الحوار الحضاري؛ صوب مقام التعارف
الحوار الحضاري؛ صوب مقام التعارف
د. سمير بودينار
لا تنفك قضية الحوار الحضاري تلح في حضورها على راهن الجماعة الإنسانية، عاكسة باستمرار مستوى تدبير العلاقة بين أفرادها، والقدرةَ على حل الإشكالات التي تعترض مسارها، سواء في الصورة المثلى حين يتحقق الرقي بمستوى تدبير تلك العلاقة، أو في صورة شائنة حين تتفجر أوجه الصراع بين الجماعات المختلفة، عبر عناوين سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو طائفية أو مذهبية، فتنسد قنوات الحوار أو تتضاءل فرصه حتى تكاد تنعدم.
ولأجل ذلك كانت أهمية النظر العميق في قضية الحوار، ليس بوصفه ضرورة واقعية فحسب، بل باعتباره خيارا إنسانيا ممتدا في الزمان والمكان، وطريقا غايته الصحيحة إبراز الهوية المتفردة لكل جماعة بشرية ضمن الأسرة الإنسانية، لا طمس تلك الهويات بالتأحيد؛ ما يوصل في النهاية إلى الإعلاء من إنسانية الإنسان ككائن مسؤول ومكرم، يواجه تحديات وجودية مشتركة لا فرصة للتعامل معها إلا بالتواصل والتحاور بين التجارب المتعددة للحضارة الإنسانية. وهو حوار يفضي بدوره إلى التعاون الذي يبلغ بالإنسان مرتبة "التعارف"؛ ذروة الخيرية في صلته بأخيه الإنسان.
الحوار انعكاس للتجارب الحضارية المتعددة وطريق التعارف، ولعل واحد من أكثر الأسئلة التي تلح على راهن الإنسان وحضارته، هو ذلك المتصل بإمكان تحقق التعارف بين التجارب الإنسانية المتعددة لتلك الحضارة، والطريق المؤدية إلى ذلك التعارف، والقيم الباعثة على سلوك هذا الطريق.
وفي نص يفيض بالأدب والحكمة من التراث الإسلامي ترد قصة بليغة تعكس مقدار ما يعود به التواصل بين تجارب الشعوب والأمم، من فائدة على مجموع المتواصلين، يرويها الشاعر الكبير "جلال الدين الرومي" (604هـ/1207م -672 هـ/1273م) في ديوانه الشهير "المثنوي". وهي قصة تنافس أهل الروم وأهل الصين في علم التصوير التي تروي "أن الصينيين قالوا: نحن أكثر مهارة في النقش، وقال أهل الروم: بل نحن أصحاب الكر والفر فيه، وقال السلطان: وأنا أريد امتحانا في هذا الموضوع لنرى من المبرّز منكم في دعواه؟.
وعندما حضر نقاشو الصين والروم، كان الروم أكثر وقوفا على هذا العلم.
وقال نقاشو الصين: ليخصص لنا منـزل ولكم منـزل، وكان المنـزلان متواجهين، أخذ أحدهما نقاشو الروم، وأخذ الآخر نقاشو الصين.
وطلب نقاشو الصين مائة لون من الملك ففتح خزائنه.. وكان لنقاشي الصين كل يوم من خزانة الألوان جعل معين.
وقال نقاشو الروم: لا نقش ولا لون جدير بهذا العمل، اللهم إلا صقل الصدأ. وأغلقوا الباب وظلوا يصقلون، وصار (ما صقلوه) كالسماء بسيطا صافيا... وعندما فرغ نقاشو الصين من العمل، أخذوا يدقون الطبول فرحا. ودخل الملك فرأى صورا في ذلك المكان، كانت تسلب العقول والألباب. ثم انتقل صوب نقاشي الروم، فكشفوا ستارة كانت موضوعة أمامه، فانعكست تلك الصور وتلك الأعمال على تلك الجدران الصافية.
وكل ما رآه هناك، انعكس هنا أفضل، فكانت تخطف العيون من محاجرها".
إن هذا النص على قصره يعطينا عددا من الدروس في إدارة العلاقة بين التجارب الحضارية المتعددة، فضلا عن الحكمة من التعدد المغني في الخبرات الحضارية للأمم، ومحصلته أن الحضارة الإنسانية تغنى بكافة التجارب -صينية ورومية- ويرقى المنجز الحضاري بالتفاعل بين تلك التجارب (عبّرت القصة عن هذا التفاعل بانعكاس الصورة في عمل الآخر واكتمال جماليتها به وفيه)، وبالتالي بلوغ الهوية مستواها الأرقى في مقام التواصل مع الآخر وتجلي منجزها الحضاري بالتفاعل البناء معه.
إن الحدود الحقيقية للهوية لا تتجلى إلا بالتواصل الإيجابي مع غيرها، ولا تظهر ميزاتها بالنسبة لذلك الغير، ولا قيمتها في ميزان الحضارة ومقدرتها على إثرائها إلا بسلوك الإنسان -كيفما كانت هويته الجماعية وانتماؤه المجتمعي وتجربة أمته- مسلك التواصل الذي يؤدي، ما إن تنضج ظروفه الفكرية والنفسية إلى التحاور، ولعل الفيلسوف المسلم الكبير طه عبد الرحمن كان بليغا في التعبير عن هذه الحالة التواصلية وأهميتها بالنسبة للإنسان، هويته ومستقبله حين اعتبر أن "الهوية فرع عن الأصل الذي هو الغيرية".
تتجلى أهمية الدفع باتجاه مستوى الحالة الحوارية من مسار الإنسان، في أنها الحالة التي تضمن تأسيسا واعيا لتواصل بناء بين مختلف تجارب الحضارة، ما يتيح لها فرصا للرقي. غير أن التواصل فضلاً عن ذلك يمس جانبا آخر لا يقل أهمية من جوانب حياة الإنسان وفرص عيشه المستقبلية، وهو بلوغه منـزلة التعاون. وهذه درجة من حسن تدبير العلاقة بين أطراف الجماعة الإنسانية لا تُبلغ إلا بمستوى من الوعي يستوعب التعدد كحالة طبيعية وسنة كونية، ويؤسس على هذا الوعي استثمارا لفضائل ذلك التعدد، وأهمها التفاوت بالضرورة في مستويات الإفادة من إمكانات الوجود، وتفاعل الملكات الإنسانية معها إصلاحا وابتكارا وإعمارا وإزهارا.. وهو ما يؤدي إلى الحاجة المتبادلة بين مختلف المجتمعات والأمم تبعا لذلك التفاوت بينها كل في مجال، وضرورة التعاون بينها لإفادة كل منها من التجارب الرائدة والخبرات السابقة لغيره من الأمم.
وعند هذا المستوى، لا شك أن أفقا جديدا للحوار يتجلى. وهو هنا غير الحوار بوصفه تناظرا استدلاليا شرطه الارتكاز على المثال الأعلى، بل الحوار بين فهوم متباينة وتطبيقات متنوعة تحاور بعضُها بعضا من خلال قدرة الجماعة على التعاون بالاستفادة من فهم غيرها وتطبيقه لمنظومة أفكاره، وبالتالي اقتباس كلٍ تجربةً خاصة من غيرها أفضل ما عنده أو أنسبه لها.
وإذا كان الحوار سبب التعاون، فإن التعاون بدوره هو طريق التعارف، وهو منـزلة لا تضاهيها في سلم التواصل بين الإنسان منـزلة أخرى، إذ أن التعاون نفسه يمكن أن يساء استخدامه، إما بالتعاون على غير ما يحقق للإنسان الخير والسلم من قيم، أو بالتواطؤ على غير ما يحقق العدالة من مواقف وأحكام. ولذلك جاء تخصيص مجال التعاون بين الناس في القرآن الكريم على البر والتقوى، أي على الأخلاق الإنسانية السامية وقيم الإحسان ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، كما ورد التحذير من التعاون على ما يناقض تلك القيم، أو يؤدي إلى اختلال موازين العدالة بالظلم والاعتداء: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الِإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾(المائدة:2).
أما التعارف فهو الغاية من التعدد في الجماعات البشرية التي أوجد الله عليها العالم. ليس فحسب لأن ذلك التعدد قانون كوني إنساني ينبغي تدبيره، بل لأن التعارف منـزلة إنسانية أخلاقية وحضارية راقية، يُحفز الإنسان على بلوغها، ذلك أنه عند هذا المستوى من الرشد في العلاقات بين المجتمعات تزول مخاطر التعاون، بل التواطؤ على الجور أو الحيف أو أنواع الرذائل. لأن المقام مقام تعارف أي اتفاق وتلاق وتواصل وتعاون على المعروف والعرف، وهي المبادئ والقواعد الجامعة لمعاني الخيرية والأخلاق الفردية والمجتمعية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13).
والخلاصة أن الإجابة على سؤال الهوية، بل التحقق الإنساني للهوية بكل ما يواجهه من تحديات مشتركة في عالم اليوم، لا طريق له إلا طريق الحوار الذي يؤسس التواصل الإنساني فيستحيل تعاونا، ثم يرقي حينئذ إلى مستوى يحفظ للإنسان -كما لكل جماعة إنسانية- هويتها، في ظل سعي مشترك إلى تحقيق الإفادة المتبادلة مما عند الآخر، بل إلى إثراء تلك الهوية بالتحالف على المثل والقيم العليا، التي تنادي بها الفطرة السليمة للإنسان -مطلق الإنسان- وذلك هو مقام التعارف.