تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات
تعليم العربية لغير الناطقين بها وسيلة حوار بين الحضارات
محمد الجعيدي
إذا كانت اللغة الآدمية وسيلة اتصال بشرية على المستويين الفردي والجماعي، بصيغتها المباشرة كفعل فسيولوجي فردي ينقل للآخر أفكار المتكلم ورسالته فإنها على المستوى المجتمعي أو الجمعوي وسيلة اتصال بين شعب وشعب. وإن اختلفت رموزها من هذا إلى ذاك، فإن تعليمها لغير الناطقين بها، من غير المسلمين بخاصة، يحمل في طياته هذه الرسالة السامية على المستويين الثقافي والحضاري، ومن خلال اللغة يمكن لمعلمها، وبخاصة إذا كان عربياً أو مسلماً، أن يمد الجسور بفعالية، إلى متعلمها، وينقل إليه، على المستويين الذاتي والخارجي، عناصر التلاقي بين مختلف أبناء البشر: ويعمل في الوقت نفسه على ردم الهوة التي تخلقها سياسات الميز العرقي والإثني والأيدولوجي القائمة على المصالح الذاتية والطمع والاستكبار على الآخر.
ليس من قبيل المصادفة أن يبدأ التكليف الإلهي للرسول الكريم، في أوليات آيات التنزيل الحكيم، بأمر القراءَة، باسمه تعالى، معلّمِ الآنسانَ ما لم يعلم. وفي ذلك، والله أعلم، إشارة واضحة إلى أن تعليم الإتسان للإنسان، ومنه تعليم العربية لغير الناطقين بها، وحتى الحوار بين الحضارات، هو فعل بشري مرتبط بالإرادة الإلهية، وأنَّ الفعل لن تُفَعِّله المشيئة الربانية إلاَّ إذا خضع لنواميسها السامية، في الدعوة بالتي هي أحسن، في ظل العدل الإلهي وإحقاق الحق ودفع الظلم، عن النفس والغير، وعدم الخوف في الحق لومةَ لائم، فهل يدرك ذلك المتخاذلون والمرجفون والمفرطون؟ فما كان للمجتمع البشري أن يصل لما وصله الآن من تعايش تربطه قوانين موضوعة، بدون التعاون الفكري الذي ينظم الحياة، ولا يتأتى إلا بالحوار والتفاهم، وتبادل الإفكار والمصالح، بين الأمم تبادلاً وسيلتُه الأنجع هي لغة الكلام التي بدونها ينحط التفاهم إلى مستوى التعبير عن المدركات المحسوسة والانفعالات الأولية غير المدروسة.
الحضارة الإسلامية، بمادتها النبيلة ومبادئها السامية، هي حضارة الحوار والتفاهم والتعايش بامتياز. فالحوار مع الآخر مفهوم، يتأطر في إطار العلاقات الإنسانية العامة، ويجب ألاَّ يتجاوز ذلك، بأيِّ حال من الأحوال، إلى التنازل عن حقوق الأنا وثوابتها، تحت وطأة التهديد والابتزاز.
وتحتضن العربية، بهذا المفهوم، وهي لسان الذكر الحكيم، كثيراً من العناصر التي تمكّنها من إنجاح مهمتها في حوار الحضارات، بمعنى تقديم الحضارة الإسلامية للآخر، وهو في هذه الحالة متعلم العربية، تقديماً موضوعياً مقبولاً، من خلال تعليمه خصائص هذه اللغة وأسلوبها الفريد، حيث القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف أنموذجاً، ومعينها الذي لا ينضب. وبالجمع بين مختلف فروع علم اللغة، من اجتماعي ونفسي وتحليلي وتقابلي، يمكننا النفاذ إلى القيم الإسلامية السامية التي تضع الأسس المتينة للتواصل بين البشر من خلال محاولة ربط أداء هذه اللغة بخلفيتها الحضارية والثقافية الإسلامية، أي الاستفادة من تقديم المضامين الثقافية للتطبيقات الميدانية خلال تعليمها، وبخاصة على الصعيدين التركيبي والسيميائي، للنفاذ إلى روائع الإسلام، من أمثلة، تضع أسساً متوازنةً للتعايش بين البشر: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات:13).
وتعظم المهمة حاجةً، في حالة كون متعلم العربية أو متلقيها من غير الناطقين بها، ومن غير المسلمين، وآفته، إنْ وُجدت، فهي في رأسه، لا في قلبه، كما هو الحال في العالم الغربي المسيحي اللاتيني وغير اللاتيني الذي عاش قروناً وقرون، يتشرب قطرة قطرة، الحقدَ على الإسلام والمسلمين والعرب والعروبة، منذ انبزاغ فجر الإسلام حتى صار ينظر الى حضارتنا من عل، ولا يرى فيها إلاَّ إبلاً وصحارٍ وجوارٍ. أما الوجه الآخر للقضية، وهو خلق الأُلفة بين العربي والمسلم وبين الحضارة اللاتينية المسيحية، فهو أمر واقع، على صعيدي النظرية والممارسة، إذ أنَّ من العرب من هم مسيحيون. أما المسلمون منهم، فهم بتكليف من دينهم مُلزمون بالاعتراف بنبوة عيسى ورسالته، وهو التزام تكرس بالفعل والممارسة طوال العصور التي كانت اليد العليا فيها للعرب والمسلمين، وهل ثمة مقولة، في التأسيس للحوار والتواصل مع الآخر، أسمى من مقولة الإمام الشافعي: "مذهبنا صواب ويحتمل الخطأ، ومذهب خلافنا خطأ، ويحتمل الصواب"؟
وتكتسب الحالة الاسبانية أهمية خاصة لكون المتلقي ينتمي لحضارة، بل ثقافة ، شَكَّلَ الإسلام، وشكلت العربية، في يومٍ ما، العنصرَ الرئيسَ والأهم فيها، طوال ثمانية قرون ونيّف، مثَّلت أروع حقبة، في تاريخه، للتعايش، بين الإثني والطائفي والطبقي، في شبه القارة الأندلسية حتى يومنا هذا.
ولكن التعصب الديني والعرقي الذي قادته كنائس التفتيش ومحاكمها، منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وربما، منذ الحملات الفرنجية، حاملة الصليب، قبل ذلك، قد جعل من هذا المتلقي، في خلفيته التاريخية، ومشاعره غير الإرادية التي أسس لها صراع طويل، ودامٍ أحياناً، شهد البحر الأبيض المتوسط وضفافه القارّية الثلاث مده وجزره، عين سخط، وحالة تستعصي أحياناً، على التقارب، مع ما هو مسلم أو إسلامي، أو عربي أو عروبي. والحال نفسه قد حدث، في الجانب العربي والإسلامي، بعد أنْ تجسدت الأيديولوجيات الجشعة وغير المتسامحة، في أبشع صورها المادية، وأكثرها وحشية وتخلفاً، في الاستعمار الغربي الحديث وريث محاكم التفتيش، الذي لم ينج من شروره المتطايرة وأنانيته القاتلة وحقده الدفين أيٌّ من الأقطار أو الشعوب، عربيةً كانت أم إسلامية. وما اختلاق الغرب إسرائيل ومده إيَّاها، بكل مقومات البقاء الآنية، إلاَّ علامة من علامات حقده المزمن على الشرق العربي الإسلامي، وعجزه عن تجاوز عقده، وعدم أهليته لقبول الآخر.
يتوجب على معلم العربية لغير الناطقين بها في الغرب إدراك حقيقة الشطط الحكومي الغربي الخاضع لسيطرة المال والإعلام المتهودين، في التصدي نفاقاً، لما يسميه تحريفاً «معاداة السامية»، والمقصود به انتقاد ظاهرة إسرائيل، بينما لا يكترث كثيراً لما يوجه إليه هو نفسه، من رفض وكراهية كمردودية لبعض ما يقترفه من جرائم، في براري المعمورة وبحارها وأجوائها، وذلك لأنه مسخ نفسه في صورة صنيعته الإرهابية الغاصبة، باعتبار أيَّ تهديد يوجه إليها يصيب من مكائده الاستعمارية والعنصرية، في القارة الإسلامية، مقتلا.
وحتى لا تبقى الأمور في غير موضع، نقول نحن المترقبين مستقبل أمتنا، عن كثب، بعين دامعة على فلسطين، والأخرى دامية على العراق: إنَّ تعليم العربية لغير الناطقين بها يحمل في طياته قضية هامة من قضايا الفكر، وهي قضية المثاقفة والحوار الحضاري. وفي هذه الحالة، أي تعليم العربية للإسبان غير الناطقين بها، يحمل في هذا السياق علامات رضا، تيسر له أمره، وأخرى ساخطة، تحول دون بلوغه الغاية، لتظل المهام المنشودة، في نفوس الساعين لإصلاح ذات البين، وإعادة تواصل الحوار الحضاري، بين الإنسان وأخيه الإنسان، تتراوح بين مدٍ وجزرٍ، تتقاذفها الظروف السياسية المعيشة في يومنا، والنظرة التي تسببها هذه الظروف من خلال رؤيتها عبر واقعنا العربي والإسلامي، وما يقابله من واقع غربي، يكاد يقف في النقيض، على أكثر من صعيد، حتى إذا استدعى الحاضر ماضيه، ازدادت العقبات أمام تلك المهمة، من خلال استدعاء الماضي الجاحد الحاقد، عبر قنوات الحاضر الأناني المستقوي بالباطل، وبالتالي رؤية الحاضر والتعامل معه بعقلية الماضي المظلم، في أشد صوره سلبيةً واستفزازاً. ومن هنا يبدأ دور معلم العربية لغير الناطقين بها، للتألق بقدرته على حفظ المسافة الفاصلة بينه وبين عيني الرضا والسخط التمّاميتين، كلٍ في مكانها وظروفها، للتعامل مع الآخر، تعاملاً متوازناً، يحقق الغايات المرجوة منه آخذاً بعين الاعتبار ما راكمته الكنيسة في النفوس من خلال هيمنتها على التعليم قروناً، كما يقول الشاعر الإسباني رفائيل البيرتي: «كنَّا عابرو السبيل/ تلاميذ من أسر برجوازية ننحدر.../ قالوا لنا أننا لسنا من هذه الدنيا/ وأننا عابرو سبيل/ ضيوف على الأرض.../ أفزعتنا الأصباح/ كانت الأيام الأولى/ وليالي الطفولة البطيئة/ تملأنا رعباً/ علمونا الروحيات فقط.»
فمنذ أواخر القرن التاسع عشر تجتاح حملات التغريب التبشيرية، تحت جنح الاستعمار الأوروبي، شتى أرجاء القارة الإسلامية، من أندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، ويصاحبها فيض من الكتابات الاستشراقية التي تستهدف بالسوء الثقافةَ العربية الإسلامية، ومركزها القرآن الكريم ولسانه العربي المبين، فتغصّ أقبية الغرب بأعمال تطفح سماً زعافاً، على الحضارة الإسلامية، منها أعمال المستشرقين المتأدلجين: سنوك هيرجرونجا ومرجليوث وزويمر وغبرييل هانوتو ولامانس وجوتييه، وارنست رينان، الذين اعتبروا الإسلام تعصباً واحتقاراً للعلم وقمعاً للمجتمع المدني، وغير ذلك من الأوهام التي أملتها عليهم نفسيتهم الحاقدة، ذريعةً لإنكار الآخر، وهو ما تبناه فرانسيس فوكوياما في مقولته «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وجسّده صامويل هنتنغتون لاحقاً في مقولته «صراع الحضارات»، التي ردها عليه، بوحي من دينهم وثقافتهم، مسلمون وعرب بمقولة «حوار الحضارات»... وشتان منهلاً بين هؤلاء وبين ذينك المستكبرَين العنصريين.
وقد تصدى لتلك الحملات التي انبعثت منها، منذ بدايتها، روح الحقد الدفين والعنصرية المكشوفة، بكفاءَة ومقدرة، علماءٌ عرب ومسلمون وغير عرب وغير مسلمين من الغيورين على الثقافة الإنسانية، نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق ومحمود شاكر والمقادسة الثلاثة مصطفى الخالدي وادوارد سعيد وعيسى بُلاطة. فقد أسلم القرآنُ الكريم العربَ، وعرَّب المسلمين، في بوتقة واحدة، بإذن الله، إلى يوم الدين:
أجل عيسويٌ واسألوا الأمس والغدا ولكــن عروبي يحـــب محمدا
ومن هنا تتأتى أهمية الدور الذي يمكن لمعلم العربية لغير الناطقين بها في الغرب أن يقوم به، في التأسيس لوضع الحقائق في مكانها. وعلى سبيل المثال، فليس ما يسميه الغرب الرسمي الاستعماري «شرقَ أوسط» إلاَّ الوطن العربي، وليس ما يسميه «شرق أوسط كبير» إلاَّ الوطن الإسلامي، لا مكان في أيٍّ منهما للكيان الصهيوفرنجي الغاصب أرض فلسطين، والقاتل شعبها ومشرِّده.
فتعليم العربية لغير الناطقين بها، في حدود هذا البحث، طريقه طويل، والسير فيه مُكلِفُ ومُضْنٍ، ولكن لا غنى عنه، حتى تستقيم موازين القوى، أو تتعدل لصالحنا، فنقطع دابر الاستكبار والعدوان، ونعود نحن العرب والمسلمين، بوازع من ديننا وتقاليدنا، لتكريس ما عُرف عنا، عبر التاريخ، من ممارسات إنسانية تحترم الآخر، حياةً ومعنقدات، وحقوقاً ومقدسات. ولكن ذلك لن يتأتى لنا، إلاَّ إذا غيّرنا ما بنا، وأخذنا بأسباب القوة النابعة من ذواتنا وثقافتنا، وتحاورنا فيما بيننا، قبل البحث عن حوار، من سراب، مع غيرنا، يصرف الأنظار عن خنجره المغروز في خاصرتنا، إذ أنَّ حصتنا من الحق ومن السلام، تُقاسُ، في عالم كعالمنا، بحصتنا من القوة والقدرة على ردع المعتدي، المنفلت من كل عقالٍ، سماوياً كان أم وضعياً، ليفتك بنا وينتهك حرماتنا نحن العرب والمسلمين الذين، في أوج قوتنا العسكرية، وإعدادنا العقائدي والثقافي، قد فتحنا كافة أبواب الحوار بيننا وبين كافة الشعوب والحضارات والثقافات، قديمها ومعاصرها، على أسس إنسانية وأخلاقية، من الندية والاعتراف بالآخر، هويةً وثقافةً، ووجوداً وعقيدة، على مبدأ أنَّ الغاية تقرر الوسيلة ولا تبررها. وما أن تغيرت موازين القوى لصالح هذا الآخر، حتى حاورنا، بما عشنا بعضه، باللحم الحي، في قانا ومقر الذيب، وفي غوانتنمو وأبو غريب، وسجن الإبادة الصهيوني الأكبر، على أرض فلسطين، واغتيال المفتي نظام الدين شامزاي، وقبله الشيخ أحمد ياسين.
ومع ذلك، فمن الإنصاف الاعتراف بأنَّ الغرب غروب متفاوتة في مواقفها من ثقافتنا ومنَّا، ومن الإنصاف أيضاً الاعتراف بأنَّ لبعض أعلام الفكر والأدب والاستشراق، في الغرب، ما تمتعوا به من نزاهة وعدم الوقوع في شباك حكوماتهم الاستعمارية والمنظمات اليهودية وبعض الكنائس المتفرنجة المارقة الحاقدة على العرب والمسلمين. ومن هؤلاء الأحرار الشرفاء الذين سَمَوا نفساً وسلوكيات، فوق سياسات معاهد وزارات الخارجية البريطانية والأمريكية والفرنسية للغات والثقافات الشرقية وتجاوزوها، نذكر على سبيل المثال أيضاً، لا الحصر، الشاعرين، الألماني جوته والفرنسي لا مارتين والعلماءَ لوي ماسينيون وهنري لوسل ورجاء جارودي الذين بذلوا جهوداً محمودة في التعريف بالثقافة الإسلامية ونباهتها. ومن هنا تمثل أعمال هؤلاء، وبخاصة ما كتبوه عن الخصائص الجوانيّة للعربية، ومقصدها الإلهي، وما كتبوه أيضاً عن سماحة الإسلام ونبيّه وسموّ القرآن الكريم، مادةً هامة للتقريب بين الثقافات وتقريب العربية والإسلام من متعلمهما الغربي، على طريق حوار متوازن معه، حول الثقافتين العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية، من خلال التركيز على القضايا المشتركة، وهي أكثر بكثير من القضايا الخلافية، بين الحضارتين المتجاورتين، والمتواصلتين أخذاً وعطاءً. ولنستمع لما كتبه لوسل في ليموند الباريسية يوم 3/9/1964: «يجب على مَن يتولون أمر الثقافة في فرنسا، أن ينظروا للعرب نظرة أساتذة التاريخ لأوروبا، يجب أن يعلّموا الأطفال الفرنسيين شيئاً من الذخيرة الهائلة للحضارة العربية. إنَّ تعلّمَ القرآن ولو كان في عجالة، سيكشف للتلاميذ شيئاً فشيئاً تصوراً جديداً للعالم. وما يسري على الدين الإسلامي يسري على حضارة القرآن كلها. وتلك ظاهرة، طالما تم تجاهلها، فإذا أنعمنا النظر فيها تمكنا، إلى حد كبير، من فهم ما يجري اليومَ، في العالم العربي». فليست اللغة أداة ووسيلة للتخاطب فحسب، وإنما هي في المقام الأول أداة للتفكير والنقد والتعلم.
وخارج هذه الشريحة الموضوعية المتوازنة، تظل النعرات الصهيوفرنجية العنصرية، والتخيلات الاستشراقية الاستفزازية، والدسائس المريضة بوباء التلمود، تصور المجتمع العربي المسلم للذهنية الغربية الجمعوية على أنه مجتمع حريم وجنس وسطوة ذكورية، يغرق في الشهوات والملذات الهمجية العنيفة، وتعتبر القرآن كتاباً ملفقاً يبث العنف والتخلف، وتعتبر العربية لغة منقرضة، فتقتصر على تدريسها في لهجاتها المحلية، وتقصر تدريس أدبها على أبي نواس وألف ليلة وليلة. وخلاصة القول أنَّ الاستشراق التوراتي الاستعماري قد نفث سمومه في صورة العالم العربي المسلم وأعاد اختراعه، لا كما رآه أو عرفه، بل بما يتلائم مع أغراضة الخبيثة، وهو عنده موجود فقط ضمن علاقته بالغرب ملحقاً وتابعاً، ومصدراً للمواد الخام، حيةً كانت أم ميتة.
ونعود هنا للتأكيد، على حقيقة لا يختلف عليها اثنان، قصي أحدهما أم دنا الآخر، وهي أن ليس من دين حافظ على أهل الذمة ورعاهم كما فعل الإسلام، وهذه معطية تاريخية وثقافية، يمكن الاستفادة منها، إذا تمكنا من نقلها للغرب، في فتح مسالك الحوار، الذي نسعى إليه كعرب ومسلمين، بين الحضارات وتنشيطه.
ولما استنفذ الغرب من العقل، كلَّ ما لديه، وظلَّت تنقصه الحكمةُ، وكان من قبلُ قد انقلب على كنيسته، لأسباب لم تعد تخفى على أحد، ثم انفصم، عنده اليوم، مفهومُ النواميس البشرية، بسبب انفراط منظومته الاجتماعية الذي أحدثه تمدُّنه المادي، المغرق في الحسيّة، والمنفلت من عقاله القيمي، وقد غلب عليه الطابع الاستهلاكي؛ فقد غدا أيسر من ذي قبل الوصولُ إلى هذا المتلقى والتواصل معه بالحوار، عبر هذا الطريق المباشر، على أًسس سليمة متوازنة، من التعاهد والاحترام المتبادل، وإن بدا الأمر، من داخل النفق، غير ذلك، وبخاصة في حالة الانقلاب بالأسوأ على السيء، كما كان الحال في محاكم التفتيش الأوروبية، والحملات الصليبية، وكما هو اليومَ في جرائم المحافظين الجدد من البروتستانت المتصهينين، في إدارة بوش الصغير، كما يكشف عن ذلك تقرير مؤسسة رامب الأمريكية بتكليف من البنتاغون في سنة 2004.
كل ذلك يجعلنا، نزعم، بلا تحامل أو تردد، أن مُفتشي الاستشراق الأسود وفاشييه، بحكم معرفتنا عن قرب، لغير واحد منهم، هم بالمعايير البشرية البسيطة والعلمية الدقيقة، غير أسوياء.
وتتمتع الحالة الإسبانية، في إطار دور اللغة في حوار الحضارات، بخصوصية تميزها عما سواها من حالات أخرى في الغرب اللاتيني المسيحي وهي خصوصية التراث المشترك مع الثقافة العربية الإسلامية، إذ لا تزال عشرات الألقاب العربية تحملها الأسر في إسبانيا والبرتغال، كما أن قاموس اللغة الإسبانية، لا يزال يحتضن أكثر من أربعة آلاف كلمة عربية، أربعمائة منها، في أقل التقديرات، لا تزال تُستخدم حتى اليوم. كما أن العربية، بخلفيتها الإسلامية، لا تزال بمخطوطاتها تملأ المكتبات الإسبانية، وبرموزها ونقوشها، تزين الآثارَ العربية الإسلامية التي لا تزال قائمة حتى يومنا في هذا البلد، إسبانيا اليوم / أندلس الأمس، بعاصمتها مجريط الأمير محمد الأول.
وهذا أحد الأسباب، التي تجعل العربية واحدة من أهم اللغات التي تسترعي انتباه غير الناطقين بها وتجذبهم لتعلُّمها. مكتسبةً جاذبيتها وأهميتها من عدة عوامل فاعلة، بعضها خارجي، يتأتى من الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والحضارية المحيطة بها، وبعضها الآخر ذاتي، يتعلق بماهية هذه اللغة وتراكيبها وسر فعاليتها. فاللغة، كما يقول الإمام محمد عبده، هي «سبيلنا الأول إلى استكشاف جوَّاني الأمة التي تتكلمها، واستكناه خصائص روحها التي تكمن وراء برَّانيها».
فالعربية، في إطار العوامل الخارجية، تكتسب أهميتها من كونها أولاً، وقبل كل شيء، لغةَ القرآن الكريم، كتاب الله الذي تحتضنه صدور أكثر من ألف مليون مسلم تجمعهم «لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله»، على اختلاف لغاتهم الأم ولغاتهم القومية، وعلى اختلاف أعراقهم أو انتماءاتهم الفكرية أو السياسية أو طبقاتهم الاجتماعية. فاللغة كما يقول الفيلسوف فِيشتة، في نداءاته إلى الأمة الألمانية: «تلازم الفرد في حياته، وتمتد إلى أعماق كيانه، وتبلغ أخفى رغباته وخطراته، وتجعل الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين . إنها الرابطة الوحيدة الحقيقية، بين عالم الأجسام، وبين عالم الأذهان». وقد يشهد بصواب قول الفيلسوف الألماني سابق الذكر ما وصلت إليه الأمة الإسلامية من عظمة، يوم كانت لغة الذكر الحكيم تجمع أبناءَها، لساناً وفكراً وأخوةً، في بوتقة لا تنفصم عراها.
وعلى المستوى البشري، تكتسب العربية أهميتها من كونها لغة الكتاب السماوي الوحيد الذي لا يزال حتى يومنا هذا، يُقرأ كلمةً كلمة، وحرفاً حرفاً، باللغة التي نزل بها، دون زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير.
فقد ظلت العربية خلال قرون متتالية لغة البلدان التي أنعم الله عليها بالإسلام هادياً، في آسيا وأفريقيا وأروبا، فقدمتها شعوب تلك البلدان على غيرها من اللغات، بما فيها اللغات الأم، واجتهدت في تعلمها وإتقانها حتى برز من أبنائها علماء أفذاذ، كتبوا بالعربية مؤلفات مشهود لها في عالم الإبداع والثقافة والفكر والعلوم. فبهذه اللغة كتب حاجي خليفة من آسيا الصغرى مؤلفه الأشهر: «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»، وبها كتب التَّهانَوِي، من شبه القارة الهندية: «كشَّاف اصطلاحات الفنون»، وبها أيضاً عاش وتعلم وكتب، من غرب أفريقيا، عثمان دان فُودْيُو. وقد ظلت اللغات المحلية تستخدم في الحياة اليومية، على مستوى جغرافي محدود، في حين غدت العربية لغة الثقافة والعلم والكتابة والتفاهم الأوسع، في كثير من البلدان مثل إيران وتركيا والملايو والهند وشرق أفريقيا وغربها والأندلس. وتكفي العودة إلى كتاب المستشرق الألماني كارل بروكلمان: «تاريخ الآداب العربية» الباحثَ عن هذه الحقيقة وتروي غليله.
وبسيطرة الاستعمار الغربي على أقطار القارة الإسلامية، وسياساته الخبيثة في تفريق أبناء الدين الواحد، تراجع الاهتمام بلغة القرآن على الصعيد الرسمي تراجعاً، أدى في غير حالةٍ، إلى تهميش استخدامها، كما حدث في حملة التتريك قبيل سقوط الخلافة في استامبول، أو إلى التخلي عن الكتابة بالحرف العربي، كما حدث، بعد ذلك، في تركيا الأتاتوركية، بعد استشراء الماسونية اليهودية، في مراكز القرار فيها، وكان ذلك في إطار التخلي عن الهوية الإسلامية للبلاد، والتَّذيُّل على الغرب ذي العقيدة السياسية الصهيوفرنجية تذيلاً، لم يؤدِّ بتركيا إلاَّ إلى الهوان والخسران وتهديد هويتها القومية والثقافية بالضياع، بعد أن تخلت السلطات العسكرية الحاكمة، ذات الاتجاه الماسوني اليهودي المغلف بالعلمانية، والحاكمة من خلف الستار، يحميها ذلك الغرب الحاقد على العروبة والإسلام، عن لغة القرآن، وعن حَرفه، ثم عنه نفسه عقيدة وشريعة وهوية.
وبعد التحرر نسبياً من الاستعمار وأعوانه المحليين، عاد الاهتمام بالعربية وبتعلمها، في العالم الإسلامي، من جنوب شرق آسيا إلى غرب أفريقيا، وربما كانت إيران الثورة الإسلامية، بمنهجها الإسلامي القويم خير مثال على هذا التحوُّل، في إعادة الاهتمام بلغة القرآن، في إيران، على المستويين الرسمي والشعبي، وحذت حذو إيران، في الربع الأخير من القرن العشرين أقطار إسلامية أخرى، فانتشر تعليم العربية في المدارس الحكومية، بالإضافة لانتشاره المعهود في المدارس القرآنية والمساجد، جنباً إلى جنب مع تدريس النص القرآني الكريم وتحفيظه. فالقرآن، بشهادة العلماء والعارفين، عرباً ومسلمين وغير عرب وغير مسلمين، في ذات نصه، معجزٌ بلفظه وأسرار تركيبه. والمسلم يتشوق إلى العودة لنصه الذي نزَل به من عند الله، لأنه يدرك، وبخاصة إذا أحسن العربية، أن ترجمة ألفاظه ومعانيه إلى اللغات الأخرى، يكاد يستحيل على البشر، بسبب ترابط خصائصه البيانية والإعجازية وتكاملها عبر المفردات ومعانيها، أو على مستوى الأحكام ومعطياتها. فما يسمى اليوم بترجمات القرآن، لا يعدو أن يكون محاولة متواضعةً جداً، لتوصيل معانيه السامية، بإمكانيات بشرية، تظل قاصرة، مهما جهدت، عن بلوغ الإعجاز الإلهي فيه، كما لا تعدو أن تكون نقلاً يُسطِّح أفكار النص ومعانيه، ويقطع صلته الأزلية بأهم مقومات فهمه وجاذبيته، كنص إلهي أُنزل هدىً للعالمين، بلسان عربي مبين، فشرَّف هذه اللغة، وشرّف من احتضنها وصقل ذوقه، إلى يوم الدين.
والعربية ثانياً هي لغة ثقافة وحضارة قادتا الحركة العلمية والثقافية الإنسانية قروناً، وقامتا بدور الموصِّل والمجدد والمراجع والمبدِع، بين الحضارات القديمة والحضارة الحديثة. وكانت العربية وسيلة ذلك التواصل الحضاري والثقافي، لهذا اهتمت مؤسسات عربية وإسلامية بتعليمها لغير الناطقين بها، وسيلة للحوار الحضاري مع الآخر، ومنها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) التي عبرت عن ذلك الاهتمام سنة 1974، بإنشاء معهد الخرطوم الدولي للغة العربية، في العاصمة السودانية، لإعداد المتخصصين في تعليمها لغير الناطقين بها، في إطار خطة متكاملة المراحل تشمل التكوين العلمي السليم والتدريب المناسب والموازنة بين المادة العلمية المتوفرة وبين المادة التعليمية المناسبة لاستيعاب المتلقين. فقد عمل المعهد على إعداد خبراء في التدريس، أو التوجيه، أو تأليف الكتب وإعداد وسائل الإيضاح السمعية والبصرية، أو التخطيط، بالاعتماد على النظريات اللغوية المناسبة، وعلم اللغة، في مجال تركيب الأصوات وتكوين الكلمة وبناء الجملة ومعطياتها الدلالية، ووضع المعاجم المناسبة، هذا بالإضافة لاهتمامه بالرسائل الجامعية، ذات الشأن، وإعداد الدراسات التربوية والنفسية وثيقة الصلة بتعليم اللغات. كما اهتم المعهد، في إطار مهمته، بالجانب الثقافي، فربط، في مناهجه، وسيلةَ تعليمَ العربية، بغاية التعريف بمحيطها الثقافي والعقيدي، ووضع مؤلفات في ذلك المحيط، الذي تحتضنه المجتمعات الإسلامية، في آسيا وأفريقيا، وأصدر مجلته الدورية نصف السنوية المتخصصة في الدراسات اللغوية.
ومثَّل معهد الخرطوم الدولي لتعليم العربية لغير الناطقين بها نقطةَ التقاء وتفاعل حضاري، بالتقاء الدارسين والباحثين من عرب وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين، في رحابه، يتبادلون المعارف اللغوية والممارسة المباشرة للغة الآخر، في عملية مثاقفة إنسانية ومعايشة حضارية، وتواصل مع الآخر، مركزُها لغةُ القرآن الكريم. وقد امتدت هذه الظاهرة، في الربع الأخير من القرن العشرين، على صعيد محلي، إلى مراكز أخرى، انتشرت في عموم عواصم القارة الإسلامية ومدنها، حتى لا تكاد تخلو جامعة في هذه القارة، وبخاصة أقطارها العربية، من مركز يؤدي هذه المهمة الحضارية، ويجهد في تحقيقها، لكن دون تنسيق بين هذه المراكز، ودون دعم رسمي، الأمر الذي أضعف مهمتها وأدائها.
وتقوم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، من مقرها في الرباط، بدور مماثل في مختلف الأقطارالإسلامية، والأقطار ذات الأقليات الإسلامية، فتنظم دورات تدريب معلمي العربية والدين الإسلامي لغير الناطقين بالعربية من المسلمين، ومن أبنائها، في المهاجر، وغيرهم. وقد استفادت المراكز والمنظمات المعنية بتعليم لغة القرآن الكريم لغير الناطقين بها من خبرات الآخرين، وبخاصة في مجال تعليم لغات واسعة الحضور، لأسباب مختلفة، كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية، لغير الناطقين بها، في حقول تدريب المعلمين والمؤلفين، وإعداد الكتب والمناهج ووسائل الإيضاح، وإنشاء معاهد خاصة لهذا الغرض، في جامعات القارة الإسلامية ومعاهدها، حتى أنه يندُرُ اليوم العثور على جامعة في الوطن العربي، على سبيل المثال، لا تهتم بهذا الشأن. ولكن التجزئة الإقليمية في الوطن الإسلامي والتبعية الرسمية والثقافية لليد الأجنبية، شتَّتت الجهود، وأعاقت المسيرة باتجاه الهدف المنشود، فظلت الامكانيات المحلية المحدودة، في غير مرة، أعجز من أن تفي بما خططت له المشاريع المتفائلة، على كافة مستوياتها, وهذا واقع تعيشه مؤسسات تحاول أداء رسالتها، في إطار ذلك الواقع، مثل معهد أبو رقيبة بتونس، ومركز اللغة العربية بجامعة القاهرة، ومركز تعليم اللغة العربية للأجانب في جامعة الاسكندرية، وجامعة دمشق، وبرنامج تدريس العربية والتراث في جامعة بير زيت برام الله، ومركز تعليم العربية لغير الناطقين بها في جامعة النجاح الوطنية بنابلس...إلخ
كما تكتسب العربية أهميتها ثالثاً من الموقع الجغرافي للوطن العربي، مهد هذه اللغة بما يملكه من إمكانيات اقتصادية وبشرية واجتماعية، يردفه العالم الإسلامي حاضن القرآن الكريم، معين هذه اللغة الذي لا ينضب، وهو عالم لا يقل إمكانيات وثراء عن الوطن العربي.
أما على مستوى اللغة ذاتها فتتمتع العربية، نقول هذا وفي الأذهان أُسلوبها القرآني المُعجِز، بخصائص بيانية ذات إيحاءات نفسية وشعورية غنية تهذب السليقة وتسمو بها إلى أرقى مراتب الإبداع، بحيث لا يرى أيُّ غوّاص على أسرارها، فيما قاله شاعر النيل، على لسانها، إلاَّ عين الصواب:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
إن كان تعليم العربية للناطقين بها يتطلب قدراً كبيراً من العطاء والحنكة والتضحية، فالمهمة تعظُم والعبء يثقُل في تعليمها لغيرهم، وبخاصة في هذه الحالة التي يطرحها هذا البحث، بما يقف وراءَه من مهام مضافة، تتمثل في حمل رسالة توصيل مضامين مقصودة بعينها للآخر، والتواصل معه، من مواقع مختلة الموازين لصالح المعوِّقات، بكل ما يترتب على ذلك من مجهود، يرى المعلم نفسه، وهو حامل مهمة إنسانية وحضارية، مطالباً بأدائها على خير وجه.
بالعودة للغة العربية، في حد ذاتها، كمادة مجردة من الآراء والمعتقدات الشخصية، نقول أنها، والحال هذه، تتمتع بخصائص بيانية واشتقاقيةٍ، تغتني بها باستخراج صيغها من الجذور. وتحتضن العربية ظاهرة الصيغ أو القوالب، حيث يكون لكل صيغة منها دورٌ فاعلٌ في تحديد الاستخدام اللغوي وإغنائه بالمعنى الدقيق، النابع من خصائص الجذر اللغوي، متفاوت الإمكانات والعطاء، كما هو الحال في اسم الفاعل والصفة المشبهة مثلاً. وظاهرة الغنى الصوتي، إذ إنها تغطي المساحة الأكبر في الجهاز الصوتي للإنسان، وبهذا تمكنت خمسة وثلاثون لغةً، في العالم الإسلامي بخاصة، كالفارسية والأردية والكردية والتركية والأندونيسية من استخدام أبجدية العربية. ومن تلك الظواهر أيضاً ظاهرة التصريف التي تراعي التوازن في تركيب الكلمة وفي تركيب الجملة، وتأخذ في الحسبان ضرورة الاستخدام الإنساني لها فتكيف صيغها وتراكيبها لهذه الحاجة الإنسانية. وظاهرة الإعراب التي تساعد مستخدمها على دقة التعبير وتجاوز الغموض الذي قد يتسبب نتيجة عطب في وسيلة الاتصال بين المرسل والمستقبل، ويمنح الإعرابُ المرسِلَ قدرة على التعبير بدقة عما يريد، ويمنحه الحرية في اختيار الصيغة التي يعبر بها عن أفكاره، مع قدر كبير من الضمان في وصول الرسالة إلى مستقبِلها، بأقل قدر من التشويش. كما أن هذه الخاصية تساعد المتلقي على استقبال الرسالة بوضوح وتساعده على تصحيح ما قد يكون قد شابها عبر وسيلة الاتصال من غموض. والإعراب ظاهرة تشد انتباه المتعلم الذي تفتقد لغته الأم، كما هو الحال في الإسبانية، إلى مثل هذه الظاهرة، التي تسترعي انتباهه وتستحوذ على شغفه وتطلُّعه لمعرفة المزيد عنها، بعد أن يرى ما فيها من دلالة على انسجام الفكر الذي أنتج هذه اللغة مع الفطرة الإنسانية، وابتعاده عن الغموض والجدل الذي لا يقوم على أسس مُقنِعة، وفي هذه الحالة يمكن تقديم النص القرآني، وهو الأقدر على أداء هذه المهمة، نموذجاً لهذه الخاصية اللغوية والنفاذ من خلاله إلى مد جسور الحوار الحضاري مع المتعلِّم.
وتغتني العربية، في إطار العوامل الذاتية تعبيراً، بظواهر تساعد على النفاذ إلى مهمة الحوار بين الحضارات، مثل ظاهرة التقديم والتأخير، فتكشف، من خلال أوضح عناصر هذه الظاهرة حضوراً، وتجاذباً، عن البعد الإنساني الكامن في هذه اللغة، من خلال التأكيد على خضوع البشر جميعاً للنواميس الإلهية: إيَّاك نعبدُ وإيّاكَ نَستَعين
(الفاتحة –4). وبتنوع أساليب الجملة العربية، من إنشائية وخبرية أو فعلية واسمية أو استفهامية أو غير ذلك، حيث تعطي مستخدميها مجالاً واسعاً للتعبير تعبيراً حراً ودقيقاً عن الأفكار التي يحملونها، دون أيِّ حدود مانعة إلا الحدود الإلهية راعية الإنسان وحاميته من النفس الأمارة بالسوء.
وثمة خصائص أو عوامل ذاتية أخرى كثيرة تتمتع بها العربية ولا تخفى على دارسها، مثل ظاهرة النقل في وظائف المفردات والجمل وغناها بوسائل التعبير عن الأزمنة النحوية باستخدام الأدوات المساعدة والأفعال، وكلها خصائص يمكن أن تندرج، إذا وُجِّهت توجيهاً صحيحاً، في المهمة الإنسانية للتواصل مع الآخر.
والعربية أيضاً، كمعين فكري، يعكس نفسية محتضنيه وسلوكياتهم، هي لغةٌ تتعايش مع لهجاتها المحلية على اتساع انتشارها الجغرافي وعبر الزمن التاريخي الذي تواجدت فيه وتتواجدُ بحضور تنموي فاعل ينظم علاقتها بلهجاتها تنظيماً لا يخلو من ملامح إعجازية، يمكِّنُها من الإمساك بزمام المبادرة في نمو تلك اللهجات وامتدادها بالقدر الذي لا يمكِّنها من بلوغ قامة الفصحى سموّاً، وقد حفظها القرآن الكريم: لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (النحل:103 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9).
فاللغة، بمفهومها العام، هي مجموعة رموز صوتية يحكمها نظام معين، ويتعرف أفراد مجتمع ذي ثقافة معينة على دلالاتها، من أجل تحقيق الاتصال فيما بينهم، فهي إذَن ظاهرة إنسانية لا يتماثل فيها فردان، لا في الزمان ولا في المكان، وهذا ما نعرفه باللهجات. وإن كان الحال في العربية الفصيحة أقل من ذلك بكثير، وكأني بهذه اللغة، كالكتاب العزيز الذي نزل بها، فقعَّدها وحَفظها، تجمع العباد على جامع شامل، لا سبيل فيه لطائفة أو عرق أو طبقة، للتمايز على الآخر، وهذا هو المدخل إلى تلاقي الناس، في ظل مساواة، يضمنها عدل إلهي لا ريب فيه: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الانبياء:92).
وفي إطار الحديث عن تعليم العربية لغير الناطقين بها يتوجب بشكل عام فهم الفروق بين بعض المفاهيم المطروحة، في هذا المجال، منها مفهوم اللغة الأم، وهي أول لغة يتعلمها الإنسان ويتصل بها بذويه ومحيطه، وهي لغة لها مكانة خاصة مترتبة على التمسك الفطري بالأنا وهويته الثقافية المادية والمعنوية. ومنه أيضاً مفهوم اللغة القومية، وهي لغة الدولة التي ينص عليها الدستور ويتعلمها أفراد مجتمع تتعدد لغاتهم الأم، كما هو الحال في الهند وإسبانيا، وغيرها من الدول الأوروبية،، والعديد من الدول، في أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وهي لغة قنطرية، تفرضها الحاجة، دون أن تكون لها أية خصوصية مباشرة، في قلوب مستخدميها. وفي هذه الحالة يتوجب على معلم العربية لغير الناطقين بها، وبخاصة في الغرب، عدم التقليل من شأن اللغة الأم أو اللغة القومية للمتعلم، أو التركيز على ما ليس فيها من مميزات، وبخاصة في قاعة الفصل، وإنما يتوجب عليه ترك ذلك للمتعلم ليكتشفه من خلال مقارنته للظاهرة، بمبادرته هو، وذلك لهشاشة العلاقة بين تينك اللغتين وخلفياتهما، من جانب، وبين العربية ومضمونها الثقافي والحضاري، من جانب آخر، إذ يبقى الإنسان بشراً، تحركه، عن غير وعي، فطرةُ ردود الفعل والحساسية المفرطة، والشك المبالغ فيه، كلما لاح له في الأفق، جديدُ على الأنا الفردية أو الذات الجماعية.
وهناك مفاهيم أخرى تصنيفية للغة، مثل مفهوم اللغة الأجنبية أو اللغة الثانية ويقصد بها اللغة التي يتعلمها المتعلم بعد لغته الأولى. وهذا المفهوم نسبي الدلالة والتصنيف، إذ قد يكون لدى متعلم اللغة الأجنبية لغتان أو أكثر قبل أن يتعلم ما يفترض أن يكون لغة ثانية أو لغة أجنبية. وعلى أي حال، تظل هذه التعريفات مجرد تقسيمات تساعد في تصنيف المفاهيم وتنسيقها وتسهيلها على الدارس. فهي في هذا المجال اللغوي بخاصة، وفي إطار العلوم الإنسانية بعامة، تظل أحكاماً نسبية ومتفاوتة، تفاوت المعطيات والقيم البشرية التي تشكل مجتمعاً ما بصورة تختلف عن تشكيلها مجتمعاً آخر. وفي هذه الحالة، تتدنى نسبة الحساسية لدى متعلم العربية غير الناطق بها، أمام أية محاولة نقد أو مقارنة بين العربية، وبين هذا الصنف من اللغات.
واللغة، بمفهومها الاجتماعي، ظاهرة إنسانية وأداة توصيل، تُكتسَب مهاراتُها بالمعايشة والممارسة الذهنية والعضلية، وهي أصوات يصعب على غير الناطق بها إجادتها، ويسهل اكتشافه عند استخدامها، لذلك يتوجب على المعلم معالجة هذه المسألة بحصافة وتوازن، تدعمه رحابة صدر، وشحذ لهمّة المتعلم، لتجاوز الموقف، في إطاره الإنساني الشمولى، باعتبار الظاهرة فعلاً إنسانياً، يخضع للاكتساب والممارسة، كما يُستحسَن من المعلِّم تخطي مهارَتَي الحديث والاستماع، بعناية خاصة، عند تعليم العربية كلغة ثانية، أو لغة مضَافة، وقد يُستحسن، في ذلك، تخصيص البدايات من برامج تعليمها لتدريس مهارتي الاستماع والكلام، ثم الانتقال منهما إلى مهارات أخرى. وقد يُستحسن أيضاً، وبخاصة في تعليم قواعدها وأساليبها لغير الناطقين بها، التركيزُ على خصوصيتها في التعبير عن نفسها، وعدم الاقتصار على سوق القواعد المغلقة من بطون كتب نحوها، ومطالبة المتعلم بإعادتها ومجِّها، حتى ولو لم يدرك معناها، بما في ذلك من تجاوز وتجاهل لعلاقة العلة بالمعلول، والتقليل من شأن أحد العوامل المساعدة على التأسيس لمبدأ الحوار، على هذا المستوى الأولي، مقدمةً لحوار أوسع أُفقاً وأشمل إطاراً، كما هو الحال في الحوار بين الحضارات.
ولأن اللغة عرفٌ إنساني لا يأتي، في مجمله، على قياس، فإنه يتوجب النظر إليها، وبخاصة من قِبَل معلمها لغير الناطقين بها، بموضوعية وعدم إطلاق الصفات الجامعة المانعة عليها، وعدم المبالغة في تفسير الظواهر اللغوية وبخاصة تلك التي لم يُعثر لها، من بعدُ، على تفسير منطقي أو عقلي مثل ظاهرة جمع التكسير مثلاً، ليس لأنها لا تقبل ذلك، وإنما لأنها، في رأينا، من الظواهر التي لم يهتد اللغويون بعدُ إلى تفسير بعض جوانبها، كما اهتدوا، ولو بعد حين، إلى تفسير ظواهر أخرى. وهذا لا يمنع المعلم من تنبيه متعلميه، دون شطح أو شطط، إلى ما يراه مناسباً، في هذا الشأن، من باب الاجتهاد، وما له من ثواب، في حالتي الصواب والخطأ، وبخاصة إذا كان هذا الأخير من طبيعة الأشياء والأحوال.
ومن هذا القبيل، يمكن في تعليم العربية لغير الناطقين بها إجراء مقارنات وموازنات بين الظواهر اللغوية في العربية وبين مثيلاتها في لغة المتعلم الأم، أو لغته الرسمية، أو أية لغة تكون معروفة لدى المتعلِّم. والآراء في هذه القضية كثيرة ومتباينة ونسبية غير قياسية، ولهذا لا نرى فائدة كبيرة تتأتى من الإمعان في تطبيقها أو إدامة حضورها في العملية التعليمية، وإن أمكن قصرُ المقارنات بين ظواهر العربية وبين مثيلاتها في لغة أخرى، على اللغة الأقرب للمتعلم ذاتياً ومعرفياً، فيكون ذلك أجدى للعملية التعليمية، وأقرب موئلا، لما لهذه العملية من أثر توضيحي إيجابي للتشابه بين الظواهر اللغوية في اللغة الأم واللغة المتعلَّمة، ولما لها من أثر واضح في الكشف عن نوعية الأخطاء الشائعة لدى المتعلمين وتصحيحها. أمَّا إن كان الخطأ محتملاً بسبب الخبرة التي يكتسبها المتعلم من اللغة الأم ومحاولة نقلها إلى العربية، فإن عدم استقرار قواعد هذه اللغة في ذهنه يمكن أن يكون سبباً في الخطأ الذي يؤدي إلى تشويه الرسالة بين المرسل والمتلقي، ويعرقل عملية الاتصال والتواصل سواءاً، على مستوى السمع، أو على مستوى القراءة.
فاللغة ظاهرة اجتماعية بشرية، وأداة اتصال تكتسب أهميتها من قدرتها على التعبير عن بيئتها وثقافتها، وحاجات الأفراد إليها، والوفاء بمتطلباتهم الفردية والجمعوية في التوصيل والتواصل فيما بينهم. فاختلاف لغة عن أخرى لا يعني بالضرورة صفة إيجابية لهذه اللغة، وأخرى سلبية لتلك، وهذا ما يجب التأكيد عليه في الفصل، لكسر ما قد يقف بين المعلم والمتعلم، في هذه الحالة بالذات، من حواجز، أو بقايا اعتبارات عائقة، إذ أن لكل لغة ظروفَها وثقافتها، والتباين والتفاوت هما حكمة الله في خلقه. وعلى الباحث عن الحوار مع الآخر والساعي للتواصل معه، أن يدرك أسرار هذه المعطية وأبعادها.
من هنا يمكننا التمييز بين نظرتين للغة إحداهما ذاتية تؤدي بصاحبها إلى المبالغة والشطط في وصفها إيجاباً أو سلباً، كأن توصف لغة ما، دون غيرها، بأنها لغة الحساب في الآخرة أو لغة الجنة مثلاً، وهذا أمر لا يعلمه إلاَّ الله، وعلى معلِّم العربية لغير الناطقين بها عدم الخوض فيه لما له من آثار لا تساعد على بلوغ الأهداف المرجوة من الحوار والتواصل، باستخدام اللغة أداةً؛ وأخرى موضوعية علمية وصفية تدرس اللغة في ذاتها بغض النظر عن الموقف الشخصي، للمعلم أو المتعلم، منها، وهذا ما يغلب اليوم على مناهج دراسة اللغة، وما يتوجب أيضاً الأخذ به في تعليم العربية لغير الناطقين بها، وبخاصة من غير المسلمين. فدراسة اللغة والنظر إليها بموضوعية يتمشى مع طبيعة اللغات وتطورها عبر الزمان، وفي إطار المكان، وهذا يجعل التمايز والاختلاف بين لغة وأخرى أمراً ضرورياً وحتمياً، وحتى في إطار اللغة الواحدة، فلا يمكن للغة أن تنسجم مع بعضها وتتطابق عناصرها تطابقاً كاملاً في عصرين مختلفين أو مكانين مختلفين، إذ أن الاختلافات مهما صغرت أمرٌ طبيعي تفرضه طبيعة اللغات وتطورها بصفتها ظاهرة إنسانية، والإنسان بطبيعة الحال يتطور ويتغير متأثراً بالظروف المحيطة به، وهي ظروف بشرية، كصانعها، لا تبقى على حال.
فالتغيير أو التطور في اللغة مستمر بتأثير المكان، ومستمر أيضاً بتأثيرالزمان، ويؤدي في العادة إلى وجود مستويين من اللغة: مستوى الفصحى، ومستوى العامية. وحتى هذين المستويين لا يمكن تطبيقهما على اللغات المختلفة بنفس القدر والصرامة، إذ أن الأمر ينتهي ببعض اللغات إلى أن تتطور عامياتُها، فتتحول إلى لغات جديدة «فصيحة» إلى جانب اللغة الفصيحة الأم، حاجبة هذه الأخيرة عن مستوى الاستعمال اليومي، وقاصرةً إيَّاها، على مستويات أضيق وأقل تداولاً، كما حدث ذلك في اللغة اللاتينية ولهجاتها الفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية. وهذا أمر لا يقاس عليه في حالة اللغة العربية لأسباب لا تخفى على الدارس. وإن أمكن إلى حد ما إيجاد درجة عالية من التجانس في إطار اللغة الفصيحة المكتوبة، فإن ذلك الأمر يصعب إيجاده، وبخاصة في العربية، في العاميات بسبب تطورها المستمر، على غير قاعدة تطوراً طالما غذته الحدود السياسة المفروضة، غير أنه اليومَ يتجه إلى مزيد من التجانس، بفضل تواصل المتكلمين بها، عبر شبكة الاتصالات العالمية والقنوات الفضائية.
ومع أنه لا مناص من تعليم العربية الفصحى لغير الناطقين بها، فإن تعليم شيء من العامية، أو لحن العوام، أو اللهجات، كما يراه البعض، خلافاً لما نراه نحن، قد تكون له، والله أعلم، ضروراته في بعض الأحوال، وبخاصة لأولئك الذين يريدون التحدث بها فقط لقضاء أمور انتقالية، ولا هدف لهم في دراستها، في حد ذاتها، أو الاطلاع على ثقافتها وحضارتها، وهذا في رأينا أمر لا يندرج في إطار تعلم اللغة بقدر ما يندرج في إطار تعلم «اللغة المشفَّرة». ومن هنا تكمن الحاجة في محاولة البحث عن منهج لتعليم هذه الشريحة من غير الناطقين بالعربية تعليماً، يأخذ بعين الاعتبار تقديم اللغة في إطار سهل يتحرَّى الدقة والصحة كما هما في اللغة الفصيحة. وهذا يعيدنا إلى التأكيد على أهمية تعلم العربية الفصحى أولاً، لمن شاء تعلم لهجة من لهجاتها، وإن كان الأمر كذلك، فالأصل يغني عن الفرع، والكل عن الجزء، والأصح عما دونه صحةً.
وبهذا يمكننا اعتبار لهجات العربية، مستوى « متدنياً» من مستويات استخدامها، يفوق غيره من المستويات الأخرى تعقيداً وفوضويةً، في تعلمه وتعليمه، بسبب عدم ثباته على حال، الأمر الذي يجعلنا نتروى ونعيد النظر في الانسياق وراء دعوات الداعين لتعليمه وكتابته، بكل ما تحمله تلك الدعوات من مخاطر، يسعى لتحقيقها الساعون لتمزيق هذه العروة التي تجمع الناطقين بها والحاملين، في الصدور، كتابَها الكريم، على جامع واحد. ويكفي التدليل على ذلك، باهتمام مؤسسات علمية ذات توجهات سياسية وأيديولوجية، ترتبط بالحكومات والمؤسسات الحاقدة على العرب والمسلمين، في الغرب، اهتماماً مبالَغاً فيه، لتعليم لهجات العربية جنباً إلى جنب مع تعليمها الثقافة العربية والإسلامية، تعليماً انتقائياً مجتزَءاً، يكرس التباينات الإقليمية والطائفية، ويحض على التقاطع في صفوف العرب والمسلمين، ويزرع الفتنة العرقية والطائفية، ويقطع صلة الإنسان العربي والمسلم، بثقافته وحضارته، مما يُفسِد مهمّة اللغة لتحقيق تواصل حضاري، مع الذات ومع الآخر. وما حدث في العراق، منذ احتلاله، بقيادة الإدارات الأمريكية والبريطانية، ثم الإيطالية والإسبانية، ومُلحقاتها، من تدمير وتخريب وتمزيق وإفساد غربي مقصود، على الصعيد السياسي والحضاري والثقافي والاجتماعي والعرقي والطائفي، خير دليل على ذلك، وحجة نرفعها على المتفرنجين المُقعَدين فيما حدده الغرب الاستعماري لهم من مقعد.
ومن باب التصنبف، وتجزيء الواحد، يجري الحديث في هذا الإطار، عن مستوياتٍ للعربية، يمكن تعليمُها لغير الناطقين بها. فهناك من يتحدث عن عربية التراث والعربية المعاصرة، أو عربية المثقفين وعربية الأقل ثقافةً، أو عربية عامة تأخذ بعين الاعتبار إعداد المتعلم على المستوى العام وتزوده بمهارات، تسهِّل عليه مهمة الاتصال بجوانب الحياة اليومية، وبوسائل الإعلام، عربية اللغة، على مختلف مستوياتها اتصالاً عاماً. وإلى جانبها «عربية تخصصية»، يهدف تعليمها لغير الناطق بها، إلى تمكينه من معرفة بعض المباديء اللغوية والمهارات الخاصة التي تعينه في مجال بعينه، تربطه به ضرورة الحاجة وحاجة الساعة، كأن يكون حرفة من الحرف، واقتصار التعليم على هذا المجال الضيق، كما يحدث للتجَّار والدبلوماسيين وعناصر قوات الأمم المتحدة التي يتعلم أفرادها لهجة المواطنين، في المناطق التي يرسلون إليها، دون اللجوء لتعلُّم اللغة. وبهذا، يطرح تعليم العربية لغير الناطقين بها في صورتيه الشمولية العامة و«التخصُصية» الضيقة قضيةَ الأصل والشذوذ عنه، أو الفصحى ولحن العامة، وإن كانت هذه القضية محسومة، إلى حد بعيد، حيث ينتهي الأمر، بصورة أو أخرى، إلى تعليم الفصحى دون العامية، إلا في حدود الضرورة وفي مجالات محدودة. وبهذا فالحديث عن مستويات في تعليم العربية وتعلمها، لا يزيد عن كونه وصفاً لحالة المتعلم أو حالة المستخدِم، أو وصفاً للظرف أو المحيط الذي تتم فيه التجربة اللغوية، أكثر من كونه وصفاً لحالة اللغة ذاتها. وهذه حقيقة يتوجب على معلم العربية لغير الناطقين بها، وضعها في الاعتبار، عند أدائه مهمته، كوسيلة من وسائل الحوار بين الحضارات.
ولأن اللغة أيضاً، ونحن بصدد الحديث عن العربية، نظام صرفي وصوتي ونحوي ومعنوي وكتابي له قواعده النسبية، فعلى معلِّمها لغير الناطقين بها ألا ينسى أنها وسيلة اتصال يتوجب على مرسِلها توخي الدقة في اختيار الكلام وتراكيبه ومضمونه الثقافي، لكي تصل الرسالة على أكمل وجه إلى مستقبِلها، وبأكبر قدرٍ من التوافق مع أفكار مرسِلها، محاولاً، في هذا السياق، قدر الإمكان، الابتعاد عن استخدام الضرورات اللغوية، ومغالقها الاستعراضية، كما الابتعاد عن المضامين الثقافية للمادة التعليمية التي قد تكون موضع جدل أو رفض، مِن قِبل المتعلِّم، لا يسهل الاتفاق عليها.
ولما كان التعليم فن، ومن أعلى درجاته تعليم اللغة، فيُستَحسَن ممن يعلّم العربية، كمعين لثقافتها، سواءٌ للناطقين بها أو لغيرهم، معرفةُ الدلالات الثقافية الكامنة وراء استخدامها للمفاهيم الثقافية والحضارية، في المواقف المختلفة، حتى يتمكن من تسهيل تعلُّمها على متعلميها، كظاهرة إنسانية، ومعين للفكر، وأداة هامة للحوار بين الحضارات، والتواصل بين الشعوب. وفي هذه الحالة تتحقق الفائدة باستحضار نماذج حوارية مشرقة في تاريخ البشرية، كمحاورة نجاشي الحبشة صحابةَ الرسول الكريم وإكرامه لهم، خلافاً لما ابتغاه مشركو مكة، باعتبارها أول حوار حضاري مسيحي إسلامي في التاريخ، كما يمكن استحضار العهدة العمرية وما تحمله من دلالات على سمو الإسلام، واحتضانه للآخَر، انساناً وثقافةً.
ويُستحسن من هذا المعلم أيضاً، تسهيلاً على تلاميذه، التركيز على سمات كتابتها المختلفة، من شكل للحروف واقتصار وضع هذا الشكل، في سياق العملية التعليمية، على الحروف التي تحتمل اللبس في غيبة الشكل، كما يجب الانتباه أيضاً إلى تجريد الحرف لفظاً وكتابةً، بربطه على المستويين السابقين بما يماثله، وتمييزه عما يخالفه. ومن المستحسن هنا، أن يتأخر تجريد الحروف قليلاً حتى يتوفر للمتعلم، وقد نشأ على كتابة حروف الكلمة في لغته متفرقةً، وفي غير اتجاه، قدرٌ معقولٌ من المفردات التي يمكنه استخدامها في تجريد الحروف، وفي إعادة تركيبها. وفي هذه الحالة، يمكن تعليم الحروف التي تتوفر لها كلمات، عند المتعلم، لتجريدها دون الالتزام بترتيبها الألف بائي أو الأبجدي. ويحبَّذ أن يتم التجريد من خلال مفردات، ذات دلالات مقصودة، تساعد في تحقيق المهمة المنشودة، يكون المتعلم قد عرفها، من قبلُ، وألفها. كما يُستحسن أيضاً، في هذا المساق أن يكون الحرف المجرد واقعاً في بداية الكلمة تسهيلاً على المتعلم ولفتاً لانتباهه. ومن الظواهر المُلفتة لنظر متعلم العربية غير الناطق بها، وبخاصة الإسباني الذي رسخت جزئياً، في ذهنه، بالوراثة ظاهرة أل القمرية، دون الشمسية، وظاهرةُ الشدّة وارتباطها بأل الشمسية التي من المستحسن تأخير تعليمها إلى ما بعد تعليم أل القمرية تسهيلاً على المتعلم، وتجنيبه اللبس والغموض. ومن الظواهر المتوجب أخذها بعين الاعتبار أيضاً، عند تعليم العربية لغير الناطقين بها ظاهرة التاء مفتوحةً ومربوطةً، وظاهرة التنوين في حالاته الثلاث، وظاهرة المد بوجوهها الثلاثة أيضاً.
ومن الأمور الهامة لتسهيل تعلم العربية على متلقيها غير الناطق بها، مع الأخذ بعين الاعتبار دورها كوسيلة هامة وفعالة في حوار الحضارات، محاولة تقسيم أبجديتها، عند تعليم كتابتها، إلى مجموعات تتشابه فيها أشكال الحروف مثل مجموعة الباءِ ومجموعة الجيمِ ومجموعة الدالِ ومجموعة السينِ...إلخ، مع التلميح دون إثقال إلى خاصية الإعجام والتحريك، في هذه اللغة، لترك الباب مفتوحاً أمام النفاذ إلى كل ما من شأنه المساعدة، في الوقت المناسب، على التعريف تعريفاً شيقاً وطريفاً بوجه من وجوه الحضارة العربية الإسلامية وقدرتها على الإبداع والتواصل مع غيرها، والشعور بحاجة الآخر.
ويصبح من ضرورات هذه العملية التعليمية الحضارية أن ينبه المعلمُ تلاميذَه إلى الأصوات التي تنطق ولا تكتب، كألف المد بعد الهاء في أسماء الإشارة، وظواهر أخرى مثل ظاهرة الحروف التي تكتب ولا تنطق كألف الفعل الماضي عند جمعه جمعاً مذكراً، وللتخفيف من وقع الظاهرة في نفس المتعلم، يمكن للمعلم أن يشير إشارة سريعةً، إلى انها أسهل من غيرها، وأكثر انسجاماً عما هي عليه في لغة مثل الانجليزية مثلاً وحتى الإسبانية. ومن الضروري جداً عند تعليم العربية لغير الناطقين بها استخدام الرسم العربي دون غيره لما له من إيجابيات لا تحصى في إعطاء نتائج مرضية وترسيخ المادة في ذهن المتعلم وتجنيبه مشاكل تنتج عن مساوئ الكتابة بالحروف غير العربية، وهي حقيقة يعرفها مَنْ مرَّ بهذه التجربة. ومن هنا تعظم مهمة المعلم، مضحياً ومحتسباً، ويكبر قدْره، في نظر طلابه، وفي نظرنا، نحن العارفين بمقدار تضحياته، حتى نقف في صف واحد وبصوت واحد مع أمير الشعراء في قوله:
قف للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
وكي يكون معلم العربية لغير الناطقين بها، على مستوى الثقة الممنوحة إليه، وهو يضع صوب ناظريه المهمة الموكلة إليه، في تكريس تعليم اللغة وسيلة مساعدة على الحوار بين الحضارات، أن يأخذ بعين الاعتبار أولاً، من بين أمور أخرى، معرفة المستخدم للغته الأولى، أو اللغة الأم، وهو ما يعرف بمفهوم الكفاية اللغوية، أو اكتساب اللغة، ومعرفة المتعلم لنظامها وتطبيقه، دون أن ينتبه انتباهاً مقصوداً لذلك، وهو ما يمكن تعريفه بالتعلم بالسليقة أو التعلم بالفطرة أو الملكة التي تمنح الفرد الحس اللغوي لتمييز أشكال الفهم والإفهام، وهي الصفة التي يصعب على غير الناطق باللغة الوصول إليها أو تحصيلها، مهما سعى إلى ذلك. فالكفاية اللغوية تزود غير الناطقين بالعربية، عند تعلمها، بالمهارات اللغوية التي ترفع من مستواهم إلى حد ما في اتجاه القدرة على فهم طبيعة اللغة التي يسعى المتعلم لتعلمها، وهي في هذه الحالة اللغة العربية، والقواعد التي تضبطها، والنظام الذي يحكم ظواهرها، والخصائص التي تتميز بها مكوناتها، أصواتاً ومفردات، وتراكيب ومفاهيم. ولا بد لمعلم العربية لغير الناطقين بها أن يأخذ بعين الاعتبار ثانياً ما يُعرف بمفهوم الكفاية الاتصالية، أو تحصيل هذه اللغة، الذي يساعد متعلمهاغير الناطق بها، على استعمالها استعمالاً فيه درجات متفاوتة من التلقائية وتوفر له قدراً من الحدس اللغوي، يمكِّنه من تمييز وظائفها المختلفة، في مواقف الاستخدام الفعلي، على مختلف مستوياته، وفي هذه الحالة قد يكون لحفظ بعض النصوص المناسبة لقدرات المتعلم ورغبته، إذا أُختيرت بعناية أن تساعد في أداء هذه المهمة.
فاكتساب اللغة، أو التعلم الضمني، أو التعلم غير الرسمي، أو التعلم الطبيعي، هو عملية لا شعورية يكتسبها الطفل من أهله وبيئته دون قصد أو تقنين، أما تعلمها المعروف بالتعلم الرسمي، أو التعلم الصحيح، أو التعلم المقصود فهو تحصيلُها عن طريق الجهد المقصود الخاضع لقوانين واعتبارات مدروسة وموضوعة مسبقاً، وفي هذا السياق يندرج موضوعنا.
وقد يؤخذ بعين الاعتبار عند تدريس العربية لغير الناطقين بها، مفهوم مستوى معرفة المستخدم باللغة، في ظرف بعينه، وهو ما درج البعض على لصقه باللغة، باعتباره مستوى من مستوياتها، كمفهوم لغة التراث ومفهوم اللغة المعاصرة، ويقصد بالأولى اللغة الأكثر رصانة وبناءاً وتتمثل في المؤلفات قوية اللغة، قُبيل أن تفسد الألسنة فسادها اليوم. وأما الثانية فتتمثل في اللغة المستخدمة ولغة الصحف وهذا التقسيم بشقيه، يقوم على أساس وصفي لدرجة عناية الكاتب بما يكتبه وقدرته على ذلك. فالحكم هنا هو وصف لفعل فاعل أكثر منه تصنيف للغة، إذ أن اللغة يجب أن تكون صحيحة على الدوام. وإن شابتها شوائبٌ صُنِّفَت في إطار لحن العامة، أي عجز مستخدمها عن امتطاء صهوتها.
أما عند الحديث عن المادة التعليمية في تعليم العربية لغير الناطقين بها، لترتفع إلى مستوى دور هذه اللغة، لتكون وسيلة فعالة في الحوار بين الحضارات، فيجب التأكيد على ارتباطها بالثقافة العربية الإسلامية وعدم تعارضها معها وحملها الصفة الإقليمية والطوابع المحلية لمصدرها وبيئتها. كما يجب على هذه المادة أن تأخذ بعين الاعتبار عناصر النص التعليمية المتمشية مع نفسية الدارس وحاجته ودوافعه ودرجة تقبله لها. كل هذا يُضاف إلى وجوب توخّي هذه المادة الأصالةَ والصدق في نقل الواقع، وحيازتها قبول المتعلم وتنميتها خبراته، بمسايرتها لاهتماماته ومراعاتها للفروق الفردية بين المتعلمين، كما يجب أن تتصف المادة بالشمولية والطابع الإنساني الفاتح المتفتح الذي يتخطّى حدود العرق والجغرافيا، ولكنه يحتفظ، على الدوام، بهويته المحلية التي لا تضع بينه وبين الآخرين حاجزاً.
أما من حيث دور المادة في إكساب المهارات فإنها تبدأ بإكساب مهارة الاستماع فالكلام فالقراءة ثم الكتابة، وذلك لتواليها على سلم الفكر الاستيعابي للمتعلم. وعلى أي حال، ففي تعلم العربية، بواسطة غير الناطقين بها، قدر من المغامرة والتضحية بالمقارنة مع تعلمهم للغتهم الأم، وذلك لأسباب كثيرة منها: الدوافع في كلتا الحالتين، واختلاف البيئة والوقت والمحتوى اللغوي، يضاف إلى ذلك فقدان النموذج والموقف التعليمي والتداخل اللغوي. هذا بالإضافة إلى الظرف الزمني والبيئي في الحالتين حيث عادة ما يتم اكتساب اللغة الأم أو اللغة القومية في الطفولة، فيكون اكتساباً كالنقش في الحجر، بينما يتم تعلم اللغة الثانية أو الثالثة التي لا ينطق بها المتعلم في سنٍ متقدمة نسبياً، وهي في هذه الحالة اللغة العربية. وهذا الفارق الزمني والبيئي هو الذي يعطي عملية تعليم اللغة لغير الناطقين بها خصائصها الموضوعية التي تميزها عن غيرها، وتتطلب من معلمها استعداداً خاصاً ومتميزاً على مستوى المعرفة والمقدرة على التواصل والوصول إلى الآخر، بتوازن لا يخل بأسس التكافؤ في الحوار المرجو.
كل هذه الخصائص سابقة الذكر، تجعل من تعلم العربية وتعليمها لغير الناطقين بها، يتراوحان بين المد والجزر وتتحكم فيهما عوامل عديدة ليس للغة بطبيعة الحال أي دور فيها. فواقع تعلم العربية وتعليمها لغير الناطقين بها تكتنفه صعوبات ومعوقات تحد من فعالية الجهود المبذولة في هذا المجال، ومن هذه المعوقات وأولها عدم توفر المعلم المؤهل، في كثير من الأحيان، وبخاصة خارج الوطن العربي، إذ أنه في غير موقع، لا تتوفر الظروف الكفيلة بإعداد المعلم العارف باللغة وأسرارها وتراكيبها وثقافتها وحضارتها وذلك لأسباب عديدة. ويتمثل ثاني المعوقات في ندرة الكتاب الجيد وهذا يعود أيضاً إلى عدم تنسيق الجهود المبذولة في هذا المجال وإلى عدم الصرف المناسب، من قِبل الجهات المسؤولة، على هذا الكتاب. أمَّا ثالث هذه المعوقات فيطل علينا من خلال ندرة طرائق التدريس الحديثة المخصصة لهذا النوع من التدريس وقلة وسائل الإيضاح كماً ونوعاً، بالمقارنة مع مثيلاتها في حالة تعليم العربية لابنائها، أو حتى تعليم بعض اللغات غير العربية لغير الناطقين بها.
إن طرح الصعوبات سابقة الذكر يجب أن يمثّل دعوة حقيقية لكل غيور على العربية وتدريسها على المستويين للناطقين بها أو لغيرهم. ويجب أن يمثل دوراً تحريضياً للقيمين على هذا المجال ليأخذوا بالوسائل الحديثة في تدريسها لغير الناطقين بها أُسوةً بالمناهج التي تتبناها لغات أخرى لها انتشار واسع في العالم غير الناطق بها، ومن هذه المبادرات التي يمكن أن تؤدي إلى تحسين مناهج تعليم العربية لغير الناطقين بها الاستفادة من مباحث علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم أخرى ذات صلة في تدريس اللغات وازدياد حضور علم النفس اللغوي في عملية التدريس وهو فرع هام من فروع علم النفس العام.
وأيضاً من الوسائل المعينة على تعليم اللغة لغير الناطقين بها أن يأخذ المعلم بعين الاعتبار إنسانية الإنسان وتركيباته العقلية والتعليمية واللغوية والثقافية والحضارية، والاستفادة من هذه التركيبات في تطوير مستواه التعليمي وتحسينه. فتعليم اللغة هو في نهاية الأمر مهمة مشتركة بين فردين أحدهما مرسل والآخر متلقّ في إطار الاتصال الإنساني والتواصل البشري. ومما يمكن أن يساعد على تعلم اللغة وتعليمها لغير الناطقين بها التنبه لأهمية العلاقة بين المعلم والمتعلم في هذه العملية الإنسانية. إذ أن التواصل يكون أكثر انسياباً وأقوى حضوراً وأشد فعاليةً، إذا كانت مسالكه الإنسانية تنساب فيها أداة الاتصال بسهولة وعفوية مع استعداد المرسل للعطاء والتضحية واستعداد المتلقّي للاستقبال والاحتضان والتحليل وإعادة الصياغة.
فاللغة وسيلة اتصال اجتماعية، على المستويين الفردي والجمعوي، تتم بين مرسل ومتلقٍ وهي موحدة جامعة، إذا تحققت بين طرفي العملية الاتصالية، إذ أن المرسل يركّب الرسالة من عناصر أفكاره ويرسلها عبر مسالك الاتصال المؤدية إلى المتلقي الذي يقوم بدوره بتفكيك رموزها وإعادة صياغتها بما يناسبه ويحقق له الفائدة المبتغاة منها. وتتم عملية الاتصال بمجملها عبر عمليات ذهنية وعضلية يقوم بها طرفا العملية. وتكون الرسالة رسالة مباشرة بين المرسل والمتلقي إذا كان الاتصال شفوياً. وتكون غير مباشرة إذا تمت كتابة أو سماعاً، عبر وسيط. فالمتلقي في تينك العمليتين، المباشرة منهما وغير المباشرة، يتلقى رموز المرسل بكل ما يشوبها من تشويه أو تحريف قد يلحق بها خلال مسلك التوصيل مما يجعل كمال العملية وتمامها، ككل فعل بشري، لا يخلو من نقص، أمراً يكاد يكون متعذراً.
ففي الاتصال الشفهي الثنائي قد يتبادل المرسل والمتلقي الأدوار، بالكلام والإشارة والملامح. أما الاتصال الشفهي الأحادي أو المكتوب فيكون كما يحدث عندما يسمع مستمع للمذياع أو يشاهد مشاهدٌ الإذاعة المرئية أو يقرأ قارئٌ كتاباً ففي هذه الحالة لا وجود لتبادل الأدوار لأن دور المرسل قد انتهى، ومن هنا تتباين درجات فعالية عملية تعليم اللغة وتعلمها لغير الناطقين بها، من دور إلى آخر، بتباين مسالك التوصيل، مما يؤثر بدوره على مقدار فعاليتها ونجاعتها، في المساعدة على تحقيق الحوار بين الحضارات، مع الآخر.
ويمكن لعملية الاتصال أن تمر بمراحل عديدة حيث تبدأ على شكل أفكارٍ في ذهن المرسل ثم تمر بمرحلة ترجمة الأفكار إلى رموز لغوية يصدرها المرسل عبر مسالك الاتصال إلى المستقبِل على الجانب الآخر، فيحللها هذا الأخيرُ ويفسرها ثم يعيد إنتاجها حسب حاجته إليها، وهذا يفسر ما يمكن أن يلحق بهذه العملية من تحويرٍ للأفكار وتشويه لها عبر عملية الاتصال البشري. ومع ذلك تقوم سلامة هذا الثلاثي المكوِّن لعملية الاتصال، من مرسل ومتلقٍ وبينهما عملية اتصال، بدور كبير وهام في حماية الرسالة من التشويه والتحوير. إذ أن مهارات الاتصال اللغوي الرئيسة الأربع من استماعٍ وكلام أو قراءة وكتابة، تتمتع كل منها بخصائص تميزها وتحدد دورها. فمهارتا الكلام والكتابة مثلاً تقلان رصيداً، على صعيد تكامل العملية الاتصالية، عن مهارتي الاستماع والقراءة، وذلك لأن المرسل أو المنتج في الحالتين الأوليين، لا يرسل أو ينتج إلا جزءاً من الرصيد الكلي الذي يمتلكه. أما المستمع أو القارئ فيتلقى، إذا حسُنت عناصر الاتصال الثلاثة، الرسالة كاملةً. ومن هنا يمكن القول بقدر كبير من الموضوعية أن مجالات الاتصال اللغوي أو استخدام اللغة أمور غير متوفرة للمتعلمين غير الناطقين بالعربية ما داموا مقيمين في بلادهم، ويتعلمون العربية فيها. وهذه من الصعوبات المضافة الملقاة على عاتق معلمها في غير موطنها، وإن قلل من شأن تلك الصعوبات كون المعلم من الناطقين بها.
فتعلم العربية بعيداً عن موطنها ومجتمعها يمكن أن يتأطر في إطار التعلم في الفصل وهذا التعلم يكون محدود الفاعلية ويهدف فقط إلى تدريب المتعلم على مهارات تساعده على توسيعها فيما بعد في مجالات الاتصال الحقيقية. وفي هذه الحالة يفقد المتعلم كثيراً من عناصر وسيلة التوصيل، وتضاف معوقات جديدة إلى تعلمه اللغة. وقد يتعذر حدوث الاتصال الفعلي والصحيح في تعليم العربية لغير الناطقين بها لاعتبارات كثيرة منها: أن معلّمي اللغة في غير موطنها هم في الغالب معلمون وطنيون، أي من أهل البلاد، وهم بالطبع، غير ناطقين بالعربية، وقدرتهم على الاتصال اللغوي الفعال بالعربية تقلّ بلا شك عن قدرة المعلمين الناطقين بها، بما لديهم من حسٍ لغوي وفهم دقيق لاستخداماتها، الأمر الذي يفتقده غير الناطقين بها، ناهيك عن دور السليقة والتشبع بالثقافة في مرحلة الاكتساب لدى المعلم الناطق بها، وهو أمرٌ لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، مهما جهد المتعلم في ذلك. كما أن الاتصال الفعلي يمكن أن يتعذر في الفصل، لأن العملية تتم في إطار محدد ومرسوم ومفروض على المتعلم، يفتقد إلى التواصل والتطبيق. كما يمكن أن تضاف إلى فقدان عملية الاتصال عناصر أخرى تجعل مهمة التعلم في الفصل الأجنبي أمراً صعباً ومحدود الفعالية. ومن هذه العناصر فقدان عملية الاتصال داخل الفصل إلى كثير من عناصر الاتصال اللغوي التي تشمل علاقة اللغة بثقافتها وعلاقة اللغة بمجتمعها. إلا أنَّ الخسارة على المستوى الثقافي قد لا ترتفع إلى ما هي عليه في المستوى اللغوي، وإن كان المستوى اللغوي هو الأساس لإنجاح مهمة تعليم اللغة كوسيلة هامة في تنشيط الحوار بين الحضارات، لأن المتعلم إن لم تشده اللغة إليها برباط الألفة والقبول، وهذا لا يتحقق إلاَّ بنجاح العملية التعليمية واستيعاب المتعلم للمادة المقدَّمة إليه، فكل ما يتعلق بها يصبح مؤقتا ولا يبقى على حال.
ومن هنا تنبع أهمية التفات الجهات المعنية بالأمر لهذه المعطية، وتسهيل الأمر للمتعلمين، كي يتمكنوا من التواصل مع موطن اللغة ومعايشة أهله، لسد تلك الثغرات التي تُضعف عملية التعليم، وما يترتب على ذلك الإضعاف من آثار لا تخدم ما نصبو إليه من حوار بين الحضارات.
كما يضاف لهذه الصعوبات أن التعليم في الفصل، وبخاصة إذا كان المعلم غير ناطق بالعربية، يقوم فقط على المحاكاة والتذكرة للقوالب الجاهزة، على مستوى اللغة والثقافة، وهي عناصر غير كافية لتسهيل عملية الاتصال لأن هذه العملية لا تتم فقط بالمحاكاة والتذكرة للقوالب الجاهزة، وإنما تتم أيضاً، من خلال عمليات فهم التراكيب اللغوية واستيعابها معنىً واستعمالاً، في سياقها الاجتماعي والثقافي. ومن هنا فإن اكتساب القدرة على الاتصال بين معلم ناطق بالعربية ومتعلم غير ناطق بها، كما هو الحال الذي نحن بصدده، تقوم أساساً على مراحل تتداخل فيها عمليات الصواب والخطأ، إذ أن تكرار عمليات تصويب الخطأ وتشريح مكونات الظاهرة اللغوية، في حدود ما تسمح به اللغة وخصائصها، تسرِّعُ في عملية التعلم، وبخاصة إذا كانت عمليات التصويب تأخذ بعين الاعتبار تكامل عناصر عملية الاتصال بين المرسل والمتلقي، على طريق الهدف المنشود، من العملية التعليمية، نحو تعليم اللغة تعليماً يأخذ بعين الاعتبار تحقيق عناصر الاتصال اللغوي، في إطار المواقف الاجتماعية التي تتفق مع تطلعات الدارس وخصائصه وثقافته وتستجيب لمتطلبات الحياة المعيشة، واكتساب القدرة على التعبير عن حاجاته الضرورية.
ويُنصَح معلم العربية لغير الناطقين بها بتدريب طلابه على الاعتماد على خبراتهم وما لديهم من تجارب لغوية ومعيشية، وتطوير هذه الخبرات في حدود امكانياتهم وقدرتهم على الاستيعاب وعدم تحميلهم فوق ما يحتملون، لئلا تخرج العملية التعليمية عن سياقها، وتضل طريقها. كما يُنْصَح المعلم بقبول مستويات متفاوتة من الطلاب في التعبير عن تجاربهم تمشياً مع تفاوت القدرات الإنسانية عند شخصٍ وآخر. كما يُنصحُ المعلمُ أيضاً بمناقشة المفاهيم اللغوية ودلالتها عند المتعلمين والتأكد من فهمهم لها فهماً صحيحاً. ومن الأهمية بمكان أيضاً، أن يثق المعلم في قدرة طلابه، أياً كانت مكوناتهم الثقافية والإثنية والاجتماعية على تعلم العربية كلغة ثانية أو ثالثة، والتخلّص من المعتقدات التي تدمغ بعض الأفراد أو الجماعات، بعدم القدرة على تعلّم لغة ما، أو ترويض بعض ظواهرها. ومن المهم أيضاً أن يعمل المعلم على تحقيق قدرٍ من التآلف على الصعيد الإنساني والاجتماعي، بينه وبين طلابه مما يجعل عملية الاتصال أكثر قبولاً وأكثر انسياباً في تدفقها منه وإليهم، وبالعكس، ومن هنا تأتي أهمية تأكد المعلم من سلامة عناصر عملية التوصيل، وبخاصة تلك المتعلقة بجانبها العضلي، كالتأكد من وضوح الصوت وسلامة نطقِ مخارج الحروف وتمييزها وسلامة الإعراب ودقته، والتأكد من عدم وجود مشوشات في أيٍ من مراحل التوصيل الثلاث، والعمل على إصلاحها في حدود معرفة المتعلمين وقدرتهم الاستيعابية. وفي هذه الحالة يمكن أن يعمد المعلم إلى توضيح الفروق بين الكلمات المتشابهة والظواهر اللغوية المتماثلة لكي يجعل من عملية التعلم لدى طلابه أكثر واقعية وأقرب إلى النفوس، وهي عملية تتطلب منه استعداداٌ عالياً ومعايشةً شمولية للظرف اللغوي، في إطاره الثقافي والإنساني، فيما وراء نقل الأمثلة المُغلَقة أو المبتذَلة، أو التي لا يستجيب المتعلم إليها.
وكل ذلك من شأنه، لو كُتِب له النجاح، أن يقوّي من حضور اللغة ورصيدها الثقافي في نفس المتعلم ويجعله أكثر استعداداً لتقبّل مكوناتها الثقافية والحضارية، كما تمكنه، بعد استقرار المادة في ذهنه وقبوله لها، من مقارنة المتشابهات والتباينات في العربية بمقارنتها مع لغته الأم أو لغته القومية أو لغته الثالثة وأبعادها الثقافية والحضارية، ليصل بقناعاته هو، ورغبته، إلى ما تهدف العملية التعليمية إلى توصيله إليه، بحيث تكون عملية التوصيل في هذه الحالة أنجع وأصدق وأقرب من نفس المتلقي، بل ومتبنّاة، دون كره أو إكراه، من قبله.
وفي ظل تبنّي المنظمات الدولية، بوصفها وعاء السلام والأمن في العالم، الدعوةَ لتيسير سبل حوار الحضارات، سيما اليونسكو التي أعلنت السنوات 2002 – 2007 هدفاً للعمل على تحقيق تلك الدعوة، نختم القول في دور تعليم العربية لغير الناطقين بها، في إسبانيا، في تنشيط الحوار بين الحضارات، بأنه يمكن للحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، كفعل تعايش إنساني وثقافي، تطور في شبه الجزيرة الأيبيرية، أن تكون، بكل مكوناتها العربية والإسلامية، وأطيافها المحلية، مادة تعليمية هامة، لتعليم العربية لغير الناطقين بها من الإسبان، وقاسماً مشتركاً بين الحضارتين، وجسر تواصل وتكامل مع الثقافة الإسبانية اللاتينية المسيحية، على طريق حوار فعّال ومتوازن وموسع للحضارة العربية الإسلامية مع الحضارة الغربية المسيحية، على اختلاف ثقافاتها، مع مراعاة الخصوصيات المحلية لمكونات هذه الثقافات، كما يمكن توظيف حضور العنصر الأندلسي، وحتى الإسباني، في ثقافتنا المعاصرة ومثيلتها الإسبانية، للمساعدة على إحياء حالة التلاقي والمعايشة، في الأذهان، كمادة تُبنى عليها قواعد حوار الحضارات المعاصر مع الغرب، أو مع بعضه.
وعلى أي حال فالطريق إلى حوار الحضارات مع الغرب ليس مفروشاً بالحرير والورود، وإنما بسبب المعطيات المعاصرة للأوضاع السياسية، في ظل اختلال موازين القوى، لصالح النفوس الضعيفة، قد يكون من المهام الصعبة، إذ أن هذا الغرب، بسبب جبروت نخبه الحاكمة، وقوتة التدميرية الغاشمة، وهيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية على العالم، بما فيه القارة الإسلامية، لا يعير أيَّ انتباه للآخر، ولا على أي مستوىً، أخلاقياً كان أم إنسانياً، إذ أنه، بعيون تلك النُّخَب المفلسة الشرسة، والطاغوتية الفاسدة، ينظر للعرب والمسلمين نظرة تعالٍ واحتقار واستخفاف، تطلق يد النفوس الضعيفة، دون عقال، لتفتك بالجسوم الضعيفة. ومن هنا تتداخل المفاهيم، وتنقلب الموازين، وتتباين المكاييل، ليغدو الواقع المعيش على غير حال، فلا تفوت تلك النخب الحاكمة في الغرب الحيلة ولا تعوزها الوسيلة لإلصاق مثالبها وجرائمها بالإسلام وأهله، ووصف فعل الدفاع عن النفس والأرض، والهوية والعرض، في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، كما السعي للاستقلال عن الهيمنة الأجنبية، في إيران، بالإرهاب.
وذلك لا يأتي من فراغ، وإنما هو مبني على مقدمات عنصرية واستكبارية، تسكن نفسية اليمين المسيحي المتصهين بواشنطن، وتنكر وجود الآخر إنكارها نبوة نبيه ودينه حقوقه، لأنه أولاً في وضع مادي لا يمكّنه من الدفاع عن نفسه، ولأنه ثانياً يُصَنَّف عدواً، من منظور يعادي العرب والمسلمين، لأسباب فاسدة، مبنية على أسس أيديولوجيةٍ واهمة، وعدوانية قاتلة، واستغلالية عنصرية، تهدف إلى وضع اليد على مقدرات الآخر وتدميره، كياناً وكينونة، ومحو هويته أو، في الأقل، مسخها. وفيما حدث لمخيم جنين للاجئين في فلسطين المحتلة، ولمدينة الفلّوجة في العراق المحتل أيضاً، العبرة لمن أرادها.
ومن هنا تتبين أهمية أن يقوم الحوار أساساً على مضامين ثقافية وحضارية، ويتجلّى دور تعليم العربية لغير الناطقين بها، لأن في ذلك تكمن نقاط قوتنا، نحن العرب والمسلمين، وتتجلى هويتنا القرآنية في أسمى معانيها.
فبينما تقوم السياسة اليومَ، خلافاً لما رآه فيها الفيلسوف الإسلامي أبو نصر الفارابي، على الاستكبار والقوة والغدر، تقوم الثقافة، على الأخلاق والتفاهم والحوار، وبهذا تتفتح مغاليق ظاهرة العنف التي تجلد إدارة واشنطن بسياطها هذا العالم، وتتبدى أهمية أن نسعى نحن المسلمين إلى حوار الحضارات، ونحن فيه الجانب الأعز، المشهود له بالتعايش مع الآخر، في الوقت نفسه الذي نسعى فيه للأخذ بأسباب القوة، وإعدادها، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، إرهاباً للغرب المستكبر الذي لم يترك، بصرعاته الاستعمارية المتلاحقة، وأحدثها (صرعة العولمة)، فرصة إلاَّ واقتنصها، للنيل من ثقافتنا الإسلامية، باعتبارها القوة الأعظم التي نملكها ولا سبيل له في مواجهتنا، ما دامت في صدورنا، مهما خبُثت نفسُه، وفتكت بنا أسلحته،
وفيما يتزعمه اليومَ الشيطانُ الأكبر، على صاحب التسمية رضوان الله وسلامه، من عدوان فرنجي، وقد أعلنه مسيلمة العصر «حرباً صليبية!» على العرب والمسلمين، أرضاً وإنساناً، وثقافةً وحضارةً، الدليلُ على حقيقة الأيديولوجيا الصهيوفرنجية التي تحرك مَن بيدهم القرار في ذلك الغرب، تحريكاً نرى آثاره الدموية البغيضة في عولمة القتل والتدمير، والاغتصاب والنهب، وإثارة الفتنة والطائفية، وإفشاء المفسَدَة والرذيلة، وفرض الطغاة والعملاء والجواسيس، على البلاد والعباد، في فلسطين والعراق وأفغانستان، وبصورة أو بأخرى، في سائر أقطار القارة الإسلامية، إلاَّ مَن رحم ربي.
ومن هنا يغدو تأسيس الحوار مع الغرب، منذ البداية على قواعد الندية والمنطقية، ذات المنطلقات الثقافية، في ظل توافر عناصر الردع وصناعة القوة لدينا، مدخلاً صحيحاً لإنجاحه، إذا قدر له أن يبدأ.
الهوامش:
- لأن فعل الحضارة الإنسانية واحد لا يتجزأ ولا يتفاضل بعضه على بعضه، وأكبر من أن يختزله أو يستأثر به، دون غيره، عتصري مريض أو نرجسي أشد مرضاً.
- في ديوانه الشرقي
- في كتابه عن محمد وتركيا
المصدر: http://www.iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=668