كاثرين مارشال: رأس المال الروحي مهم جدًّا في التغيير الاجتماعي
كاثرين مارشال: رأس المال الروحي مهم جدًّا في التغيير الاجتماعي
باحث وصحفي تركي
عند الحديث عن رأس المال، يتبادر إلى أذهان معظم الناس، المال والذهب والعقارات والأراضي.. لكن ترى "كاثرين مارشال" الأستاذة بمركز بيركلي للديانة والسلام والشؤون الدولية في جورج تاون بواشنطون، أن هناك رؤية جديدة تركّز على رأس المال غير التقليدي.
ففي هذا اللقاء، تشاركنا الأستاذة "كاثرين مارشال" آراءها حول الثروة التي يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في ترسيخ القيم "الروحية" في النفوس والمجتمعات، والتي -بواسطتها- يعمّ الخير في العالم وتنتشر الفضيلة بين البشرية جمعاء... فإليكم نص الحوار.
العالم اليوم مقسّم إلى أقسام. فهناك كثير من الناس -وأكثر من أيّ وقتٍ مضى في تاريخ الإنسانية- يعيشون حياة كريمة ويملكون الثروة والرفاهية، وهناك مجموعة كبيرة من الناس يعيشون في مستوى وسطٍ، لكن هناك حوالي مليار شخص -وهو ما يُمثل سدس سكان العالم- يعيشون في فقر مدقع ومريع، بل إن نصف سكان العالم يعيشون في مستوياتٍ اقتصادية ومالية أقل من العادي. ولكن إذا ما ألقينا نظرة عامة إلى العالم، فنرى أن هناك شيئًا يروّح عن النفس ولو قليلا، ألا وهو الفقر الذي تراجع نحو الأحسن، قياسًا إلى أي وقت مضى. والجدير بالذكر أن كثيرًا من الناس قد عاشوا حياة قصيرة في معظم تاريخ الإنسانية، وأن ربع أطفال العالم قد ماتوا قبل سن الخامسة، بينما القليل جدًا من الناس حظي بنصيب من التعليم. لذلك فإن العالم اليوم مختلف تمامًا عن ذي قبل، فهو أصبح عالمًا ينعم فيه قسم كبير من البشر بالفرص للعيش الكريم، أي أصبح لدى الكثير من الناس إمكانية العيش الكريم أكثر من أي وقت مضى نتيجة التطورات التي حدثت في العالم كافة في الخمسين سنة الأخيرة. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، أعتقد أن هناك -في العالم- صحوة في الضمير الأخلاقي، تتجلى في أهداف تطور الألفيّة، حيث أضحت خطابات القادة والمفكرين في العالم، تدور حول مشكلة الفقر الذي يعاني منه قسم كبير من سكان العالم، مصرّحين أن استمرارية هذا الأمر لم يعد مقبولا على الإطلاق ولابد من تغييره.
فيما يتعلق بالألفيّة، فإن هناك قدرًا كبيرًا من التفكير بخصوص ما تحقق من قبل وما سيتحقق في المستقبل.. وإحدى العقبات هي أن كثيرًا من الناس علموا بانعقاد اجتماع بعد اجتماع حول البيئة والنساء والصحة والنقل.. وحول كل موضوع يمكن تناوله في أيّ اجتماع. كانت هناك وعود جلى، وكلمات مثيرة، ونصوص وتصريحات كثيرة، لكن عندما تمعن النظر في ذلك ترى أن كل ما قيل ظل في سطور على أوراق من دون تنفيذ. وبناءً على ذلك قامت الأمم المتحدة بتنظيم اجتماع تاريخي شمل زعماء العالم في سبتمبر/أيلول عام 2000 بمناسبة حلول الألفيّة الجديدة، وتم الاتفاق على ضرورة القضاء على الفقر في العالم. ونتيجة لذلك تم اتخاذ قرار بأن ينظَّم اجتماع آخر -من هذا القبيل- بعدما تعدّ الإحصائيات والجداول التي تبيّن مستوى الفقر الموجود في عالم اليوم، من أجل إعداد العدة لإنهائه، ووُضعت ثمانية أهداف -حفرت في أذهان البشر لها مكانًا- لتطوير الألفيّة الجديدة. إلا أن المقلق في ذلك، هو كيفية السعي وراء هذه الأهداف وطريقة التطبيق لها، بالإضافة إلى مَن سيقود هذه المسؤولية.. كل ذلك يوحي إلى اندثار هذه الأفكار التي تظل بسيطة أمام الأوضاع المؤلمة في العالم. على سبيل المثال، اتُّخذ قرار في تخفيض الفقر إلى نصف المستوى الموجود حتى حلول عام 2015. فكيف يمكن أن تتحدث عن إنهاء الفقر تمامًا من على سطح الأرض وقد استهدفت النصف فقط! ثم كيف تقول إن كل الأولاد سيتلقون التعليم الابتدائي، ثم تتوجه بـ"الكاج" إلى مساواة الرجل بالمرأة! فمن السهل أن تضع الأهداف، لكن أن تسعى وراء تحقيقها، فهو من الأمور التي تتطلب العزم والجد والعمل الدؤوب.
تلعب التكنولوجيا أدوارًا شتى في مجالات شتى ولعل أكثرها أهميّةً هي تكنولوجيا الصحة والبيئة، حيث يمكن اليوم علاج كثير من الأمراض التي أودت بحياة ملايين الناس عبر تاريخ البشرية. وكلنا يذكر كيف أن الكثير من الأطفال قد ماتوا -على مر التاريخ- بسبب إصابتهم بأمراض تنفسيّة أو مرض الإسهال وغيرها من الأمراض. وكذلك فإن التطور في تكنولوجيا التعليم -أيضًا- يعتبر من أهم التغيرات. حالها في ذلك حال التغيرات في إدراك كيفية الأعمال الاقتصادية وأعمال الإنتاج الغذائي والنقل وإمكانية الاتصال.. فمثلًا، في حال امتلاكك العلم يمكنك تحويل الكارثة -خلال ساعات معدودات- إلى أمر طبيعي عادي.
هذا وقد مات مئات الملايين من البشر خلال القرنين الثامن والتاسع عشر في جزر "الرأس الأخضر" نتيجة المجاعة التي حدثت، ولا أحد عرف سبب ذلك إلا بعد مضي أزمنة طويلة. واليوم فإن وقوع فاجعة كهذه، لا يمكن أن تحدث بسهولة، وذلك لوجود طرق عديدة منبثقة من العلم والتكنولوجيا والهندسة والاتصالات.
من أهم السبل لإدراك التطور الحاصل في العالم في العشرين سنة الماضية، هي أنه لا يوجد شيء أعلى شأنًا من الاستثمار في البشر، كما أن المصطلح المستخدم في التنمية البشرية هو "رأس المال البشري"، وإن رأس المال البشري يعني -اليوم- تطوير القوة الكامنة للبشر إلى أقصى حدٍّ ممكن.
وهناك بعدٌ آخر قد تم إضافته مؤخرًا، لعله يندرج تحت اسم "رأس المال الروحي". وقد تفقد الحياة معناها الروحي إذا كانت الغاية منها الأكل والشرب والنوم والعمل فقط، لأن الروح هي التي تدفع المرء لمساعدة الآخرين. ولعل هذا من الأمور التي حثت عليه كل الأديان، لذلك قيل: "عامل الناس كما تحب أن يعاملك الناس". هذا ما جعل الناس يدرسون الاستثمارات التي تندرج تحت التنمية أو التطور الروحي.
في ثمانينات القرن الماضي، مرّت فترة كان فيها البنك الدولي، والتنمية الدولية البريطانية، في خلاف مع الكثير من القادة والمنظمات الدينية في العالم. وعندما كان المتدينون يتظاهرون في الشوارع، أغلقت منظمات التنمية أبوابها وأدارت ظهرها لما يجري، ولم تبد أي اهتمام بذلك. ولكن فيما بعد، أدرك الجميع أن كل ما يجري لا معنى له، ثم إن وجهة النظر المشتركة إلى الفقر عند الجميع -وهي ضرورة القضاء على الفقر- أدت إلى التقارب وإقامة الحوار والتعاون بين الأطراف. وبالتالي فإن ضرورة النمو الاقتصادي دعت كل الأطراف إلى الحوار وتبادل الآراء حول القضايا المتعلقة بالاقتصاد.
لقد عملتُ لعقود طويلة من أجل التنمية، وكان معظم عملي في إفريقيا، وشرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، ومناطق أخرى عديدة من العالم.. وذات يوم طلب مني رئيس البنك الدولي "جيم ولفنسون"، مساعدته في مشروعٍ بشأن التنمية بين الأديان العالمية. فمن ثم قمت بوضع مسودّة العمل على مضض، وكان ذلك حوالي عام 1999، كنت لا أعرف إلا القليل عن عالم الدين، ولكني أعرف الكثير عن الفقر، وكنتُ مهتمة بالغ الاهتمام في الأبعاد والقيم الاجتماعية والتاريخية والإنسانية، حيث كنتُ أؤمن بهذه القيم من الصميم، هذا ما جعلني أستغل الفرصة لأنتقل إلى عالم جديد كليًّا.
بدأتُ بدراسة المشتركات والفوارق بين الدين والتنمية حوالي عام 1999. في البداية بدا لي وكأنه تحدٍّ منطقي ومباشر نسبيًّا، لأن المنظمات الدينية، والكنيسة الكاثوليكية، والمنظمات الإسلامية، والبوذيّة، والهندوسيّة كانت تقوم بخدماتها الاجتماعية بدور التزويد والإغاثة، وهي من هذا القبيل هامة بالنسبة للفقراء وكذلك للأغنياء على حد سواء في معظم أنحاء العالم. وقد استغربنا من هذا الاقتراح الذي يثير الجدل من حيث محاولته الربط بين الدين والتنمية. بينما توضّح لنا فيما بعد، أن بعض الناس افترض أن التطور والتقدم العلمي سيؤدي -بسهولة- إلى اندثار الدين أو أن الدين سيصبح خيارًا ليوم جمعة أو ليوم أحد، ولم يعد يقوم بدوره الحساس في حياة البشر، وذلك بسبب انتقالهم إلى مرحلة مختلفة في التطور. إلا أن اليوم تبيَّن -وبالدليل القاطع- أن ذلك الافتراض كان افتراءًا وكذبًا وزيفًا على الدين، لأن الدين اليوم أضحى أكثر أهمية وأعظم شأنًا في المجتمعات الغنية والفقيرة من أي وقتٍ مضى، وبذلك دُحضت كل هذه الأفكار والفرضيات. بيد أن هناك أناسًا ما زالوا منـزعجين جدًّا من الدور الذي يقوم به الدين في دائرة السلم الاجتماعي وفي منحه للحياة روحًا وقيمًا حيوية. وكما رفضت السياسة، فقد رفض الدين -أيضًا- أمورًا لا يمكن قبولها البته؛ منها قيام العالم الغني باستغلال العالم الفقير، وحصر حياتهم ومعيشتهم في مصادر وموادر ضعيفة ومحدودة. وبالنسبة لكثيرٍ من الناس فإن الجواب يكمن أولا، في الحدّ من تبذير واستهلاك الفرد للمصادر لكي تتوفر لدينا حياة كريمة. ثانيًا، هناك حاجة للمزيد من الطاقة في التنمية التكنولوجية الجديدة، بحيث يستطيع الناس الاستفادة من جدوى الحداثة دون تدمير كوكب الأرض. لكنّي أعتقد أن موضوع مغزى العدالة يحتاج إلى اهتمام أكبر، إذ هو صورة للمجتمعات التي تقوم على التوازن والاعتدال. وأرى أنه من المستحيل أن نتصور مستقبل عالم يفتقر إلى التوازن، حيث تقلَّص فيه الفجوة الكائنة بين الفقراء والأغنياء، وحيث يستفيد الجميع فيه من التنمية والتطور البشري، وحيث تتحول فيه الأفكار والإبداعات إلى قاسم مشترك بين كافة المجتمعات في العالم.
التغيّر الاجتماعي يتضمن تغييرًا في عدد الوظائف والأدوار الاجتماعية ونوعيتها. وعندما كانت ظاهرة التغير والحركة ظاهرة ملموسة ومستمرة دون توقف، فنجدها قد اتخذت مركز الصدارة من التفكير البشري. فإن مفهوم التغير عولج من قبل المفكرين في المجتمعات بوجهات نظر وتصورات مختلفة، وذلك تبعًا للاتجاهات الفكرية والأيديولوجيات السائدة في كل مجتمع من المجتمعات. وما يتفق عليه المفكرون والسياسيون والمثقفون وغيرهم، هو أن التغير الاجتماعي ظاهرة اجتماعية وحقيقة لابد منها. فالمجتمع بطبيعته متغير، فهو يأخذ من الجيل السابق جوانب ثقافية وعلمية وفكرية ويضيف إليها أشياء تتفق مع واقعه الاجتماعي ومتطلباته المستجدة. فيجب إذن أن يكون لدى كل مجتمع سياسة اجتماعية واقتصادية يسير عليها أولًا، وأن يملك الآليات المناسبة لإحداث التغيير ثانيًا.
فمثلًا، لنفترض أن هناك مجتمعًا يحمل أفكارًا متميزة لتسويق حبوب أو لإصلاح أرض جديدة أو لبناء مجموعة من المدارس، بيد أنه لا يملك المصادر اللازمة لإنجازها، إنما يجد هذه المصادر لدى شخص أو مؤسسة أو حكومة أو منظمة -مثل البنك الدولي- في خارج بلاده. فماذا يفعل عندئذ؟ تراه يسعى إلى تأمين هذه المصادر من تلك الجهات ليحقق التغيير والتنمية في ذاته وكيانه.
ففي قطاع التعليم -مثلا- كثيرًا ما يطرح التساؤل حول سبب غياب الفتيات أو حرمانهن من التعليم. وتقدَّم كثير من الإجابات حول هذه الإشكالية من قبيل: حاجة الأسر للفتيات في المنازل أو الظروف لا تسمح للفتيات بالذهاب إلى المدارس في ظروف آمنة كغياب المواصلات والبنيات التحتية الضرورية. وهذا ما يدفع بأطراف ومؤسسات خارجية للتدخل عبر إيجاد بعض الآليات لاستيعاب بعض هذه المشكلات. وفي نفس الاتجاه يتدخل زعماء سياسيون ومدنيون وقيادات نسائية، وكذلك فاعلون في الحقل الديني بغية تشجيع المجتمع لإرسال الفتيات إلى المدارس للتعلّم. وهذا ما يساهم في إقناع الآباء والأمهات لإرسال الفتيات إلى المؤسسات التعليمية، مما يؤدي في النهاية إلى بروز العنصر النسائي في قطاعات حيوية ومهمة للمجتمع مثل الصحة والهندسة وإدارة الشأن العام.
فمن كل ما ذكرنا نخلص إلى أنه من المفيد مواكبة متطلبات الحياة المعاصرة بأبعادها المادية والروحية.
ـــــــــــ
(*) .الترجمة عن الإنكليزية: محمد غياث حسن