صناعة الرموز الدعوية والسياسية والمهنية
صناعة الرموز الدعوية والسياسية والمهنية
بقلم: أحمد صلاح
كلمة رمز، تعني الشخصية التي ينظر إليها الناس باعتبارها مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بحركة ما، أو دعوة ما، أو مؤسسة ما، ويرتبط هذا الرمز وجدانيًّا عند الجمهور بتلك الحركة، أو الدعوة أو المؤسسة، بحيث يصبح معبرًا بصورة شعبية (غير رسمية) أمام الجمهور عن المبادئ والتوجهات والأفكار، سواء كان هذا الرمز دعويًّا، أو سياسيًّا، أو مهنيًّا. من هنا كان وجود رموز خاصة بالدعوة الإسلامية في اتجاهات مختلفة ذات أهمية وخطورة في نفس الوقت. أهمية.. لحاجة الدعوة إلى شخصيات يلتف حولها الناس، شخصيات قادرة على التأثير فيهم، وشرح المفاهيم وكيفية تطبيقها بصورة عملية، وهم في نفس الوقت يمثلون مراجع فكرية وعملية للدعوة في كل مكان. أما الخطورة فتكمن في مقدار المسئولية الملقاة على عاتق هذا الرمز، لأن أي خطأ سيقع فيه سيرتبط بالدعوة ارتباطًا مباشرًا، بما سيأخذ من رصيدها عند الناس، ومن الممكن أن يمتلك هو عند الناس رصيدًا من الحب والتقدير بما يجعلهم يسامحونه على هذا الخطأ؛ ولكن سيصبح من المجهد جدًّا إزالة الخطأ عن الدعوة نفسها، خاصة في حالة وجود من يتربص بها، ويتصيد أخطاءها، مع الاعتراف بأن الخطأ سيقع حتمًا، فكل ابن آدم خطاء، وسيقع الخطأ مهما كان الحذر؛ لأنها سنة الكون. وعلى كثرة الدعاة وجهدهم المخلص، فإن الكثير منهم كان يحتاج إلى تدريب أكثر، حتى يصل إلى مرتبة (رمز) يرضي الدعوة، وربما لم يكن هناك اهتمام بالمواهب الدعوية بصورة كافية، بما يجعلها تبرز دعاة موهوبين ومؤثرين كما كان يفعل الإمام الموهوب حسن البنا رحمه الله في انتقاء المواهب وتوجيهها، لتلمع في سماء الدعوة، وتؤثر تأثيرًا بالغ الأهمية والنفع. فعل ذلك مع الطالب (السيد سابق)، الذي كان طالبًا وقتها في كلية الشريعة الإسلامية، فكانت جلسة واحدة أو اثنتان كافية كي يلمح مواهبه الفقهية، فوجهه إلى ملء الفراغ في الكتابة الفقهية، بعد أن دعاه للكتابة في مجلة (الإخوان المسلمين)، فإذا بالطالب النبيه يؤلف كتاب (فقه السنة) الذي يكاد لا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين.. والإمام حسن البنا رحمه الله، هو الذي طلب من الطالب (محمد الغزالي) الطالب في الفرقة الثالثة بكلية أصول الدين وقتها، الكتابة في مجلة (المنار) ليكتب أول مقالاته فيها عام 1939م، ليصبح بعدها (الشيخ الغزالي) من أئمة الدعوة والدعاة في القرن العشرين. أما الرمز المهني، فبالفعل يوجد الكثير في الساحة المهنية من الذين يتميزون بالكفاءة والأخلاق والضمير، بما يؤهلهم لأن يكونوا رموزًا مهنيين للدعوة، لكن ما ينقصهم فقط هو تقديمهم للمجتمع. ما هو الرمز الدعوي والسياسي والمهني؟ أولاً: الرمز الدعوي: الرمز الدعوي هو الرمز الذي يتحدث في الإسلام بقيمه العامة مبشرًا بالإسلام وموضحًا لمفاهيمه، فهو يتحدث عن قيم العدل والحرية والصدق والأمانة والإيجابية والشجاعة، وهو يدعو إلى القراءة والتعلم والاجتهاد في العمل، يتحدث عن مفاهيم الإسلام التي ينبغي أن تكون في المدرسة والجامعة والمصنع والمستشفى والملعب، فتصلح من شأنهم، فتقرن العبادة بالعمل، والجهد بالثواب، فتفيد الناس وتنهض بالمجتمع وترضي الله ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)﴾ (النساء: 174). ثانيًا: الرمز السياسي: عندما نتحدث عن الرمز السياسي بعد الدعوي، فلا يعني ذلك الفصل بينهما، فلا يمكن الفصل بين الجانبين الدعوي والسياسي في الدعوة، لأن فصل أحدهما عن الآخر يعني اجتزاء جزء من الإسلام، علاوة على أن هذا ضد مبدأ شمولية الإسلام، إنما المقصود هنا هو الفصل فقط في الوظيفة التي تضمن التخصص في العمل، ما يؤدي إلى رفع كفاءة العمل الدعوي والعمل السياسي على السواء، وبحيث يعرف كل منهما دوره الذي ينبغي أن يكون مكملاً للآخر في أداء رسالة الإسلام، ولكي يتم ذلك لا بدَّ أن يعرف كل منهما حدود اختصاصاته، وكيف تتم الرسالة التكاملية بينهما دون أن يضر أحدهما الآخر. ولكي تتضح الرؤية أكثر بالنسبة للرمز السياسي، ينبغي علينا أن نعطي إطلالة على معنى السياسة أولاً، حتى نفهم وظيفته بوضوح. فمفهوم السياسة هو تدبير شئون الأمة على الوجه الذي يتحقق به الصلاح، السياسة تتوجه إلى المجموع فتحقق مقصوده ومطلوبه، وتيسر له العيش وتضمن له مصالحه، وتوفر له الأمن في الغذاء والمسكن والرعاية الصحية وباقي متطلبات الحياة الكريمة. السياسة بهذا المعنى، خطط واختيارات وبرامج وآليات، تحقق أعلى قدر من المصلحة للمجموع. معنى ذلك أن الرمز السياسي وظيفته أن يعرض برنامجه السياسي الذي استقاه من قيم الإسلام التي يدعو إليها (الرمز الدعوي)، فتصبح هذه القيم الإسلامية هي مرجعية برنامجه السياسي الذي يتقدم به ليحل مشكلات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو يتحرك بهذا البرنامج الذي هو عبارة عن آليات وفعاليات وإجراءات عمل للنهوض بالمجتمع، وعليه أن يكون قادرًا على التفرقة بين برنامجه السياسي والبرامج السياسية المختلفة على الساحة، وتوضيح أسباب أفضلية برنامجه عن البرامج الأخرى. ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138)﴾ (البقرة)، إذن حديث الرمز السياسي سيكون منصبًّا بالدرجة الأولى على المفاهيم والنظريات السياسية، التي تحولت فيما بعد إلى آليات واضحة لحل مشكلات المجتمع. هذا الرمز السياسي أيضًا هو المنوط به التفاوض السياسي مع السلطة والأحزاب الأخرى، أو إمكانية الترشح حسب ما تسمح الظروف، وهو المنوط به أيضًا توضيح الرؤية السياسة للمجتمع من الأحداث العامة، بما يتوافق مع قيم الإسلام التي اتخذها مرجعية له. ثالثًا: الرمز المهني: أما الرمز المهني فهو الشخص المتميز في مهنته؛ بحيث يقدم نموذجًا في الكفاءة المهنية وقيم الإسلام، من حيث إتقان العمل والذوق في التعامل مع الناس واحترامهم، واحترام الوقت وعدم الجشع والتسامح والعدل مع الموظفين، وغيرها من القيم الإنسانية والمهنية (راجع مقال: العمل المهني منبر جديد للدعوة). قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، وقال- صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِين". كما أن هذه الرمز منوط به أن يجمع المهنيين من حوله ليرتفع بشأن مهنته، لتحقق مهمتها في خدمة المجتمع كما يريد الإسلام. آليات تكوين ونجاح الرموز الثلاثة كي نصل بالرموز الثلاثة السابقة، الدعوي والسياسي والمهني، إلى درجة من الكفاءة والقدرة على التأثير، فلا بدَّ أن نمر بمرحلتين أساسيتين: 1- مرحلة التأسيس العلمي، أو (الاستزادة العلمية). 2- مرحلة التواصل مع المجتمع. في حالة الرمز الدعوي أولاً: مرحلة التأسيس العلمي: وفي هذه الخطوة يبدأ الرمز في دراسة ممنهجة للعلوم الشرعية، مع الأخذ في الاعتبار أن الاكتفاء بالعلوم الشرعية فقط لا يحقق العلم المطلوب لداعية ناجح، بل ينبغي أن يكون الرمز الدعوي مثقفًا مطلعًا على أحوال مجتمعه، وراصدًا لمشكلاته، وقارئًا جيدًا للأحداث (يرجى الاستعانة بكتاب: ثقافة الداعية، للدكتور يوسسف القرضاوي). ثانيًا: مرحلة التواصل مع المجتمع: من الممكن أن يمتلك الداعية علمًا شرعيًّا قويًّا ولكنه لا ينجح كداعية، ذلك لأنه فقد شيئًا غاية في الأهمية؛ وهو القدرة على التواصل مع المجتمع، هذا التواصل الناتج من قدرته على فهم مجتمعه بما يمكنه من إنتاج (خطاب دعوي) سليم يناسب عقل وفكر من يوجه إليهم هذا الخطاب، خطاب يدرك المستويات؛ الفكري والإيماني والأخلاقي للجمهور، ويبدأ من هذه النقطة ليرتفع بهم شيئًا فشيئًا، بأسلوب سهل وبسيط بعيد عن الغموض والتعالي، خطاب قادر على أن يدخل الدين في تفاصيل الحياة ليقدم الحلول، فيقتنع الناس برسالة الإسلام عمليًّا، خطاب قادر على تجميع الناس لا تفريقهم، وتشجيعهم على الفعل والتغيير، لا خطاب كلام نظري بعيد عن التطبيق على أرض الواقع. على أن القدرة على التواصل مع الجمهور لا تقتصر على العلم والثقافة فقط، بل تتطلب أيضًا المهارة في الحديث إلى الناس وإلقاء الخطاب، وهي مهارة تحتاج إلى تدريب طويل. في حالة الرمز السياسي أولاً: مرحلة التأسيس العلمي: وهي مرحلة تحتاج إلى جهد مضاعف من الرمز السياسي، نظرًا لدخوله عالمًا جديدًا مليئًا بالمصطلحات والنظريات السياسية والنظم المختلفة التي تحتاج إلى دراسة متخصصة ستستغرق جهدًا ووقتًا كبيرين (يرجى الاستعانة بكتاب: ماذا أقرأ، للدكتور طارق سويدان، جزء: الحقيبة السياسية). ثانيًا: مرحلة التواصل مع الجمهور: تكمن الصعوبة التي سيواجهها الرمز السياسي في أنه سيبدأ في تأسيس أعمال لها طابع سياسي في مجتمع عانى سنوات مما يعرف بـ(التصحر السياسي)، والتي أصابته بـ(أمية سياسية) جعلت معظم الناس لا تعرف ولا تهتم أن تعرف أسماء الأحزاب والوزراء والمحافظين، ومهمة الرمز السياسي أن يجذب الناس للندوات والمؤتمرات التي تزيد الوعي السياسي لدى الجمهور. على السياسي أيضًا أن يدرك أهمية وجود التيارات السياسية الأخرى معه في المشاركة في بناء الوطن، وأن يتبنى منهج أحقية الخلاف في الرأي بعيدًا عن الاتهام والتخوين، وأن يسعى نحو التجميع لا التفريق، دون أن ينقص من فكرته، أو يهون من شأنها. وعلى الرمز السياسي أن يتمتع بمهارة الحديث للإعلام، وأن يدرس التصريحات السياسية بعناية قبل الإدلاء بها في الأحداث المختلفة. في حالة الرمز المهني وهنا بالطبع لن يكون المطلوب التأسيس العلمي، إنما سيكون المطلوب الاستزادة والتقوية في الجانب العلمي الخاص بالمهنة، والاطلاع المستمر على كل جديدٍ، بما يجعل الرمز قادرًا على إمكانية رصد مشكلات المهنة والمبادرة بطرح حلولها بصورة واقعية. والمقصود بالمجتمع في المرحلة الثانية هو المجتمع المهني، الذي يجب أن يسعى الرمز لتجميعه في لقاءات متواصلة، تناقش مشكلات المهنة وكيفية حلها، ودعوة الأكفاء منهم لتكوين تكتلات نقابية تشارك في انتخابات النقابة؛ من أجل إصلاح شأن المهنة وتحسين أحوال أصحابها. وفي النهاية، لكي نصنع رموزًا فعالة في المجتمع، لا يكفي أن نعتمد على جهد الشخص بمفرده مهما كانت موهبته، والمواهب التي ظهرت على السطح بجهدها الشخصي بذلت جهدًا خارقًا كي تصل إلى ما وصلت إليه؛ ولكن في المقابل ضاع الكثير من الوقت حتى تفيد المجتمع بمواهبها، بينما سقطت في الطريق عشرات المواهب التي لم تستطع أن تكمل بمفردها، لتجرفها الحياة نحو اهتمامات أخرى، والحل أن نكتشف المواهب، ثم نقدم العون المادي لها بالتدريب وتوفير المصادر العلمية ومجال الممارسة العملية، والعون المعنوي بالتشجيع المتواصل، حتى تخرج لنا كوادر على مستوى عالٍ، يراها الناس نماذج مشرفة لديننا العظيم بإذن الله.
المصدر: http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=3889&lasttype=2