عن ادلة التعددية من خلال استنطاق نصوص القرآن والسنة، واستنهاض الفطرة الانسانية المجبولة على قبول فكرة التعدد والاختلاف، اذ كانت النصوص حاكية عن نفسها في اصالة التعدد والتنوع والاختلاف.
أما المبحث الخامس فقد تطرق الى نشأة الفرق الاسلامية التي هي واحدة من اظهر مصاديق التعددية والاختلاف في حياة المجتمعات الاسلامية، وخلاصة الأمر ان الفرق والمذاهب الاسلامية قضية قائمة سلم بها المسلمون شاءوا أم ابوا بغض النظر عن مسبباتها واعتبار كل مذهب انه هو صاحب الحق، على ان الاجماع تم بين المدرستين الشيعية والسنية بمختلف مشاربهما، ان الشيعة الامامية اول مذهب اسلامي نشأ في صدر الاسلام، لكن الاختلاف وقع في تحديد تاريخ نشأته، وكانت نصوص المدرسة الشيعية وبعض نصوص المدرسة السنية تتحدث عن نشأته في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما خلصنا اليه ايضا.
أما المبحث السادس والاخير من الفصل الأول فقد تناول كأمثلة حية صورتين من صور التعدد والاختلاف:
أولاً: صورة التعددية الاعتقادية التي نعيشها بين مجتمعات الكرة الارضية منذ عصور سحيقة موغلة في التاريخ وحتى يومنا هذا، حيث يتوزع الناس على الديانات السماوية الرئيسية الثلاث الاسلامية والمسيحية واليهودية، ومئات بل آلاف المعتقدات الدينية والمذهبية الاخرى، من اقصى الايمان الى اقصى الالحاد، وكان الرأي ان قوله تعالى: «لا اكراه في الدين» هو نوع من الاقرار الالهي بتعددية الاعتقاد نظرا لفطرة الانسان على الخير والشر، وعدم اجباره على الايمان بمعتقد بعينه خلاف ارادته لأن ذلك يخالف مفهوم اصل العبادة القائم على الحرية والدائرة مدار الثواب والعقاب.
ثانياً: صورة التعددية الاجتهادية، حيث تعتبر تجربة المسلمين في التعددية الاجتهادية كمظهر من مظاهر التعدد والتنوع في حياة البشر، رغم ان مصادر التشريع واحدة، لكن الاختلاف كما رأينا وقع بين المدرستين الشيعية والسنية في توسيع وتضييق دائرة السنة، ففيما وسعت المدرسة السنية الدائرة لتشمل الصحابة، فإن المدرسة الشيعية رأت ان السنة تقتصر على الرسول والأئمة الاثني عشر من أهل بيته الى جانب فاطمة الزهراء عليها السلام، على ان مجمل الرأي كما وجدنا ان تعدد الاجتهادات بشكل عام اغنى التشريع الاسلامي وهو احدى علامات حيوية الدين الاسلامي ومواكبته لتطورات الحياة التي تحتاج معها الى اجتهادات فقهية منتزعة من مصادر الاسلام الحنيف.
ولما كان التعدد والتنوع والاختلاف بما فيها التعددية السياسية حكاية وكناية عن حرية الانسان والحرية السياسية عموما، فإن الفصل الثاني بمباحثه السبعة تمحور ضمن عنوان «الحرية في مفاهيمها وضوابطها» على المفاهيم والموضوعات المتعلقة بالحرية الانسانية، حيث تناول المبحث الأول مفهوم الحرية في اللغة والاصطلاح، وكان الرأي وهو ما أميل اليه ان الحرية رغم قربها من الانسان وسلوكه غير انه يصعب حدها بتعريف منطقي جامع مانع، فالفيلسوف يختلف في تعريفه لها عن الفقيه، وهو يختلف عن القانوني، وعن السياسي، وهذا الاختلاف قادني الى معاينة وجهة النظر الاسلامية لمفهوم الحرية، فاستعرضت تعريفات قال بها مفكرون اسلاميون ومثقفون قدماء ومعاصرون، فلم نقف على تعريف منطقي ثابت، ولكن الحرية في نهاية الامر تعني حق الانسان في التصرف ضمن ضوابط شرعية وقانونية وعرفية.
والاختلاف نجده ايضا لدى مفكري وفلاسفة الغرب، فقدم المبحث الثاني وجهات نظر فلاسفة ومفكرين قدماء ومعاصرين، وتكاد تكون النتيجة واحدة بما استخلصناه مع المفكرين المسلمين.
ولكن هل الحرية قيمة ذاتية رئيسية أم ثانوية، وهل هي امر جعلي تكويني أم لا؟
هذا هو مدار المبحث الثالث فيما يخص اصالة الحرية من الناحية التكوينية والفطرية، وبيان ادلة الاصالة من النصوص الشرعية وواقع الحياة، وكانت خلاصة الامر ان الاختلاف واقع بين من قال باصالتها بلحاظ اختيارية الانسان منذ بدء الخليقة، ومن قال بغير ذلك بلحاظ جبرية الانسان، ولكن الكفة تميل الى اصالة الحرية وانها امر تكويني فطري اودعها الله في كينونة الانسان، اذ لم يخلق الله الناس حينما خلقهم احرارا وعبيدا، وانما سياقات الحياة من حروب وتنافس بين قوى الخير والشر، هي التي خلقت على مرور العصور والازمان طبقات الاحرار والعبيد.
وبالطبع فإن اصالة الحرية لا تعني غياب ضوابط وحدود لها، وهذه النقطة الجوهرية هي مجال الدراسة في المبحث الرابع، فكما اختلف المفكرون في تعريف الحرية كذلك اختلفوا في تعيين حدودها، وقد حدها البعض بالقوانين التي يضعها الانسان لخدمة بني الانسان كما في اغلب الديمقراطيات الغربية، او في المجتمعات البدائية التي ترجع الى قانون تضعه لنفسها، فيما حدها البعض بالشرع والنصوص، وما تجود به قريحة الفقيه كما في النظام الاسلامي، على ان الاجماع بين مفكري وفلاسفة الارض والأديان قائم بشكل عام على ان حرية المرء تنتهي عند حرية الاخرين، كما ان الاجماع بين الاديان السماوية وعند الكثير من الفلاسفة والمشرعين، قائم على ان ليس من الحرية الاضرار بالنفس، لأن الانسان بجسده وروحه، ليس ملك نفسه، وانما هو ملك بارئه وخالقه، وليس له فيه حق التصرف الا في بعض الموارد الاستثنائية، من قبيل التبرع باحدى كليتيه لانقاذ انسان اخر.
وتناول المبحث الخامس العلاقة بين مفهوم الحرية والحق، وعلاقتهما بمفهوم الحرمة، وكان الرأي ان الحق مرادف للحرية، وان الحرية لا ينبغي ان تتخلف عن الحق لكنها متقدمة رتبة عن الحق، اذ الحق لا ينعقد زمامه اذا لم تتوفر ابتداء الحرية، وان الحرمة مظهر من مظاهر حدود الحرية التي لا يجب تجاوزها وهي بمقام سور البيت لا يجوز للغريب تسوره، واذا تحصنت الحرمة بالشرع والقانون صينت حريات المجتمع وسلم من الاذى، وان تذرعت بالقوة غير القانونية انذبحت الحريات على مصارع الشهوات، وتعرض امن المجتمع وسلامته للخراب.
وقد تناول المبحث السادس مفردة الحرية والحرية السياسية وما يخالفها ويناقضها، من قبيل عبودية الرق، وعبودية الأنا، والعبودية السياسية والاستبداد والطغيان، وكان من رأينا اعتمادا على النصوص ومقارنتها بالواقع ان ليس من تضاد بين العبودية والحرية من حيث المفهوم، بل ان العبودية هي الحرية بعينها، وكلما اقترب الانسان من عبوديته لله اقترب من جوهر الحرية، كما ان غير المتدين اطاع القانون اقترب من عنصر الحرية.
أما المبحث السابع والاخير من الفصل الثاني، فقد عمد الى بيان العلاقة السلبية الناشئة بين الحرية والاستبداد، فالحرية مثل الهواء لا تدوم الحياة بغيابه، والاستبداد استهلاك سيئ لهواء الحرية وتلويث له. وكلما كان وعي الناس اكثر، كلما تعاظمت المسؤولية بحماية حقول الحرية من تصحر الاستبداد وزحفه.
خلاصة الأطروحة لقد قدمت على مدار ثلاثة عشر مبحثا عدة فرضيات وتساؤلات تمت الاجابة عنها، لكن الاجابة عن بعضها اختلفت وتباينت من مدرسة الى اخرى، لكنه تأكد لنا ان التعددية والحرية في الاسلام مكفولتان بدلالة:
1ـ النصوص الشرعية الواقفة على جعلية التنوع والاختلاف في حياة البشر، واقرار الرسالة الاسلامية وقادة الاسلام وائمته بهذا التنوع والاختلاف في مصاديقه المختلفة، من قبيل قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته) سورة الاسراء: 84.
2 ـ فطرية التعدد والجعل التكويني للتنوع في كل زاوية من زوايا الكون والحياة، فالفطرة تحكم بالتعدد والتنوع، والعقل يقر ان التنوع امر قائم.
3 ـ الواقع الخارجي حاك عن هذا التنوع، فلا نجد شيئين يتطابقان مائة في المائة، فالتوأمان يتشابهان من حيث الشكل الخارجي ولكن لكل هويته الخاصة به وشخصيته، فابهام كل واحد يختلف عن الاخر، وتفكيره ونظرته للحياة تختلف هي الاخرى، بل ان التجمعات البشرية واختلافها من حيث اللغة واللون والمعتقد هي من ابرز مظاهر التعدد والتنوع في الواقع الخارجي الظاهر للعيان.
4 ـ جعلية التعدد والاختلاف، تجر الباحث من باب أولى الى القول باصالة الحرية وذاتيتها واندكاكها في كينونة الانسان، فمن مصاديق قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته)، الحرية الذاتية، اذ ان الاقرار بهذه الحقيقة التي يوردها النص الشريف وما يتضمنه من معان سامية لا يتم دون الاقرار والقول بجعلية الحرية في الانسان، لكون الانسان قد هداه الله السبيل وبين له الصالح من الطالح، وترك له الخيار، ومبدأ الخيار يقتضي توفر الحرية.
5 ـ ثم ان العقل السليم يدلنا على اصالة الحرية، ولكن لا الحرية المطلقة، اذ ليست هناك حرية مطلقة، لأن اطلاق الحرية مدعاة الى عدد من المفاسد التي تأتي على حرية الاخرين وهذه مفسدة اكبر، لا يتم دفعها الا بوضع ضوابط وكوابح، قال بها معظم المفكرين المسلمين والغربيين قديما وحديثا.
6 ـ كما ان واقع الحال، يبرز حقيقة وأهمية الحرية عند المقارنة بين مجتمع تحكمه الحرية واخر يحكمه الاستبداد، فلا مناص من التمايز، والقبول بأهمية الحرية، رغم ان بعض المجتمعات من وجهة نظر اسلامية يعيش حرية منقوصة، او حرية مغالية، ولكن في الحالتين فإن الاستبداد مفسدة وضرر اكبر، لا يمكن القبول به رغم بعض مضار الحريات المغالية أو المنقوصة.
خلاصة الأمر: ان القول بجعلية التعدد والتنوع في الكون والانسان ومجمل الحياة البشرية يقود الى القول بحتمية الحرية فضلا عن اصالتها، فالتعدد او التنوع يحكم بحرية المرء بفعل أي شيء لا يخالف الشرع أو القانون او العرف، اي العمل في دائرة حريته الذاتية فردا كان او جماعة، فالتعددية السياسية وهي من صور التعددية تنفتح على حرية سياسية، اذ لا تعددية سياسية من غير حرية سياسية، ولا حرية سياسية من غير تعددية سياسية.
المصدر:
* المصدر: خاص - الوحدة الإسلامية