فنطازيا الجهات المقدّسة

فنطازيا الجهات المقدّسة

 
 

لم يقدّس الدّين عموما، والإسلام بشكل خاصّ، جهات الإنسان من يمين أو يسار، باعتبارها أنحاء تدلّ على الإيمان أو الكفر، ذلك أنّ الجهات ليست بذات قدسيّة في حدّ ذاتها إلاّ باعتبارها دلالات على شيء آخر، فهي من النّاحية الفلسفيّة ليست بذات كينونة دون وجود الجسم محاطا بالمكان، وهذا ما يجعلها مشروطة باعتبارات الوجود وبنسبتها إليه، ولذا كان من خصائص التّنزيه للذّات الإلهيّة هو انتفاء الجسميّة، لاحتياجها بالضّرورة إلى المكان المحيط بالجسم، والمستوعب لوجوده ومن المحال أن يكون هناك مكان يحيط بخالقه.

وربّما تتّفق معظم المذاهب الإسلاميّة على وجوب هذا التّنزيه ولا يختلف معها سوى الذين نفوا المجاز والتّأويل عن اللّغة فصار للذات عندهم يد، وساق، وكرسي تجلس عليه، ولكن كما يليق بجلاله بحسب تعبيرهم. 

إذن فاليمين واليسار كجهات لما هو كائن وإنساني بالخصوص، ومن النّاحية النظريّة على الأقل ليست بذات قيمة في حدّ ذاتها، ولا مقدّسة لكنّها إشارة إلى ناحية ما ونقيضها على الجانب الآخر، وليس هناك ما هو أكثر من ذلك، لكن مفهومي اليمين واليسار في الدّين والسّياسة ذوات اعتبارات مختلفة، بل ربّما تكون متناقضة جدّا حينما يراد الإشارة إلى أصحابهما ضمن تلك الاعتبارات. 

في الدّين مثلا، يشار إلى أصحاب الجنّة والمؤمنين بأصحاب اليمين، بينما يشار إلى الكفّار وأصحاب النّار بأصحاب اليسار. أمّا في السيّاسة فإنّ أصحاب الجناح اليميني هم المتطرّفون والمتزمّتون والرجعيّون في أسلوب السّياسة والحكم، في ذات الوقت الذي يشار فيه إلى أصحاب الجناح اليساري بأنّهم الجناح التقدّمي والاشتراكي والعلماني والدّيمقراطي أحيانا. 

هكذا تبدو الاعتبارات "الدينيّة – السياسيّة" محكومة بالتّناقض لاختلاف التوجّهات النظريّة التي تحدّد قوانين الدّين، وقوانين السّياسة، وليس لأنّ اليمين واليسار متغيّرات في حدّ ذاتها، وهكذا نجد النّاس في الدّين وطبقا للنّصوص تأكل باليمين وتقدّم الرّجل اليمنى عند الدّخول، وتختم باليمين، وتدخل الجنّة بكتاب يأخذه المؤمن باليمين…

بينما تستنجي باليسار، وتبصق على جهة اليسار، وتخرج بالرّجل اليسرى وتحلّ في النّار بكتاب يتسلّمه الكافر بيسراه من وجهة نظر الدّين. 

أمّا في السّياسة، فاليمين لا يعني سوى التخلف والإرهاب والحكم الاستبدادي ملكيا كان أم جمهوريا، أمّا اليسار فهو عكس ذلك تماما هو التقدّم والتّنوير والدّيمقراطيّة والعدالة والمساواة… 

التّساؤل الذي يتبادر إلى الذّهن بعد كلّ هذا، هو أنّ الدّين الذي ينصح المؤمنين الذين عليهم أن يستعملوا اليمين في كلّ شيء يتجاهلون حقيقة علماء الفزيولوجيا الذين يفسّرون الظّاهرة باختلاف استخدام الإنسان لفصي الدّماغ المرتبطين بشكل عكسي مع بقية أجزاء الجسم، فمن يستخدم يمينه مثلا فهو يستخدم الفص الأيسر من الدماغ، والعكس بالعكس، أمّا في السّياسة فحينما يريد اليمين الرّجعي والاستبدادي تجميل صورته القبيحة لا يجد سوى مفاهيم وشعارات اليسار التقدّمي من ديمقراطيّة وتحرّر وعدالة ملجأ له. 

هكذا التبست علينا مفاهيم اليمين واليسار، فلم نعد نعرف هل اليمين الدّيني هو اليسار التقدّمي من وجهة نظر الدّين؟ أم اليسار الدّيني هو اليمين الاستبدادي من وجهة نظر السّياسة؟ لكن الحلّ في كلّ ذلك بالتّأكيد لا تحدّده الجهات التي هي غير مقدّسة كما أسلفنا في هذه الفنطازيا.

ذلك أنّ أساس التّقييم ليس الجهة والشّعار، بل مقدار اقترانهما بالعمل فقد قال الدّين "يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون". الآية -2- سورة الصف 

وقالت السّياسة يجب أن يتمّ ربط النظريّة بالممارسة وهما في واقع الحالين ليستا معنيتين بالجهة بل بمقدار ما يتحقّق منها على أرض الواقع. 

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك