الحوار بين الحضارات
الحوار بين الحضارات
رجاء الشلبي
انه مشروع سياسي حضاري للحوار والتفاهم, وحل النزاعات بالمفاوضات واللاعنف, واجراء المصالحات وترسيخ الوحدة الوطنية, وبناء المجتمع المدني والدولة والديمقراطية, دولة العدالة والمساواة والحق والقانون والمؤسسات والشفافية والاصلاح السياسي الدائم والمساءلة والمحاسبة والنقد ومكافحة الفساد. والحوار هو جزء هام من الحياة الانسانية. وهو أولوية في العالم بعامة وفي الشرق بخاصة نظراً لتعدد حضاراته وثقافاته وأديانه. انه جوهر الحضارة والثقافة والدين.
بعد زوال نظام ثنائي القطبيّة وبروز العولمة، تجدد الحديث عن صراع الحضارات أوالحوار بينها, وقد انطلقت حوارات عديدة في العالم بالشكل الذي يعزز فرص التعاون بين الثقافات المختلفة، ويبعد شبح الصراع بين الحضارات. وقد تعالت أصوات من هنا وهناك تنادي بالحوار، وتؤكد على التعاون بين الشعوب وتحث على التواصل الثقافي. كل ذلك سعياً لإزالة مظاهر التوتر والصدام، وإتاحة فرص التقارب والتآلف والتجاور، ومد لجسور واحترام الهويات الثقافية الخاصة، وتقدير الحضارات المتنوعة.
وقد عقدت من أجل ذلك مؤتمرات، وكتبت دراسات، وأطلقت تصريحات، وأقيمت ندوات محلية وعالمية, كان الأهم بينها على الصعيد العربي ندوة جامعة الدول العربية في القاهرة عام 2001 التي دعا اليها أمين عام الجامعة عمر موسى جراء الهجوم الصليبي الذي شنه رئيس وزراء إيطاليا على الإسلام والمسلمين والحضارة الإسلامية, مع أنه لولا العرب لكان تاريخ روما القديم مجرد أعمال عسكرية وسفك للدماء, فأهم آثار روما الرائعة جاءت من بناء المعمار الدمشقي أبولودور 70-135م الذي كان له فضل كبير في بناء " البنثيون" وميدان تريانوس وأنشأ جسر "ميسيه" فوق الدانوب وهو أضخم جسر أنشئ في تاريخ روما, والأسرة الحمصية هي التي جعلت العاصي يصب بالتيبر, وبعد سقوط الامبراطورية الرومانية, ولدت المؤسسة البابوية نتيجة لدعوة قامت في الجليل من أرض الشام, وكان بطرس نفسه جليلياً, وكان بولص سورياً من طرسوس, أمضى شطراً كبيراً من حياته في الشام الجنوبي, وفي العصور الوسطى لا يمكن التنكر لدور العرب في صقيلية وجنوب إيطاليا, ولولا المعري وقبله قصة المعراج, لما كتب دانتي الجحيم, وهذا حديث طويل, من الضروري تبيانه, لأنه لولا جهود العرب قديماً ووسطياً, لم يتمكن الغرب من التفوق الحضاري المعاصر.
حقائق
1 - يزعم مروجو نظريات الصدام والصراع بين الحضارات أن الاسلام دين مغلق يرفض التعامل مع الآخرين من أتباع الديانات الأخرى, والحقيقة أن الإسلام يرى أن التعدد والتنوع الثقافي سنة الكون وناموس ثابت، فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: } ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين{(1) إن اختلاف الألسن يعني تعدد القوميات ، واختلاف الألوان يعني تعدد الأجناس البشرية. كما قال الله تعالى في القرآن الكريم: }... لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء لجعلكم أمّة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات...(2){ وهذا يعني تعدد الشرائع والأديان، وإذا كانت الحضارة تنشا من فكرة دينية، وإذا كانت الحضارة مجموعة الظواهر والمعطيات المنبثقة عن أمة ما أو تصوّر ما (فكرة دينيّة) فإن الإيمان بتعدد الشرائع والأديان يفضي إلى الإيمان بتعدد الحضارات. كما أن الإسلام يحض على حرية المعتقد: }لا إكراه في الدّين (3){ .
2 - إن الحوار تقليد ثقافي قديم، وهو أسلوب مارسته كل الحضارات، سواء من حيث التأثر بغيرها أو التأثير فيها، أم من حيث فتح النقاش والمساءلة، وإجراء لقاءات، وعقد مجالس وتبادل وجهات النظر في بعض المسائل التي تتطلب معرفة ما عند الآخر: " ولعلّ أبلغ دليل على ذلك الحوار الحضاري الذي دار بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحيّة... وقد حاور النبي صلى الله عليه وسلم قساوسة نجران ورهبانهم ... وكتب إلى المقوقس والنجاشي وهرقل...وتابع المسلمون هذا الحوار بالمشافهة والكتابة، لا يكادون يفترون عنه إلا في فترات الصدام المؤسف بين أتباع الدينين، وأشدها فترة الحروب الصليبية، ثم فترة الاستعمار الغربي. وفي العصر الحديث، ومنذ أربعين عاما على وجه التحديد تجدد الحوار الإسلامي المسيحي، وعقدت له لقاءات وندوات منظمة في برمانا، والرياض، والفاتيكان، وطرابلس الغرب، وجنيف، وباريس، وساليبورج، والقاهرة، وبيروت، وليجون، وتونس، وهونغ كونغ، وقرطبة ، والسودان عام 1994م وغيرها ." (4)
3 - سيطرة حضارة ما يؤدي حتما إلى إضعاف الحضارات الأخرى، من هنا يجب على كل حضارة أن لا تقبل بهيمنة أية حضارة عليها، وأن تكون حاضرة بمحاورتها الأخريات، وبفرض وجودها في الساحة، وبالتفاعل مع غيرها تأثيرا وتأثرا. مع الوضع في عين الحسبان أن الحفاظ على الهوية أمر مهم، وأن التواصل لا يقل أهمية أيضا .
4 - قد يتخذ الحوار وسيلة لقضاء مصالح خاصة، وقد يكون ذريعة لتمرير خطط ومشروعات, نظراً لما قد يحمله هذا المصطلح المبهم من دسائس ومؤامرات يستغل في إذابة الثقافات الصغرى، وإلغاء الخصوصيات والهويات، على كل حضارة التفطن إلى ذلك والتعامل مع الحوار بحذر وتيقظ، والتحرك معه بخطط مدروسة، ومناهج واضحة، والسير معه بأهداف مرسومة ومحددة.
5 - من آثار الحوار بين طرفين غير متكافئين. فرض الطرف القوي المهيمن على الطرف الثاني اختراق السيادة الثقافية لها بالتدخل في مناهج تعليمها مثلا، وتوجيه منظومتها الإعلامية، وترتيب علاقتها بفئات المجتمع، وتحديد نمط معيشتها، والتدخل في وضع قوانينها. كما قد يستغل التقارب المكاني لنشر نموذجه الثقافي في الحياة على حساب الخصوصية الثقافية له.
6 - إن الغرب يحاول السيطرة على العالم بكل ما يملك من قوة، وأمريكا تعمل على أمركة العالم اقتصاديا تمهيدا للهيمنة عليه ثقافيا، ومن ثم إلغاء الثقافات الأخرى. فقد قال "روزفلت" في الأربعينيات من القرن العشرين: إن قدرنا هو أمركة العالم. وقال " نكسون": يجب على أمريكا أن تقود العالم. وقال "جورج بوش" الأب في أوائل التسعينيات: إن القرن القادم ينبغي أن يكون أمريكيا. وهذا ابنه اليوم ينفذ دعوة أبيه، ويعمل على الهيمنة على مقدرات العالم، وضرب أية محاولة للنهوض أو البروز، ومحاولة ضرب الثقافات وهدمها أو تفكيكها من الداخل ... والمستهدف الأول هي الحضارة الإسلامية أو العالم الإسلامي. فالغرب عموما والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا ترى أن المسلمين يملكون من مقومات القوة، ومن أسباب النهوض ما يمكنهم من منافسة الحضارة الغربية، بذلك فهم يمثلون الخطر الأول عليها، لهذا يجب ضربهم وإضعافهم، وقد تكون فكرة فتح الحوار معهم إحدى وسائل إضعافهم.
هذه بعض الحقائق التي يجب ألا تغيب عنا ونحن ندعو إلى الحوار مع الحضارات الأخرى، أو نستجيب لدعواتها، أو نمارس هذا العمل، نعيها جيدا حتى لا نفوت الفرصة على أنفسنا في التقارب، ولا نفقد أنفسنا في خضم هذه الحركات الهائلة المصيرية في علاقتنا مع الغير. ولنعلم أننا " أمام حضارة قوية طاغية تركب فوق حضارة قديمة صلبة وعميقة الجذور، ولكنها غير مستعدة لتلقي الصدمة الجديدة بعد. " (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الرّوم، الآية : 22.
(2) سورة المائدة، الآية: 48.
(3) سورة البقرة، الآية: 256.
(4) العولمة والتّحدّي الثّقافي، ص: 182. أنظر أيضا، السّيّد ياسين، حوار الحضارات: نحو خطّة قوميّة للحوار مع الثّقافات الأخرى، ص: 86. ود. عزّ الدّين إبراهيم، الحوار الإسلامي المسيحي: رؤية إسلاميّة، مجلّة البرلمان العربي (اتّحاد البرلمانيّين العرب) العدد: 64، 1997م ، ص: 51 .
(5) العولمة والتّحدّي الثّقافي، ص: 142.