الحوار العربي الإيراني: ثقافة وحضارة
الحوار العربي الإيراني: ثقافة وحضارة
جمانة طه (*)
فـــي السنوات الأخيرة من القرن الماضي ترددت كثيراً لفظة الحوار مقترنة بموضوعات مختلفة مثل حوار الحضارات وحوار الأديان وحوار الثقافات، وحتى حوار السياسات. وقد عقد حول هذه الحوارات في أماكن مختلفة من العالم مؤتمرات وندوات وحلقات.
ما هو الحوار؟ ومن يحاور من؟
الحوار هو وسيلة حضارية نتعرف بواسطتها على ثقافة الآخر ومبادئه، وذلك لإيجاد نوع من التواصل الإنساني والفكري. فكل اتصال هو ضرب من الحوار، والوجود الإنساني في هذا الكون هو خطوة في درب الحوار، وهل يصير الإنسان إنساناً إلا بغيره ومعه؟
فغاية الحوار هي أن نقترب من بعضنا بعضاً، ((وأن يطلع بعضنا على دخائل بعضنا الآخر، لنيسر السبيل إلى فهم أنفسنا فهماً أفضل))(1).
لكن الحوار لا يكون حقيقياً وناجعاً إلا إذا توافرت له نوايا طيبة، ومشتركات فكرية وحضارية أو ثقافية أو اقتصادية. فالندّية في الحوار مطلوبة، والتجانس والتواؤم في كثير من مفاصل الحوار يهيئان الجو المناسب له.
عندما جاء الإسلام وعبر السهل واعتلى الجبل لينشر رسالته في شرق آسيا ويحرر الإنسان من عبودية الشرك والغرائز المادية، حاول أن يردم الهوة بين الثقافات ويمهد الطريق إلى حوار إنساني من خلال تعاليم سامية ضمها كتاب حواري من طراز رفيع، إنه القرآن الكريم. لكن الإسلام لم يتوقع أن تأتي فترات يتوقف فيها النبض المشترك في العقيدة والتراث، وتنفرط الشراكة الروحية والعضوية والإنسانية بين إيران والمنطقة العربية.
ولعل الأحداث السياسية التي عصفت بإيران في بعض مراحل تاريخها، وتشتت الرقعة العربية الشاسعة إلى دول متعددة، واضطراب الحياة الاجتماعية في المجتمعين، أدى إلى ظهور متشددين أوجدوا قطيعة بين الطرفين.
وفي العقد الأخير من القرن الماضي، نهض المخلصون للتراث الثقافي والعلمي والمعرفي الذي شيدت صروحه العقول الإسلامية العربية والفارسية، لوصل ما انقطع ولإعادة التلاقي والتوحد بين العرب والإيرانيين، فما يجمع بينهما أكثر بكثير ممَّا يفرق. وبدأ الطرفان يتشاوران لمشروع حضاري تكاملي يخدم البلاد والمنطقة، ويسد الطريق على المتطرفين والمتطفلين الساعين إلى تمزيق الصفوف.
ومن أجل تعزيز هذا المشروع، نجتمع اليوم في ندوة مهمة تتناول في محورين: الحوار الثقافي العربي الإيراني، وتأثير العولمة ومشروع الشرق الأوسط الكبير على الثقافتين العربية والإيرانية. وتأتي أهمية هذه الندوة من أنها تحفزنا لنكتشف معاً حقيقة تراثنا الثقافي، لنصل إلى المشترك الكبير بين الثقافتين، هذا المشترك الذي يتمثل بعشرات الشواهد الحضارية ومئات الشواهد الثقافية: أعلاماً وكتباً وفكراً. ولكن هل يكفي أن نقول إننا نعرف ذلك، أم أن علينا أن نعمل بجد وصدق من أجل الحفاظ على تراثنا الحضاري الإنساني وإنقاذه من غبار السنين؟
وإذا كان هناك بعض المنغصات في العلاقات الثقافية العربية والإيرانية، فإن هناك أيضاً فسحة من الآمال يعمل الباحثون والمفكرون على إعادة تعميرها وزيادة مساحتها.
***
إن من ينظر إلى خريطة الشرق الأدنى، يرى إيران تطل على الوطن العربي من شرفة خليج تتقاسم أمواهَه وشواطئَه مع عدد من البلاد العربية. ومن يسير في الأرض العربية أو في الأرض الإيرانية، يشعر أنه يعيش في عمق التاريخ وفي نبض الحضارة. فهناك مشتركات تاريخية ودينية وثقافية عامة، وموقع جيو سياسي وجيو استراتيجي متقارب يضع الطرفين أمام جملة من المواقف الموحدة لمواكبة مستجدات العصر وتحولاته، وفي مواجهة غزو غربي يهدف إلى القضاء على ثقافاتنا. وهذا كله يرتب علينا أن نتصدى لهذا الغزو ونتحداه بثقافة أفضل، أي بإيجاد توليفة تجمع بين المعاصرة وأصالة الحضارة والتراث.
كما أن من يسير في الأرض الإيرانية أو الأرض العربية، يشعر أنه يسير في أرض واحدة بسبب تشابه الجغرافية الطبيعية والبشرية. وهنا يحضر المقدسي البشاري الذي قال عندما سُئل عن البيئة في إقليم فارس: ((وجدتها أشبه الأقاليم بالشام لأنها تجمع أضداد الثمار وبها (جروم) أماكن شديدة الحر، ومعتدلات وجبال مشجرة عامرة وعسل وزيتون وبركات لم أرها بعد الشام إلا بفارس))(2).
وهذا الوصف يردنا إلى ما ذكره المتنبي في وصفه الجمال الطبيعي الخلاب الذي رآه في شعب بوان في إقليم شيراز، هذا الجمال الذي هيج في نفسه الحنين إلى دمشق وغوطتها. ويظهر أيضاً العمق الحضاري والإنساني بين الإيرانيين والعرب، في قول الإيرانيين قديماً: ((دار يمني فيش يمني))، أي (أنت في اليمن فأنت معي في إيران، أنت في إيران فأنت في اليمن). وبفعل التقارب السوري الإيراني، يمكننا اليوم أن نقول: أنت في سورية فأنت في إيران، أنت في إيران فأنت في سورية.
***
من المعروف أن الشعوب، عموماً، لا تستطيع الاستغناء عن الإفادة من معارف بعضها بعضاً. لأنَّ الحوار والتلاقح المعرفي بين الثقافات والآداب العالمية ضرورة إنسانية وحضارية تشجع على التجدد والتنافس وتثري الثقافة الوطنية بما هو مفيد لها. ولاشك في أن الحوار بين ثقافتين تنتميان إلى تربة حضارية واحدة هي أكثر ضرورة، فالأمتان العربية والفارسية تمثلان حضارتين عريقتين في الشرق وفي تراث الحضارة العالمية. والمجتمعان العربي والفارسي يتميزان بما فيهما من تنوع في المعارف والعلوم وتعدد في القوميات والأديان والطوائف، وكأنهما بستان يضم أنواعاً متعددة من الأشجار والفواكه والأزهار. وقد التقى هذا التنوع والتعدد والاختلاف في إطار مدرسة حضارية شكلت على امتداد القرون، تنوعاً في الثقافة والفكر وأسست لثقافة إسلامية واحدة. وساعدت في تأصيل حوار قائم على العقل والموضوعية والمحبة النابعة من الإيمان بالله وبالإنسانية، وقربت الشقة الجغرافية والفكرية والاجتماعية بين الطرفين.
وقد مكن هذا الحوار العرب والإيرانيين ((من الوقوف على أرضية صلبة، قد لا تتوفر لأي لقاء بين جانبين في المنظومة الإسلامية، لا بل في الأسرة الدولية جمعاء))(3).
ولابدَّ من الإشارة إلى فضل الإسلام على بلاد فارس بعقيدة التوحيد، وإلى فضل بلاد فارس في إثراء الحضارة الإسلامية بأسماء علماء وأدباء ما زالت تتردد أصداءُ إبداعاتهم في العقول وفي جنبات دور العلم والمعرفة حتَّى يومنا هذا. ولو سأل سائل: من هم البناة الأول لصرح الحضارة الإسلامية، العرب أم الإيرانيون؟ سيرد المتعصبون قومياً من كل جانب، الفضلَ لأمتهم في بناء تلك الحضارة. ولكن النظرة العلمية الموضوعية تضع الأمور في نصابها، وتؤكد دور الطرفين في تشييدها. فإذا كان العرب السداة في نسج صرح الحضارة الإسلامية، فالإيرانيون هم اللحمة في تمتين خيوطها وتلألؤها. وهذا كله يعود ((إلى الإسلام نفسه، لا إلى أي قومية من القوميات. فهو مصدر الحضارة التي صارت تدعى بالحضارة الإسلامية، وهو الذي أوجد تفاعلاً بين الإيرانيين والعرب، أدى إلى النماء الحضاري والرشد الفكري والنضج الثقافي))(4).
مع أن الفقهاء والمفكرين في تلك المرحلة الزاهرة لم يكونوا واحداً في مواقفهم، ولم يتفقوا على جميع الآراء. ومن المواقف التي يظهر فيها الاختلاف في الرأي والموقف، ما كان بين الإيراني أبي حنيفة والعربي مالك بن أنس، ففي حين يفضل أبو حنيفة الجنس العربي ولا يجيز زواج العربي من إيرانية، يرفض العربي مالك بن أنس هذه الفتوى ويرى عدم وجود تفاضل بين الشعبين. وهذا الاختلاف في الموقف والرؤية هو من مقومات العقل الإنساني، ومن أسباب تقدم الفكر وسلامته.
إن أول خطوة من خطوات الالتقاء بين الحضارتين، كانت خطوة لغوية ابتدأت قبل ظهور الإسلام واستمرت بعده. فالعلاقات الإنسانية بين الأمم والشعوب تفرض أن تستفيد الأمم من لغات بعضها وترد هذه الاستفادة ((إلى الحاجة أولاً، وإلى الإعجاب ثانياً))(5).
((فالتأثر والتأثير بين اللغات، في رأي الدكتور صبحي الصالح، قانون اجتماعي إنساني. وأن اقتراض بعض اللغات من بعض، ظاهرة إنسانية أقام عليها فقهاءُ اللغة المحدثون أدلةً لا تحصى))(6).
وكان للتجاور الجغرافي بين العرب والفرس دور في دخول العديد من الألفاظ الفارسية إلى اللغة العربية ودخول العديد من الألفاظ العربية إلى اللغة الفارسية، إلى جانب استخدام الخط العربي والحروف العربية في الكتابة.
لقد استوعبت اللغة العربية كثيراً من الألفاظ الفارسية، تمَّ تعريبُ بعضها لتُشابهَ اللفظ العربي وزناً وخصائص، وبقي بعضُها على حاله. ومن الألفاظ المعربة التي وردت في القرآن الكريم: سندس واستبرق ومَرجان وسجلّ وسرادق وسواها. يقول الأزهري في كتاب التهذيب: ((ومن كلام الفرس ما لا يحصى ممَّا قد عربته العرب))(7).
ويقول أدي شير في معجم الألفاظ الفارسية المعربة: ((إن اللغة التي حازت قصب السبق في إعارتها اللغة العربية ألفاظاً كثيرة، هي الفارسية))(8).
ولا يخفى أن بعض الشعراء العرب الكبار أدخلوا في شعرهم ألفاظاً فارسية، ومنهم المتنبي الذي ذكر الشارحون لشعره عشرات منها. وأظن أن استخدام المتنبي وسواه، الكلمات الفارسية في شعرهم لا يعود لعجز في اللغة العربية وإنما يؤكد ((صلةَ التعاون وصلةَ التبادل وصلة الاقتباس))(9).
ومن مظاهر الحوار الثقافي بين العرب والإيرانيين، اهتمام العلماء الأوائل من العرب بالتاريخ والآداب الفارسية القديمة مثل، المسعودي في مروج الذهب والطبري في تاريخ الرسل والملوك الذي ذكر فيه تاريخ الفرس في أيام الساسانيين. واهتمام الأوائل من علماء الفرس وأدبائهم بتاريخ العرب ولغتهم، حيث جمعوا ثقافة العرب والعجم وجعلوا من إيران موطناً للأدب العربي منذ دخولهم الإسلام.
وعندما كانت الدولة الإسلامية تمتد في أراض شاسعة، يسير فيها المسلم بلا جواز سفر أو تأشيرة دخول أو خروج، شهدت بلاد الشام تبادلاً ثقافياً مهماً بينها وبين بلاد فارس، تجلى في رحلتين متبادلتين قام بها إلى بلاد فارس في القرن السادس الهجري الشامي الدمشقي ابن عساكر، والسمعاني الخراساني.
فقد رحل ابن عساكر إلى خراسان في إيران عن طريق أذربيجان، سعياً إلى لقاء أبي عبد الله الفراوي في نيسابور للإفادة من علمه وفضله. يقول ابن عساكر عن الشيخ الفراوي: ((كان مكرماً لموردي عليه، عارفاً بحق قصدي إليه. ومرض مرضة في مدة مقامي عنده نهاه الطبيب عن التمكين من القراءة عليه فيها، وعرفه أن ذلك ربَّما كان سبباً لزيادة تألمه، فقال لا أستجيز أن أمنعهم من القراءة، وربما أكون قد حبست في الدنيا لأجلهم. فكنت أقرأ عليه في حالة مرضه، وهو ملقى على فراشه، ثمَّ عوفي من تلك المرضة))(10).
وقد ذكر في كتاب (معجم شيوخ ابن عساكر) أسماء شيوخه الذين قرأ عليهم، وأسماء المشايخ الذين أجازوه في رحلته إلى خراسان. وسجل في معجم خاص أسماء القرى والأمصار التي رآها أو سمع بها، وهو معجم هام يمد الدارس بأمور كثيرة، وفوائد جغرافية أكيدة، منها: العدد الصحيح للقرى التي قرأ بها ابن عساكر، واللفظ الصحيح لأسماء هذه القرى، وأسماء الكتب والأجزاء التي قرأها ابن عساكر. ورحل السمعاني الخراساني إلى بلاد الشام في رحلة استمرت حوالي تسع سنوات زار خلالها بيت المقدس وعكا وعسقلان والرملة، وعدداً من المدن المهمة في سورية مثل: دمشق والرقة ومعرة النعمان وحلب وحمص، وقرأ على عدد من مشايخ الشام. من هاتين الرحلتين نستدل على أن الثقافة الإسلامية كانت واحدة في بلاد المسلمين، وحدت مشاعر الناس وأفكارهم وثقافاتهم. وجدير بالذكر أن الشاعر والمفكر الإنساني سعدي الشيرازي، عاش في بلاد الشام واختلف إلى علمائها ووعظ في مساجدها.
وفي معرض حديثنا عن التأثير المتبادل بين الثقافتين، لابدَّ من أن تذكرَ ابنَ المقفع الذي ((حمل إلى العربية أروع ما أنتجته العبقرية الفارسية قبل الإسلام، فترجم منه ما اتصل بالأخلاق، وما اتصل بتاريخ الساسانيين ومن سبقوهم من ملوك إيران، وكذلك ما اتصل بأنظمة ملكهم وحكمهم للرعية. ولم يكتف بذلك بل نقل أيضاً أجزاء من منطق أرسطو، كما نقل قصص كليلة ودمنة الشهيرة التي نقلت عن ترجمته إلى السريانية والعبرانية واليونانية والفارسية الحديثة، وإلى اللغات الأوروبية))(11).
ونشير إلى أن ابن المقفع حين قام بنقل الأدب الكبير والأدب الصغير إلى اللغة العربية، لم تستعصِ اللغة عليه، كما يقول طه حسين، بل كانت طيّعة مرنة، فله ((عبارات من أجود ما نقرأ في العربية))(12).
وقد جعل صاحب الفهرست، ابن المقفع من البلغاء العشرة الذين قاموا على رأس أدباء العصر العباسي، وشهد له بالفضل لأنَّه مقدم ((في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير)(13). ومن هؤلاء الكبار سهل بن هارون، الذي كان مثقفاً بجميع معارف عصره، وترجع أهميته إلى ما صنف وألف.
وعبد الحميد الكاتب، الذي كان من أبلغ كتاب الدواوين في عصره وأشهرهم. يقول أبو هلال العسكري في الصناعتين: ((إن عبد الحميد استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي))(14).
كما نص الجاحظ في البيان والتبيين، أن عبد الحميد ترجم بعض الكتب من الفارسية. ويُذكر أن عبد الحميد وجه رسالة إلى الكتّاب ضمنها وصايا مختلفة لهم، بأن يتفقهوا في الدين ويتنافسوا في صنوف العلم والأدب، ويتعلموا العربية فإنها ثقاف ألسنتهم، ويجيدوا الخط، ويرووا الشعر. وربما من أطرف ما نقع عليه في رسالته هذه، دعوته الكتَّاب إلى تأليف ما يشبه النقابة في عصرنا الحديث. وذلك من خلال طلبه من الكتاب العطف على من ينبو به الزمان، ومواساته حتَّى يرجع إليه حاله.
ولو أردنا أن نأتي على ذكر الأدباء ذوي الأصول الإيرانية الذين أثروا التراث العربي بمؤلفاتهم وثقافتهم، لتطلّب الأمر ندوات وندوات، فهناك ابن قتيبة والجرجاني وأبو هلال العسكري وبشار وأبو نواس ومهيار وسواهم كثير كثير.
وحين نأتي إلى الشعر، نرى أن الشعراء العرب تأثروا بالشعر الفارسي فرققوا شعرهم وأكثروا من الأوزان القصيرة، ونزعوا إلى الوصف وصف القصور والبساتين ومجالس الأنس وسواها.
كما نرى أن الشعراء الفرس تأثروا بأوزان الشعر العربي ونهجوا عليها في أشعارهم، ففي المتقارب نظم الفردوسي الشاهنامة، وفي الرمل نظم فريد العطار منطق الطير، وزادوا عليها ثلاثة بحور، هي: الغريب والقريب والمشاكل.
وإذا كان الشعر العربي بليغ وجميل في حقائق الحياة من الأخلاق والسجايا والمكارم والمآثر، فإن الشعر الفارسي بليغ وجميل في دقائق النفس والعواطف الخفية.
والعكوف على ترجمة أعمال حافظ الشيرازي إلى العربية خير معبر عن شغف العرب بالأدب الإيراني، وعلى وحدة الجذور ووحدة الروح وتشوقهم إلى إعادة التواصل بين هاتين الثقافتين الشرقيتين العريقتين. ويقول المفكر الإسلامي سيد قطب، أن ترجمة أشعار الشيرازي تزيد في ثروة الأدب العربي، وتزيد رصيد الغناء في الشعر العربي الحديث بعد أن غرق في موجة فكرية فلسفية وأسلوب لفظي يهتم بالمحسنات البديعية، وتثير فيه ألوان جديدة من التفكير وفنون من الشعر الخصب، هذا عدا استرواح عطر الشرق البعيد وبساطته ومرحه وغيبيته وتصوفه.
ولأن الفنون ثقافة، فقد انتقلت عشرات الأنواع من الإبداعات الفنية من إيران إلى الأرض العربية، كما انتقلت فنون العمارة والخزف إلى إيران، لتضيف حلقة أخرى في سلسلة التواشج الثقافي العربي الإيراني. فقد ترك الإيرانيون بصمتهم في عالم الحرف اليدوية وفي المنمنمات وصناعة السجاد، وفي الرسوم التزيينية على الجدران، والنقوش على الأقمشة الحريرية، والمنسوجات الموشاة والمطرزة. ولا ينقص من قيمة الزخرفة العربية أنها استفادت من النقوش الإيرانية المكونة من أوراق النبات والأشكال الهندسية، فكونت تركيباً بارعاً من أشكال مختلفة تعبر بأناقة وافرة عن روح إنسانية فياضة.
وقد نقل العرب عن الفرس فن الكتابة على الأقمشة، فكتبوا الآيات القرآنية على القماش وحول المحاريب والأفاريز والجدران.
***
إذا تجاوزنا التراث التاريخي إلى المعاصر والحاضر، فإننا نجد أن الثورة الإسلامية في إيران وفرت السبل لتوطيد علاقات جيدة بين دول الجوار العربية، ولا سيما حين تبدى الموقف الإيراني المؤازر للقضايا العربية وبخاصة القضية الفلسطينية. فبعد أن كانت إيران حليفاً لإسرائيل، أخذت إيران دورها كدولة تنتمي إلى المنظومة الإسلامية، وجارة يعنيها ما يجري في محيطها الجغرافي والإنساني. فالأهداف التي قامت الثورة على أساسها مستمدة من الدين ومبادئه، وهذا الأمر قرب المسافات بين الطرفين، ومتن اللحمة الإنسانية بين حضارة إسلامية وحضارة عربية. وأحدث تطوراً نوعياً في العلاقات السورية الإيرانية، ارتقى إلى مستوى مميز وبخاصة في المجالات الاقتصادية والثقافية والتقنية.
وما تكريم المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق لعدد من الشخصيات الفكرية والعلمية السورية إلا جسر تواصل ثقافي بين سورية وإيران يرسخ لحوار راق ويعزز استمراره.
فمنذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية التي قادها الإمام الخميني رحمه الله وحملت معها أهدافاً كبيرة وآمالاً طموحة، والمؤسسات الثقافية بتنوع مستوياتها تحاول بناء حضارة إنسانية ((تعتمد على عقل الإنسان وتحترم شخصيته))، وتهتم بالمفكرين والمبدعين والمثقفين، لإيمان الثورة بالثقافة ودورها في خلق جو حضاري يفسح المجال لقيام حوار إنساني حر وواع، على اختلاف وجهات النظر. ولاشك في أن العلاقة بين العرب وإيران بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران قد تغيرت بشكل ملحوظ، وبرز عامل الانتماء الديني وعوامل أخرى لا تقل في أهميتها عن الدين وهي الثقافة والفكر والأدب التي قامت أساساً على اللغة العربية والقرآن الكريم والسنَّة الشريفة.
ومن الملاحظ قيام إيران بخطوات إصلاحية، وقيام سورية بخطوات مشابهة تصب في مجرى الثقافة وحرية الحوار. فالإصلاح بتنوعه ثقافة، لكنه لا يتم بغير الحوار. فبالحوار نتعلم من الآخر جمالياً وأدبياً وفنياً، وإن اختلفنا معه في الرأي.
وقبل أن أختم مداخلتي، أود الإشارة إلى دعوة السيد المطهري إلى إدخال دروس اللغة العربية في مناهج الدراسة الابتدائية، إذ كيف يتيسر للمسلم أن يفهم روح الإسلام على غير معرفة باللغة التي بها نزل بها كتابه؟
وما دمنا في هذا المجال فسأسمح لنفسي بالدعوة إلى إدخال دروس اللغة الفارسية في مناهج التعليم الأساسي في سورية، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر، ليتيسر لأبنائنا مبكراً سهولة التواصل مع شعب صديق والاطلاع على تراثه الإنساني الأدبي والفني.
وكم أود أن يحاول العرب والإيرانيون عدم البقاء ضمن خطين متوازيين، وأن يعملوا للسير معاً في خط واحد. فهم في النهاية يؤمنون بكتاب واحد ويرجعون في الجملة إلى مصادر تشريع واحدة، ويجمعهم تاريخ واحد وواقع واحد، وينتظرهم مصير واحد))(15). وهذا لا يحتاج إلا إلى إعادة قراءة القواسم المشتركة التي تجمع بينهم قراءة معتدلة، للخروج من دائرة التطرف والتعصب، وردم الهوة التي أوجدها الاستعمار وموالوه عبر قرون طويلة. وذلك عبر مكاشفة تبين مواطن الخلاف، قبل مواطن الالتقاء للوصول إلى ترسيخ الثقة. وإذا كان الاختلاف موجوداً ومشروعاً فعلينا أن نسعى ألا يكون بيننا خلاف.
المراجع:
1 ـ الاتجاهات النقدية عن شرّح ديوان المتنبي القدماء، د. عدنان عبيدات، وزارة الثقافة الأردنية، 2002م.
2 ـ التبادل الثقافي في بلاد الشام وبلاد فارس، د. رياض عبد الحميد مراد، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، 1989م.
3 ـ الشيرازيون الثلاثة ومقالات أخرى، د. عبد الكريم اليافي، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، 2000م.
4 ـ العلاقات الثقافية الإيرانية العربية، د. محمد علي آذر شب.
5 ـ الفن ومذاهبه في النثر العربي، د. شوقي ضيف، دار المعارف بمصر، ط5، د.ت.
6 ـ الملتقى: دراسات في التراث الإسلامي، د. عبد الكريم الأشتر، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية لدمشق، 2001م.
* باحثة من سورية.
(1) كتاب الملتقى، د. عبد الكريم الأشتر، ص95.
(2) الشيرازيون الثلاثة، د. عبد الكريم اليافي، ص8.
(3) العلاقات الثقافية الإيرانية العربية، محمد علي آذر شب، ص14.
(4) المرجع السابق، ص15.
(5) انظر الاتجاهات النقدية عند شراح ديوان المتنبي، د. عدنان عبيدات، ص102.
(6) كتاب فقه اللغة، د. صبحي الصالح، ص367.
(7) كتاب التهذيب للأزهري، ج10، ص585.
(8) معجم الألفاظ الفراسية المعربة، أدي شير، ص3.
(9) انظر الاتجاهات النقدية عند شراح ديوان المتنبي القدماء، د. عدنان عبيدات، ص231.
(10) التبادل الثقافي، رياض عبد الحميد مراد، ص33.
(11) بتصرف عن كتاب الفن في النثر العربي، د. شوقي شيف، ص140.
(12) المرجع السابق، ص141.
(13) انظر البيان والتبيين للجاحظ، ج1، ص208.
(14) المرجع السابق، ص116.
(15) د. الأشتر، مرجع سابق، ص95
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 99 و 100 - السنة الخامسة والعشرون - تشرين الأول 2005 - رمضان 1426