ولا يزالون مختلفين
ولا يزالون مختلفين
ليلى أحمد الأحدب
في بداية مقالتي (الجسد المسجى في غرفة العناية المركزة) ذكرت متلازمة الكرب التنفسي لدى الكهول؛ وأبدأ هنا بما يشابهها لدى حديثي الولادة الذين تتمّ ولادتهم قبل أن يتم النضج الرئوي الذي يؤهب الرئة لإفراز (السورفاكتان) وهي المادة التي تجعل الحويصلات الرئوية قادرةً على أن تبقى مفتوحةً لتقوم بدورها في التنفس، ولذلك يسمّى المولود هنا بالخديج أو المبتسَر، ولا بدّ من وضعه في وحدة العناية المركزة للمبتسرين كي يُمكِن مدّه بمادة السورفاكتان لجعله قابلاً للحياة.
ويوجد في عالم الثقافة متلازمة كربٍ مشابهةٍ وهي المتلازمة التي لا يتمتّع فيها المتلقي بالنضج الفكري الذي يجعله قادراً على استنشاق أوكسجين الأفكار والاستفادة منه في إنعاش خلايا الدماغ فيأتي فهمه مبتسراً أي ناقصاً، وقد يكون السبب أن الذي ينطق بهذه الأفكار عبر أي وسيلةٍ لا يتمتع بالقدرة الكافية على التواصل مع المتلقّي، ومن هنا جاءت علوم الاتصال الحديثة لتؤكد مصداقية القول الحكيم:(خاطبوا الناس على قدر عقولهم)، وقد تكون العلّة في أداة التوصيل نفسها فتنشأ أزمة سوء الفهم بين المرسِل والمستقبِل، ولنأخذ مثالاً على ذلك مقالةً في صحيفة، إذ كيف يستطيع كاتبٌ أن يوصل فكرته لكل الشرائح العمرية والفئات الاجتماعية عبر مساحةٍ محدّدةٍ، خاصةً إذا كانت الأفكار تزدحم في ذهنه بل وتتصارع على المرتبة الأولى في الكتابة مع الكَمّ الهائل من الأولويات أو كما قالت المذيعة المثقفة كوثر البشراوي في أحد إشراقاتها:( أولوياتنا بالجملة وليس بالمفرق!)؟
لذلك سيعذرني الأخ القارئ الذي علَّق على مقالتي (كي نمضي دون ازدواجية ولا نكرر أخطاء الآخرين) والذي اتهمني بالدخول في نوايا الناس والتحريض والاستعلاء إذا لم أردّ عليه بشكلٍ كاملٍ لأني لا أحبّذ تحويل الكتابة إلى وسيلةٍ للدفاع عن النفس، حيث إن ذلك سيشغلني عن الغاية الأهمّ وهي إثارة التساؤلات للبحث عن الحقيقة، ولا أقول الدفاع عن الحقيقة لأننا جميعاً في هذا المجتمع المسلم نؤمن بالحقيقة المطلقة وهي وجود الله ووحدانيته ونؤمن بكل ما يتفرع عن هذا الإيمان المجمل من إيمان مفصّل، أما ما يجب علينا البحث عنه فهو الحقيقة النسبية والمتغيرة والملائمة لزماننا ومكاننا، فلا نريد أن نعيش في تاريخ آبائنا الأقدمين أو أن نحيا في جغرافية جيراننا الغربيين، لذلك أحيل القارئ المنتقد إلى المقالة مرةً أخرى ليقرأها دون أن يقفز قفزاً على السطور، فالمقالة مترابطة وموضوعها هو الازدواجية في مناحي حياتنا والتي إذا لم نحسن التخلص منها فلا مناص من تكرار أخطاء الآخرين.
وحرصاً مني على شعوره فقط أوضّح أن تجاهل النقد يحمل نزعة الاستعلاء ورغبة الإلغاء، ولم يصادف أن تجاهلت نقداً اللهم إلا إذا كان خارج حدود أدب الاختلاف، ولكن في نفس الوقت لا يمكنني أن أخصّص إحدى مقالاتي لموضوع بينما أخصّص المقالة التي تليها للرد على النقد، ولعلّ إنشاء صفحة فيها ردّ الكتاب على منتقديهم يحلّ هذه المشكلة فيأخذ القراء حقهم دون أن يضيع حقّ غيرهم الذين ينتظرون الجديد ويكرهون التكرار وأنا واحدة منهم. ومع ذلك فسأسمح لنفسي أحياناً بإعادة فتح ملفين هما المرأة والأقليات، لذلك سأجعل ما تبقّى من هذه المقالة مخصصاً لموضوع التعددية في المجتمع المسلم، خاصة بعد الأحداث المؤسفة التي حصلت في كربلاء وبغداد وباكستان، فلمصلحة منْ قتلُ الأبرياء وفي شهر الله الحرام بل وفي مناسبة هامّة كعاشوراء؟
لا يجتمع المسلمون وحدهم بطوائفهم المختلفة على إعلاء ذكرى هذا اليوم بل ينضم إليهم اليهود أيضا، وأغلبنا يعلم حضّ الرسول عليه الصلاة والسلام على صوم هذا اليوم لأننا كما قال أحقّ بموسى عليه السلام من اليهود. لا أؤيد بالطبع ما حدث في كربلاء وبغداد أخيراً وما جرى في أكثر من مكان قبل ذلك. وأعتقد أن من كان همّه مصلحة الدين والوطن فعلاً فإن عليه أن يسعى إلى بقاء البلاد الإسلامية محصّنةً من الظلم مسوّرةً بالعدل، ولا يكون هذا إلا عندما يصبح الناس سواسيةً كأسنان المشط بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية والدينية والاجتماعية، وفي هذا يقول الشيخ حسن الصفار:( إن مما لا يشك فيه عاقل أن حال التشنج والنزاع داخل الأمة، يضعف قدرتها على مواجهة التحديات العاصفة، كما يتيح الفرصة للأعداء كي يلعبوا بأوراق هذا النزاع) ويتابع:(إن بقاء حال التشنج والقطيعة، ما عادت تحتمله ظروف البلاد، وقد صرح بذلك كبار المسؤولين في القيادة السياسية، وفي طليعتهم ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز الذي بادر للدعوة إلى الحوار الوطني بين مختلف المذاهب والأطياف. وجاءت توصيات اللقاء الوطني الأول والثاني لتؤكد هذه الحقيقة، وتدعو الجميع إلى الانصهار في بوتقة الوطن مع الإقرار بالتنوع المذهبي والفكري).
إن وجود المذهب الواحد لا يتّسق مع التعددية التي خلق الله الناس عليها (ولا يزالون مختلفين)، فالاختلاف فطرة بشرية والتنوع سنة كونية، ولقد كان العامل الأهم في قيام حضارة الإسلام الزاهية هو قبول الآخر؛ ويستشهد على هذا الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - في كتابه: "من روائع حضارتنا" بقول خلف بن المثنى:(لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علما ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبد القدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجاشع (وهو خارجي صفري) وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن) وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي)، وابن نظير المتكلم (وهو نصراني) وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي) وابن سنان الحراني (وهو صابئي) كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار ويتحدثون في ودّ لا تكاد تعرف أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم).
هل تراه القارئ العزيز المنتقد أدرك لماذا أتيت بحكاية فولتير عن التمثال؟ نحن جميعاً في الوطن مثل ذلك التمثال: قسم كبير من تراب وبعضه من ذهب والأندر من حجارة ثمينة، ومع ذلك فكلنا نشكّل هذا التمثال المتماسك رغم اختلاف أجزائه، فهل نفسح المجال لعدوّ خارجي أن يحطمنا أم ندرك أن الاختيار الأمثل هو الاندماج والاتحاد والتآلف؟
* المصدر: صحيفة الوطن السعودية 06/03/2004