رأي في علاقتنا بالآخرين

رأي في علاقتنا بالآخرين

عبد العزيز كحيل

ماذا لو تجاوزنا الجانب المعرفي وتعاملنا مع النّصوص الدّينيّة تعاملاً وجدانيّاً  وسلوكيا حيّاً يحّولها فعلاً إلى مرشد ميداني يؤسّس علاقات جديدةً مع الآخر؟ لنأخذ على سبيل المثال هذه النّصوص :

 

1.   " ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم " سورة فصلت 34

 

المسلم هنا أمام عدوّ أو خصم يكنّ له عداوة، ماذا يفعل معه؟ يمكن أن يتّخذ منه موقفاً عدوانيّاً، وهذا مستوى عامّة النّاس على اختلاف دياناتهم وثقافاتهم، لكن الخطاب هنا يرفع المسلم إلى مستوى الدّاعية الّذي تتوارى ذاته لتترك المجال لكسب الخصم بالكلمة الحسنة والموقف الليّن الهادئ الهادي، فلا تكون النهاية فضّ الخصومة فحسب بل ينتقل الخصم إلى مناصر صديق، وينطبق هذا على الأمم انطباقه على الأفراد .

 

2.   " اللّهم اهد قومي إنّهم لا يعلمون "  - حديث أورده القاضي عياض في الشفاء ، ورواه البيهقي

 

" اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "  - حديث رواه  البخاري و مسلم

 

ليس هذا مجرّد حديث نبويّ نتعبّد بحفظه وترديده إنّما هو موقف دعوى رفيع المستوى طيّب الثمرات يقتضي اتّباعنا للسنّة أن نتمثّله في علاقاتنا مع من آذونا عن جهل لنكسبهم لصفّنا ولو بعد حين ، فقد كان بإمكان الرسول - صلّى الله عليه وسلّم- أن يستنزل على أعداء الإسلام عقاباً سماويّاً ماحقاً فيضيع معه وعاء الدعوة الأوّل، لكنّه – عليه الصّلاة والسلام- يؤثر هداية الناس على إبادتهم، كلّما بالغوا في الموقف القبيح استمسك بالردّ الجميل، متحمّلاً هو وأصحابه أنواع المكاره والعنت، فتتأذّى أشخاصهم ويربح الإسلام في النّهاية.

 

3.   "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا "- متفق عليه

 

نحن هنا أمام تعنّت جماعي ورفض عدواني للدعوة صاحبه إخراج للنبيّ – صلّى الله عليه وسلّم- من الحاضرة المدعوّة التي كانت غايةً في الإسفاف والظّلم، وكان يمكن للرسول صلّى الله عليه وسلّم – وهو بشر- أن يرحّب بعرض ملك الجبال بإطباق الثّقلين عليهم، لكنّه تصرّف تصرّف الداعيّة الّذي لا يعنيه الانتصار لشخصه وإنّما التمهيد لانتشار رسالته، فقد ييأس من هذا الجيل لكن في طيّاته جيلاً آخر قد يستجيب وينتصر به الإسلام، وقد كان بالفعل .

 

 بهذه الأخلاق الكريمة انتصر الجيل القرآني بقيادة النبي – صلّى الله عليه وسلّم –

 

 و المسلمون يشكون منذ عصور ااحتلال الأجنبي تكالب كثير من الأمم والأنظمة عليهم، وخاصّةً الولايات المتّحدة (وربيبتها أو سيّدتها ... الكيان الصهيوني) وأوروبا، ويتحدّثون في أكثر الأحيان عن مؤامرات عالمية وإقليميّة تستهدف دينهم وأراضيهم، وهذا صحيح إلى حدّ بعيد، لكن ردّ فعلهم هو الّذي يحتاج إلى تصحيح في ضوء ما قدّمنا، فقد أثبت جنوح بعض الجماعات إلى العمل المسلّح خطأه وجاء بنتائج عكسيّة أضرّت بصورة الإسلام وبالدعوة إلى الله على أكثر من صعيد وفتحت الذّرائع للخصوم ليضربونا " قانونيّا ً" بدعوى محاربة الإرهاب، وإلى جانب هذا يجب الاعتراف بجناية كثير من أدبياتنا علينا لأنّها غير منضبطة بأحكام الشرع انضباطاً علميّاً دقيقاً فأصبحنا ننفّس عن ذاتنا بترديد نظريّة المؤامرة والتنظير لمعاداة الآخر وقطع الصّلات به وتوعّده وتهديده، وهذا نظر سطحيّ كما تؤكّد النصوص الّتي صدّرنا بها الكلام وكما يؤكّد الواقع منذ عقود، أمّا النظر الثاقب فلا تحجبه الآلام عن إبصار الحقّ والاعتراف أنّ في هذا التّكالب تنبيهات على أخطاء شرعيّة وفكريّة وأخلاقيّة وسلوكيّة وقعت فيها الأمّة ويجدر بها الالتفات إليها بالتصويب، ذلك أن التركيز على ذهنيّة المؤامرة يؤدّي إلى عكس ما تتطلّبه الدّعوة، إذ يزكّي مشاعر البغض للآخرين والعمل على إيذائهم، في حين ينبغي أن نشعر بالمسؤوليّة تجاه البشريّة: " لتكونوا شهداء على الناس" – سورة البقرة 143– ونغلّب مشاعر المحبّة والعطف والصفح كما فعل الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم-، ونحافظ على مصالحنا ومصالح الآخرين المشروعة مع استصحاب العمل الدّعوي لإرشاد غير المسلمين وهدايتهم: "ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر" – سورة آل عمران 104 –

 

ونستثني من هذا الموقف حالة الحرب حين يحتلّ الأعداء أرض المسلمين ويعتدون على مقدّساتهم وأرواحهم وأموالهم، فالجهاد هنا فرض لا يماري فيه إلاّ متخاذل أو عميل، كما هو الشأن في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.

 

أمّا في غير هذا فيجب أن يعلم الآخرون – من خلال أدبيّاتنا وسلوكنا ومواقفنا- أن موقفنا ليس هو الرفض المطلق والمستمرّ لهم ولأنظمتهم ونظمهم وأفكارهم وسياساتهم، بل هناك إرث بشريّ مشترك ومساحة تفاهم أو تقارب مع الشعوب ومع بعض الأنظمة المحبّة للعدل والسّلم، وديننا لم يهدم كل ما كان قائماً بل بارك الأخلاق الكريمة وذكر حلف الفضول بخير وترك كثيراً من مناسك الحج على حالها.

 

ويجب علينا أن نقنع أنفسنا أن ليس كل ما يأتي من الأنظمة والشعوب الأخرى شرّاً محضاً، فكم منها سيّر المظاهرات واتّخذ المواقف المشرّفة من قضايا المسلمين العادلة، كالموقف من العدوان الصهيوني على غزّة وحصارها والمساهمة في كسره.

 

من جهة أخرى علينا أن نقنع الآخرين أن الدّعوة الإسلاميّة ليست خطراً على الحضارة الإنسانيّة إنّما هي صاحبة عطاء متميّز يجمع بين الجانبين الربّانيّ والإنسانيّ: " يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" – سورة الحجرات 13 -، وكان لها حضور فاعل عبر عصور الإسلام الزاهيّة حيث أبدع المسلمون في العلوم الشرعيّة والإنسانيّة والكونيّة كما يعترف بذلك مؤرّخو العلم.

 

يقتضي الإنصاف أن نعترف أن جزءً كبيراً من الخطاب الإسلامي بعيد عن النّصوص المذكورة في صدر المقال، وهذا ما يدعونا إلى العودة إلى الخطاب الأصيل الّذي يحمل رسائل الطمأنة والتعاون، علينا أن نقتنع ونقنع الناس أن الغرب ليس بالضرورة خصماً فقط إنما هو مدعوّ يجب أن نحمل إليه رسالة الإسلام باللغة اللفظيّة وغير اللفظيّة التي يفهمها ويحسن التجاوب معها، وأن نخاطب مثقّفيه وسيّاسييه وعامّة أهله من موقع الندّ بعيداً عن عقدة الاستعلاء وعقدة الدونيّة لنقول لهم إنّنا بشر مثلكم، وأنتم الّذين بدر من بعضكم العدوان علينا لكنّنا لسنا أسرى الماضي بل أصحاب رسالة فيها – كما تحبّون- الحقّ والخير والجمال، فاستمعوا لنا لعلّ في خطابنا ما يغريكم، وانظروا إلينا بمنظار الحقيقة لا بالمنظار الأسود، فلسنا وحوشاً محبيّن لسفك الدّماء بل نحن مثلكم نحبّ الحريّة والعدل والمساواة، إذا بدر منّا ردّ فعل عنيف فهذا موجود عنكم أيضاً، وإذا أنصفتم فستجدون أن مصائب العالم تسبّب فيها الغرب المسيحي وليس الشّرق الإسلاميّ: الحربان العالميّتان حرب الجزائر وفييتنام وكوسوفو والبوسنة، فضلاً عن فلسطين، صعودا إلى حروب غزو الشرق التي سمّيتموها " الحروب الصليبية " .

 

إنّنا بالعودة إلى الخطاب الإسلامي المنزّل المفعم بحبّ الخير والهداية لكلّ النّاس نستطيع – في آن واحد- تحسين صورة  ديننا الحنيف الّتي خدشها أصحاب الخطاب المؤوّل والمبدّل، والاستفاقة على وقع ما يصيبنا من أنواع المكاره لنعود إلى رشدنا ونقوم بأداء مهمّة التبليغ من خلال توفير التطميم الروحي الّذي يبحث عنه الغربيون بشغف لينعتقوا من أسر المادّة وما يصاحبها من عدوانيّة واستعلاء، وكم سيسعدون بكلمة التوحيد السّهلة الصافيّة الواضحة، وبجمال الأخلاق القرآنيّة والشمائل المحمّديّة إذا تمثّلناها في أخلاقنا وسلوكنا وبثثناها في أدبياتنا .

 

وعودا على بدء نتساءل : ما جدوى النصوص الدينية  - من قرآن وسنة كما أوردنا – إذا كنّا نحكم على الآخرين ونتعامل معهم على غير هديها ؟هذا هو التناقض الذي يفقد الرجعية المعصومة فعاليتها ويجعل السبل تتفرّق بنا .

المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=2567&lasttype=3

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك