الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري
الإسلام ومستقبل الحوار الحضاري
للأستاذ الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري
المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة
مفهوم الحوار في الفكر السياسي و الثقافي المعاصر من المفاهيم الجديدة حديثة العهد بالتداول، ولعل مما يدل ، على جدة هذا المفهوم وحداثته أن جميع المواثيق والعهود الدولية التي صدرت في الخمسين سنة الأخيرة بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة تخلو من الإشارة إلى لفظ الحوار، بينما تعتمد معاني إنسانية أخرى مثل التسامح، والتعاون، والتعايش، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي، والدفع بالرقى الاجتماعي قدما، والرفع من مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح (1) تعزيزا للعمل الجماعي المشترك لما فيه الخير للإنسانية.
فليس الحوار من ألفاظ القانون الدولي، فهو لا يوجد له ذكر أصلا في ميثاق الأمم المتحدة، ولا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ولا في إعلان مبادىء التعاون الثقافي الدولي.
وعلى هذا الأساس فإن الحوار مفهوم سياسي أيديولوجي ثقافي حضاري وليس مفهوما قانونيا.
ولقد اقترن ظهور مصطلح الحوار في دلالته الجديدة بتزايد حدة ما كان يعرف بالحرب الباردة بين المعسكرين السابقين بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي السابق، وتزامن هذا الظهور للفظ الحوار مع تصاعد ضراوة الصراع الأيديولوجي و السياسي بين القوتين العظميين، فكان الحوار الذي طرح الغرب فكرته مقابل التعايش الذي رفع المعسكر الشيوعي شعاره وتبنى فلسفته، فالغرب ينادى بالحوار بين الأديان، ثم بين
الثقافات والحضارات والشرق الذي كان فيما مضى يتمثل في الاتحاد السوفيتي يدعو إلى التعايش السلمي، والتعايش بين الأمم والشعوب، ولكل دعوة غايتها، وفي كلتا الحالتين فإن الكاسب هو صاحب الدعوة والمنادي بها والمدافع عنها.
ويلاحظ في هذا السياق أن الحوار الذي كان الغرب هو السابق الدعوة إليه بهذا المفهوم وبهذه الدلالة استند في أول الأمر على الهدف الديني، حيث وقع التركيز على الحوار الإسلامي- المسيحي ، و كانت الكنيسة الغربية هي التي وجهت الدعوة إلى هذا الحوار، وذلك في أعقاب نشوء أزمة حضارية جديدة في العالم العربي الإسلامي نتيجة تصادم الإراديتين ، الإرادة العربية الإسلامية، والإرادة الغربية، وبلوغ حدة الصراع بين الجانبين مبلغا قدر الجانب الغربي انه بات يهدد مصالحه فكانت الدعوة الحوار في المجال الديني في صيغة (الحوار الإسلامي- المسيحي )، ثم في المجال السياسي في صيغة (الحوار الأوروبي العربي)، في مرحلة أولى أعقبتها مرحلة ثانية نشطت فيها الدعوة إلى (حوار الشمال والجنوب). وكان الغرب في كل الأحوال، وفي جميع الظروف هو صاحب المبادرة إلى هذا الحوار في أشكاله المتعددة وبصيغه المتنوعة، سعيا منه إلى أهداف رسمها وإلى غايات حددها، يكتنفها جميعا قدر من الغموض الذي لم تنفع وسيلة في إخفائه، لأننا هنا بإزاء دعوة صادرة من جهة تملك شروط القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي والقدرة على صنع الحدث والتحكم في مساره، ومن هنا وجب التعامل مع الحوار في هذا الإطار بقدر كبير من الحيطة والحذر والفطنة والتنبه.
دلالة الحوار وفلسفته:
يكتسب الحوار في تراثنا الثقافي والحضاري معنى يدل على قيم و مبادئ هي جزء أساسي في الثقافة والحضارة الإسلاميتين. فمن حيث الدلالة اللغوية، نجد أن جذر (ح، و، ر) مثقل بالمعاني التي تدل على مفاهيم أصيلة في تراثنا الثقافي والحضاري، ففي لسان العرب، الحوار هو الرجوع، وهم يتحاورون، أي يتراجعون الكلام، والتحاور هو التجاوب و المجاوبة ، و الحور هو الرجوع عن الشيء و إلى الشيء.. والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، بل إنه ليدهشنا حقاً أن يكون من أسماء العقل في اللغة العربية، الأحور(2).
فللحوار في لغتنا وتراثنا معان رفيعة القدر سامية الدرجة، تكسوها مسحة حضارية راقية، فتكسبها دلالة عميقة تعبر عن روح الأمة.
ويؤكد هذا ما ورد في القرآن الكريم، ففي سورة الكهف تكرر فعل (يحاوره) مرتين، في الآيتين 34و 37، يقول تعالى: (وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) الآية 34 (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجالا ) الآية 37 وورد في سورة المجادلة لفظ التحاور، في قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) الآية 1، والتحاور عند الطبرى المراجعة في الكلام، وهو المعنى الفصيح الصحيح الذي نجد له أصلا في كتب اللغة إن كان ابن كثير ذهب في تفسيره لسورة الكهف إلى أن معنى (يحاوره) يجادله ويخاصمه ويفتخر عليه، ولا يوجد لهذا المعنى في اللسان أصل(3).
فالأصل في الحوار في الثقافة العربية الإسلامية هو المراجعة في الكلام ،وهو التجاوب بما يقتضى ذلك من رحابة الصدر، وسماحة النفس، ورجاحة العقل، وبما يتطلبه من ثقة ويقين وثبات، وبما يرمز إليه من القدرة على التكيف، والتجاوب والتفاعل، والتعامل المتحضر الراقي مع الأفكار والآراء جميعا، وهذا المعنى يتأكد لدينا بما لا يرقى إليه الشك أن الحوار أصل من الأصول الثابتة للحضارة العربية الإسلامية، ينبع من رسالة الإسلام وهديه، ومن طبيعة ثقافته وجوهر حضارته- واقتران الحوار بالعقل يؤكد أيضا على معنى سام في سياق تحديد مدلول اللفظ، ذلك أن الحوار العاقل هو الذي يقوم على أساس راسخ، ويعتمد وسيلة سليمة، ويهدف إلى غاية نبيلة، وارتباط الحوار بمعنى الرجوع عن الشيء إلى الشيء يثبت في الضمير الإنساني فضيلة الاعتراف بالخطأ، ويركز على قيمة عظمى من قيم الحياة الإنسانية، وهي القبول بمبدأ المراجعة بالمفهوم الحضاري الواسع الذي يتجاوز الرجوع عن الخطأ إلى مراجعة الموقف برمته، إذا اقتضت لوازم الحقيقة وشروطها هذه المراجعة، واستدعى الأمر إعادة النظر في المسألة المطروحة للحوار على أي نحو من الأنحاء، وصولا إلى جلاء الحق.
فالحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية المستندة أساسا إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحاء ، وهو موقف فكرى وحالة وجدانية، وهو تعبير عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية ، وهي سمة التسامح، لا بمعنى التخاذل والضعف بوازع من الهزيمة النفسية، ولكن بمعنى الترفع عن الصغائر، و التسامي على الضغائن، والتجافي عن الهوى والباطل.
وفي ظل هذا المفهوم فإن فلسفة الحوار في الحضارة الإسلامية، تقوم على قواعد ثلاث:
القاعدة الأولى: الإيمان بالله ورسوله وكتابه، وتقوى الله، والتواضع مع الله، والثقة في نصره، والاعتزاز بالحق والتشبث به، يقول تعالى في محكم التنزيل: ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون((4)، ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (5)، فاستشعار العزة والامتلاء بها، يحفزان إلى الثبات في مواقف الحق، وعلى عدم الركون إلى الباطل أو الانهزام أمام سطوته، ويقويان في النفس إرادة البقاء الحر الكريم، فالمؤمن دائما عزيز النفس قوى الجانب، حر الإرادة كريم الذات، لا يقبل الهوان والانكسار و الذلة والصغار، لا في دينه ولا في نفسه.
- القاعدة الثانية: التأدب بأخلاق الإسلام، والتأسي بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام في الحوار، ومخاطبة الناس من منطلق الإيمان بوحدة النوع الإنساني أولا، قال صلى الله عليه وسلم : " كلكم لآدم و آدم من تراب ". والمجادلة بالتي هي أحسن ثانيا: يقول تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (6)، ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (7).
- القاعدة الثالثة: نشدان الحق والبحث عنه و السعى إلى الحقيقة والتماسها، والقصد إلى ما فيه الصالح العام من شتى الطرق التي ليس فيها انحراف عن محجة الشرع، وبمختلف الوسائل التي تحقق مصالح العباد و البلاد.
وعلى الرغم من الطبيعة المتشعبة للحوار، فإنه ليس دعوة، ولا مناظرة، و لا مجادلة ، ولكنه صيغة جامعة، وأسلوب من أساليب التقارب والتجاوب والتفاعل ولذلك فإن من شروط الحوار الجاد الهادف أن يتصف بالحكمة والحكمة هي جماع العلم والمعرفة، من عناصرها الفطنة وحسن الفهم، وعمق الوعي وسعة الإدراك، والرشد، والتنبه، والقصد والاعتدال. يقول تعالى في سورة البقرة: ( يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا ) (8). وإذا كانت الحكمة هنا قرينة الدعوة، فإنها من شروط الحوار أيضا.
كما ترتبط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فكذلك الحوار قرين الحكمة والموعظة الحسنة في جميع الأحوال. وهذا الارتباط هو من قبيل ارتباط المنهج و المضمون بالوسيلة و الأسلوب، فالحوار هو المضمون، والحكمة هي المنهج. بينما الوسيلة والأسلوب هما الموعظة الحسنة، وليست أية موعظة، على أي نحو من الأنحاء، ولا بأية طريقة من الطرق، ولكنها موعظة حسنة. وفي السياق القرآني تتبع الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلة بالتي هي أحسن، يقول تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن ( (النحل 125). وينطبق هذا على الحوار انطباقا كاملا.
وإذا كانت المجادلة، وهي مقارعة الحجة بالحجة" تأتى في المرتبة الثانية من مراتب الدعوة إلى الله وكما أن الدعوة لا تتم على الوجه الشرعي إلا إذا كانت صادرة عن الحكمة. ومقترنة بها، كذلك الحوار لا يكون إلا بالتي هي أحسن، أي أحسن الوسائل وأقوم الأساليب، وأصح الطرق، وهذه هي مبادئ الحوار، و أسسه ، و شروطه.
إما مقومات المحاور: فهي فرع عن هذه المبادئ وتأسيس على تلك القواعد، فالمحاور لابد أن يكون حكيما فطناً، عالماً بالعصر فقيها في قضاياه ومشكلاته، قوياً مستقيماً، عارفاً للدنيا، مدركاً لرسالته، متفتح العقل ذكى الفؤاد، واسع الأفق محيطا بمعارف شتى، على قدر كبير من الثقافة والخبرة والتخصص.
وبهذا المعنى، فإن الحوار قوة وسلاح من أسلحة السجال الثقافي والمعركة الحضارية، وهو وسيلة ناجحة من وسائل الدفاع عن المصالح العليا للأمة، وشرح قضاياها، و إبراز اهتماماتها، وتبليغ رسالتها، إسماع صوتها، و إظهار حقيقتها، وكسب الأنصار لها، وجلب المنافع إليها ودرء المفاسد عنها.
وإذا كان الحوار أصلا ثابتا في الحضارة الإسلامية فإنه من مبادئ الشرع الحنيف استنادا إلى قوله تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) (9). فهذه الآية في عمقها وجوهرها، وفي مغزاها ومعناها، دعوة إلى الحوار الراقي الهادف.
وتأسيساً على هذه القاعدة، فإن الحوار الذي يجب أن ندعو إليه وندخل فيه ونتبناه هو الذي يستمد من الإسلام روح الاعتدال، لأن أحكام الإسلام تسودها روح الاعتدال، فهو تنبذ التطرف وتحبذ التوسط بين الأطراف، ووردت الكثير من الآيات القرآنية في مواضع مختلفة تشير إلى هذه الروح، بل تشيد بها، أي بذلك التوسط، منها قوله تعالى: ) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ((10)، ويقصد (بأمة وسط) أمة لها طابع الاعتدال (11)، ويرى بعض العلماء أن (وسطية الإسلام) تلتقي في معناها أو تتقارب مع (مثالية الإسلام)، فقد فسروا معنى (أمة وسط)، الواردة في هذه الآية بأمة مثالية إذا اتبعت شريعة الله وقامت بحقها (12). وهكذا، فإن الحوار في شريعة الإسلام، وفي مفهوم الفكر الإسلامي، هو الحوار الذي ينزع منزع الوسطية والاعتدال، استمدادا من دلالة لفظ (كلمة سواء) في الآية الكريمة، فهو حوار بالكلمة الراقية، وبالمنهج السوي.
وبذلك يتميز حوارنا دلالة ومفهوما وغاية وفلسفة.
منطلقات الحوار وموضوعاته وأهدافه:
أولا منطلقات الحوار: ومادام الحوار الراقي هو مظهر حضاري يعكس تطور المجتمع ونضج فئاته الواعية، فإنه لابد أن يستند إلى أسس ثابتة، وضوابط محكمة وأن يقوم على منطلقات أساسية يمكن حصرها في منطلقات ثلاث، هي:
1- الاحترام المتبادل.
2- الإنصاف والعدل.
3- نبذ التعصب والكراهية.
وفي رؤيتنا الإسلامية الحضارية، فإن الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة هو المنطلق الأول الذي يجب أن يرتكز عليه الحوار. يقول تعالى : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)(13)، وهذا يفترض وجود قواسم مشتركة تكون إطارا عاما وأرضية
صلبة للحوار، ولنا في القيم الدينية أولا، ثم في المبادئ الإنسانية، والقواعد القانونية غناء لجميع الفرقاء المشاركين في الحوار، على أي مستوى كان، وهي جميعا قيم و مبادئ تحكم علاقات البشر بعضهم مع بعض، وتضبط مسار حركاتهم و سكناتهم ، وتضع القواعد الثابتة للتعامل فيما بينهم، وبذلك نضمن ألا يكون الحوار ساحة للجاج العقيم، والتطاول على أقدار الناس، والمس بمكانتهم، وتبادل الإساءة فيما بينهم، ولئلا يفقد الحوار صبغته الحضارية.
وإذا كان الاحترام المتبادل منطلقا أولا للحوار، فإن الإنصاف والعدل هو المنطلق الثاني. ولنا في قوله تعالى: في سورة المائدة قاعدة ثابتة وهداية دائمة، يقول تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (14).
فالعدل هو أساس الحوار الهادف الذي ينفع الناس ويمكث أثره في الأرض و يقتضى العدل المساواة بين البشر، ويستدعى الاعتراف بالفضل لذويه، ويتطلب الإقرار بالحقيقة حتى وإن لم تكن في صالح جميع الأطراف، ثم إن العدل هو روح الشريعة الإسلامية، وهو جوهر القانون الوضعي، وهو الأساس الراسخ الذي يقوم عليه القانون الدولي الذي يجب أن يسود المجتمعات البشرية كلها، ولذلك فإن العدل والإنصاف في مفهومنا الإسلامي هو الشرعية الحضارية التي ينبغي أن تكون منطلقا للحوار، أيا كان مستواه، ومهما تكن أهدافه.
وباجتماع الاحترام المتبادل والإنصاف والعدل، تتوفر قاعدة ثالثة من القواعد التي تقوم عليها منطلقات الحوار، وهي نبذ التعصب والكراهية، ونجد أصلا لهذه القاعدة في قوله تعالى في سورة الممتحنة: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم . إن الله يحب المقسطين ) (15).
والتوجيه القرآني هنا يرقى من مستوى نبذ التعصب والكراهية، إلى مقام أرفع. وهو البر بالناس كافة، ومعاملتهم بالقسط- وهو العدل- جميعا، والبر هو الإحسان بكل دلالاته الأخلاقية واللغوية ونتلو في سورة البقرة قوله تعالى: ( وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة)(16). ويذهب الشيخ محمد عبده في شرحه لهذه الآية إلى أن (الحسن) في هذا السياق ليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة في الخطاب. فالحسن هو النافع في الدين والدنيا (17). وعند ابن كثير ( وقولوا للناس حسنا ) أي كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر بالمعروف، ويعفو ويصفح ويقول للناس حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله، بعد إن أمرهم بالإحسان هم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي و القولي (18).
وتلك هي المنطلقات الراسخة لأي حوار فاعل وهادف.
ثانيا: موضوعات الحوار: إن كل ما فيه المصلحة للفرد والمجتمع يصلح أن يكون مجالا للحوار، وكل ما يحقق المنفعة للمجتمع الإسلامي جدير بأن يكون موضوعا للحوار، فلا يقتصر الحوار على موضوع دون أخر، مادامت المنافع والمصالح هي محورة الرئيسي ومجاله الحيوي، هو يتناول الموضوعات جميعا ويشمل كل القضايا ذات الصلة بحياة المجتمع في حاضره ومستقبله، ويغطى شتى الموضوعات التي ترتبط بجميع مناحي الحياة سياسيا واقتصاديا وثقافيا و علميا، وتربويا وفكريا، ويستجيب للحاجات الضرورية التي تفرضها طبيعة العلاقات الثنائية والمصالح المتبادلة.
وموضوعات الحوار هي من السعة والشمول بحيث لاتحد بمدار أو مسار مادام الهدف هو الوصول إلى الحقائق وتحقيق الأهداف التي تعود بالنفع على الجميع.
ولاشك أن المجتمعات الإسلامية في المرحلة الراهنة في حاجة إلى أن ينفتح فيها الحوار على آفاق العصر، ولن يتيسر هذا إلا بسلوك إحدى السبيلين، أولهما الدخول في حوار مع العصر، بلغة العصر وبأسلوبه وبطرائقه، ليكونا الحوار مدخلا إلى القرن الحادي والعشرين بقدرات أكبر، وبإمكانات أوفر، وبفرص أكثر، وثانيهما تحصين الذات بإصلاح أحوال الفرد والمجتمع إصلاحا عميقا، ومن النواحي كافة حتى تسود روح الحوار العالم العربي الإسلامي، ويتعمق ما يصطلح عليه (بالحوار الوطني) من جهة، و (الحوار العربي- العربي)، و (الحوار الإسلامي- الإسلامي) من جهة ثانية.
وينبغي أن يهدف (الحوار الوطني) إلى رصد عوامل تفاقم الأوضاع الاجتماعية واحتوائها، والعمل على تدعيم سبل الاستقرار والتنمية وحتى تصبح الحوارات الوطنية في العالم العربي الإسلامي بمثابة نقطة تحول وانطلاق إلى آفاق جديدة في واقعنا السياسي والاجتماعي وفي الميادين كافة، لابد أن نحرص على الإدارة العلمية والدقيقة لهذه الحوارات وفي اتجاهنا نحو هذه الغاية لابد أن نفرق أولا بين مفهومي ( الحوار) و (عمليات التفاوض الجمعي ) (19)، وذلك تجنبا للفوضى والوقوع في المحظور، والسير في الاتجاه الخط.
وهذا الضرب من الحوار، الذي يمكن أن نصطلح عليه (بالحوار الداخلي) هو خطوة أولى نحو الحوار مع الخارج، لأنه يقوى النسيج الوطني في كل بلد من بلدان العالم العربي الإسلامي، من جهة ويكسب المجتمع مناعة أصبحت اليوم ضرورية للتعامل مع العالم المحيط بنا، من جهة ثانية لأننا لا يمكن أن نفلح في الحوار مع العالم، ما لم نفلح في الحوار مع أنفسنا.
وفي هذا الإطار العام، يمكن أن يكون كل موضوع يهم الفرد والمجتمع موضوعا للحوار، ولا ينبغي أن يطبع الحوار في كل المراحل، بالطابع السياسي و الثقافي و الفكري فحسب و إنما فعالية الحوار و نجاحته تكمنان في شموليته واستقطابه لجميع الموضوعات، وذلك بالرغم من أن من طبيعة الحوار من حيث هو حوار ابتداء، أن يرتكز على الأسس النظرية للمسائل والقضايا المطروحة، فإذا انتقل إلى التطبيقات العملية، كان أقرب إلى العملية التفاوضية حسب المفهوم العلمي للمصطلح.
ولقد وجد العالم العربي الإسلامي نفسه ملزما بالاستجابة للدعوات التي صدرت من الغرب للدخول في حوارات شتى ومادام الأمر كذلك فإن انتقاء موضوعات الحوار صار أمرا لامناص منه، فعلى سبيل المثال حينما يتعلق الأمر (بالحوار الإسلامي- المسيحي ، لا ينبغي الدخول في مناقشة مسائل الاعتقاد على حساب قضايا عملية تعود معالجتها بالنفع والفائدة على الطرفين، لا تهربا ولكن لأن مثل هذه المناقشة لا فائدة فيها، وهي أقرب إلى الجدل العقيم والحجاج السقيم ولذلك فإن من هذه القضايا التي يجب التركيز عليها التعاون من أجل إقرار المبادئ والتعاليم الدينية المشتركة التي تحث على احترام الحياة الإنسانية، وعلى مراعاة حرمة الإنسان وعلى
السعي في الأرض من أجل الخير والأمن والسلام وعلى محاربة الإلحاد والرذيلة والفساد والظلم والطغيان ، وعلى دعوة الناس إلى قيم المحبة والتسامح والإخاء الإنساني وهذه مساحات شاسعة للعمل المشترك من اجل الإنسان وفي خدمة البشرية وإنقاذ العالم من الشرور والموبقات
للإسلام فيها حضور نافذ واثر قوى عبر كل العصور، وقد أحسن الشيخ محمد عبده حين أطلق وصف (شريعة المسالمة على مبادئ الإسلام وتعاليمه و أخلاقه التي تدور في هذا النطاق، وعد ذلك أصلا سادسا للإسلام (20).
وللإسلام مبدأ وموقف ورؤية إلى هذه المجالات جميعا فتعاليم الدين الحنيف تحث على التعاون من أجل كل ما فيه الخير والحق والفضيلة والشرف والعزة والكرامة، وفي سبيل تحقيق كل ما فيه السعادة لبنى البشر كافة.
والحوار على هذا النحو الراقي ، ومن أجل هذا الهدف السامي ، ضرورة من الضرورات التي يقتضيها انتظام سير الحياة على خطوط سوية، وتفرضها طبيعة العمران البشرى فالحوار حركة مضطردة ، وقوة مضطردة، وقوة دافعة للنشاط الإنساني، وطاقة للإبداع في شتى مجالات الحياة، ووسيلة للنهوض بالمجتمعات، وهو سبيل إلى تحصين الشعوب والأمم ضد المخاطر التي تتهددها من جراء تصاعد الخلافات المتشعبة، سواء حول قضايا العقيدة والفكر والثقافة والحضارة واللغة، أو القضايا التي ترتبط بشئون السياسة والاقتصاد والتجارة والأمن والحرب والسلم .
إن اللجوء إلى الحوار بدلا من الصدام هو في حد ذاته تعبير عن نضج فكرى ووعى حضاري، وتصميم على البحث عن أقوم السبل لتجنب الخسائر، ولتفادى المخاطر، وللتغلب على المشكلات، ولمعالجة الأزمات أو إدارتها بعقل متفتح وبضمير حي.
ولما كان أمام العالم العربي الإسلامي مهام مستعجلة لبناء الذات وتقدم المجتمع وازدهار الحياة فهو مدعو اليوم، (ولعل أكثر من أي وقت أخر) إلى الانفتاح على أفاق العصر على امتداداتها ، إلى الدخول في حوارات جدية وهادفة مع دوائر عديدة، وعلى مستويات متنوعة، ليثبت للعالم كله جدارته واستحقاقه وأهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية جديدة تسود فيها قيم الخير والحق و الفضيلة والتسامح والتعاون و مبادئ السلم.
ثالثا: أهداف الحوار: وهي كل ما يحقق الخير والصلاح والأمن والسلام والرخاء والطمأنينة للناس كافة، وفي اللفظ القرآني (التعارف) من قوله تعالى في سورة الحجرات، ما يغنى ويفيد ويقوى ويزكى هذه المعاني جميعا، قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) (21) فالتعارف هنا يتسع ليشمل التعاون والتعايش، وكل ضروب العمل الإنساني المشترك لما فيه الخير والمنفعة لبنى البشر، وهو هدف سام من أهداف الحوار.
وينبغي أن تبدأ أهداف أي حوار من الإنسان وتدور حول شئونه وقضاياه، وتعود إليه لئلا يفقد الحوار قيمته وأهميته ومضمونه الهادف، وهذه الأهداف من الكثرة بحيث يتعذر حصرها، ولكن يمكن إجمالها فيما اتفق المجتمع الدولي اليوم على اعتبارها أهدافاً إنسانية سامية يمكن اتخاذ ما ورد في إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي من الأهداف مثالا لها، فقد نص هذا الإعلان على الأهداف التالية (22).
1- نشر المعارف، وحفز المواهب و إثراء الثقافات.
2- تنمية العلاقات السلمية والصداقة بين الشعوب والوصول إلى جعل
كل منها أفضل فهما لطرائق حياة الشعوب الأخرى.
3- تمكين كل إنسان من اكتساب المعرفة والمشاركة في التقدم العلمي الذي يحرز في جميع أنحاء العالم و الانتفاع بثماره، والإسهام من جانبه في إثراء الحياة الثقافية.
4- تحسين ظروف الحياة الروحية والوجود المادي للإنسان في جميع أرجاء العالم.
وكما هو شأن التعاون الثقافي الدولي فإن على الحوار بوجه عام أن يبرز الأفكار والقيم التي من شأنها توفير مناخ صداقة وسلام، وأن يستبعد جميع مظاهر العداء في المواقف وفي التعبير عن الآراء ، على أن يتوخى الحوار أيضا النفع المتبادل لجميع الأمم التي تمارسه (23)، ويسعى في جهد مشترك مع الأطراف جميعا للقيام بعملية حضارية كبرى، هي تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تسود المجتمعات وتعوق مسيرة التعاون والتقارب والتفاهم والحوار.
وهكذا يفتح الحوار المجال واسعا أمام تفاهم المجتمعات، ويؤدى إلى تقارب الثقافات، ويساهم في تلاقى الحضارات، وهو ما نصطلح عليه هنا بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون الدولي على مواجهة تحديات العصر ومشاكله و السعي لحلها.
التفاعل الحضاري:
لقد قامت الحضارة الإسلامية على أساس التفاعل الحضاري، فهي لهذه الخاصية ثقافة حوار في المقام الأول ، أخذت عن الحضارات السابقة، واقتبست من ثقافات الأمم والشعوب التي احتكت بها، وصهرت حصيلة هذا كله في بوتقة التفاعل الحضاري، فكانت حضارة الإسلام، ولا تزال مثالا نادرا للتفاعل بين الحضارات.
ولقد كان لحيوية الحضارة الإسلامية وقوتها الذاتية الدافعة لها إلى التطور والتقدم والإبداع الأثر القوى في نقل روح المدنية إلى العالم الغربي، وهو الأمر الذي يعترف به ويشهد له معظم الكتاب والمؤرخين والمفكرين الأوروبيين الذين برئوا من الهوى والغرض، وكتبوا بإنصاف عن خاصية التفاعل الحضاري في الحضارة الإسلامية، وهذا كر ستوفر دوسن ، يذهب في كتابه (تكوين أوروبا) إلى أن الحضارة الإسلامية احتفظت بمركز الصدارة منذ أوائل العصور الوسطى فصاعدا، لا في الشرق فحسب، بل كذلك في غرب أوروبا، إذ نمت الحضارة الغربية في ظلال الحضارة الإسلامية التي هي أكثر منها رقيا وقتذاك، وكانت الحضارة الإسلامية العربية- لا البيزنطية - هي التي ساعدت العالم المسيحي في العصور الوسطى على استرداد نصيبه من التراث اليوناني العلمي و الفلسفي (24).
ولعلنا لا نغالي إذا أكدنا هنا على أن الإسلام، وهو دعوة الله إلى الناس كافة، ورسالته- سبحانه- إلى العالمين، هو الدين الذي يدعو إلى التفاعل الحضاري دعوة صريحة قوية، ويحث عليه حثا، على اعتبار أن الحوار الذي نادى به الإسلام هو في طبيعته وجوهره ورسالته تفاعل حضاري، كما لا نحتاج إلى أن نقول إن قاعدة التسامح التي يقوم عليها الإسلام، فتحت أمام الأمة الإسلامية السبيل إلى سبل الاحتكاك الواسع بالأمم والشعوب، وشجعت الحضارة الإسلامية على التفاعل مع الثقافات والحضارات جميعا. ونعنى بالتسامح الديني- تحديدا- أن تكون لكل طائفة في المجتمع الإسلامي الحرية في تأدية شعائر دينها، وأن يكون الجميع أمام قوانين الدولة الإسلامية سواء، وإذا نظرنا إلى الإسلام من حيث مبادئه وتعاليمه الأصلية نجد أنه هو أرقى الأديان في تحقيق مبدأ التسامح الذي هو القاعدة الأولى للتفاعل الحضاري (25).
إن التفاعل الحضاري يستند في مفهوم الفكر الإسلامي إلى مبدأ التدافع الحضاري، لا الصراع الحضارة، وهو المبدأ القرآني المحض، الذي نجد له أصلا في قوله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (26)، ونقف على معنى أخر قوله تعالى ( ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ) (27).<
فالتفاعل إذا في المنظور الإسلامي هو عملية تدافع لا تنازع ، وتحاور لا تناحر. والتفاعل حياة، والتصارع فناء، والتفاعل الحضاري عندنا حوار دائم و مضطرد ، ينشد الخير والحق والعدل والتسامح للإنسانية قاطبة، ولا يسعى في الأرض بفساد.
رسالة التفاعل الحضاري في عالم متغير:
إن العلاقة المتينة بين الحوار وبين التفاعل الحضاري تقتضى أن يكون ثمة ترابط محكم بين أهداف الحوار وبين غايات التفاعل الحضاري، وإذا شئنا الدقة قلنا إن التفاعل الحضاري عملية تكاملية تتم بين الطرفين، وتمتزج فيها عناصر شتى، وتؤدى في النهاية إلى حالة من الانسجام والتناغم. وهي ليست عملية عشوائية لا إرادية، ولا هي ضرب من الترف الفكري، و إنما هي فعل ينتج عن التقاء إرادتين تسعيان إلى تبادل التأثير في المحيط الاجتماعي على تنوع منا شطه ، و تشعب ضوابطه.
من أجل هذا كله، فإنه ينبغي أن يكون الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات، حوارا هادفا مؤثرا، وتفاعلا فاعلا وبناء، يجب أن يقوما على قاعدة الاحترام المتبادل بالمعنى الأخلاقي الرفيع، وبالمدلول الحضاري السامي ، كما يجب أن يقوم الحوار والتفاعل بين الثقافات والحضارات، على قواعد اجتمع البشر على صحتها وسلامتها، وانعقد إجماع الإنسانية على اعتبارها القانون الذي يحكم المجتمع الدولي، حتى يكون الحوار والتفاعل الحضاري في هذا الإطار مستندين إلى الشرعية الدولية، وإلى قواعد القانون الدولي، بحسبان أن هذه الشرعية، وهذه القواعد، هي القواسم المشتركة بين جميع الشعوب والحكومات في عالمنا المعاصر، وهي المرجعية المتفق عليها، بينما المرجعيات الدينية والثقافية والحضارية جميعا، هي محل اختلاف وخلاف، وموضع تنازع ونزاع، بل هي مصدر صراع نراه نخن أبناء الثقافة والحضارة الإسلامية ، ومن وحى هذه الثقافة وهذه الحضارة، تدافعا بين الشعوب والأمم، و بالتالي بين الثقافات و ا لحضارات.
وهكذا يصير الحوار المفضي إلى التفاعل الحضاري، فعلا إنسانيا مؤثرا في حركة التاريخ، وعنصرا مساعدا على استتباب الأمن والسلام على الأرض، وقوة دفع لاستقرار الحياة الإنسانية ، ولازدهارها، ولرقيها.
إننا لا نريد حوارا وتفاعلا بين الثقافات والحضارات، هما مجرد ترف فكرى، ولا نريد حوارا وتفاعلا بين الثقافات والحضارات لا تكون لهما انعكاسات على الواقع المعاصر، ولا تصل أثارهما إلى دوائر صنع القرار، ولا نريد حوارا وتفاعلا بين الثقافات والحضارات، ينطلقان من الإحساس بالتفوق العنصري وبالاستعلاء الحضاري، ويصدر عن روح الهيمنة الثقافية.
إنه ينبغي أن يكون هدفنا الرئيسي من السعي إلى إقامة الحوار الذي ينتج عنه التفاعل الحضاري بين أهل الثقافات والحضارات، ومن هذه المنطلقات تحديدا إشاعة قيم التسامح بالمعنى الراقي للتسامح، كما يفهمه المؤمنون بالله، والمؤمنون بوحدة الأصل الإنساني ، وبوحدة المصير الإنساني أيضا (28).
وهدفنا من إقامة الحوار المحقق للتفاعل بين الثقافات والحضارات هو التعارف بالمعنى القرآني السامي، الذي هو الأصل في تعامل الشعوب والأمم بعضها مع بعض، وفي تشارك بعضها مع بعض، وفي تعاونها على الخير، وعلى العدل، والحق، والأمن والسلام. قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (29).
وأعتقد أن هذا الضرب من الحوار بين الثقافات والحضارات، هو الأمل المنشود، وهو الترياق الشافي من الأمراض والعقد الثقافية والفكرية والحضارية، التي تتسبب في الاختناقات السياسية، وتؤدى إلى الأزمات الاقتصادية، وتخلق الاضطرابات الاجتماعية، وهو رسالة التفاعل الحضاري في عالم سريع التغير، مقبل على آفاق جديدة سيكون على الإنسانية فيها أن تتقارب بوتيرة أسرع، وأن تتبادل الأفكار والآراء والثقافات في إطار من المرونة والسماحة، مما يقتضى أن يكون العالم العربي الإسلامي جاهزا ومستعدا للمشاركة العملية النشيطة، ولممارسة الفعل الحضاري المؤثر، ومن تحقيق التفاعل الحضاري الذي يضمن المصالح العليا للأمة الإسلامية.
إن التفاعل الحضاري في عالم يبحث عن نظام جديد لم يهتد إليه بعد محكوم عليه أن يكون تفاعلا إيجابيا، ويمكن في هذا السياق أن نستخدم كلمة تثاقف للدلالة على تفاعل إيجابي عند الاحتكاك بين الثقافات، بحيث إنه عندما تدخل ثقافتان وحضارتان في اتصال واحتكاك، فإذا كانت السمات الثقافية التي يجرى تبادلها تتوازن وتحافظ كل منهما على هويتها و حركيتها الذاتية الخاصتين بعد إدماج العناصر الأجنبية و استيعابها ، يتحقق بذلك تثاقف "أو تفاعل"، ناجح، ولكن عندما لا يتجسد الاتصال في تبادل متوازن، بل في تدفق في اتجاه واحد، فإن الثقافة المتلقية تكون مغزوة ومهددة في وجودها ذاته، ويمكن اعتبارها في هذه الحالة، ضحية عدوان حقيقي، وإذا كان العدوان فوق ذلك ماديا، فهذه هي الإبادة الجماعية، أما إذا كان العدوان رمزيا، فإن الإبادة الجماعية لا تكون سوى ثقافية فحسب، أي إبادة اثنية ، وهي أعلى مراحل محو "الثقافة" (30).
ولن ترضى الأمة الإسلامية أن يكون التفاعل الحضاري غزوا للثقافة الإسلامية ، ومحوا للحضارة الإسلامية، وذوبانا في ثقافات الأمم واندماجا في حضارات الشعوب.
إن العالم العربي الإسلامي يمد جسور التعاون والتقارب والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات جميعا، دون استثناء وهو يتطلع إلى مواقع له مشرفة في القرن الحادي والعشرين، ولن يرضى أن يكون ضحية تغريب العالم بأية حال من الأحوال من خلال تفاعل حضاري فاقد لمعنى العطاء المتميز والاستيعاب الذكي، والمنفعة المتبادلة.
خاتمة
إن الحوار الحضاري هو النمط الأرقى من الحوارات التي تجرى بين الفئات المثقفة من البشر، وهو لا يرتبط بشكل محدد، ولا بصيغة معينة، ولا بمكان أو زمان ولكنه مجموع العمليات التفاعلية التي تتم على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية، الثقافية والفنية، والاجتماعية و الإعلامية ، ولابد أن يكون للعالم العربي الإسلامي مشاركة فاعلة ومؤثرة في جميع أنماط الحوار، وبصفة أخص الحوار الحضاري الذي يعد المدخل الرئيسي إلى التفاعل الحضاري.
إن العالم من حولنا في تغير سريع الإيقاع، وفي كل الجهات، ولا يجوز أن يفوتنا قطار التغيير حتى نساير العصر الجديد، أو حتى لا نتخلف عن مسيرة التاريخ العالمي و الحضاري العام. ويترتب على كل هذا التغيير في مجالات حتى الاقتصاد والسياسة، بل الفكر السياسي و الثقافي العام، إننا قد دخلنا إلى عصر حضاري جديد، طلع على البشرية قبل انتهاء القرن العشرين الذي سيسجل تاريخ الإنسانية أنه كان قرن التحول العظيم في الصلات والعلاقات الدولية، وان من يتخلف عن مسيرته إنما يتخلف عن مسيرة الإنسانية نحو مستقبل لابد أن يكون مختلفا عن عصرنا الذي نخرج منه (31).
ويتوقف هذا التغيير الحضاري العميق الشامل على مدى مساحة الحوار الداخلي بين أبناء الشعب الواحد من الشعوب العربية الإسلامية، وعلى مستوى هذا الحوار الوطني ، وعلى حجم تأثيره في تعميق الوعي الحواري ، والتمكين لثقافة الحوار باعتبار أن هذه هي الخطوة الأولى نحو الانفتاح على العالم من حولنا، ومد جسور التعامل الراقي معه، وإقامة علاقات حوارية مع جميع فئاته ومكوناته والأطراف ذات الاهتمام، وذلك من منطلق المشاركة الحضارية الواعية الرشيدة، من موقع التميز الحضاري، باعتبارنا أمة ذات رسالة سامية وحضارة إنسانية.
.....................
الهوامش
(1) ميثاق الأمم المتحدة الديباجة.
(2) لسان العرب المحيط ابن منظور، مجلد 1، ص751 طبعة دار الجيل- دار لسان العرب "بيروت 1988م - وفي (الهادي إلى لغة العرب) لحسن الكرمي (مجلد ا ص 55 )حاور محاور وحاور الرجل صاحبه جاوبه وراجعه في الكلام أي رد أحدهما على الآخر وتراجعا الكلام، وفي المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية في القاهرة (مجلد 1).
(3) مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق محمد على الصابوني مجلد 1 ص 419 دار القرآن الكريم بيروت- مختصر تفسير الإمام الطبري- أبو يحيى محمد بن صمادح التجيبي ، الطبعة السابعة، دار الفجر الإسلامي بيروت 1995م.
(4) المنافقون: 8.
(5) آل عمران: 139.
(6)النحل:125.
(7) العنكبوت: 46.
(8) البقرة: 269.
(9) آل عمران: 64.
(10) البقرة: 143.
(11) أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث: مظاهرها، أسبابها، علاجها، د. عبد الحميد متولى ص136 طبعة ثانية الإسكندرية1975 .
(12) وسطية الإسلام، الشيخ محمد محمد المدنى ،ص:28,20,13,8,7.
(13) الأنعام: 108.
(14) المائدة : 8.
(15)1لممتحنة :8.
(16) 1لبقرة :83.
(17) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده تحقيق وتقديم د. محمد عمارة 8 مجلد 4 ص 216.
(18) مختصر تفسير ابن كثير مجلد ا ص 84 .
(19) مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي و السياسي، د. حسن محمد وجيه سلسلة عالم المعرفة
190 ص 160-161.
(20) الأعمال الكاملة للأمام الشيخ محمد عبده تحقيق وتقدم د. محمد عمارة مجلد3 ص 309 -310دار الشروق القاهرة 1993م .
(21) الحجرات :13 .
(22) إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي الصادر عن المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، في نوفمبر 966 1، المادة الرابعة.
(23) المصدر نفسه، المادتان: 8,7 .
(24) تكوين أوروبا، كريستوفر دوسن . ترجمة ومراجعة د . سعيد عبد الفتاح عاشور، ود. محمد مصطفي زيادة، مشروع الألف كتاب :642، القاهرة 1967م، ص: 202-203.
(25) يوم الإسلام. د أحمد أمين ، دار الكتاب العربى، بيروت 1952، ص: 180-181 .
(26) البقرة 251 .
(27) فصلت: 34.
(28) في البناء الحضاري للعالم الإسلامي، د عبد العزيز بن عثمان التويجرى ج 2 تحت الطبع.
(29) ا لحجرات: 13.
(30) تغريب العالم سيرج لاتوش ، ترجمة خليل كلفت، دار العالم الثالث، القاهرة 1989م ص:59
(31) مستقبل الثقافة في مصر العربية، د . سليمان حزين، دار الشروق، القاهرة :1994 م ص62
المصدر : المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية جمهورية مصر العربية .