السريان نقلة حضارات وجسر بين العالمين اليوناني الغربي، والعربي الشرقي

السريان نقلة حضارات وجسر بين العالمين اليوناني الغربي، والعربي الشرقي

 

د. علـي القـيّم

 

تمت في السنوات القليلة الماضية، دراسة مجموعات كبيرة من النصوص السريانية، وشكلت نقلة جيدة في معرفة أصول هذه اللغة، ودورها في نقل العلوم اليونانية إلى السريانية أولاً ثم إلى العربية، وشكل هذا الدور مثاقفة حضارية، و«جسرًا» بين العالمين اليوناني الغربي، والعربي الشرقي، ومعلوم أن علوم اليونان وفلسفتهم وبعضًا من آدابهم وصلت إلى أوربا بفضل أولئك النقلة في العصرين الأموي والعباسي، وخلال فترة وجود العرب في اسبانيا، حيث أن العديد من النصوص ذات الأصل اليوناني قد وصلت إلى أوربا بفضل نقلها من العربية إلى اللاتينية في القرن الناثي عشر الميلادي، وترجمة النصوص السريانية الموجودة مخطوطاتها بكثرة في العديد من الكنائس والأديرة والأماكن في سورية ولبنان سينشط فكرة إعادة صياغة للتاريخ المتبادل بين أوربا والعرب، وسيؤدي إلى مزيد من التفاهم والوعي بينهما..

لقد ثبت من خلال الدراسات التي نشرت حول السريانية، قربها الشديد من اللغة العربية، وكانت في الأصل «الآرامية» قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) التي ظلت لغة التواصل الرئيسة في العالم القديم منذ القرن السابع قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي، وقد شهدت هذه اللغة، مولد عدد النصوص والأعمال الأدبية، أقدمها «قصة أحيقار» الحكيم الآرامي- التي لاتزال شذرات منها محفوظة على ورق البردي منذ القرن الخامس قبل الميلاد.

تتكون «قصة أحيقار» من إطار روائي ومجموعتين من الأمثال، ويرى العالم في اللغات القديمة «سيباستيان بروك» أن هذه القصة أقدم من القرن الخامس بكثير.. لقد كان لها شعبية كبيرة على مرّ القرون، وتمت ترجمتها إلى مختلف اللغات (مصرية- يونانية)، وإلى عدد كبير من اللغات في القرون الوسطى.

لقد ورثت السريانية، الآرامية، منذ القرن الرابع الميلادي، ونستشف من «قصة أحيقار» أنها وصلت إلى السريانية مباشرة من لهجة آرامية أقدم، وقد أطلق مصطلح «السريان» و«السريانية» منذ القرنين الثاني والثالث الميلادي، على الآراميين وعلى الآرامية، أي على اللغة والثقافة اللتين سادتا المنطقة، وتجلّتا في أدب رفيع، خصوصًا في منطقة الرُها السورية حيث تطورت اللغة بصورة مستقلة وفرضت نفسها كلغة مكتوبة مزدهرة بفنونها، بعد أن أصبح سكان المقاطعة مسيحيين وجعلوها لغة الناس والكنيسة، بها وعظ وكتب «الإكليروس» وقد أثّرت هذه اللهجة في المدن والقرى المسيحيّة المنتشرة في طول بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، وصارت لغة رسمية لهم، ولها يعود الإرث الأكبر من أدب هذه اللغة، بينما بقي الإسم الآرامي القديم غير مستحب ومرتبطًا بالوثنية، وبالتالي يحسب السريان أنفسهم ورثة الآراميين مباشرة، والتسمية الحالية «السريان» أتت من سورية، موطنهم الأصلي.

بسبب الانقسامات المذهبية التي حصلت في القرن الخامس الميلادي. سمي بعض السريان، بالسريان الشرقيين، نسبة إلى شرق نهر الفرات حتى إيران، وهم الكلدان والآشوريين، تمييزًا لهم عن السريان الغربيين، نسبة إلى غرب نهر الفرات وحتى البحر المتوسط، وهم الموارنة والسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك الذين كانوا في الماضي يتكلمون السريانية، واتخذ كل من الشرقيين والغربيين نمطًا متميزًا في كتابة اللغة السريانية ولفظها.

واستنادًا إلى ما تقدم يمكن تحديد مواطن السريان، شرقًا: بلاد فارس، غربًا: البحر المتوسط، وشمالاً (آسيا الصغرى)، وجنوبًا: شبه الجزيرة العربية، ومن المدن المهمة التي كانوا فيها: مراغة، أورميا، سُوسة، آفاميا جنديسابور، الأحواز، طرابلس، بيروت، سُميساط، الرُها، منبج، قنسرين، سروج، الرقة، البتراء، وديار بكر، ماردين، رأس العين، دهوك، المجدل.. وغيرها من المدن التي لا تزال حتى اليوم تحمل الاسم السرياني..

وعندما نذكر السريانية، نذكر اللغة السريانية، التي كان العرب يدرسونها، يقول الباحث سليم مطر: «لقد طورت اللغة العربية نفسها وكونت نحوها من خلال تجربة اللغة السريانية» وقد يكون هذا التأثير حصل عندما اعتنق قسم من الآراميين (السريان) الإسلام، وأصبحوا موالين لإحدى القبائل العربية، يقول المطران لويس ساكو: «للسريان إسهام واسع في الرصيد الحضاري الإقليمي مع العرب أبناء عمومتهم، فهم يشكلون حالة متميزة في التفاعل الثقافي في العالم، وتعترف جميع المصادر التاريخية القديمة والحديثة بدورهم المرموق في عملية الترجمة والنهضة الكبرى التي قادها الخلفاء العباسيون، فقد قاموا بنقل ما لا يحصى من الكتب من اليونانية إلى السريانية، ثم إلى اللغة العربية».

لم يكن السريان مجرد نقلة، بل كانوا عنصر إبداع حقيقي، فقد أضافوا إلى ما نقلوه خبرتهم، ومعارفهم، وطوروه، ورفدوا العالم بكل نافع من العلوم والفقه والفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات والفلكيات والطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والعمارة والموسيقا، والأدب والزراعة والتجارة، وكان لنشاطهم الاقتصادي والثقافي والتجاري والاجتماعي، الأثر البليغ في الدول الفارسية، ثم في الدولة العربية، خصوصًا في العصر العباسي، حيث اهتم الخلفاء بالعلم والأدب والثقافة، فقاموا بإرسال الفرق لجمع الكتب وترجمتها، وقام السريان بدور كبير في هذا المجال التي أقاموا مراكز حضارية وعلمية لنشر المعرفة الدينية والمدنية، وأهم هذه المراكز كانت في إنطاكيه والرُها، ونصيبين، التي أفرزت مجموعة من مشاهير العلماء مثل: حنين بين اسحاق، وأفرام السرياني، وأفراهاط الحكيم، ويعقوب السروجي، وبولس الرُقي، وأطباء آل بختيشوع، ويحيى بن عدي، ومتى بن يونس، ويوحنا بن حيلان وغيرهم..

لقد ترك هؤلاء العلماء وغيرهم مجموعات كبيرة من الكتب والمخطوطات الحافلة بالتراث الإنساني المدونة بالخط السرياني المسمّى «إسترانجيلي» التي نجدها في القرن الثالث الميلادي، مدونة في رقوق، وتحتوي الكتابة السريانية مثل كل الكتابات الآرامية على /22/ حرفًا، ولا تكتب إلى الحروف الصوامت، أو المصوِّتات الطويلة، مفضية عن استخدام أشباه المصوّتات، وكذلك عن وضع علامات لبعض الحروف الحنجرية، لكن الكتاب استشعروا ضرورة تدوين كل المصوتات (حروف العلة) بطريقة دقيقة، فوضعت منظومات من الحركات، ومنها تلك التي وضعها يعقوب الرهاوي في القرن السابع الميلادي.

ثمة أمر جدير بالملاحظة تتعلق بطريقة النسخ، على الأقل في العصور القديمة، حيث كانت الصفحة توجه أفقيًا، وكان الناسخ يكتب عموديًا سطورًا تتجه من الأعلى إلى الأسفل، حتى ولوكانت القراءة تجري بعد ذلك أفقيًا، وفي المخطوطات السريانية كان الكتاب يستخدمون الرق حتى القرن العاشر الميلادي حيث حلّ الورق، وهو اختراع صيني، في المشرق العربي، محل الرق، ويشار إلى أن البردي استخدم أيضًا في تدوين الأدب السرياني، واستعمل الناسخون أنواعًا من الحبر الأسود تميل إلى أن تصبح سُمرًا مع تقادم العهد.

يغطي مضمون المخطوطات السريانية كل مجالات الأدب والثقافة، والقسم الأكبر منها ينتمي في مجمله إلى تلك التي كانت تستخدمها جماعات كنسية، فكل كنيسة وكل جماعة ورعية كانت تمتلك بعض المخطوطات، والقسم الآخر ينتمي إلى المخطوطات المخصصة للقراءة الفردية والدراسة وتضم الأدب السرياني، وكتابات آباء الكنيسة، ومجموعات العظات والمؤلفات الفلسفية أو النحوية، والتفاعل الثقافي كان قويًا ومهمًا مع اللغة العربية، فمنذ القرن السابع الميلادي، صار مسيحيو سورية وبلاد الرافدين يعتمدون على اللغة العربية في المخطوطات السريانية، تحت أشكال مختلفة، وكانت النصوص ثنائية اللغة موجودة أيضًا، أي مكررة باللغتين.

وثمة ظاهرة خاصة يجب أن نشير إليها، وهي استعمال المسيحيين نظام الكتابة الكرشونية (أصل كلمة كرشوني ما زال موضع خلاف) فبعدما صار المسيحيون ينطقون باللغة العربية حافظوا، مع ذلك، على كتابتها بالأحرف السريانية، لكن هذا النظام لم يكن كثير التجانس وفق رأي الأب فرانسواز بريكل شاتونية، لأن الأبجدية السريانية تحتوي /22/ حرفًا، فيما الألف باء العربية تحتوي /28/ حرفًا، فكانت بعض بالحروف السريانية تستخدم مكان حرفين أو ثلاثة حروف عربية، الأمر الذي يزيد الغموض في لغة خالية من المصوتات، وليست العربية اللغة الوحيدة التي تظهر في المخطوطات السريانية، أو الكرشونية، فحسب الأماكن التي تجذرت فيها أيضًا الكنائس السريانية، نجد أيضًا مخطوطات يكرشن فيها الخط السرياني نصوصًا تركية أو إيرانية أو هندية.

يعد الشعر أحد مفاخر الأدب السرياني، وإحدى أقدم المقطوعات الأدبية الباقية فيه «أنشودة اللؤلؤة في أعمال توما» عبارة عن شعر، وقد استمر في الكتابة المعاصرة بالسريانية الكلاسيكية.

المبدأ الأساسي للشعر السرياني وفق دراسة حديثة لعالم اللغات الشرقية القديمة «سيباستيان بروك» هوحساب التفعيلات، أما الطول والنبرة، وهما المبدآن الساريان في لغات كثيرة أخرى، فلا قيمة لهما في الشعر السرياني، ويستخدم الكتّاب الأوائل من السريان لونين مختلفين من الشعر: المقطعي، والثنائي، ومن الواضح أن اللون الأول، كان يغنّى، حيث يشار عادة إلى عناوين الألحان.. ويقل نسبيًا عدد الكتّاب السريان الذي كتبوا بالتحديد في الشعر وأوزانه المختلفة بعد القرن التاسع الميلادي.

أقدم شاعر سرياني هو «برديصان-222م» المعروف باسم «الفيلسوف الآرامي» الذي لم يبق من شعره سوى اقتباس قصير جدًا عند الشاعر والأديب والفيلسوف «أفرام- 373م» الذي أخبرنا أن «برديصان» قد نظم /150/ قصيدة، وكان «برديصان» متضلعًا في المعرفة اليونانية، وهو أول من ذلّل لسان وطنه للأوزان الشعرية والقوانين الموسيقية، ويأتي بعده «أفرام» الذي أصبح شاعرًا عالميًا، وقد تبقى من أعماله نحو /400/ من المخطوطات التي يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة بين القرنين السادس والسابع الميلاديين، ومن أشهرها «قصيدة اللؤلؤة التي يقول فيها»:

«ذات يوم، يا إخوتي، التقطت لؤلؤة في يدي،

فيها لمحت رموزًا تحكي عن الملكوت،

صورًا، ورموزًا لجلال الله.

ثم صارت نبعًا

منه رموز الابن».

بلغ الشعر السرياني أوجه في القرون، الرابع والخامس والسادس والسابع الميلادي، ومن الشعراء الذين بقيت أعمالهم: نرساي الآشوري، الذي امتدت حياته فشملت القرن الخامس الميلادي كله، ويعقوب السروجي الذي توفي سنة 521 ميلادي، وسمعان الفاخوري، الذي أثّرت أناشيده البسيطة التي كان ينشدها، وهو يعمل على دولاب الفخاري في نفس يعقوب السروجي أشد الأثر، وما أن يطالعنا القرن السابع الميلادي، حتى يشعر المرء بفقدان النضارة، فيتخذ الشعر طابعًا تعليميًا نفعيًا أكثر من ذي قبل، كما يميل أيضًا إلى التبحّر في العلم، وقد أنتجت القرون التالية العديد من المؤلفين النابهين الذين كتبوا الشعر مثل: جرجس أسقف العرب، والياس الأنباري، وسعيد ترصابوني..

وكان الشعر الأخلاقي محببًا بشكل خاص في الأدب السرياني، ومن الأمثلة الكثيرة عليه، كتاب «التعليمات» لإيليا الأنباري، الذي تعطينا فكرة جيدة عن الأسلوب المقتضب الساخر، يقول:

«الخبز المكتسب بالعرق يلذ لمن يعمل في الأرض،

أما للعامل من أجل الحق، فالجهاد في سبيل العدل أفضل،

أفخر بالحسب والنسب، أقصد ما للروح لا ما للحسد،

فإن حفظت الروح رونقها، فهذا في حد ذاته نسب عريق،

إذا تضايق منك جار، فثار عليك بكلمات غاضبة،

حافظ على مظهر المحبة في وجهه، لعلك تنال فائدة مضاعفة».

المصدر: http://www.alazmenah.com/?page=show_det&category_id=43&id=459&lang=ar

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك