الأسرة بين الأمس واليوم

الأسرة بين الأمس واليوم

د. نهى قاطرجي

كان الابن فيما مضى يرتبط ارتباطاً شديداً بذويه طوال حياته ، وكان هذا الارتباط يتجلى بعلاقة الأب بابنه منذ الطفولة حيث كان يتولى الإشراف على تعليمه العلوم الدينية والدنيوية ، ثم يقوم بعد ذلك بتعليمه مهنته التي كانت متوارثة من جيل إلى آخر ، أما الأم فإضافة إلى اهتمامها به من الناحية العاطفية والتربوية فهي المسؤولة عن اختيار عروسه التي تشاركها السكن في بيت العائلة الكبير .

 

كان التقسيم الهندسي للبيت الكبير تُراعى فيه الأحكام الشرعية الإسلامية التي تحرص على منع الاختلاط والحفاظ على حُرمة النساء وحمايتهن من أعين المتطفلين ،وقد كان البيت ‘في بعض المجتمعات ، ينقسم إضافة إلى الغرف الخاصة بكل زوجين ، إلى قسمين : رجالي ونسائي، أما القسم الرجالي فهو خاص بالذكور من أبناء الأسرة يجتمعون فيه ويستقبلون فيه زُوارهم، أما في حين ان القسم النسائي كان أعضاؤه أكثر عدداً حيث كان يضم ، إضافة إلى الأم وبناتها العزباوات وزوجات أبنائها ، النساء المطلقات أو الأرامل داخل العائلة واللواتي تقع مسؤولية إعالتهن والنفقة عليهن على الذكور داخل الأسرة ، وقد كان لهذا التضامن الأسري دوره الفعال في التغلب على إحساس الوحدة والنبذ من جهة ، وتأمين النفقة والحضانة للأولاد من جهة أخرى .

وقد كان لهذه الزيادة داخل الأسرة الواحدة أثره في إيجاد جو التضامن والإلفة داخل البيت ، فكان الجميع يتعاون من أجل مصلحة أبناء هذا البيت الكبير ، فالأعمال خارج البيت يقوم بها الرجال الذين لا تهمهم مصالحهم الشخصية على قدر ما تهمهم المصلحة العامة للأسرة التي يحرصون أن يحافظوا على اسمها وشرفها ، أما الأعمال داخل البيت من خدمة وسهر على راحة أبناء هذه الأسرة فقد كان من اختصاص القسم النسائي التي تتولى السلطة فيه وإدارة شؤونه الأم التي كانت تعد الآمرة الوحيدة في هذا القسم ، والتي يسعى الجميع لكسب ودها ورضاها، وقد كان لهذا الجو التضامني في هذا القسم دوره المهم أثناء المرض والنكبات حيث تتعاون جميع النسوة في خدمة المريض وتطبيبه وتخفيف المسؤولية عن كاهل الشخص المسؤول مسؤولية مباشرة .

الأسرة الغربية المعاصرة

إن هذه الإيجابيات التي ذكرناها عن حال الأسرة الإسلامية سابقاً ، لم تعد موجودة اليوم بعد التطور الكبير الذي طرأ على تكوين الأسرة والذي كان للتأثر بالنمط الغربي دوره الكبير في تغييره ، وقد طال هذا التأثر البُنية الخارجية للمنازل حيث استبدلت بالبيوت الكبيرة تلك الصغيرة والتي يطلق عليها اليوم اسم ( بيوت السردين ) ، كما طال أيضاً التكوين الداخلي حيث تقلصت هذه الأسرة ليقتصر عددها على الزوج والزوجة والأبناء والذين يتراوح عددهم بين ولد واحد وثلاثة أولاد في الغالب.

هذا وقد أدى استقلال الأبناء عن أسرهم الكبيرة إلى نشوء حالات جديدة ساهمت في تفكك الأسرة المعاصرة ، وكان من نتائج هذا التفكك الأسري ما يلي :
1- غياب التضامن الذي كان موجوداً داخل الأسرة الكبيرة ، حيث تخلى كثير من الأبناء عن القيام بواجباتهم الأساسية في رعاية ذويهم عند الكِبر أو العجز أو المرض ، كما تخلى كثير من الأخوة عن القيام بواجباتهم تجاه أخواتهم المطلقات أو الأرامل اللواتي يجدن أنفسهن متهمات ومنبوذات من الآخرين ، مما يضطرهن إلى العمل من أجل إعالة أنفسهن وأبنائهن اليتامى الذين وصى بهم الله عز وجل بقوله : " وأما اليتيم فلا تقهر" .

 

2- غياب الصلات الاجتماعية المعروفة سابقاً كصِلة القربى والجيرة الحسنة اللتين وصّى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبات أبناء العم والخال لا يتزاورون إلا في مناسبات العزاء والفرح ، حتى أن البعض منهم لا يعلم ، بسبب الهجر أو الخصام، وجود أقرباء لهم يجب عليهم أن يصلوهم ويتواصلوا معهم ، أما الجار فهو ، إلا فيما ندر ، لا يعرف إلا في الشكل أو الاسم … ولله دُر رسولنا الكريم عندما قال :" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه "

3- الوحدة والملل اللذان يشعر بهما الزوجان بعد الزواج ، إذ أن قُرب الصلة بالأهل والأقارب والمعارف التي كانت معروفة سابقاً كانت تُلبي حاجة الإنسان إلى الاجتماع والمؤانسة مع الآخرين وهو ما تفتقده كثير من الأسر اليوم ، لذا كثيراً ما يتم التعويض عن هذا النقص بالانشغال بالعمل أو الاستعانة بالتلفاز المحلي والفضائي من جهة ، أو يتم ذلك بإنشاء صداقات جديدة مبنية على علاقات أو مصالح شخصية لأحد الزوجين من جهة ثانية .

4- سوء تربية الأطفال من الناحية الصحية النفسية مقارنة بين اليوم والأمس ، إذ أن "الطفل الذي ينشأ ويترعرع في عائلة يلعب فيها تربوياً أكثر من رجل : دور الأب ( كالجد والأعمام) وأكثر من امرأة دور الأم : ( كالجدة والعمات ) سوف تكون فرصه لأن ينمو جسدياً ومعرفياً وعاطفياً ، لأن يكّون شخصيته المستقلة ويكتسب المقدرة السلوكية على الاندماج الصحي في المجتمع ، أكثر وأفضل من فرص الطفل المعتمد كلياً وحصراً على أب واحد وأم واحدة " .

ما تقدم كان ملخصاً لواقع الأسرة بين الأمس واليوم ، وإذا كانت بعض الباحثات أمثال " فاطمة المرنيسي " تحاول في كتاباتها تشويه صورة الأسرة القديمة وتصوير علاقة الرجل والمرأة في تلك الفترة على أنها علاقة تسلط وظلم فإن العدالة تستوجب من هؤلاء ومن كل باحث يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة إلى عدم اعتبار تجاربهم الشخصية هي المقياس الذي من جراءه تبنى الأحكام على تاريخ الأمم

الأسرة الغربية المعاصرة

تعتبر الأسرة في الغرب من أهم المؤسسات التي تضررت بغد الثورة الصناعية في مطلع القرن الماضي، ومن المعروف أن هذه الثورة كان لها السَّبق في اخراج المرأة من بيتها وأسرتها واقناعها بأهمية دورها الانتاجي في المجتمع ، كل هذا بهدف تخفيض راتب الرجل وإجباره على الخضوع لشروط اصحاب المصانع .

إلا أن ما حصل بعد ذلك أنه قامت بعض النسوة وبمساعدة واشراف عدد من الرجال بالمطالبة بتعليم المرأة وتثقيفها الثقافة التي تمنع الرجل من استغلالها والتقليل من شأنها ، الأمر الذي أدى على مرَّ الأجيال إلى تأخير زواج المرأة من جهة وتقليل عدد افراد الأسرة من جهة ثانية ، وهذا الواقع هو ما تشير إليه الدراسات الصادرة في بعض الدول الغربية حيث تبين " ان النسبة المئوية للأسرة التقليدية التي يعمل الأب فيها بينما تبقى الأم في البيت لرعاية الأطفال اصبحت تمثل 10% من العوائل في اميركا و11% في بريطانيا وهبطت النسبة المئوية للأسر الأميركية التي تتكون من زوجين واطفال من 40% لعام 1970 إلى 26% لعام 1990 . .

ويتبين من هذه الدراسات ان التغيير داخل الأسرة الغربية كان على مستويين :
1- مستوى شكل الأسرة التقليدي المؤلف من زوج وزوجة وأبناء حيث إن مصطلح الزوج والزوجة لم يعد مالوفاً كما هو الحال بالنسبة للمصطلح الجديد ( الشريك partner ) والذي يتعلق بكل شخصين يعيشان معاً في مسكن واحد ، سواء كان هذا العيش في اطار الزواج المتعارف عليه بين الرجل والمرأة ، أو كان في اطار العلاقات التي حرّمها الشرع كعلاقة الزنا بين رجل وامراة اجنبيين او علاقة شاذة بين أفراد من الجنسين تربطهما في بعض الحالات عقود زواج !
ومن انواع الأسر الكثيرة الانتشار ايضاً تلك العائلات التي تسمى بعائلة ( الوالد المنفرد ) الناتجة عن علاقة زواج او زنا انتهت بانفصال بين الزوجين نتيجة الطلاق أو الوفاة أو الهجر مما أدى إلى وجود طرف واحد مع الأبناء هو الذي يتولى تربيتهم ورعايتهم ، هذا وقد اشارت صحيفة التايمز الصادرة في سبتمبر 1991 عن ارتفاع نسبة هذا النوع من الأسر في بريطانيا من حوالي 8.3% في اوائل السبعينات إلى ضعفها 16.7% في التسعينات " .

2- مستوى وظيفة الأهل التربوية التي تقلصت بدورها نتيجة عوامل عدة منها :
أ- تدخل الدول في عملية تربية الاولاد والاهتمام بهم وتعليمهم ما تراه مناسباً لسياساتها واتجاهاتها ، حتى ولو كانت هذه السياسات لا تتناسب مع عقيدة الأب ورغيته في تعليم أبناءه .
ولا يقتصر هذا التدخل من قِبَل الدول على النظام التعليمي خارج المنزل بل يَطال ايضاً تربية الأولاد داخل المنزل حيث فرضت القوانين المحلية والتزمت بالاتفاقيات الدولية التي تمنع الأب من استخدام الوسائل التربوية التي تنتقص من حقوق الطفل ، حيث صار في بعض الدول ومنهم انكلترا "عرضة للمحاكمة بتهمة القسوة فيما لو عامل أطفاله عين المعاملة التي كان الأب منذ مائة سنة فقط خليقاً أن يراها كفيلة لحسن تنشئتهم " .
ومن نماذج هذا التدخل نشر التعليم الجنسي داخل المدارس ومنع الأهل من التدخل في خصوصية أبنائهم المتعلقة بالصحة الجنسية والتناسلية ، ليس ذلك فحسب بل إن بعض الدول تؤمن للفتاة القاصر الحامل المسكن لها ولطفلها .
ب- انشغال الأهل عن وظيفتهم التربوية التي كُلِّفوا بها فبات الآباء في في هذا العصر لا" تسمح لهم كثرة عملهم برؤية أبنائهم وقتاً كافياً ، فهم في الصباح مشغولون للغاية في التأهب للتوجه إلى مقار اعمالهم بحيث لا فرصة لتبادل الأحاديث ، وفي المساء عند عودتهم من اعمالهم يكون الأطفال قد آووا إلى فراشهم" .
أما الأمهات اللواتي يشكِّلن مع أبنائهن النسبة الكبيرة من عائلات ( الوالد المنفرد ) فإنهن بدورهن بِتن يركضن من أجل تامين متطلبات معيشة الأسرة المتزايدة والتي من بينها كلفة حاضنة الأولاد التي كانت فيما مضى مجانية مع وجود الجدة او العمة او الخالة والتي أصبحت اليوم تحسب أجرها على الساعة الأمر الذي يدفع الأم لمزيد من الكدح والتعب كل ذلك على حساب اطفالها وأسرتها .

 

ما ورد سابقاً كان نُبذة عن التفكك الأسري الذي تشهده المجتمعات الغربية حالياً والتي يُخشى إن غفل المسلمون عن أسرهم أن يَطالهم هذا التفكك خاصة ان الأعداء وعلى رأسهم اليهود جعلوا هذا الأمر على قائمة أهدافهم حيث جاء في محاضر جلساتهم السرية " سوف ندمر الحياة الأسرة بين الأميين ونفسد اهميتها التربوية "

المصدر: http://saaid.net/tarbiah/78.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك