التعصب مدمر الحضارات
التعصب مدمر الحضارات
وصفي عاشور أبو زيد
"التعصب الفكري داء فكري على مر العصور والأزمان إذا لم يشخص التشخيص الصحيح ومن ثم معرفة أسبابه وعلاجه سيؤدي ذلك إلى تقطيع المجتمع بمقراض خبيث اسمه "التعصب" والذي يعني اصطلاحاً: الانحراف عن الجادة المنتجة في الحياة".
بهذه العبارة افتتحت الأستاذة نسيبة المطوع كتابها عن: "التعصب مدمر الحضارات"، وهو الكتاب السادس عشر في سلسلة كتاب الأمة الوسط التي يصدرها المركز العالمي للوسطية بالكويت، والتي تحدثت فيه عن المعنى اللغوي والاصطلاحي للتعصب، ثم أنواعه وأبعاده النفسية والاجتماعية، وأخيراً الحلول الناجعة للخروج من دوائره.
المعنى اللغوي والاصطلاحي
عرفت الكاتبة الوسطية لغة واصطلاحا في البداية كوجه مقابل للتعصب أو الإفراط والتفريط عموما، ثم قررت أن كلمة "تعصب" تعني اختلالاً فكرياً يليه اختلال وجداني يتحمس للاختلال الأول ليتبعه اختلال سلوكي تراه العين المجردة وتقيس مضارَّه المرئية الإنسانيةُ جمعاء على صاحبه وعلى دوائره.
أنواع التعصب
ثم بينت الداعية الكويتية المعروفة أنواع التعصب وحصرتها في خمسة أنواع:
أولا: التعصب القبلي:
وهو هوى القبيلة الأهوج الذي وصفه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه: "نتن"؛ لأنه يدمر الحيادية الفكرية ويدمر القدرة على العدل في القضاء الفكري بل يسيطر على القرار العقلي ليتبع أهواء القبيلة ومصالحها الخاصة دون الأخذ بالاعتبار الإنسان الآخر وعلاقتنا البشرية معه ومسئوليتنا تجاه بعضنا البعض كأناس متجاورين فوق الأرض.
ثانيا: التعصب القومي:
وهو هوى القومية الأسود الذي يمثل وباءً قاتلاً للمؤمن وللمحيطين به؛ حيث يرتفع هوى القومية بالشعب إلى مواقع غير حقيقية تجر العالم إلى الظلم والتفكك، فها هو هتلر ماثل أمام التاريخ نموذجا مثاليا للتعصب القومي؛ حيث أخذ بيد بلاده إلى الهاوية مع كل ما كانت تملك أرضه والساكنون عليها من قوة ومميزات وإمكانات حضارية، وكذلك كثير من غارات الدول على بعضها البعض ظلماً عبر التاريخ كان أحد مسبباتها الأساسية للجور والظلم هو العصبية القومية المدمرة لكل عدل على الأرض.
ثالثا: التعصب الفكري:
والنوع الثالث من أنواع التعصب كما تذكره الأستاذة نسيبة هو التعصب الفكري، الذي هو ضيق أفق وهوى ذهني يجعل المتعصب لا يري إلا فكره ويلغي أي فكر آخر على الوجود، وحضارتنا الفكرية القائمة إلـى يوم القيامة هي الضدية الأكيدة للتعصب الفكري بل هي السماحة العقلية والوجدانية والسلوكية التي تستوعب العالم أجمع باختلاف فكره واختــلاف معطياته واختلاف تنشئته وبيئته، فالتعصب الفكري يعني البخل الفكري وعدم السماح لزيارة الآخرين لعقولنا مما قد يؤدي عند كثير من الجهلاء إلى فرض الإرهاب الاتصالي في الحوار أضف إلى ذلك عدم احترام الرأي الأخر.
ولنا في رسول الله صلى عليه وسلم أسوة حسنة عندما سأله أحد الشباب أمام الصحابة أن يأذن له بالزنا؛ حيث نقل الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ الحوار إلى ذاتية السائل من دوائر إنسانية متمثلة بالأم والأخت والعمة والخالة، فكان عقله مفتوحاً للنصح، على عكس ما بدأ به من حال حواري.
وتؤكد المؤلفة من هنا أنه لزام على المربي في المحضن الأول المنزل، والمحضن الثاني المدرسة أن يغرس في لاوعي المتربي أهمية احترام الرأي الآخر وفكره المختلف معه.
وتلخص الداعية المعروفة المبادئ التي لابد من غرسها في الطفل حتى نحميه من التعصب الفكري فيما يلي:
أ- ثوابت الكتاب والسنة في الأمة. ب- أهمية احترام الرأي الآخر. ج- تنمية القدرة الذاتية على العمل مع من نختلف معهم. د- الحب المسئول قاعدة نبوية بين أعضاء الأمة وبين الأمة والعالم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" حديث. هـ- "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" آية. و- الشفقة على المخطئ وإبدال مشاعر الانتقام بمشاعر العطف على جهله ومحاولة مساعدته. ز- هناك فرق بين المعلومة وبين طريقة إيصال المعلومة. ح- الإيصال الفكري فن ومهارة على ساكن الأرض الذي يبتغي صناعة علاقة سليمة مع أخيه الإنسان أن يتعلمه ويتدرب عليه.
رابعا: التعصب التربوي:
وأما النوع الرابع من أنواع التعصب فهو التعصب التربوي، وهو تعصب بيئي لما نشأ عليه المتربي من أعراف ومباحات تمنع من التطور والمرونة مع معطيات الجيل الجديد.
وتؤكد المطوع أن هذا لا يعني أننا نسمح بالتقلب الأخلاقي تبعاً للواقع العالمي الميداني، وإنما نقول إن التوازن التربوي المطلوب ينطلق من ثوابت الدين الحق آخذاً بالاعتبار متغيرات العالم في مساحتي المستحب والمباح مع دراسة مواكبه لفقه الواقع، فحضارتنا عبر التاريخ ماثلة أمام العين تثبت المرونة الانطلاقية التي تميز بها الدين الحق حيث استقام عابر الدنيا بآليته الذاتية ومن ثم آليته السلوكية، فحقق التربية اللازمة للإنسان المتحضر الذي أنتج حضارته تبعاً لذلك، ومن هذا المنطلق الفكري نقول إن الإسلام هيأ التربية الحضارية المتزنة لتابعه فكراً ووجداناً وسلوكاً الملائمة لحضارته الدائمة، ما دام قد قدم التربيــة (أخلاق + علم) كمقدمة لتحقيق حضارته، وعلى ذلك فالتعصب التربوي الجامد الذي لا يعترف بتغييرات الواقع يعد عائقا دون التربية المتزنة الضرورية كنقطة بداية على الصراط المستقيم.
خامسا: التعصب الهوائي:
أما النوع الأخير من الأنواع التي ذكرتها المؤلفة من أنواع التعصب فهو التعصب الهوائي، الذي يمثل الهوى ـ كما تقول المطوع ـ مرضاً قلبياً ينطلق من القلب ليعشق العيش في العقل مستعمراً إياه وساعياً لحبسه في سجن الهوى، وأخذ مقاليد الحكم في مملكة العقل لإصدار قرارات هوائية في غير صالح صاحب المملكة بل في صالح أعدائه من نفس أمارة بالسوء (لا تأمر إلا بالشر) وشيطان وصديق سوء ودنيا مذمومة.
فالتعصب الهوائي هو تعصب "للمزاج" الكلمة التي كثيراً ما نسمعها من الصغار والكبار، والتي ترشدنا ببساطة أننا أمام إنسان ضعيف قد تحكّم هواه في عقله ومن ثم في قراره، وهو عبد مملوك لا يملك الحكم في سلطان ذاته بل هو إمعة عبد مسجون لا يقدر أن يطلق عقله ليقوم بوظيفته التكليفية في الحياة من معرفة عواقب الأمور وإصدار القرارات النافعة له ولغيره.
البعد النفسي للتعصب
وتبين المطوع أن المتعصب يتعرض لأي نوع من أنواع التعصب إلى اختلال نفسي بسبب عدم استقامة فكره ومن ثم مشاعره وسلوكياته، فهو قد انحرف بنوع عصبيته إلى أحد طرفي الإفراط أو التفريط، بل في كثير من الأحيان ينحرف بعصبيته من أن يكون عاطلاً عن الإنتاج إلى إنسان ذي عزيمة فولاذية في إنتاج ما يضره من نوايا وأفكار وأقوال وأفعال لينقل بإنتاجه من المعدل الصفري إلى المعدل السالب، فالمتعصب مختل نفسياً بلا جدال ، حيث انحرف من الاستقامة الداخلية في ذاته وانحرف عن الاستقامة الميدانية في حياته، ويحتاج منا جميعاً إلى مساعدة سريعة ممثلة بالوجبات العلمية الصحيحة لذلك المختل حتى لا يؤثر على تركيبة المجتمع الذي يفتـرض أن تكون منسجمة ومتكاملة لأداء دورها الإنتاجي بشكله الأمثل.
البعد الاجتماعي للتعصب
وهناك بعد آخر للتعصب تبينه الأستاذة نسيبة وهو البعد الاجتماعي، فالمجتمع المنتج هو من امتلك القدرة على العمل كفريق منسجم متكامل يشد بعضه بعضاً حباً مسئولاً وتناغماً في القدرات حسب مواهب كل عضو، فيأتي التعصب بأنواعه مجتهداً ليفكك أواصر المجتمع ويدمر قدرته الذاتية على العمل كفريق متكامل في القدرات، بل يفتح الأبواب لدخول أمراض القلوب الفتاكة إلى ذوات الأعضاء ليلعب التعصب بأنواعه كمقراض يقرض العلاقات والطاقات المشتركة في مشروع الحياة الجميل، ويبدأ المتعصب غروراً وكبراً وعجباً معتقداً أنــه يرتقي بذاته فوق الجميع ليساعدهم، ولا يدري المسكين أنه وقع في مستنقع العصبية النتن محاولاً أن يجر مجتمعه إلى واقعه المرير، والطامة الكـبرى أنه يجهل واقعه ويرى المستنقع جنة محاولاً بحسن نواياه الجاهلة أن يقنـع زملاءه بذلك، ولا يدري أن العلم جاء قبل العمل كقاعدة قرآنية حياتية فـوق الأرض. قال الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}.
الحلول الناجعة للخروج من دائرة التعصب
وفي نهاية بحثها تقدم الداعية نسيبة المطوع معالم للعلاج الناجع وقسمات للحلول المعالجة لهذه الآفة المدمرة، ومن هذه الحلول ما يأتي:
1. نشر العلم: فالجهل أكبر عدو يواجه الإنسان في حياته حتى مع توفر النوايا الطيبة، فالمنحرفون فكرياً في العالم تعصباً أكثرهم امتلكوا حسن النوايا لذويهم، ولكن جهلهم سحب طاقاتهم وطاقات من اتبعوهم إلى درك الهاوية، ومن المهم أن نوصّل للشباب الأسئلة التالية: أ- ما هي مهمتك في الحياة ؟ ب- ما هو هدفك من الحياة ؟ ج- كيف تحقق هدفك ؟ د- أين موقعك من هدفك ؟ ه- ما هي وجهتك الآنية ؟
فإذا أيقن المتعلم أنه في مشروع حياة فوق الأرض مهمته فيها أن يعمر ذاته ويعمر العالم بنشر الخير أينما حل وأينما ارتحل.
2. أهمية الحوار كمهارة اتصالية: فمع وجود العلم الصحيح والنوايا الجميلة الافتقار إلى فن الإيصال الفكري بين الناس وخصوصاً المتحابين منهم، فنحن غالباً ما نختلف مع أحبائنا، نمارس معهم إرهاباً اتصالياً بالقسر والجبر، والرشيد من فرق بين المعلومة وطريقة نقلها مؤمناً بأننا لا نملك عقول الآخرين ولكن نملك فقط الطرق على باب العقول وبلياقة تناسب صاحب الدار ولذلك كان لزاماً على كل إنسان يريد أن يمارس دوره الحضاري فوق الأرض وأن يتعلم مهارة الاتصال الفكري مراعياً فنون الحوار المعروفة.
3. استخدام أحدث الوسائل في نشر العلم: فإذا اقتنعنا أن العلم فريضة قبل العمل علينا أن نحترم ما وصل إليه عصرنا الزمني من تقنيات عجيبة وجديدة لنشر العلم، وإلا أصبح عقل الشباب المقصود تعليمه أعرج الفكر ، فإذا أردنا أن ننشر العلم لابد لنا من مراعاة مصادر نشر العلم الحالية التي تحيط بالشباب في عصره الحالي، ونعمل جاهدين على تكامل المعلومة في عقله من جميع المصادر التي ترسل إليه العلم، ونخطط في إرسال المعلومات في شكل تكاملي منسجم بحيث ينضج عقل الشباب وهو يتغذى على وجبات صحية من العلم تكمل بعضها البعض في نظام صحي لفكر الشاب .
وتختتم الداعية الكويتية الأستاذة نسيبة المطوع بكلمات مهمة حين تقول: "أولادنا أمانة في رقابنا، وعلى كل فرد أن يدلو بدلوه بنية ودعاء وبذل للأسباب في شكل تكاملي مدروس لنعين شبابنا – بعد عون الله تعالي – ليستقيموا في عقولهم وقلوبهم وسلوكهم على الصراط المستقيم تحقيقاً لهدف إرضاء الله تعالى والنجاح بالدارين بمشيئة الله تعالى، مدركين أن فن الحوار مهارة من الواجب تعلمها حتى نستطيع أن ننقل ما نريد لمن نريد".
المصدر: http://wasfy75.blogspot.com/2009/06/blog-post_6658.html