مساجلة فكرية مع العلمانيين
المحـــــاورة
مساجلة فكرية مع العلمانيين
إعـــــــداد
الأســــتاذ الدكـــــتور/
صــلاح الصـــــاوي
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد
فإن حق الإنسان في التفكير الحر بحثا عن الحق وتحريًّا للصواب من آكد الحقوق التي كفلتها للإنسان بوصفه إنسان الشرائع السماوية كافة ، وظاهرتها على ذلك كافة الأنظمة الوضعية جميعا ، ولقد كان للإسلام القدح المعلى في ذلك عندما ارتقى بهذا الأمر من دائرة الحق إلى دائرة الواجب ، وجعل من التفكير الحر فريضة دينية وضرورة عقلية ، وتوجه بآياته إلى أولي الأبصار وأولي الألباب وأولي النهى ، وإلى الذين يتفكرون ويتدبرون ويعقلون ويوقنون ، وخاطب عتاة المشركين بقوله :
• (سبأ : 46)
وهذا التفكير الحر قد يثير أسئلة ويطرح متشابهات ، فلا بد من التواصل مع الآخرين لتحليلها وإلقاء الضوء عليها وتقليب النظر فيها من مختلف الوجوه ؛ ومن هنا تأتي أهمية الحوار باعتباره الطريقة المثلي للإقناع والاقتناع ، والذي لا بديل منه في كل حركة بعث جادة تستهدف تجديد الفكر وبلورة الحقائق وترتيب الأولويات وإبلاغ الرسالة إلى الآخرين .
وآكد ما في الحوار أن يحرص كل فريق على تحرير مَحِلِّ النِّزاع بدقة ، فإن هذا هو الأساس الأول لحسم الخلاف بين المختلفين ، وقد روى أن سقراط كان يرى أن كل خلاف بين المتجادلين أساسه جهل بموضع النزاع عند أحد الطرفين وأنه لو حرر لكليهما لحسم الخلاف وتم الوفاق .
ومن أدب الحوار حسن الاستماع ! فإن المتحدث البارع مستمع بارع كما يقولون ، فيجب أن يعطي كل فريق لنفسه فرصة الاستماع الكامل لما يطرحه الطرف الآخر ، وألا يغلق دونه قلبه وسمعه ابتداء ، فقد ينطوي حديثه على شيء من الحق مهما صغر ، بل إن الباطل المحض لا يروج إلا مع أثارة من الحق يخفي بها عواره ويشغب بها على الناس !! فإذا التقط أحد الفريقين ما لدي الآخر من الحق وانطلق منه فربما أدى ذلك إلى وفاق أو مهد السبيل إليه.
ولقد جاء الوليد يجادل النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الدين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « قل يا أبا الوليد أسمع » ولم يقاطعه بكلمة واحدة حتى فرغ ، فلما فرغ قال له : « أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟ » ولم يبدأ النبي جوابه حتى استوثق من أنه قد نثر كنانته وألقي بكل ما عنده .
ومن آدابه عدم التعصب وهو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل ، فإن التعصب زراية بالعقل ، وبطر للحق ، ومراغمة للمنطق ، واعتساف للبرهان ، وأصحابه أسارى وإن بدوا في صورة الطلقاء !! وهذه الروح يجب أن يحرص الطرفان على تأكيدها من البداية ، وأن يبدى كل منهما استعداده لقبول الحق متى ظهرت أمارته وسطعت حجته، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، وذلك مهما كان يقين كل منهما أن الحق في جانبه ، وأن الباطل في الجانب الآخر ، فإن المنصف ينبغي أن يكون في طلبه للحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضــالــة على يده أو على يد من يعاونه ، ويرى رفيقه معينا لا خصما ، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهر له الحق ... فإنه بهذا يبرأ من الكبر الذي هو بَطَر الحق وغَمْط الناس ، والذي لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه .
ومن فوائده أن يقف كل من الطرفين على ما لدي الآخر وأن يدرك أطروحاته بدقة ، وهذا يعد في ذاته كسبا لا يستهان به ، وليس بالضرورة أن يفضي إلى نتيجة عاجلة ، ولكنه قد يبذر بذورًا تكون قابلة للإنبات في المستقبل ، وقد تعلق منه بالنفس فكرة ينقدح منها شعاع من النور في يوم من الأيام ، فلا ينبغي لأي من الطرفين أن يتعجل قطف الثمار وإنما يكتفي ببسط ما يعتقد أنه الحق ويفوض الأمر في مآلات ذلك إلى تصاريف الأقدار !
والقضية التي يدور حولها هذا الحوار هي أخطر قضية شهدتها الساحة السياسية وتركت عليها آثارًا بالغة الامتداد والفعالية ، وتراوح الساسة فيها ما بين مؤمن بها إيمانه بالله و رسوله ، وما بين ممعن في عدواته لها زاعمًا أنها تمثل امتدادا للطغيان الكنسي وتجديدا لمحاكم التفتيش !! وبينهما مواقف متفاوتات ألا وهي قضية تطبيق الشريعة الإسلامية وليس غريبا أن يتعصب لهذه القضية السواد الأعظم من الناس لأنها دينهم الذي به يدينون ، و لما يرون فيها من العودة إلى الآصالة ، وتغلب الموروث على الوافد ، واستكمال السيادة التي انتهكت على يد قوافل المستعمرين ثم انتقصت من خلال ما ورَّثوه لنا من هذه القوانين .
وليس غريبا أن يتمارى في هذه القضية فريق آخر لم يستق معارفه عن الشريعة إلا على يد المستشرقين ، ولم ير لها واقعا حيا يرد عنها سهام الحاقدين ، ويجدد الثقة بها في قلوب المرتابين ، وزاد في فتنة أغلاط وتجاوزات يتورط فيها كثير ممن يحملون لواءها من المعاصرين .
لابد إذن من تحرير محل النزاع، ونقل مقولات كل فريق إلى الآخر بكل دقة وموضعية ، وطرح القضية على بساط الحوار العلمي الرفيع الذي لا يتدنى إلى سفاهة ، ولا يصادر الحق في التفكير ، ولا يستأثر وحده بالحق في الدفاع عن قضيتة ويضن به على الآخرين ، ولا يجمع في يديه بين سلطة الاتهام وسلطة المحاكمة ، أو الحق في النطق بالحكم والحق في تنفيذه ، الحوار الذي يستهدي في كل مراحله بهذه الآية الكريمة التي تحدد منهج الحوار حتى مع المشركين :
. ( سبأ : 24-26)
ومن أجل هذا كانت هذه المحاولة التي نرجو أن تكون حلقة هامة في سلسلة حوار هادىء طويل المدى يعرض تساؤلات العلمانيين على الإسلاميين، ويبسط أطروحات كل فريق بعيدا عن التراشق بالتهم والمناكر، والتقاذف باللعن والتكفير، وفي إطار من الحرص المتبادل على أن يستمع كل فريق إلى الآخر، وأن يتفهم مقولاته بدقة، تحدو الجميع الرغبة في تحري الحق والمصلحة، ويجمعهم الاتفاق على الإصغاء إلى صوت العقل والمنطق والحجة السديدة، والحرص المتبادل على احترام مشاعر الآخرين، والتأكيد المتبادل على عدم التعجل في الأحكام أو التعجل في قطف الثمار فقد تبسط الفكرة اليوم وتنقدح معالمها في النفس بعد حين من الدهر، ويغمرهم العزم على مواصلة السير في هذا الطريق الذي لا بديل منه إلا الفتن الضاربة التي تلتهم الأخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، ولا يستفيد منها إلا خصوم هذه الأمة الذين يرقبون الأحداث من وراء ستار يوجهون المسار ويقطفون الثمار !! إن هذا البلد هو سفينتنا جميعا، وإنه يتعرض الآن لعاصفة عاتية، وإن مسئولية المحافظة على استقراره وأمنه منوطة بأعناقنا جميعا ولن يعذرنا التاريخ ولن تغفر لنا الأجيال القادمة إن نحن فرطنا في المحافظة على هذه السفينة التي إن تكاتفنا جميعا على إنقاذها نجت ونجونا جميعا، وإن فرطنا في ذلك غرقت وغرقنا جميعا.
إننا نرجو أن يكتب لهذه المحاولة النجاح، وإن معيار نجاحها في تقديرنا أن تستمر، وأن تُسلِّم كل حلقة إلى التي تليها وأن ترسخ من خلالها قيم الحوار ومنهج التعامل بين ذوي القربى، وأن يحتفظ كل منا بسعة صدره وعفة منطقه إلى أبعد مدى، وألا تخرجه الحدة إلى ما يكره ويكرهه الآخرون، إننا بهذا - وبهذا وحده - يمكن أن نشترك في صياغة مشروع حضاري يجمع بين الأصالة والتجديد، ويمزج بين السلفية والعصرية، فلا يتنكر للموروث ولا يستعبد للوافد، ولا يجتهد في مراغمة النص، ولا يحبس نفسه على وجه من وجوه دلالته، لا يؤله العقل على حساب النص، ولا يهدر دور العقل في حسن الاستفادة من النص، إذا خاصم لم يفجر، وإذا أحب لم يتعصب، شعاره الوسطية والاعتدال، ومنهاجه المقاربة والسداد، فهو بين الغلاة الذين يجمحون وبين الجفاة الذين يفرطون.
والله المسئول أن يكلل هذه المحاولة بالنجاح، وأن يجعل منها مدخلا إلى إزالة اللبس، وتقارب المواقف، وترتيب الأولويات، وتطوير لغة الخطاب بين الفريقين، والوصول بسفينة هذه الأمة إلى المرفأ المنشود ! إنه ولى ذلك والقادر عليه آمين.
مفترق الطرق
تشهد الساحة السياسية في هذه الأيام حضورا قويا للتيار الإسلامي الذي يتمحور حول قضية تطبيق الشريعة، ويتناقض تناقضا جذريا مع بقية الاتجاهات السياسية، فهو لا يطرح نفسه كقيادة بديلة لنظام قائم، بل كنظام بديل يستأثر وحده بالشرعية، فما حقيقة الصراع القائم بين الفريقين؟
- نستطيع أن نميز في الصراع الذي يجري على الساحة السياسية بين اتجاهين رئيسين:
أحدهما : اتجاه علماني ( ) يفصل بين الدين والدولة أو يفصل بين الدين والسياسة ، ويرد الحكم إلى الدستور والقوانين الوضعية ، ويعتمد المصلحة المجردة أساسا للحكم والتشريع ، والمواطنة وحدها أساسا للانتماء ، ومعقدا للولاء والبراء .
والآخر : اتجاه إسلامي يقرر أن الإسلام دين ودولة ، عقيدة وشريعة ، ويرد الحكم إلى الكتاب والسنة وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد ، ويعتمد المصادر المقررة في الشريعة أساسا في الحكم والتشريع ، ويتجاوز في انتمائه حدود الإقليمية الضيقة إلى عالمية الإسلام ، وإن كان لا ينكر حق أهل الكتاب في المواطنة في إطار قاعدة : لهم مالنا وعليهم ما علينا ، شريطة التزامهم بما يلتزم به سائر المسلمين من الولاء للدولة الإسلامية ، وعدم النيل من مقدساتها أو حرماتها بسوء .
وقد تتعدد الفصاءل داخل كل من هذين الاتجاهين وتتفاوت في بعض التفصيلات والمسائل الجزئية ولكنها لا تخرج في الجملة عن أحد هذين الإطارين .
ولكن ... ألا تظن أن هناك مبالغة في تصوير الموقف على هذا النحو ؟ إننا نعيش جميعا في مجتمع مسلم، والتدين هو السمة الغالبة على هذا المجتمع وللدين منزلة خاصة في قلوب أبنائه، فلم لا يكون الصراع بين تدين هادئ عاقل متزن، وبين تدين عنيف متطرف يريد أن يفرض وصايته على الآخرين ولا يقبل بمنطق الحوار والمجادلة بالحسنى؟!
- لا اعتقد أن هناك مبالغة في هذا التصوير لأننا لا نتحدث عن الأغلبية الصامتة أو عن عامة الشعب الذي لا نشك لحظة في تدينه الفطري وحرصه على تأكيد هويته الإسلامية على الجملة ، ولكننا نتحدث عن القيادات الفكرية لهذه الاتجاهات السياسية ، وما دار ويدور بينها من صراعات تمخضت عن بلورة هذين الاتجاهين.
وتستطيع أن ترجع إلى أدبيات هذه الاتجاهات ، وإلى تقارير المحللين السياسيين ومراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والندوات العلمية المتخصصة في الشئون السياسية وإلى دور النشر وغيرها لتتحقق بنفسك من هذه الحقيقة ( ).
و العلمانية أو الفصل بين الدين والدولة التي يتمحور حولها الفريق الأول هى القاسم المشترك بين فصائله جميعا ولا يمل كثير من رواده من المجاهرة به و إعلانه بغير مواربة وإن كان منهم من يلجأ إلى المناورة والالتفاف ، ويتجنب المواجهة السافرة وتكاد تتفق أدبياتهم على أن القول بأن الإسلام دين ودولة من المفاهيم الخاطئة التي ألصقت بالإسلام ، وأن الإسلام الدولة كان عبئا على الإسلام الدين ، وأن من يدَّعون بأن الإسلام دين ودولة إنما ينسبون إلى رسوله وإلى الإسلام ما هو برئ منه ، ويرفعون تلك المقولة لا حُبًّا في الدين ولكن تسترًا وراءه لتحقيق مآرب سياسية !!
وشيوع هذا المعني في كتابات العالمانيين بَيِّنٌ لا يخفي على أحد ( )
المقصود بتطبيق الشريعة
إذا كان الاتجاه الإسلامى على اختلاف فصائله يتمحور حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ، فما مقصوده بالشريعة على وجه التحديد ؟ الحدود مثلا ؟
- الشريعة هي كل شرعة الله لعباده من الدين ، فهي بمعناها العام تشمل كل ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات .. ، وبمعناها الخاص تطلق على الأحكام العملية من العبادات والمعاملات ...
والشريعة بهذا المعنى الخاص هي التي كانت تتفاوت من رسالة إلى رسالة وفق ما اقتضته الحكمة الإلهية كما قال تعالى : . (المائدة : 48 ) ثم استقر الأمر على شريعة الإسلام التي ختم الله بها الشرائع ونسخ بها الملل وجعلها دينا واجب الاتباع إلى قيام الساعة .
قال تعالى : • (الجاثية : 18 )
فالمراد إذن بتطبيق الشريعة هو الشريعة بمعناها العام الشامل الذي يترادف مع كلمة الدين ، فىكون المقصود حراسة الدين عقائد وأخلاقا وأحكاما ، وسياسة الدنيا به 0
ولهذا اتفق أهل العلم على مدار التاريخ الإسلامى كله أن وظيفة الحكومة الإسلامية تتمثل في حراسة الدين وسياسة الدنيا به .
أما اختزال الشريعة في الحدود فقط فهو محاولة للتشويش أرجو أن يترفع عنها المنصفون، فما الحدود إلا باب من أبواب المعاملات ، وما المعاملات إلا قسم من أقسام الشريعة بمفوهمها العام والشامل ، ورحم الله امرءًا قال خيرا فغنم أوسكت فسلم !
أى الشرائع يريدون ؟!!
ولكن الواقع العملي يقول : إن هناك شرائع متعددة ، فهناك شريعة الخوميني في إيران ، وشريعة النميري في السودان ، وشريعة ضياء الحق في باكستان ، وشريعة القذافي في ليبيا ، وشريعة صدام في العراق ، وشريعة الوهابيين في السعودية ، فأي شريعة من هذه الشرائع يريدها التىار الإسلامي ؟ ولماذا؟ وإذا كانوا لم يتفقوا على شريعة فيما بينهم فكيف يدعوننا إلى أمر مبهم لم يتفقوا على مضمونه بعد ؟
- ليست هناك شرائع متعددة إنما هي شريعة واحدة بعث الله بها نبيه محمدا وألزم أتباعه بالحكم بها والتحاكم إليها إلى قيام الساعة ، ولكن هذه الشريعة تشتمل على نوعين من الأحكام :
أولها : المحكم : وهو ما كان موضعا لدليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح .
والثاني : المتشابه : وهو ما تفاوتت فيه الاجتهادات وتعددت فيه الآراء لعدم قطعية أدلته ثبوتًا أو دلالة .
فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هى الشرع المحكم الذي ليس لأحد خروج عنه ولا منازعة فيه من شذ عنه فقد شذ إلى النار ، ومن فارقه فقد فارق الجماعة وافتتح باب ضلالة ، أما ما وراء ذلك من الاجتهادات فهي الشرع المؤول والأصل هو المقابلة بينها لاختيار أقواها حجة وأرجاها تحقيقا لمصالح المسلمين ، ومنها ما تتغير في الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال ، ولقد كان للشافعي مذهب في العراق وأصبح له مذهب في مصر ، ولكن هذا التغيير ضمن قواعد وأطر منضبطة يعرف ذلك المتخصصون، وليس لمجرد الهوى والتشهي ، لأن حقيقة التكليف : إخراج المكلف عن داعية هواه إلى طاعة مولاه .
وعلى هذا فالإسلام الذي ننشده وينشده كل مسلم هو إسلام الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة ، هذا هو المحكم الذي لا جدال فيه ولا مماراة ، أما ما وراء ذلك من الظنيات والمتشابهات ، فهو من موارد الاجتهاد التي لا يضيق فيها على المخالف ، ولأهل العلم في كل عصر أن يرجحوا ما تقتضيه الأدلة ويحقق المصلحة ، ولا حرج أن تتفاوت هذه الاجتهادات من قطر إلى آخر حسبما تقتضيه المصلحة ويرفع الحرج عن المكلفين ، بل و أن يعاد النظر فيها من حين لأخر كلما طرأت ظروف وتجددت أحوال تقتضي هذه المراجعة حتى تبقى دائما في هذا الإطار .
فلسنا ملزمين باجتهاد بعينه من هذه الاجتهادات ، ولا بتجربة بعينها من هذه التجارب ، ولكن يقال : ما ثبت حكمه بدليل قاطع من الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو شريعة محكمة لا يحل لأحد أن ينازع فيه كائنا من كان لقوله تعالى :
• • • ( النساء : 115 ) وقوله تعالى : • • (الأحزاب: 36 )
وما كان من مسائل الاجتهاد فلعلماء كل دولة أن يقابلوا بين الآراء المختلفة لاختيار ما ترجحه الأدلة ، وتتحقق به المصلحة ولا تثريب عليهم في ذلك ولا حرج ، مادام هذا الاجتهاد قد صدر من أهله وعلى و جهه . (*)
والعجيب أن يجعل بعض الناس من مثل هذه المرونة والتوسعة مادة للإرجاف والتشويش وهي بذاتها من أعظم حسنات هذه الشريعة ومن عوامل خلودها ووفائها بمصالح العباد في مختلف الأزمنة والأمكنة حيث تستطيع الأمة أن تقتبس من هذه الاجتهادات في كل عصر ما يرجحه الدليل وتقتضيه المصلحة بواسطة أهل الحل والعقد من علمائها الثقات العدول ، فهو بذاته رحمة بالأمة وسعة عليها ، إذا ضاق عليها الأمر في مذهب التمست السعة في مذهب آخر ، يحدوها في ذلك قوة الدليل وكفالة المصلحة ولا حرج عليها في ذلك ولاتثريب .
ولقد شهد بهذا المعنى المنصفون من غير المسلمين ففي المؤتمر الثاني للمجمع الدولي للحقوق المقارنة الذي عقد في كلية الحقوق بجامعة باريس تحت اسم ( أسبوع الفقه الإسلامي ) قرر المؤتمرون فىما قرروا في نهاية المؤتمر أن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية ، هي مناط الإعجاب ، وبها يستطيع الفقه الإسلامي من أن يستجيب لجميع مطالب الحياة المدنية ، ويأملون أن تؤلف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامي( ) .
ومن ناحية أخري فإن هؤلاء العالمانيين القائلين بهذه الشبهة يكيلون بكيلين ويزنون بمعيارين ، فعندما يتحدثون عن الإسلام يشغبون عليه باختلاف مذاهبه وتعدد تجارب تطبيقه ، وعندما يتحدثون عن مذاهبهم الوضعية وعقائدهم السياسية لا يكادون يتفقون على تعريف محدد لما ينادون به من هذه النظريات ، ولا يجدون في تعدد مدارسها وتباين مذاهبها مانعا يمنع من تطبيقها ، أو يثني عزمهم عن المناداة بها والدعوة إليها؟
ولنتأمل هذه العبارة عن الماركسية وهي لأحد الماركسيين المعروفىن وهو مكسيم رود ستون الكاتب اليهودي الفرنسي يقول : « الحقيقة أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات ، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة ، ومن اليسير أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة !! إن هذا التراث كالكتاب المقدس [ أسفار التوارة والأناجيل وملحقاتها ] حتى الشيطان يستطيع أن يجد في نصوصا تؤيد ضلالته !!» ( ).
ولنتأمل هذه العبارة عن الاشتراكية لمكسيم لورا يقول : « لا شك في أن هناك اشتراكيات متعددة ، فاشتراكية بابون تختلف أكبر الاختلاف عن اشتراكية برودون ، واشتراكيتا سان سيمون وبرودون تتميزان عن اشتراكية بلانكي ، وهذه كلها لا تتمشى مع أفكار لويس بلان ، وكابيه ، وفوربية ، وبيكور. وإنك لا تجد داخل كل فرقة أو شعبة إلا خصومات عنيفة تحفل بالأسى والمرارة » ( ) .
وليست الديموقراطية بأقل حظا من الاشتراكية في هذا التعدد ، فنحن لا نكاد نجد مذهبا في هذا العصر ليبراليا أو اشتراكيا أو شيوعيا إلا ويدعي أن ديموقراطيته هى الديموقراطية الحقة ، وأن ما عداها زائف ومدخول !
ولا يخرجنا من هذا الجدل وهذا الغموض الاحتكام إلى معايير خلقية أو روحية لأن كل هذه المذاهب تدعى الحرص على الثالوث الفرنسي : الإخاء و الحرية والمساواة ، ولا الاحتكام إلى معايير اجتماعية موضوعية لأن كل مذهب سيبرز معياره فالماركسيون يبرزون المعيار الاقتصادي ، والليبراليون يبرزون المعيار السياسي ويميزون ديموقراطيتهم بالحرية السياسية ويتحدى الصينيون هؤلاء وهؤلاء ويبرزون ما يسمونه بالديموقراطية الجديدة ، كما يتحداهما الثوار الأسيويون والأفريقيون من خلال ما يسمونه بالديموقراطية الاشتراكية وهكذا .
بل هذا المعني لا يجحده العالمانيون المعاصرون الذين يرفعون العلمانية في وجه الدعوة إلى تطبيق الشريعة فهم يقرون أنه لا يوجد مفهوم واحد في تطبيق العلمانية فالعلمانية في بريطانيا مختلفة عنها في فرنسا ، وكلتاهما مختلفتان عن العلمانية في البلاد الأخري التي تأخذ بها ، وهذا شأن الديموقراطية التي تختلف من بلد إلى آخر ، في انجلتر الملك هو رأس الدولة ورأس الكنيسة معا ، ولكنه لا يملك الحكم ، وفرنسا تفصل الدين عن الدولة فصلا تاما ، وهكذا ( ).
وإذا كان هذا الشأن في العلمانية التي ينادي بها هؤلاء العالمانيون ، فلماذا لم يجعلوا من تعدد مدارسها وتباين نظرياتها مانعا يمنع من الدعوة إليها ، وحائلا يحول دون صلاحيتها للتطبيق كما يريدون أن يشوشوا بذلك على الإسلام ؟ وما بال الإسلام وحده هو الذي يكال له بهذا المكيال الظلوم ؟! أليس هذا هو التطفيف الذي نعاه القرآن على أصحابه يقول تعالى :
•• • • • (المطففين : 1- 5 ) .
ومن ناحية أخرى فإن أغلاط التطبيق وتجاوزات الممارسة لا تحسب في عداد العقلاء المنصفىن على الشريعة في ذاتها وإنما يحاسب عنها من تولى كبرها ، فما كان منها عن خطأ وحسن قصد ولم يكن مرده إلى إهمال أو تفريط فهو في نطاق العفو إن شاء الله ، وما كان منها عن أهواء واستبداد فهو من الجرائم التي تستوجب المساءلة والعقوبة في الدنيا والآخرة .
هذا وإن كثيرا ممن ذكرت لم يكن لهم توجه جاد إلى تطبيق الشريعة ، ولا أحسب ذلك يخفي على أحد .
التفريق بين الشريعة والفقه خطأ وخطر !!
هل ترمي إلى التفريق بين الشريعة والفقه ، واعتبار الأولي هى المعصومة والثانى مجرد آراء لا تلزم أحدا من الناس ؟
- الذي أردت بالتحديد هو التفريق بين القطعي والظني أو المحكم والمتشابه ، وبيان أن القطعي أو المحكم لا اجتهاد معه ولا منازعة فيه ، ومخالفته مخالفة لما أنزل الله 0 أما الظنى أو المتشابه فهو في محل الاجتهاد ، والضابط في التعامل معه والتخير فيما ورد بشأنه من اجتهادات قوة الأدلة والوفاء بالمصلحة ، فلا يكون القبول أو الرد بمجرد الهوى والتشهي لتناقض ذلك مع حقيقة المقصود من التكليف 0
أما ما ذهب إليه بعض المعاصرين من التفريق بين الشريعة والفقه ، وقصر معنى الشريعة على ما ورد في نص مباشر في القرآن أو السنة ، وإطلاق لفظ الفقه على اجتهادات الفقهاء واستنباطاتهم من الأدلة ، ونزع الصفة التشريعية عن هذه الاجتهادات بالكلية فهو تفريق حادث وهو خطأ وخطر .
لأن الشريعة كما ذكرنا ترد بمعني عام فتكون مرادفة للفظ الدين عقيدة وشريعة ، وترد بمعني خاص فيقصد بها الأحكام العملية من العبادات والمعاملات .
أما الفقه فهو كما عرَّفه الأصوليون : الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية ، وقيدوه بالعملية ، فتخرج الأحكام الشرعية العلمية وهى مسائل الاعتقاد - وإن كان قد أطلق عليها بعض الفقهاء اسم الفقه الأكبر - وعلى هذا فهو مرادف للشريعة إن قصد بها المعنى الخاص ، وجزء منها إن قصد بها المعنى العام .
ولهذا يجب التفريق في لفظ الشرع والشريعة بين ثلاثة أقسام :
أحدها : الشرع المُنزَّل : وهو الكتاب والسنة والإجماع ، واتباعه واجب ومن خرج عنه وجب قتله ، ويدخل في أصول الدين وفروعه ، فليس لأحد من الأولين والأخرين خروج عن طاعة الله ورسوله .
والثاني : الشرع المُؤَوَّل : وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة ، فمن أخذ فيما يسوغ في الاجتهاد أقر عليه ، ولم تجب على جميع الخلق موافقته ، إلا بحجة لا مردَّ لها من الكتاب والسنة .
والثالث : الشرع المُبَدَّل : وهو المنسوخ أو ما نسبه الناس إلى الشرع وهو ليس منه ( ).
أما وجه الخطر في هذا التفريق فإنه يفضي إلى إلغاء الفقه الإسلامي بالكلية وإطلاق العنان للاسترسال في الأهواء بدعوي المصلحة والتجديد والاستنارة بلا ضابط ولا حرية دينية ، وقد ينتهي بأصحابه إلى إهدار الدين كله باسم التطوير والمعاصرة وتحقيق المصلحة ولاأنكى على الإسلام وشريعته من هذا المدخل المريب !
وإن أصحاب هذا الاتجاه لم يقفوا بالأمر عند حدود الاجتهادات الجزئية بل تجاوزوا ذلك إلى القواعد الفقهية الكلية وهى التي يتم التوصل إليها من خلال الاستقراء الكلِّى لأدلة الشريعة حتى رد بعضهم الأصل للقاضي بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وادعي أنه من اختراع الفقهاء فانتهي إلى القول بوقتية الأحكام وإلغاء ما لا يروق له من الأحكام الشرعية ، الأمر الذي يؤدى إلى خلع ربقة التكليف بالكلية .
إذا كانت الشريعة كما ذكرت تضم نوعين من الأحكام أحدهما محكم والآخر متشابه ، فما الذي يقلقك من إطلاق لفظ الشريعة على أحدهما والفقه على الآخر ، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقولون؟
- ليست المسألة مجرد مشاحة في الاصطلاح ، ولو كانت كذلك لهان الخطب، ولكن هذا التفريق جزء من منظومة فكرية متكاملة يراد منها القضاء على الشريعة وهدم الإسلام !
وكيف ذلك ؟
- تبدأ القضية بضرب الفقه بدعوى ظنية أدلته وارتباط أحكامه بملابسات الأزمنة والأمكنة التي ظهر بها . وهذا يعني إلغاء جميع ما ذخرت به المكتبة الإسلامية من الفقه مجمعا عليه ومختلفا فيه على مدى تاريخ الإسلام .
ثم تبدأ الخطوة الثانية بالالتفاف على السنَّة والتفريق بين المتواتر والآحاد، والقول بأن أحاديث الآحاد ليست حجة في باب العمل ، ولا تفىد الحِلَّ والحرمة ، وهو القول الذي لم يعرف له إمام ، ولا سطر من قبل في كتاب من كتب الإسلام فتسقط بذلك حجية السنة .
ثم تبدأ الخطوة الثالثة بالالتفاف على القرآن ، والقول بأن النص العام يتحول بمجرد أن يتعامل البشر معه بدءًا من النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاء بآحاد الناس من منطوق إلى مفهوم ، ومن تنزيل إلى تأويل فيصبح الحكم المستفاد منه حكما بشريا بحتا لا حرمة له ولا قداسة ، بل هو من جنس الاجتهادات البشرية العادية ، لا فرق في ذلك بين بيان الرسول لهذا النص وبين بيان غيره من الناس ، لأن في القول بأن بيان الرسول للنص مطابق لعين مراد الله بهذا النص تأليها للنبي صلى الله عليه وسلم.... كذلك يزعمون !
وهكذا ينعدم اليقين في أحكام الإسلام ، وتنتقل جميع شرائعه من دائرة الأحكام الإلهية إلى دائرة الاجتهادات البشرية ، ومن دائرة المقطوع به إلى دائرة المختلف فيه ، فتسقط حجية القرآن ، وتسقط حجية السنة ، ويسقط الفقه .. وهكذا ينهدم الإسلام !
إنه الكيد المحكم الذي بيت بليل واتجهت معاوله إلى الضرب في أصول الإسلام ، ولن يبلغ اليهود والنصارى في النكاية في الإسلام ما تبلغه هذه الدعوات المريبة ...فياليت قومي يعلمون !!
وماذا ينقمون ؟!
والسؤال الآن : مالمقصود بتطبيق الشريعة ؟ ألا ترى أن الشريعة مطبقة بالفعل ، وأن ما لا يقل عن 59% من تشريعاتنا مستمدة من الشريعة الإسلامية ؟ ألسنا نضع في الصحافة التاريخ الهجري قبل التاريخ الميلادي ؟ أليست الكتب تراجع من قبل الأزهر ؟ ألسنا نحتفل احتفالا رسميا بالأعياد والمناسبات الدينية ؟ ألسنا نحترم رجال الدين ؟ ألسنا نقوم بتعليم الدين الإسلامي في المدارس وندرس الثقافة الإسلامية في الجامعات ؟ فما الذي يريده دعاة تطبيق الشريعة أكثر من ذلك ؟ أما إن كانوا يتحدثون عن تعطيل بعض الحدود فإن للحدود شروطا لم تتحقق لتطبيقها . وإذا تحققت فإن المجتمع مأمور بالتغاضي عنها والتعافي فيها ، فماذا بقي إذن ؟ ألا ترى أن الأمر كله دعوى بغير داع وصيحة لا سبب لها ونداء لا حق فيه ؟!
- الشريعة كما ذكرت لك أوسع مدى من أحكام الفقه العملية ، فهي تعبير ينتظم جميع ما شرعه الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الدين سواء أكان ذلك في مجال العقائد أم في مجال الأخلاق أم في مجال العبادات أم في مجال المعاملات فهي أوسع مدى من إقامة الحدود وتطبييق بعض الأحكام العملية .
والدولة الإسلامية المنشودة هي التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به . فهى التي تتولي حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ، ثم تنظم شئونها الدينية والدينوية وفقا لأحكامه .
أما ما ذكرت من الاحتفال بالمناسبات الدينية وكتابة التاريخ الهجري وتوقير رجال الدين واختزال الدين في ذلك فهو فهم مغلوط لحقيقة الدين الإسلامي كما فهمه المسلمون أجمعون ، وكما أطبقت عليه أجيالهم قرونا بعد قرون ، إنه فهم ينطلق من المدلول الغربي لكلمة دين التي لا تتجاوز عند الغربين إقامة بعض الشعائر الدينية يوم الأحد ثم تنطلق الحياة كلها بعد ذلك لا شأن لها بالدين ، ولا شأن للدين بها إنطلاقا من مقولة ( دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) .
أما الدين الإسلامي فهو مطلق الاستسلام لله جل وعلا والدينونة لشرعه لا يشذ عن ذلك حاكم ولا محكوم ، فقيصر وما ملكت يداه عبد من عباد الله وهو مخاطب بالانقياد لأحكام الله شأنه في ذلك شأن بقية الناس .
وقد جاء الإسلام بمنهج متكامل للحياة فلم يترك جانبا من جوانبها إلا وتناوله بجملة من الشرائع ، وحسبك هذه الثروة التشريعية الهائلة التي تضمنتها الآلاف المؤلفة من كتب الفقه التي حفلت بها مكتبات العالم الإسلامى ، وعاشتها الأمة واقعا عمليا زهاء ثلاثة عشر قرنا من الزمان كانت الأمة الإسلامية فيها هى الأمة التي لا تغيب عنها الشمس ، ثم بدلت نعمة الله كفرا واستبدلت شرائع الكافرين بشريعة رب العالمين فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ، وحاسبها حسابا نكرا جزاء وفاقا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
والسؤال الآن : لمن الحكم في بلاد المسلمين اليوم ؟ للشريعة أم للقانون ؟ للكتاب والسنة أم لمجالس الأمة ؟ من الذي يتفرد بالحق في توجيه الخطاب الملزم لجميع المتوطنين ؟ والحق في إصدار الحكم على الأشياء والأفعال ؟ من الذي يملك أن يجرم الأشياء و أن يعاقب عليها ؟ ومن الذي يملك أن يبيحها و أن يسبغ حمايته عليها ؟ من الذي يتفرد وحده بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق ؟ القرآن أم السلطان ؟ الشريعة الإسلامية أم القوانين الوضعية ؟ أرأيت لو أن الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء وأئمة المساجد وكل من ينتسب إلى العلم بالشريعة في بلادنا أفتوا جميعا بحرمة شيء من الأشياء هل يعتبر تحريمهم هذا ملزما لأي مؤسسة من مؤسسات الدولة : التشريعية أو التنفيذية أو القضائية ؟
لقد انتزعت السيادة عن الشريعة الإسلامية ابتداء فلم تعد ترد الأمور إليها ، ولا يلزم أحد من الناس بالتقيد بها ، وانتقلت هذه السيادة المطلقة إلى القوانين الوضعية ، فانتقلت بذلك مصدرية الأحكام من الشريعة إلى القانون ومن القرآن إلى البرلمان ، ومن الكتاب والسنة إلى مجالس الأمة .
ولقد كان المدخل إلى ذلك كله هو المبدأ الذي نصت عليه كافة الدساتير العربية نقلا عن الدستور الفرنسي وتأثرا بالثورة الفرنسية وهو مبدأ سيادة الشعب أي تفرده وحده بالحق في التشريع المطلق وما ترتب عليه من أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ، وهكذا انتقلت الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين من التقيد بالكتاب والسنة إلى التقيد بما تصنعه بنفسها لنفسها من الأنظمة والقوانين والتي تملك أن تغيرها بنفسها من النقيض إلى النقيض متي تشاء !
فما لم يصدر قانون وضعي بتجريم شيء من الأشياء فهو مباح مهما تضمن من مراغمة للدين ومشاقة للديان ، ولا يملك أحد من الناس أن يعترض على من فعله أو يطالب بمنعه أو توقيع العقوبة عليه لأنه يتمتع بحماية القانون ... ولا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون !!
ومن ناحية أخري هل هذا الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية يعد تطبيقا لشرع الله ؟
أترى من شرع الله ما يجري في الإعلام من إغراء بالرذيلة ودعوة سافرة إلى التحلل من كل حريجة دينية ، والتمكين لخصوم الإسلام يكيلون له التهم وينالون من أحكامه ومن شريعته كما يشاءون ؟!
أتري من شرع الله ما تتضمنه النظم المعاصرة من إباحة الربا والميسر ، وإباحة الخمر والزنا من غير المتزوجة إذا وقع عن تراض ؟ أترى من شرع الله إباحة الردة والكفر بالله لمن شاء ؟ أترى من شرع الله فتنة الدعاة إلى تطبيق الشريعة واعتبارهم من الفئات المحجوبة عن الشرعية ، واستباحتهم دماء وأموالا وأعراضا بكل شبهة عارضة ؟ وإطلاق أقلام العالمانيين تنال منهم ومن أعراضهم ومن دعوتهم كما تشاء ؟
أترى من الشريعة تعطيل الحدود وإشاعة المنكرات وإماتة الفرائض وما تتقلب في البلاد من تفسخ وتحلل وعربدة ؟
ولكن كل ما تذكر من المفاسد كان يوجد مثله وأضعافه في ظل الدول الإسلامية الغابرة ، وتحت سمع وبصر الخلفاء أنفسهم الذين كانوا يشاركون فيها بأنفسهم ويسبغون الحماية على أصحابه ؟
- فرق بين شيوع المعاصي وبين تحولها إلى قانون ، واكتسابها صفة الشرعية ، وتجريم كل من اعترض على أصحابها ، فرق بين شيوع المنكرات وبين تقنين هذه المنكرات وحمايتها بالقضاء واعتبارها جزءا من الشريعة والنظام القائم !
لقد عرفت بعض العصور الإسلامية السابقة كثيرا من هذه المنكرات لكن الشريعة كانت هى دين الأمة الذي به تدين، وهى وحدها أساس الشرعية ومرجع القضاة ، وإليها وحدها ترد الأمور عند التنازع ، فلم تكتسب هذه المنكرات حماية القانون ولم تسبغ عليها شرعية من القضاء !
هل عرفت الدولة الإسلامية في تاريخها كله قانونا يقضي بإباحة الزنا ؟ هل عرفت قانونا يقضي بإباحة الربا ؟ لقد عرفت الزنا والربا نعم ، ولكنهما لم يكتسبا حماية من قانون ، ولم يستمدا شرعية من سلطة ، وظلا في نظام الدولة كما ظلا في ضمير الأمة عملا مجرما يستحق أصحابه العقاب فأين هذا من ذاك ؟!
وأني لا عجب من هذه المقولة التي تكابر في البديهيات ، وتتعامى عن الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ولا حجاب ، وإذا كان الأمر كما تزعم هذه المقولة الظلوم من أن الشريعة مطبقة بالفعل وأن بلادنا لا ينقصها شيء فلماذا إذن كان عناء الأزهر ونصبه عشرات السنين وهو يعد مشروعاته في تقنين الشريعة على مختلف المذاهب ، بل ولماذا بذلت جهود أخرى في إعداد مشروعات مماثلة في وزارة العدل ، ولماذا يعرض ذلك كله على مجلس الشعب في دورات متتابعة ؟ ولماذا إذن إنفاق الأوقات وإضاعة الأعمار في تحصيل حاصل وتطبيق أمر هو مطبق بالفعل ؟!
ولقد جاء في مقدمة مجمع البحوث على مشروعه لتقنين الشريعة على لسان شيخ الأزهر ما نصه : « لقد كان مما يثير العجب ويدعو للدهشة ويحز في نفس كل مسلم غيور ، أن تلجأ الأمة الإسلامية وتستعين في أحكامها بقانون وضعي من وضع البشر ، ولو أن واضعه كان ينتمي إلى أمتنا الإسلامية لهان الأمر ، لأنه لا محالة كان يلجأ إلى دستورها الإسلامي ليستنبط منه مواد ذلك القانون ، ولكن الحقيقة أن واضعه لا ينتمي للأمة الإسلامية ، ولا يدين بدينها ، لهذا لم يكن بدعا أن يوافق مجلس المجمع في جلسته رقم 72 في 8/3/7691 م على أن مهمة المجمع العمل على إيجاد مشروع قانون شامل للأحوال المدنية والجنائية وغيرها إذا ما تقرر في الدستور اتخاذ الشريعة الإسلامية أساسا للتقنين .» ( )
ولقد تضمنت المؤتمرات المتعاقبة لمجمع البحوث الإسلامية توصيات حاسمة بضرورة العمل الجاد على التحرر من ربقة التشريعات الوضعية ، وتحكيم الشريعة الإسلامية ، وبيان أن التغاضي عن تحكيم الشريعة الإسلامية هو السبب الأساسي فيما تفشى بين الناس من فساد في العقيدة والمعاملات والأخلاق و أنه لا سبيل إلى إنقاذ المجتمعات الإسلامية إلا بالاعتصام بالشريعة ووضعها موضع التنفيذ بكل أجزائها .
ونذكر من التوصيات توصية المؤتمر الثامن المنعقد في ذي القعدة 7931 هـ الموافق أكتوبر 7791 م والذي حضره ممثلون ومندوبون من أربع وخمسين دولة ، فقد جاء في توصيات فترته الأولى ما يلي :
• يقرر المؤتمر وجوب العمل الجاد من أجل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ، في جميع البلاد الإسلامية في المعاملات ، والعقوبات ، وفي جميع فروع هذه الشريعة .
• إن المؤتمر يرى أنه قد حان الوقت الذي ينبغي أن يتحرر فيه المسلمون من ربقة التشريعات الوضعية التي لا تلائم ما جاءت به شريعة الإسلام .
• ويؤكد المؤتمر أن التغاضي عن تنفيذ الشريعة الإسلامية هو السبب الأساسي فيما تفشى بين الناس من فساد في العقيدة ، والأخلاق ، والمعاملات ، ويعلن أنه لا سبيل إلى إنقاذ المجتمعات الإسلامية من هذه المفاسد إلا بالاعتصام بالشريعة الإسلامية ووضعها موضع التنفىذ بكل أجزائها .
• ويرشد المؤتمر إلى أن الشريعة الإسلامية تتصف بالسعة والشمول ، وتقوم على احتواء كل ما يَجِدُّ من مشكلات في حياة الناس ، وتضع لها أوفق الحلول بما يناسب طبيعة البشر وأهدافهم في حياتهم الدنيا والآخرة ، ولهذا يطلب المؤتمر أن يراعى المسئولون عن وضع القوانين أن تكون مبنية على أسس الشريعة الإسلامية ، وأن يراجعوا قوانينهم القائمة حاليا لتحقيق هذه الغاية.
• ويؤكد المؤتمر انحراف كل دعوة إلى إغفال النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة ، أو تفسيرها وفقا للأهواء الشخصية أو الجماعية ، ويرى في ذلك نزعة معادية للإسلام .
• ويوصى بنشر المؤلفات المبسطة التي تشيع مفاهيم الشريعة على أوسع نطاق ، والتعريف بمزاياها . ويحث الفقهاء على مصاولة أعداء الشريعة في الداخل والخارج والرد على تخرصاتهم وعدم السكوت على كل ما يمس الشريعة الغراء من قريب أو بعيد . ( )
ولقد تضمن مؤتمر العدالة الأول المنعقد بنادي القضاة في شعبان 6041 هـ عددا من التوصيات الهامة نذكر منها التوصية الخاصة بقضية تطبيق الشريعة ونصها كما يلي : ( إعمالا لما تنص عليه المادة الثانية من دستور جمهورية مصر العربية من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع يوصي المؤتمر باتخاذ الخطوات الآتية :
1. إصدار مشروعات القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية ومراجعة سائر التشريعات لتتفق في أحكامها مع مبادئ الشريعة .
2. أن يواكب إصدار تلك التشريعات وتنفىذها تهيئة المناخ العام الملائم في مجالات التعليم والتربية والإعلام والثقافة والتكافل الاجتماعي وغيرها من المجالات .
3. أن تولى كليات الحقوق بالجامعات ومركز الدراسات القضائية دراسة الشريعة الإسلامية العناية اللازمة بالقدر الذي يتناسب مع دورها بوصفها المصدر الرئيس للتشريع ) . ( )
فإذا كانت الشريعة مطبقة بالفعل فعلام هذه التوصيات من قبل السادة القضاة ؟!
ولقد تضمنت حيثيات العديد من الأحكام القضائية شهادات صريحة بأن أحكام الشريعة معطلة في البلاد ، وأن هذا يسبب للقضاة كثيرا من الحرج والإعنات عندما يقعون في تناقض بين التزامهم الدينى والتزامهم القانونى ، كما تضمنت دعوات صريحة إلى البدء الفورى في تطبيق أحكام الشريعة رفعا لهذا الحرج واستجابة لأمر الله .
نذكر من ذلك ما جاء في حيثيات الحكم الصادر في قضية تنظيم الجهاد حيث ذكرت أن : ( الذي استقر في ضمير المحكمة أن أحكام الشريعة الإسلامية غير مطبقة في جمهورية مصر العربية ، وهذه حقيقة مستخلصة من الحقيقة الأولى وهي وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية .
وليس أدل على عدم تطبيق الشريعة الإسلامية من :
- دعوة علماء الأزهر الذين اشتركوا في وضع التقرير الخاص بالرد على أقوال الشيخ صلاح أبو إسماعيل محمد عبدالرحيم أمام المحكمة دعوتهم كل المسئولين إلى المبادرة باستصدار التقنينات التي تم الانتهاء منها ومراجعتها والمستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية .
- نداء ممثل النيابة العامة وهي الأمينة على المجتمع في مرافعته الختامية نداءه أولى الأمر والمسئولين بإصدار تلك المشروعات من القوانين التي ثم بحثها وإعدادها وفق أحكام الشريعة الغراء .
- إن النيابة العامة لم تقدم للمحكمة وحتى قفل باب المرافعة ردًّا على ما أثاره الدفاع من أن القوانين المطبقة في المجتمع المصري لا تتفق مع أحكام الشريعة الغراء . من ملاهى ترتكب فيها الموبقات ترخصها الدولة، إلى مصانع خمور مرخص بإنشائها من الدولة، إلى محال لبيع وتقديم الخمور مرخص بها من الدولة ، إلى وسائل إعلام مسموعة ومرئية ومقروءة تنشر ما لا يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية إلى سفور للمرأة يخالف مانص عليه دين الدولة الرسمي وهو الإسلام ، ولا جدال بعد هذه الأدلة القاطعة على عدم تطبيق الإسلامية ، أن يكابر مسلم ويدعي أنها مطبقة لأنه مصرح بأداء العبادات ، كما أنه لا جدال أن التوصية الصادرة من المحكمة بوجوب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فورا والمنوه عنها بنهاية الحقيقة الأولى فيها عودة إلى تطبيقها وقضاء على ماشاب المجتمع من فساد و إفساد .
فهل أدركت الآن مدي زيف الادعاء بأن الشريعة مطبقة بالفعل ومدي فداحة هذه المغالطة ؟!
أما قولك بأن تطبيق الحدود يتطلب شروطا لم تتحقق بعد ، وإن تحققت فإن المجتمع مأمور بالتعافي فيها والتغاضي عنها ، فإنني ألمح خلف هذا القول تداعيات قد تنتهي بصاحبها إلى الخروج من الإسلام ، وإني أسألك سؤالا : ماذا تريد أن ترتب على هذه المقولة ؟ أتريد أن تقول : وما دام الأمر كذلك فالأولى إلغاء هذه العقوبات بالكلية ، وإبقاء الحال على ما يجري عليه العمل الأن من الشرائع الوضعية ؟ مادامت هذه العقوبات مستحيلة التطبيق من الناحية العملية ؟
إن كان هذا الذي تريد فليس الأمر كما تزعم أيها الصديق ، فإن هذا قول ترده حقائق الشرع وحقائق التاريخ ، ويمتهد به سبيل للخروج من الإسلام ، لما يتضمنه من قدح في الشريعة ، وطعن في الشارع ورَدًّ للقرآن ! إن دقة الشريعة في إثبات الجرائم المستحقة لهذه العقوبات ودفع الحدود بالشبهات لا يعني إلغاء هذه النظام العقابي واستبدال غير به ، فلقد طبق بالفعل على مدار التاريخ ثلاثة عشر قرنا وآتى ثماره في تطهير المجتمع من الشرور والموبقات ، وأن قيمة هذه العقوبات في النص عليها وإشاعة العلم بها ، وإبقائها سيفا مصلتا على رقاب المجرمين ، تؤرق نومهم وتقض مضاجعهم ، فمن علم أن من سرق قطعت يده ، ومن زني رجم أو جلد ، تردد ألف مرة قبل أن يقدم على ارتكاب مشروعه الإجرامى ، فكيف نتجاهل هذا الدور الخطير لهذه العقوبات ، ونتخذ من دقة الشارع في تنفىذها ذريعة إلى إلغائها وتفضيل شرائع البشر عليها ، أليس هذا محض التناقض والخذلان ؟
ولكن القانون الوضعي يحقق مصالح المجتمع في بعض القضايا بأكثر مما تحققه الشريعة لو طبقت ! ففي جريمة الزنا مثلا تشترط الشريعة لإثباتها شروطا تكاد تكون مستحيلة التحقيق لا سيما في واقعنا المعاصر ، ولا أدل على ذلك من أننا لو راجعنا ملفات الآداب طوال الخمسة وعشرين سنة الماضية فإننا لن نجد قضية واحدة يمكن أن تنطبق عليها شروط الزنا حسب الشريعة الإسلامية ، بل إن هذه العقوبة لم تطبق خلال التاريخ الإسلامي كله سوى مرات محدودة فأيهما أصلح للمجتمع : عقوبة مستحيلة التطبيق لاستحالة تحقيق شروطها أم العقوبة الوضعية التي لا تشترط لتوقيعها كل هذه الاشتراطات المستحيلة ؟ وفي جريمة الخمر مثلا لا يوجد في الفقه الإسلامي عقوبة على الاتجار في الخمر ، وحتى إذا طبق على التاجر حد شارب الخمر فهو عقوبة هيِّنة لا تحقق الردع المطلوب لا سيما إذا قورنت بالعقوبة التي يقررها القانون المصري على سبيل المثال وهي الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام ؟!
- ابتداء لا ينبغى لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتجاسر على القول بأن ما قررته القوانين الوضعية أصلح مما تقرره الشريعة الإسلامية ، وأن ما يقرره المخلوق أولى بالاتباع مما يقرره الخالق ، فإن هذا صريح الكفر بالله والردة عن دين الإسلام ، فإن الذي قرر هذه العقوبات هو الله رب العالمين ، وأى تجاسر على رد حكم من أحكامه ، أو تنقص شريعة من شرائعه ، فإنه تطاول على حرم الربوبية يورد أصحابه موارد التهلكه ، ويهوى بهم إلى دركات سحيقة في أعماق جنهم !
إن السؤال الذي يجب أن يطرحه المسلم على نفسه في هذا المقام : أ أنتم أعلم أم الله ؟! ألا يعلم من خلق ؟! و إن الجواب الذي يجب أن يعقد عليه قلبه أبدا
• ..
هذا هو منطق الإيمان ، وذلك هو موقف الذين يؤمنون بالغيب ، وبدونه لا يصح إسلام ولا يثبت إيمان ، أما ما أثرت من شبهات فإنها لا تدل على نقص في الشريعة وإنما تدل على جهل بأحكامها إن أحسنا النية ، أو تجاهل متعمد إذا ساءت الظنون !
تقول إن شروط إقامة الحدود متعذرة بل مستحيلة الأمر الذي يعني إفلات كثير من المجرمين من العقاب والجواب على ذلك أن الجريمة التي لم تبلغ الحد يستطيع القاضي أن يوقع عليها من العقوبات التعزيرية ما يحقق الردع ويقطع دابر الجريمة ، فإن في التعزيز : وهو عقوبة تقديرية على فعل معصية ، متسعا لتحقيق هذه الغايات ، ومقدمات الزنا من المعاصي بصرف النظر عن ثبوت الجريمة أو عدم ثبوتها ، وعلى هذا فإذا لم تثبت هذه الجريمة أمام القضاء ثبوتا شرعيا فإنه يستطيع أن يعزر على ما ثبت لديه من مقدماتها كالخلوة المحرمة والملامسة المحرمة والصلة المشبوهة وما شابه ذلك وهي أمور لا يمكن إنكارها في مثل هذه الحالات .
والسلطة في تقدير هذا التعزير إلى القاضيى ، وله في ذلك مرونة واسعة ، وصلاحيات كبيرة ، ولاحرج أن تصدر بعض القوانين التي تنظم أمر هذه العقوبات التعزيرية في إطار مقاصد للشريعة الإسلامية ، فمن أين إذن يتأتى القول بأن القانون الوضعى أحفظ للآداب من الشريعة الإسلامية ؟!
وأما ما ذكرت من أن الشريعة قد خلت من النص على عقوبة بالنسبة للاتجار في المخدرات ، وأنه لو طبق حد الشرب فإنه لن يحقق الردع المنشود ، فالجواب على ذلك أن مثير هذه الشبهة قد أتي من قبل جهله بالشريعة من ناحية ومن جهة جهله بالواقع من ناحية أخري .
أما جهله بالشريعة فإن في عقوبة التعزير متسعا للتصدى لمثل هذه الجريمة ، ويستطيع القاضى أن يصل بها إلى درجة الإعدام ، و أما غيابه عن الواقع فلأن هيئة كبار العلماء بالسعودية على سبيل المثال قد أصدرت فتوي بإعدام مروجى المخدرات تعزيرا ولقد طيرت هذه الفتوي بمختلف وسائل الإعلام يومئذ وكان لها أبلغ الأثر في قطع دابر هذه الجريمة في هذه البلاد ! (*)
فلا فقه لدى مثير هذه الشبهة بالشريعة ، ولا دراية له بالواقع ، ولله الأمر من قبل ومن بعد !
لماذا الإصرار على تطبيق الشريعة ؟!
ولكن لماذا كل هذا الإصرار على تطبيق الشريعة في مجال المعاملات وقد استقرت القوانين الوضعية قرابة مائة عام وتأقلمت واكتسبت الهوية المحلية وتم تمصيرها خلال هذه المدة الطويلة وأصبحت صالحة للبيئة المصرية بعد أن فقدت طابعها الأجنبي لأن تطورها جعلها محلية تماما ، فكيف تلغي آلاف القوانين التي عاشت وطبقت ، وتمرن عليها المحامون والقضاة ، ثم نستبدلها مرة واحدة بقوانين جديدة من ألفها إلى يائها ، هذا الوضع سيجمد العدالة ، وسيعرض مصالح الوطن والناس للخطر ، وسيضيع الحقوق وفي هذا من الفساد والتخريب ما لا يخفي على أحد ؟
- الدعوة إلى تطبيق الشريعة ضرورة عقدية في المقام الأول لارتباطها بأصل الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا .
ذلك أن من أظهر خصائص الربوبية تفرد الله جل وعلا بصفتي الخلق و الأمر كما قال تعالى :
( الأعراف : 54 ) ولا مجادلة بين أحد من المسلمين في أن منازعة الله في شيء من الأمر كمنازعته في شيء من الخلق ولا فرق . قال تعالى : •• (يوسف:40 )
فالحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير ، والتحليل والتحريم والأمر والنهى والتشريع المطلق حق خالص لله جلا وعلا ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما أوجبه ، ولا شرع إلا ما شرعه ، فمن نازع الله في شيء من ذلك فقد نازع الله في ربوبيته وخلع ربقة الإسلام من عنقه ، وقد انعقد على هذا المعنى إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار لم يشذ عنه على مدى هذه القرون الطويلة فيما نعلم أحد . فتحكيم الشريعة هو المظهر العملي للإقرار بربوبية الله تعالى والرضا بها قال تعالي:
(التوبة:31) .
وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن عدي بن حاتم « أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية
قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال صلى الله عليه وسلم بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم وذلك عبادتهم إياهم » .
فلم تكن الربوبية في بني إسرائيل في جانب الخلق أو القضاء الكوني ، بل كانت في جانب الهداية والأمر الشرعي ، فكان الأحبار والرهبان يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال فىتبعونهم على ذلك ، ويتركون تحريم التوارة وتحليلها إلى تحريم هؤلاء وتحليلهم فاتخذوهم بذلك أربابا من دون الله .
ومن ناحية أخري فقد استقر في محكمات الشريعة أن أصل الإيمان تصديق الخبر والانقياد للأمر ، وأن من لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر ، فلا يثبت عقد الإسلام إلا باجتماع الأمرين معا تصديق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه.
قال تعالى ( النساء : 65) .
وقد جعل الله إيمان من يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت زعما لا يبرأون به من النفاق في الدنيا ولا تحصل به النجاة في الآخرة ، والطاغوت هو كل ما يتحاكم إليه من دون الله فقال تعالى :
( النساء:60 )
فتحكيم الشريعة هو المظهر العملي للرضا بالإسلام دينا ، وبدونه لا يثبت عقد الإسلام .
ومن ناحية أخري فإن مقتضي الإيمان بنبوة محمد تصديقه في خبره واتباعه في أمره ، فما آمن به ولا صدق بنبوته من كذب بخبره أو رد عليه شيئا من أمره قال تعالى :
• • • ( الحجرات : 1-2 )
يقول ابن القيم رحمه الله : « فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم ، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم ؟» . ( )
وأقول : فكيف إذا كان الأمر إهدارا لشريعته ، واجتراء على هديه ، وتطاولا على سنته ، ونبذا لما جاء به من شرائع الإسلام بالكلية ؟ هل يكون من يفعل ذلك محققا للرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ؟ هل رضي بنبوته رجل يرد شريعته ، ويدفع أمره ، ويتهم ما جاء به من الهدى ودين الحق بعدم الصلاحية ويدير له ظهره ؟
فالقضية إذن لا خيار فيها لأحد ممن يدَّعي الإسلام كما قال تعالى :
• • ( الأحزاب : 36 )
ومن ناحية أخري فإن تطبيق الشريعة هو السبيل لإصلاح ما فسد من حياتنا المعاصرة ، ولدفع ما خيم على البلاد من شقاء وضنك ، واستمع معى إلى قول رب العزة :
• • • ( طه : 123 : 126 )
أو قوله تعالى : • • ( الأعراف : 96 ) أو قوله تعالى : • • ( المائدة : 66) . وقد توعد الله تعالى من عتوا عن أمر ربهم ورسله . فقال تعالى : • ( الطلاق : 8 - 9 )
والأمر في ذلك بَيِّن إذ لا وجه للمقارنة بين ما شرعه الله للإنسان وبين ما شرعه الإنسان لنفسه، ونستعير هنا كلمة لأحد العالمانيين المعاصرين ، وإن كان قد ساق هذه الكلمة في معرض الاستنكار والرد يقول فيها : « إن الإنسان كائن هش ضعيف لا يمتد عمره إلا للحظة خاطفة في زمن الكون الأزلي ، ولا يشغل كيانه إلا ذرة ضئيلة في كون شاسع تقاس أبعاده بملايين السنين الضوئية ، فإذا كانت لنا شريعة أوحي لنا بها خالق هذا الكون ، وقانون وضعه لهذا الإنسان المحدود ، فهل يصح أن نتردد لحظة في الاختيار بين الاثنين ؟ » . ( )
وأخيرا فإن هذا السؤال ( لماذا الشريعة ؟ ) يحمل في ذاته توجها عالمانيا مضادا للفطرة والدين : فقد قرر السائل ابتداء عزل الشريعة عن الحكم وإقصاء الدين عن الدولة ، واعتبر ذلك هو الأصل الذي يجب على من يخرج عليه أن يقدم التعلات وأن يسوق الحيثيات ، لأنه بزعمه يتحرك في اتجاه مضاد للمنطق ، ويصادم المعقول وطبائع الأشياء !!
وكان الصواب أن يقال للخارج عن الشريعة : ( لماذا العلمانية ؟ ) وكيف تجعل لله ندا وهو خلقك؟ وكيف تدير ظهرك للإسلام وأنت تنتسب إليه ؟ كيف تخرج عن الأصل الذي درجت عليه الأمة ثلاثة عشر قرنا من الزمان ولم تنسلخ منه إلا مع قوافل المستعمرين ؟
وتحضرنى في هذا المقام كلمة للدكتور سليمان الطماوي عميد فقهاء القانون العام في مصر يقول فيها : « إن المسلمين لم يتركوا الشريعة الإسلامية مختارين بل أكرهوا على ذلك ، نتيجة للامتيازات الأجنبية التي استشرت في الوطن العربي ، ولخضوعه للاستعمار الغربي لمدة طويلة ، ومن ثم فإن العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية إنما هو في الحقيقة لتصحيح أوضاع غير طبيعية » . ( )
هل هناك ما يسمى بحكم الله ؟!!
ولكن هل تقع المقابلة في الحقيقة بين حكم الله وحكم البشر ؟ إن الشريعة في أغلبها مبادئ عامة شديدة العمومية ، ولكي تتهيأ للتطبيق لابد من جهد ميداني يملأ تفاصيلها بمضمون صالح للتطبيق... وهذا الجهد جهد بشري ، ومن ناحية أخرى فإن الشريعة لا تفسر نفسها بنفسها وإنما يفسرها البشر، وهم لا يخلون من ضعفهم و أهوائهم فتفسير الشريعة دائما تفسير بشري فىؤول الأمر في النهاية إلى أن تكون الموازنة بين حكم بشري وحكم بشري مثله ، إلا أن الخطر في الذي ينتسب إلى الدين أشد لأنه سيزعم أنه ناطق بلسان الوحي ، متحدث بلسان السماء ، وأن مخالفته كفر مع أنه على التحقيق حكم بشري ... و أما الآخر فهو قائم على التسليم ببشريته منذ البداية ؟ ألا ترى أن إطلاق القول بهذه المقابلة قول ظاهره حجة وباطنه خدعة ؟!
- ما الذي تريد أن تنتهي إليه من هذه المقولة بالتحديد ؟
أريد أن أقول : إن النص الخام عندما يتعامل معه الإنسان فآنه يتأنسن فهما واستنباطا ، أي يصبح بشريا وبالتالى يصبح الحكم به حكما بشريا يزعم أنه إلهي فليس ثمة حكم إلهي على وجه التحقيق ، إن النص القرآنى نص دينى ثابت من حيث منطوقه ولكن من حيث يتعرض له العقل الإنسانى ويصبح مفهوما يفقد صفة الثبات ، فهو منذ لحظة نزوله الأولي - أى مع قراءة النبى له لحظة الوحى - تحول من كونه نصا إلهيا وصار فهما ( نصا إنسانيا ) لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل ، إن فهم النبي للنص يمثل أولي مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري ، ولا التفات لمزاعم الخطاب الدينى بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتية للنص ، على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتية إن مثل هذا الزعم يؤدي إلى نوع من الشرك من حيث إنه يطابق بين المطلق والنسبي ، وبين الثابت والمتغير ، حين يطابق بين القصد الإلهي والفهم الإنساني لهذا القصد ولو كان فهم الرسول ، إنه زعم يؤدي إلى تأليه النبي ، أو إلى تقديسه بإخفاء حقيقة كونه بشرا ، والكشف عن حقيقة كونه نبيا بالتركيز عليها وحدها ؟!!
- قبل أن نناقش هذا الذي ذكرت أريد أن أذكرك بجملة من النتائج واللوازم الخطيرة التي تترتب على هذا القول حتى ينكشف عنك الغطاء وتبدو أمامك المآلات الحقيقية لما تقول :
إن هذا القول يفئ بنا إلى عدمية فىما يتعلق بالنصوص والأحكام الشرعية ويترتب عليه ما يلي :
1. إن الله جل وعلا عندما قال : •• ( يوسف : 40 )
كان يحلق بنا في تهويمات مجردة ويحيلنا إلى معدومات بالنسبة لنا لا وجود لها في الواقع ولا سبيل إلى التعرف عليها عند التطبيق لأننا بمجرد الاتصال بالنص يتحول في أيدينا من منطوق إلى مفهوم، ومن حكم الله إلى حكم البشر .
2. إن الله عز وجل عندما قال : ( النساء : 59) .
كان يردنا إلى معدوم فإننا بمجرد الرد إلى النصوص والتعامل معها تتحول إلى مفاهيم بشرية فنكون قد رددنا مواضع النزاع إلى مفاهيم بشرية هى بدورها قابلة لأن تكون محلا للنزاع فىلزم الدور ويستمر التنازع لأننا نرد إلى الهوى المتعدد بتعدد المختلفين ، فىكون ما جعله الله علاجا للاختلاف سببا لمزيد من الاختلاف!
3. إن الله عز وجل حينما كلفنا أن نقيم كتابه وأن نحكم بحكمه قد كلفنا بما لا قبل لنا به ولا سبيل لنا إلى إدراكه ، فإننا بمجرد الاقتراب من النصوص التي تحمل لنا حكم الله تتأنسن في أيدينا وتصبح أحكاما بشرية ، فىكون التكليف بالحكم بما أنزل الله تكليفا بالمستحيل . ومطالبة بتحقيق ما لا وجود له في الواقع .
4. ومن المآلات الخطيرة كذلك لهذه المقولة بطلان المقابلة التي جعلها الله بين حكمه وحكم الناس في مثل :
قوله تعالى: • ( المائدة : 50 )
وقوله تعالى : •
( الجاثية : 18 )
فقد قابل الله عز وجل بين حكمه وبين حكم الجاهلية وبين شريعته وبين أهواء الذين لا يعلمون ولكن هذه المقولة تقول : إن المقابلة في التحقيق لا تكون بين حكم الله وحكم الجاهلية ، ولا بين الشريعة والأهواء البشرية ، ولكن بين حكم بشري وحكم بشرى مثله ... فأى المقالتين أولي بالتصديق والقبول ؟
5. ومن هذه المآلات كذلك أن الأمة الإسلامية على مدى هذه القرون المتعاقبة لم تهتد إلى حكم الله قط ولم تحكم بما أنزل الله قط ، ولم تقض إلا بالهوى الذي يلازم النفس البشرية عندما تتعامل مع النصوص وتتحول في أيديها إلى مفاهيم وأحكام بشرية .
هذا بعض ما يترتب على مقولتك من الأحكام واللوازم فهل تقبل بذلك كله ؟!
ولكنك إلى الآن لم تجب على تساؤلاتي ، ألا تحتاج المبادئ العامة التي جاءت بها الشريعة لكي تتهيأ للتطبيق إلى جهد بشري يملأ تفاصيلها بمضمون صالح للتطبيق ؟ ألا يتدخل الإنسان بمعارفه البشرية في تفسير النصوص الدينية فىعطيها بهذه المعارف بعدًا إنسانيًا الأمر الذي يجعل تفسيرها يتفاوت بين مفسر وآخر ؟ هل يمكن أن تسمي هذه الشروح البشرية أحكاما شرعية فتنسب التناقض إلى الشريعة ذاتها عندما تتناقض هذه الشروح ؟ ألا ترى أننا بهذا التحفظ نصون الدين نفسه من العبث ومن التناقض ؟
- مكمن الخلاف أيها الصديق أنك تخلط بين الثابت وبين المتغير أو بين المحكم وبين المتشابه فتريد أن تحيل الدين كله إلى متغيرات متشابهات ، وإذا كانت المتشابهات لا عصمة لها ولا حجة فيها لطابعها البشرى أصبح الدين كله بناء على ذلك لا عصمة له ولا حجة فيه !!
ولو هديت إلى الطيب من القول لفرقت بين المحكم الذي تمثله الأدلة القاطعة وبين المتشابة الذي هو في محل الاجتهاد والتزمت بالأول بلا منازعة تصديقا وانقيادا له ورجحت من الثانى ما ترجحه النصوص وتتحقق به المصلحة ، وهذا هو المنهج الذي سار عليه أئمة العلم والدين على تطاول القرون !
أما قولك بإن المبادئ العامة تحتاج إلى جهد بشرى يملأ تفاصليها بمضمون صالح للتطبيق فإن هذا لا ينفي عن المبدأ صفة الإلهية ، ولا يحوله إلى مبدأ بشرى مهما طال الزمن وتطاول الأمد ، وإنما يبقي الخيار والاجتهاد في هذه المبادئ التي لم يقل أحد في شيء منها بعينه أنه يمثل الحقيقة المطلقة و أنه عين حكم الله ، فالمبدأ محكم قطعي والوسائل ظنية اجتهادية ، ولا يعني تعدد الوسائل وتنوعها وتعقدها البعد عن المبدأ أو تحول القضية برمتها مبدأ وتطبيقا إلى قضية بشرية !
أرأيت إلى قوله تعالى : • ( الأنفال : 60)
هل يتسني لعاقل أن يقول إن الناس قد ابتعدوا عن هذا المبدأ بقدر الابتعاد بين القتال بالسيف والرمح على أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وبين القتال بالصاروخ والطائرة والقنبلة في هذه الأيام .
أرأيت إلى قوله تعالى : ( آل عمران : 159 )
هل يصح القول بأن تطور الشوري من استشارة أبي بكر وعمر في أول الأمر إلى استشارة أهل بدر ثم إلى استشارة أهل المدينة ثم إلى تخصيص مجالس للشورى وضبطها بأنظمة عصرية يعد بُعْدًا عن مبدأ الشورى ويحول القضية برمتها مبدأ وتطبيقا إلى قضة بشرية ؟
إن المحكم هو المبدأ وهو حكم إلهي لا تتطاول إليه شبهة ، وهو باق ما بقت السموات والأرض، أما الوسائل فهي ظنية ومتجددة وتتغير أشكالها بتغير الزمان والمكان والأحوال و إذا ثبت قصور صورة بعينها عن الوفاء بالحاجة وتحقيق هذا المبدأ على وجهه تعين الاجتهاد للبحث عن الصورة الملأئمة التي تفي بالحاجة وتتحقق بها المصلحة ويحصل بها مقصود الشارع من هذا المبدأ .
هذا ولا يخفي أنه يشترط لحل هذه الوسيلة ألا تعارض نصا أو مبدأ شرعيا آخر سواء من حيث إطارها الكلى أو فىما يتعلق بتفاصيلها الجزئية لأن الغاية في ديننا لا تسوغ الوسيلة كما هو مقرر .
أما قولك بأن التناول البشرى للنصوص يحيلها من التنزيل إلى التأويل ، ومن منطوق إلى مفهوم ، فتكون المقابلة بين حكم بشرى وآخر بشرى مثله ، ولكن يدعى العصمة وينتسب إلى الله ، فهو قول من يخبط في الأمور بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير !! وهو مردود بما يلي :
أولا : لم يدع أحد من أهل العلم أن اجتهادات الفقهاء في فهم النصوص الظنية شرع محكم لا تحل مخالفته ، بل لا يزالون يقولون : هذا مبلغنا من العلم ، وهو صواب يحتمل الخطأ ، ومن جاءنا بخير منه قبلنا، وينهون الناس عن تقليدهم بغير علم، ويفرقون بين الشرع المحكم الذي لا تحل مخالفته وهو ما كان موضعا لدليل قاطع وبين اجتهاداتهم في فهم النصوص الظنية ويرفضون اعتبارها من أحكام الله .
ولهم في ذلك نصوص تكتب بماء الذهب وهي من الشيوع بحيث لا تحتاج معه إلى ذكر ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعضها على سبيل التذكير :
يقول ابن القيم رحمه الله : «وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها ، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها ، فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله ، بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله ، ولم يلزموا به الأمة ، قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاءني بخير منه قبلناه . ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه ، وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال قد تفرق أصحاب رسول الله في البلاد وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهذا الشافعى ينهى أصحابه عن تقليده ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه ، وهذا الإمام أحمد ينكر على من كتب فتاواه ودوَّنها ويقول : لا تقلدني ولا تقلد فلانا ولا فلانا وخذ من حيث أخذوا ، ولو علموا رضي الله عنهم أن أقوالهم يجب اتباعها لحرموا على أصحابهم مخالفتهم ، ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء ، ولما كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فىروي عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك ، فالرأي والاجتهاد أحسن أحواله أن يسوغ اتباعه ، والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه ولا يخرج عنه ».( )
ولم لا يكون هذا هو منهج هؤلاء الأئمة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله ، وقال : « فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فىهم أم لا ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك » فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد ، ونهىي أن يسمي حكم المجتهدين حكم الله .
ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال : هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر . فقال : لا تقل هكذا ولكن قل : هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب » . ( )
ثانيا : إن إطلاق القول على هذا النحو تعميم فاحش ، لأن نصوص الشريعة منها ما هو قطعي لا يحتاج إلى تأويل أو اجتهاد ، وهو ناطق بحكم الله في جلاء لا يحتمل اللبس ، ومنها ما هو ظني يجتهد في فهمه أهل العلم ، ويفتون بما انتهى إليه اجتهادهم فيه دون أن يكسبوا آراءهم عصمة أو قداسة ، ودون أن ينكروا على مخالفهم إنكارا يفضي إلى تجريحه أو القدح في ديانته .
ثالثا : إن أهل العلم لا يزالون يؤكدون أن مواطن الاجتهاد لا ينكر فيها على المخالف ... من عمل فيها بأحد القولين لم ينكر عليه ولم يهجر ، ومن عمل فيها بالقول الآخر لم ينكر ولم يهجر ، وأن الاختلاف في الفروع رحمة وتوسعة حتى أن أحد أهل العلم كتب كتابا سماه - كتاب الاختلاف - فقال له الإمام أحمد سمه «كتاب السعة » (*)
ولهذا لم يكن هَمُّ السلف أن يحسم هذا الخلاف باجتهادات موحدة على مستوي الأمة ، بقدر ما كان اعتناؤهم بإحياء فقه الاختلاف وأدب الخلاف ، وأن يتعلم الناس كيف يسعهم ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من أئمة الدين ، ومن لم يسعه ما وسعهم فلا أوسع الله عليه .
ولقد طلب ثلاثة من خلفاء بني العباس من الإمام مالك رحمه الله أن يحملوا الأمة على كتابه الموطأ وأن يجمعوا كلمتها حوله فلم يجبهم إلى ذلك ، وكان ذلك كما يقول ابن كثير من تمام علمه واتصافه بالانصاف وهؤلاء الثلاثة هم الخليفة أبو جعفر المنصور وابنه المهدي وحفىده هارون الرشيد، وكان مما قاله للمنصور كما في رواية ابن عساكر : « لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث وروايات ، وأخذ كل قوم منهم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به ، من اختلاف الناس وغيرهم ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه ، وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم فقال : لعمري لو طاوعني على ذلك لأمرت به » . ( )
وفي رواية ابن عبد البر أنه قال : « ... يا أمير المؤمنين قد رسخ في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به ، ورد العامة عن مثل هذا عسير » . ( )
فأين هذا كله من دعوى اكتساب هذه الاجتهادات عصمة زائفة بنسبتها إلى الوحي ، واضطهاد المخالف فيها ، والتثريب عليه بتكفىر أو تفسيق ؟!
ولكن هذه التوسعة لا تعني أخذ الدين بالهوى والتشهي ، وإنما تعنى أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد في هذه المسائل وسنوا لهم سنة الاختلاف فيها مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين ، فالمجتهد يأخذ بما أداه إليه اجتهاده ، والعامي في سعة أن يقلد أوثقهم عنده .
أما داهية الدواهى وعجيبة العجائب فهى الزعم بأن مطابقة فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للدلالة الذاتية للنص فيه تأليه للنبى صلى الله عليه وسلم ويتضمن لونا من الشرك من حيث أنه يطابق بين المطلق والنسبى وبين الثابت والمتغير ، وهى فرية لم يقل بمثلها أحد من الأولين والآخرين ، لأن أحدا لم يدع أن النبى صلى الله عليه وسلم يعلم مراد الله استقلالا بل بما علَّمه الله وبينه له .
ألم يقرأ أصحاب هذه الفرية قول الله عز وجل : • • • ( القيامة : 16 -19 ) ، وقوله تعالى : •• . ( النحل : 44) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر ، ولكنه أوحي إليه هذا القرآن ، وأمر ببيانه للناس ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي فما بلغه من تنزيل القرآن فهو وحى وما بينه من معانيه وحي كذلك وما خرج من لفظه صلى الله عليه وسلم فىما يتعلق بالرسالة إلا الحق ، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عبد الله بن عمرو قال : « كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا : أنت تكتب كل شيء تسمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله بشر يتكلم في الغضب ، فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أكتب . فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق » .
فكيف يأتي اليوم تائه يزعم أن النص تحول مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم له من التنزيل إلى التأويل ، ومن كونه نصا قرآنيا إلى اعتباره فهما إنسانيا ، ليسوى بذلك بين بيان النبي صلى الله عليه وسلم للنصوص وبين ماستنبطه منها أهل العلم بعد ذلك من فتاوى وأحكام ؟ أليس ذلك قدحا في منصب الرسالة مصادرة لها في أخص خصائصها وهو البيان ... اللهم غفرا ! وما الذي يبقى من قداسة الوحي بعد ذلك ، إذا كان لا عصمة لقطعي ولا لظنى ، ولا وثوق في بيان النبي للنصوص ولا في بيان من جاء بعده من أهل العلم ؟! وما عسى أن تكون المحصلة النهائية لذلك كله إذا كان لا عصمة لهذا ولا لذلك إلا أن تضيع حجية النصوص وأن يضيع بضياعها الإسلام ؟! وأخيرا ألا يتوصل بذلك إلى خلع الربقة والتحلل من التكليف ؟
كيف تؤدي هذه المقولة إلى خلع الربقة والتحلل من التكليف ؟ ألا ترى أن حوارنا قد بدأ يفتقد الموضوعية التي بدأنا بها وأخذ يجنح إلى التهييج والإثارة ؟
- لا ! ... ليس فىما ذكرت لك خروج عن مقتضى الموضوعية ولا جنوح إلى التهييج والإثارة ، فإنك حين تطلق القول بأن النص القرآني يتأنسن مع أول اتصال له بالواقع ، وأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم للتنزيل ليس من قبيل الوحي المعصوم وإنما هو من جنس التأويل البشري الذي قد يصيب حكم الله وقد لا يصيب ، وتنفي عن أقواله صلى الله عليه وسلم معنى العصمة وتسوي بينه وبين من جاء بعده من العلماء والفقهاء فإنك تصيب الإسلام في مقتل ، لأنه لن يبقي للأمة في هذه الحالة من أصول دينها ما تتمسك به وتتحاكم إليه، ويستطيع أن يعبث به من شاء ويطوعه من شاء إلى ما شاء وكيف شاء ، ولا سبيل إلى إيقاف هذا العبث بنص قرآني لأن القرآن قد تحول من تنزيل إلى تأويل ، ومن منطوق إلى مفهوم ، ولا بحديث صحيح لأن الحديث تأويل من التأويل لا عصمة له ولا قداسة لمضمونه ، ولا بإجماع صريح لأنه إذا لم تكن العصمة للنص الصحيح فأولى ألا تكون لإجماع ولا لغيره ، فىنفلت الأمر وتتزعزع الثوابت وتمد الأسباب للزنادقة وعبدة الأهواء يقوضون الإسلام ويأتون على بنيانه من القواعد !!
مبدأ تطبيق الشريعة فوق الحوار !!
يتفشى بين الدعاة إلى تطبيق الشريعة اتجاه دكتاتوري بالغ الخطورة يتبنى مقولة أن مبدأ تطبيق الشريعة فوق الحوار ، وأنه خارج عن نطاق الشورى لارتباطه بأصل الإيمان فلا تملك الأمة معه إلا الإذعان ، ويرد عليهم الطرف الآخر بأن هذه القضية لا يشترط لإقرارها الحوار فقط ولا تحقق الأغلبية فحسب ، بل لا بد فيها من الاتفاق التام لأنها تتعلق بتغيير جذري وتمثل انعطافة حادة لا يكتفي في مثلها بتحقيق الأغلبية التي يقبل بها في المسائل العادية ؟
- يجب التفريق في هذه القضية بين المبدأ وبين التفاصيل ، فمبدأ الإقرار بسيادة الشريعة والالترام بما يقرره الإسلام من نظم وأحكام يتصل اتصالا وثيقا بأصل الإيمان بالله ورسوله ، وذلك أن أصل الإيمان تصديق وانقياد ، تصديق الخبر والانقياد للأمر ، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد لم يثبت له عقد الإسلام .
فالايمان بالله يقتضي الالتزام بالعبودية المطلقة له تصديقا بوحيه وانقيادا لشرعه ، وكذلك الإيمان بالرسول إنما يقتضى الإقرار برسالته تصديقا وانقيادا ، فما آمن بالله ورسوله من كذب بالوحى أو أبي الانقياد لشرائع الإسلام ، فمبدأ الالتزام بسيادة الشريعة وحاكمية الكتاب والسنة هو أساس العبودية ، وهو معقد التفرقة بين الإيمان والزندقة .
أما تفاصيل الأحكام الشرعية فمنها ما هو قطعي في ثبوثه ودلالته ، ومنها ما هو ظنى في أحدهما ، ومن هذه الأحكام ما هو ثابت ومنها ما هو متغير لكونه مما بنى على العرف أو المصلحة الشرعية ، وهما يتغيران بتغير الزمان والمكان والأحوال ، وفىما عدا القطعيات والثوابث فهناك مجال رحب للحوار والمناقشة والمقارنة بين الأدلة ، والمقابلة بين الأراء ، واعتبار المصلحة بضوابطها ليتم الترجيح في النهاية في إطار الضوابط المعتبرة شرعا للترجيح تدور في الجملة حول قوة الدليل وغلبة المصلحة .
أما القطعيات والثوابت فهذه لا مجال فيها لجدل ولا موضع فيها لتشاور ولا يملك المؤمن معها إلا الطاعة والانقياد كما قال تعالى : • ( الأحزاب : 36)
لا اجتهاد مع النص
يقودنا هذا التحليل إلى مناقشة مقولة - لا اجتهاد مع النص - التي يشهرها التىار الإسلامى دائما في وجه كل محاولة مستنيرة لتحليل النصوص وسبر أغورها واستظهار مقاصدها ، زاعمين أنه إذا وجد النص فقد أغلقت أبواب المرافعة وصدر الحكم النهائي البات ، فما مدى دقة هذه المقولة لا سيما إذا علمنا أن عمر قد عطل العمل بحد السرقة عام المجاعة و هو اجتهاد مع نص قطعي لا يماري في قطعيته أحد ؟
- يجب ابتداء أن نحرر المراد بالنص في هذه المقولة ، ذلك أن النص قد يراد به المعنى العام أي الكتاب والسنة أي ما قابل القياس والأدلة الأخرى ، وهو في هذه الحالة منه ما هو ظني ومنه ما هو قطعي ، وقد يراد به المعنى الأصولي وهو ما دل على معناه بغير احتمال ، فلا يشمل في هذه الحالة إلا القطعي فقط ، وهنا يجب الانتباه إلى أن النص المقصود في عبارة ( لا اجتهاد مع النص ) هو النص بالمعنى الثاني أي النص القاطع الدلالة وهو ما دل على معناه بغير احتمال.
وإذا تقرر ذلك فإن الأصل أنه إذا وجد النص القطعى فقد تحرر الحكم الشرعي الواجب الاتباع ، وكل محاولة لمراغمة هذا النص أو ابطال دلالته على موضوعه محاولة آثمة . والأصل في ذلك قول الله تعالى :
• (الأحزاب : 36)
ومن ناحية أخرى فإن هذه المقولة لا تتنافي مع ما أشار إليه السؤال من تحليل النص واستكناه أسراره والتعرف على مقصود الشارع منه فإن هذا من التدبر الواجب للقرآن وهو السبيل إلى التطبيق الصحيح للنصوص الشرعية ، فما من نص من النصوص إلا ويرتبط تطبيقه بشروط يجب تحققها ، وموانع يجب انتفاؤها ، فإذا قال تعالى :
فإننا نحتاج في تطبيق هذا النص إلى الرجوع إلى السنة النبوية لمعرفة السرقة الموجبة للحد والفرق بينها وبين الصور التي قد تلتبس بها ولا توجب الحد كالخيانة والانتهاب والاختلاس ونحوه ، ثم معرفة شروط إقامة هذا الحد ومعرفة موانعه وهكذا ، في منظومة فقهية متكاملة تتناسق فيها بقية النصوص المتعلقة بهذه القضية حتى يتم تحرير هذا الحكم ومعرفة مناطه وتحويله إلى واقع عملي ، وليس هذا اجتهادا مع النص بل هو اجتهاد في فهم النص وتنقيح مناطه وتحرير شروطه ، وذلك هو الفقه الذي تميز به أهل العلم ، وانقسم الناس عنده إلى فقهاء وعامة .
وعلى هذا الأساس يمكن فهم ما فعله عمر رضي الله عنه عام الرمادة على وجهه ، فهو لم يجتهد مع النص ، وإنما اجتهد في فهمه ، إن للحدود شروطا يجب أن تتحق وموانع يجب أن تنتفي ، ومن موانعه وجود الشبهة المعتبرة ، ولقد رأى عمر كثرة المحاويج في هذا العام الأمر الذي يعني اختلاط من يسرق اضطرارا بمن يسرق عدوانا ، فكان هذا الاختلاط شبهة تدفع الحد إلى أن تسد هذه الخلة فتعود الأمور سيرتها الأولي ، فهو لم يطبق لعدم توفر شروط إقامته ، وهي شروط أرشدت إليها الشريعة ذاتها ، فلم يكن ذلك من عمر تجاوزا للنص ولا افتياتا عليه ، فحاشاه ذلك وهو الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على قلبه وعلى لسانه ! ونزل القرآن موافقا له في مواطن كثيرة .
تغييب الوعى !!
يمارس التيار السياسي الإسلامي عملية تغييب للوعي واسعة النطاق عندما يصور للشعب أن تطبيق الشريعة سيؤدي على الفور وبطريقة آلية إلى تبخر كل ما يعانية من مشكلات لما يتبعه - بزعمهم - من صلاح فوري للمجتمع حكومة ومواطنين وحل فوري لكافة مشاكله ، وأن قوى السماء ستتدخل من أجل حل مشكلاتنا دون أن نبذل جهدا يذكر ، بل يوظفون كل ما يمر بالأمة من الأحداث العامة بنفس المنهج، فيفسرون هزيمة 76 على أنها عذاب من الله بسبب بعدنا عن الشريعة ، ولا ندري لعلهم سيقولون بالمقابل إن انتصار إسرائيل كان بسبب تطبيق الشريعة ! و يفسرون ما يعانية المواطنون من أزمات وغلاء ونحوه أنها بسبب البعد عن الله ولا ندري أيضا لعلهم سيقولون إن ارتفاع مستوى المعيشة في المجتمعات الغربية بسبب قربهامن الله ! ويفسرون قلة السرقات في بعض البلاد البترولية بسبب إقامة الحدود ، ولا ندرى لماذا لا يتحدثون عن شيوع بعض الفواحش الآخرى كاللواط مثلا رغم إقامة الحدود ؟ ولم يغفلوا عوامل أخرى تساعد على الحدمن السرقة كارتفاع مستوى المعيشة مثلا ، إن هذا وغيره يشبه أن يكون عملية اغتيال معنوي لوعي الأمة وترديدا لمقولات شديدة الرجعية والتخلف ، لا تمت للمنطق العلمى السديد بصلة فهل لكم من تعليق ؟!
- لا أعرف أحد ممن يعتد بقولهم في التيار الإسلامي يزعم أن التطبيق الفوري للشريعة سيحل مشاكلنا الراهنة بطريقة آلية ، أو بمعجزة غيبية دون أن نبذل جهدا يذكر ، فإن هذا من التناقض الفاحش والبينة على من أدعى .
ووجه ذلك أن تطبيق الشريعة يتضمن فيما يتضمن الدعوة إلى العمل الجاد المتواصل والسهر الدائب على رعاية مصالح الأمة ، واتخاذ أقصى ما يمكن اتخاذه من الأسباب والوسائل ، واعتبار ذلك من الفرائض الدينية التي تأثم الأمة كلها بتركه ، ولعل العامة والخاصة يحفظون قول الله تعالى :
• ( الأنفال : 60)
وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي : « أعقلها وتوكل»( ) وقوله صلى الله عليه وسلم لمن انقطع للعبادة اعتمادا على إنفاق أخيه عليه : « أخوه أعبد منه » فكيف يمكن القول بأن تطبيق الشريعة سيحل الأمور بطريقة آلية دونما جهد ولا عناء ؟! ولكن الذي يؤكد عليه أصحاب الدعوة إلى تطبيق الشريعة أن توفيق الله جل وعلا وتأييده سيرعي المجتمع الذي يهتدى بهديه ويقوم بأمره ، ومن هديه وأمره تعالى الكدح وبذل الجهد وليس السلبية والتواكل ، وهذا الذي يقولونه سديد في النقل والعقل معا :
فقد قال تعالى : • • • (طة : 123-126) وقال تعالى : • • ( الأعراف : 96 ) . وقال تعالى : • • ( المائدة : 66 ) وقال تعالى : • •
( النحل : 97 )
وجمهور المفسرين على أن الحياة الطيبة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة ( )وقال النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح : « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا »
وبالمقابل قال تعالى عمن كفروا بنعمه وعتوا عن أمره : • ( الطلاق : 8-9) وقال تعالى : • • (النحل : 112 )
ومن ناحية العقل فإن تطبيق الشريعة بما ينتجه من إشاعة الطهر والخلق في المجتمع ، وبما يغرسه في النفوس من مراقبة الله في السر والعلن ، وبما يحث عليه من بذل غاية الجهد والإتقان في العمل ، وبما يدعو إليه من اعتبار إعداد القوة في مختلف المناحى عبادة وقربي لا يقل أجر أصحابها إن أخلصوا القصد عن أجر المجاهدين والمرابطين ، وبما يخلقه من التلاحم بين الحاكم والرعية تعاونا على البر والتقوي وتناهيا عن الإثم والعدوان لا شك أنه وسيلة للخروج من المأزق الذي تشقي به مجتمعاتنا المعاصرة .
وأكتفي هنا بسوق مثال واحد لبيان صلة هذا البعد الإيمانى بالتنمية وزيادة الإنتاج في المجتمع.
لقد تأصل في قواعد الشريعة أن الأجر مقابل العمل ، وأن كل جزء من الأجر مقابل بجزء من أجزاء العمل ، وأن الجزء من الأجر الذي لا يقابل بعمل إنما هو سحت يأكله صاحبه فليقل أو ليكثر ، وأن من تخوض في مال الله بغير حق فله النار يوم القيامة ، ولقد بلغ من دقة فقهاء الإسلام في تأكيد هذا المعنى أن اختلفوا في مدى جواز صلاة النافلة أثناء قيام العامل بعمله ، ومنهم من ذهب بجوازها على أن يقتطع من راتبه ما يقابل الوقت الذي أنفقه في أداء هذه النافلة .
فتخيل معى مجتمعا تربى أبناؤه على هذه القيم ، كم تكون إنتاجية العامل في اليوم ، ومامدي الصيانة التي تتحقق للمال العام والوظيفة العامة في ظل هذه المفاهيم ؟!
ثم قارن بعد ذلك بين هذه الصورة وبين ما يجري عليه العمل في واقعنا المعاصر وكيف تحولت المرافق العامة والأجهزة الإدارية في مجتمعاتنا المعاصرة إلى أماكن لقراءة الصحف وتناول المشروبات وتعطيل مصالح المواطنين .
إن تطبيق الشريعة لا ينتج لنا القضاء على مأزقنا بطريقة آلية ، وإنما يضع أقدامنا على بداية الطريق الصحيح للخروج من هذا المأزق ، ويضع في أيدينا أمضي الأسلحة لمواجهتها ، ويبقي الأمر بعد ذلك مرهونا بمدي الجد في المضى في هذا الطريق ومدي الهمة التي تتوافر لاستخدام هذه الأسلحة لمطاردة عقابيل التخلف والفقر والتبعية .
أما الربط بين ما يصيب الإنسان من بلاء وبين تفريطه في جنب الله فذلك صريح القرآن الكريم ، ولا ينبغى لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشك في هذا الأمر أو أن يسوقه في معرض التندر والسخرية .
قال الله تعالى : ( الشورى:30) وقال تعالى : • (آل عمران : 165 ) وقال تعالى : • ( طه : 124-126 ) وحسبنا ما جري للمسلمين يوم أحد ، ولم يشفع لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، وأن القرآن يتنزل عليهم .
وهذا التناول الإيماني لا يتعارض قطعا في حس المسلم السوي مع ضرورة الكشف عن الأسباب المادية التي تنجم عنها هذه الكوارث ، والسعى إلى تلافيها وإعداد العدة لمواجهتها بأقصي ما يمكن اتخاذه في ذلك من الأساليب والوسائل بل إن القعود عن ذلك جريمة جديدة تستوجب لصاحبها مزيدا من الكوارث والابتلاءات ، فلا تعارض إطلاقا بين التفسير الإيمانى للأحداث وبين التحليلات العلمية لأسبابها المادية ، واتخاذ الأسباب العلمية لمعالجة آثارها وللوقاية منها ، فإن الإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في العقل ، والتعويل عليها وحدها قدح في التوحيد ، والتوفيق في الجمع بينهما، إذن لامبرر لهذا التعارض المفتعل .
أما الاحتجاج بأن القول بأن هزيمة 76 كانت عقابا من الله لتفريطنا في جنبه يلزم عليه أن يكون انتصار دولة إسرائيل في المقابل بسبب قيامها بأمر الله ، فالجواب أن هذا من التلازم المفتعل أو من لزوم ما لا يلزم ، لأن إسرائيل في هذه الحالة ستكون أداة من أدوات القدر ينتقم الله بها ممن عتوا عن أمره ، ولا يلزم أن تكون في ذاتها موضع رضا من الله أو موضع سخطه .
ولقد أجمعت الأمة على أن هزيمة المسلمين في أحد كانت بسبب تفريط الرماة في طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل أحد أن انتصار المشركين في المقابل كان بسبب رضاء الله عليهم .
وقد تبتلي الرعية بسبب سوء أعمالها بحاكم ظالم يسومها سوء العذاب ولا يعنى ذلك أن هذا الحاكم الظالم موضع رضا الله وولا يته ، فقد ينتقم الله من الظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما ما لم يحدثوا توبة .
وهل يمكن تفسير الضنك وانخفاض مستوى المعيشة بنفس المنطق في الوقت الذي نرى فيه دولا كافرة وقد حققت أعلى مستوى في المعيشة بالمقاييس العالمية ؟
- ولم لا . وقد قال تعالى : • • (النحل:112 ) .
أما ارتفاع مستوي المعيشة في بعض الدول الكافرة فهو نوع آخر من الابتلاء قد يفوق في بعض جوانبه الابتلاء بالضراء فإن الابتلاء بالسراء يطغي وينسي . أما الابتلاء بالضراء فإنه يحمل أصحابه على الإنابة والتوبة وهذا هو الاستدراج المشار إليه في قوله تعالى :
( الأعراف : 182 )
والذي ورد بشأنه الحديث الصحيح : « إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج » ( ) .
وهل ينسي أحد منا قصة عمر بن الخطاب رضى الله عنه عندما بكي لرؤية النبى صلى الله عليه وسلم وقد أثرت الحصير في جنبه الشريف ، وتذكر ما عليه طواغيت الفرس والروم من التقلب على الحرير والديباج ، وما كان من غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله له : « أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ! » .
أما تعليل انخفاض معدل السرقات في السعودية بإقامة الحدود فهذه شهادة الواقع الذي لا يكابره إلا معاند ، ولا دخل لارتفاع مستوي المعيشة في هذا الأمر فقد انخفض هذا المعدل بل وأوشكت هذه الجريمة أن تختفي من السعودية بمجرد إقامة هذا الحد وقبل أن يظهر البترول في السعودية بمدة طويلة ، وكان كثير من أهل السعودية يعيشون يومئذ على الصدقات وفضول الأموال التي يقدمها لهم الحجيج ، أما شيوع بعض الفواحش الأخرى فلأن الأصل في هذه الفواحش هو الخفاء والتكتم ومعظمها لا يصل علمه إلى القضاء ، وليس للشريعة إلا ما ظهر من أحوال الناس ، ولم يقل أحد بل ولا ادعى أهل هذه البلاد أن تطبيقهم للشريعة هو النموذج الذي أوفي على الغاية ولكنهم يحسنون ويسيئون !
وبعد فهذه هى الحقيقة فيما سميته اغتيالا معنويا لوعي الأمة ، فهل نكون قد تجاوزنا الحقيقة إن قلنا إن هذا المنطق الذي تسوقه هو الذي يمثل اغتيالا لوعيها الدينى ، وقمعا لكل محاولة جادة تستهدف إيقاظ هذا الوعى وتجديد ما اندرس من صلتها بالله ؟!
صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان
إذا سلمنا أن الشريعة قد أدت دورها إبان البعثة وفيما تلا ذلك من القرون الأولى في صيانة المجتمع والوفاء بحاجاته البسيطة يومئذ فهل تصلح اليوم للوفاء بحاجات مجتمعاتنا المعاصرة على تشابكها وتنوعها وبلوغها الغاية في التعقيد والتطور . إن جوهر الإنسان هو التغير ، وجوهر الشريعة هو الثبات ، فكيف للقوالب التشريعية الثابتة التي لبت حاجات القرون الأولى أن تلبي حاجات هذا القرن الذي فجر الذرة ، وغزا الفضاء ؟ إن النصوص التشريعية محدودة ومتناهية ، وحاجات الإنسان متجددة وغير متناهية ، فأنى للمحدود المتناهي أن يلبي حاجات اللا محدود و أن يفي بحاجاته ، أليس من الأحفظ للشريعة أن نصونها تراثا مقدسا نذكره بكل الإكبار والإجلال كظاهرة تاريخية فذة ، ثم ننطلق نحن نقيم بناءنا التشريعي المعاصر من وحي حاجاتنا المعاصرة بعيدا عن التقيد بهذه الظاهرة التاريخية ، فنصون بذلك تراثنا من العبث ، ونحرر مسيرة تقدمنا من الجمود والأسر ؟ ألا تزال مقولة صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان تفرض وصايتها على عقولنا المعاصرة وتحول بيننا وبين الانعتاق التشريعي والانطلاقة الحرة نحو ما نصبو إليه من منجزات وطموحات ؟!
- صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان من المعلوم بالضرورة من الدين ، وقد انعقد عليها إجماع السابقين واللاحقين من المسلمين وهي تعتمد على أن هذه الشريعة هي الشريعة الخاتمة التي نسخ الله بها ما قبلها من الشرائع ، وأوجب الحكم بها والتحاكم إليها إلى أن يرث الله الأرضومن عليها ، وتوجه الخطاب بها إلى أهل الأرضكافة من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فلا بد إذن أن تكون من الصلاحية بحيث تلبي حاجات البشرية في مختلف أعصارها و أمصارها ، وتحقق مصالحها في كل زمان ومكان .
وإنى أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثني وفرادى ثم تتدبروا في هذه الأسئلة :
هل ختمت الرسالات حقا بمحمد ؟ لقد تولى الله الإجابة على ذلك بنفسه فقال : • • ( الأحزاب : 40 )
هل أوجب الله الحكم بشريعته ، وحذر من العدول عنها أو التحاكم إلى غيرها ؟ لقد تولى الله سبحانه الإجابة على ذلك فقال : ( المائدة : 49 ) • ( الجاثية : 18 ) ( النساء : 65 ) • ( النور : 47 )
هل نسخت هذه النصوص التي تلزم بهذه الشريعة وتوجب الحكم بها وتنفي الإيمان عمن خالفها ؟ ولا شك أن الجواب على ذلك هو النفي القاطع فإن النسخ لا يكون إلا في زمن البعثة ، لأن هذا الحق ليس لأحد من دون الله ، ولا سبيل إليه إلا بالوحي المعصوم ، وقد أكمل الله لنا الدين ، وأتم علينا النعمة ، وأحكم آياته ، وتعبدنا بها إلى قيام الساعة ، قال : « تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي »!
هل يعنت الله عباده بتكليفهم ما لا يطيقون ؟ أو يلزمهم بما تضطرب به أمورهم فيفتنون ؟ أو يتعبدهم بما يحول بينهم وبين التمكين في الأرضفيغلبون على أمرهم ويقهرون ؟ أيليق بالحكيم أن يلزم أولياءه بما يشقون به في دنياهم ويقعد عن الوفاء بمصالحهم ويهوي بهم إلى أغوار قصية من التخلف والتبعية ؟ وهو الذي أخبر عن نفسه بأنه أرحم بهم من الوالدة بولدها كما أخبر المعصوم ؟ إن الجواب على ذلك كله هو النفي القاطع الذي يجزم به كل من عرف ربه وهدي إلى تدبر آياته ، وفقه عن الله قوله :
• •
وعن نبينا قوله : « إنى تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدى أبدا كتاب الله وسنة نبيه»( ).
فإذا استقر ذلك كله فقد استقر خلود الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان وأن الإيمان بهذه الحقيقة من جنس الإيمان بالله ورسله .
وإن مما يؤسي له أن يتواصي العالمانيون في لقاءاتهم ومنتدياتهم بما سموه ( بالحل الإيجابى الهجومي ) والذي تتمثل أبرز عناصره في ضرب هذه الثوابت الإسلامية للتأثير فيما سموه بالأغلبية الصامتة غافلين أو متغافلين عن أن هذه الضربات إنما تنال من الإسلام قبل أن تنال من الجماعات الإسلامية !
ففي الندوة التي عقدها هؤلاء تحت عنوان (التطرف السياسي الديني ) صرح أحدهم بأن : « أحد المرتكزات الرئيسية للتأثير في الأغلبية الصامتة ( الجماهير ) هو ضرب المرتكزات الأساسية التي تنطلق منها هذه الاتجاهات الدينية ، وأهم هذه المرتكزات قولهم إن هناك نصوصا ثابتة ، صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان ، فإذا ألقينا الضوء على هذه النصوص وبينا أنها متغيرة تتغير باختلاف الزمان والمكان ، سنكون قد خطونا خطوة كبيرة » ( ) .
ويعلق عليه آخر بقوله : « من أهم عناصر الحل ، إزالة حاجز الخوف الذي لا يجعلنا نفصح بوضوح عن مواقفنا بكاملها تجاه هذا التيار المتطرف ، إن بعضنا يخشى استخدام كلمة عالمانية ، وهي ليست مخيفة ... يجب أن نكتب بوضوح مثلا في صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان ... أي أن نقول إنه ليس هناك في أمور البشر قاعدة من هذا النوع » ( ).
ولا نملك أمام هذه الاستفزازات إلا أن نصبر على ما يقولون وندعو الله لهم بالهداية ! كما قال تعالى :
( الجاثية :14 )
ولكنك لم تجب على الإشكالية التي يطرحها ما ذكرته لك من أن الشريعة جوهرها الثبات والإنسان جوهره التغير ، فضلا عن محدودية النصوص وعدم محدودية الحوادث التي يفترض أن تحكمها هذه النصوص ؟
- ما تذكر من أن الشريعة جوهرها الثبات والإنسان جوهره التغير ، يعد في الواقع تغافلا عن حقيقة الشريعة وحقيقة الإنسان .
فلا الشريعة ثابتة في كل أحوالها ، ولا الإنسان متغير في كل شئونه ، فالشريعة منها ما هو ثابت محكم وهو القطعيات ومواضع الإجماع ، ومنها ما هو متغير نسبى وهو الظنيات وموارد الاجتهاد ، بل إن منها منطقة العفو التي أحالت فيها إلى التجربة والمصلحة في إطار من قواعد الشرع الكلية ومقاصده العامة .
ولقد كان منهج الشريعة في ذلك كله إجمال ما يتغير وتفصيل ما لا يتغير ، ولهذا فصلت القول في باب العقائد وباب العبادات وأحكام الأسرة ونحوه ، وأجملت القول في كثير من المعاملات التي تتجدد فيها الحاجات وتكثر المتغيرات واكتفت فيها بإيراد المبادئ العامة والأطر الكلية ، تاركه للخبرة البشرية أن تتصرف في حدود هذه الأطر بما يحقق المصلحة ويدفع الحاجة ، ولهذا جعلت الأصل في العقود والشروط هو الإباحة إلا أن يأتى نص بالتحريم ، في الوقت الذي قررت فيه أن العبادات توقيفية ، وجعلت الأصل فيها هو المنع ، حتى يأتي دليل يدل على المشروعية .
لقد أمرت الشريعة مثلا بالشورى و أكدت عليها ، ولكنها أحالت في أساليبها إلى الخبرة والتجربة ، لأن هذه الأساليب مما يتجدد بتجدد الزمان وتطور الحاجات .
ولقد جعلت الشريعة السلطة للأمة ، تمارس بها حقها في تولية حكامها وفي الرقابة عليهم بل وفي عزلهم عند الاقتضاء وأحالت في وسائل ذلك إلى الخبرة والتجربة ، ولم تلزم بشكل معين قد تتجاوزه ظروف الزمان والمكان فلا يفي بالحاجة ولا يحقق الغرض وهكذا ، ولكنها لما أمرت بالصلاة أو الحج فصلت القول في ذلك تفصيلا دقيقا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : « صلوا كما رأيتموني أصلى » وحج أمام أصحابه وقال : « خذوا عني مناسككم » وجعل كل محدثة في ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار !
أما ما ذكرت من تغير الإنسان فإن ذلك ليس على إطلاقه ، لأن من شئون الإنسان ما هو ثابت ومنها ما هو متغير متجدد ، فالغرائز الفطرية والحاجات الأساسية للإنسان ثابتة محكمة ، وسيظل الإنسان ما بقى الليل والنهار ، ومهما تغير الزمان والمكان في حاجة إلى عقيدة يعرف بها سر وجوده واتصاله بخالقه ، وإلى عبادات تزكي روحه وتطهر قلبه ، وإلى أخلاق تقوِّم سلوكه وتهذِّب نفسه ، وإلى شرائع تقيم موازين القسط بينه وبين غيره ، فالذي يتغير من الإنسان هو العرض لا الجوهر ، الصورة لا الحقيقة ، ولقد تعاملت نصوص الشريعة مع الإنسان على هذا الأساس ففصلت له القول في الثابت الذي لا يتغير من حياته وسكتت أو أجملت فيما من شأنه التغير والتجدد ، صنع الله الذي أتقن كل شيء، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟!
ولماذا نجهد أنفسنا في إثبات هذه البديهية وبين أيدينا شهادة الواقع العملى ناطقة بما نقول : ألم تطبق هذه الشريعة زهاء ثلاثة عشر قرنا من الزمان وحققت لهذه الأمة في ظلها أقصي ما تصبو إليه أمة من الأمم في هذه الدنيا من العزة والتمكين ؟ ألم تصبح تركيا بالإسلام وفي ظل تطبيق الشريعة هى الدولة التي تملأ عين الدنيا وسمعها ، وباتت تخيف جارتها روسيا بل وظلت عدة قرون تدير رحى الحرب داخل الأراضي الروسية نفسها ... ثم تنكرت للإسلام فأصبحت دويلة تعيش مرعوبة في أقل من 01% من حدودها الأولى،وأقصى ما تتطلع إليه أن تصبح عضوا في السوق الأوربية المشتركة وأوربا تضن عليها بذلك !
والعجيب أن تتهم الشريعة بالجمود وعدم الصلاحية من قبل فريق من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا في الوقت الذي نرى فيه من فلا سفة الغرب و أصحاب الرأي فيه من يشيد بهذه الشريعة ويشهد لها بالخلود والحيوية والتفوق .
ففي أسبوع الفقه الإسلامى الذي عقد بباريس وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية لم يلبث أحد الحضور وكان نقيبا للمحامين أن أعلن دهشته وعجبه قائلا : «أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي ، وعدم صلاحيته أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصرى المتطور وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ )»( ).
وفي مؤتمر القانون الدولى الذي عقد بلاهاى 8491 وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية أصدر المؤتمر قرارا باعتبار : ( أن الشريعة الإسلامية حية مرنة تصلح للتطور مع الزمن وتعتبر مصدرا من مصادر القانون المقارن ، وأن اللغة العربية قد دخلت من الأن فصاعدا في عداد اللغات التي يجب أن تسمع في المؤتمر ) ( ).
ولقد تفردت هذه الشريعة بعلم أصول الفقه الذي دون قواعده الشافعى رحمه الله وأنضجه الأئمة من بعده وهو علم يضبط عملية استنباط الأحكام من الأدلة ، ويحول بين الأمة وبين الجمود من ناحية ، كما يحول بينها وبين التحلل وخلع الربقة من ناحية أخري .
ومن القواعد المقررة في هذا العلم والتي تمثل عوامل السعة والمرونة في هذه الشريعة وتكفل وفاءها بمختلف الحاجات المتجددة ما ذكره أهل العلم من :
- أدلة التشريع فيما لا نص فيه كالاستحسان ، والاستصحاب والعرف ونحوه ، ورعاية الضرورات والأعذار والظروف الاستثنائية ، وتغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف إلى غير ذلك من قواعد الرشد والحيوية في هذه الشريعة الخالدة على أن يتم ذلك في إطار منضبط من الاجتهاد الشرعى المعتبر وليس بإطلاق العنان للأهواء والاسترسال مع دعوات التغريب تحت شعار التقدم والتجديد والاستنارة حتى لا يستباح حرم الشريعة أمام كل دَعِيٍّ جهول ! (*)
تطبيق الشريعة و الثيوقراطية
ألا يقودنا تطبيق الشريعة إلى دولة دينية تحكم بالحق الإلهى ، فتضفي على قراراتها صفة القداسة الدينية ، وتدمغ خصومها أو معارضيها بالكفر ، وتقيم محاكم التفتيش التي تحاسب الناس على مكنونات صدورهم بدعوى حراسة الدين وحماية الإيمان ، بينما يتحاور الناس في ظل الدولة العلمانية بمنطق الصواب والخطأ ، وتتسع الساحة للرأى والرأى الآخر ويحل الحوار والديموقراطية محل الإرهاب والدكتاتورية ؟
- بادئ ذى بدء يجب أن نتفق على حقيقة الثيوقراطية أو الحكم بالحق الإلهى ، ثم نطبق ذلك المفهوم على الدولة الإسلامية لنرى مدى صدق هذه الدعوي .
إن الثيوقراطية هى ذلك النظام من الحكم الذي يجعل من الدين والتفويض الإلهى مصدرا للسلطة السياسية ويدعى القائمون عليه أنهم مفوضون عن الله ، وأنهم ناطقون باسم السماء فما يحلونه في الأرضيكون محلولا في السماء ، وما يربطونه في الأرضيكون مربوطا في السماء ، وإن جميع قراراتهم هى حكم الله فيجب الإذعان لها والرضا بها دون مراجعة أو اعتراض لأن الاعتراض عليها يعني الاعتراض على الله الذي يتحدثون باسمه وهم وكلاؤه على الناس .
فالثيوقراطية إذن تقوم على ركنين أساسيين :
1. التفويض الإلهى للسلطة السياسية ، فالحاكم نائب عن الله ، وليس نائبا عن الأمة ، وهو مفوض من قبل الله للحكم بين العباد .
2. استئثار هذا الحاكم بالحق في التحليل والتحريم والتشريع الدينى نيابة عن الله ، فكل ما يصدر عنه فهو دين واجب الاتباع لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه .
وقد عرفت أوربا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطي بناء على الكلمة المأثورة لديهم والتي ينسبونها إلى السيد المسيح عليه السلام ( ما تحلونه في الأرضيكون محلولا في السماء،وما تربطونه في الأرضيكون مربوطا في السماء ).
ولهذا كان يملك الأحبار والرهبان حق النسخ والتحليل والتحريم من دون الله ، وقد شنع القرآن عليهم في ذلك في قوله تعالى :
( التوبة : 31 ) .
وبينت السنة أن هذه الربوبية كانت في التحليل والتحريم حيث كان الأحبار والرهبان يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ،ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه ، وهذه كانت عبادتهم إياهم .
والسؤال الآن هل عرف الفكر الإسلامى أو الدولة الإسلامية هذا النوع من الحكم عبر التاريخ ؟
إن البديهية الأولى في الإسلام أن التشريع المطلق حق خالص لله جل وعلا ، وأن ادعاء التحليل والتحريم من دون الله منازعة لله في أخص خصائص الربوبية ، وأن الطاعة المطلقة في ذلك عبادة لغير الله وأنه لا يحل لأحد أن يقول هذا حكم الله أو هذا حلال وهذا حرام إلا حيث يكون النص القاطع المحكم ، وأن مبلغ القول في مسائل الاجتهاد أن يقول الفقيه المجتهد : هذا مبلغنا من العلم ، وهو صواب يحتمل الخطأ ، وليس له أن يلزم به ، ولا أن ينكر على مخالفه ، وقد تقدم إيراد طرف من مقولات أهل العلم في هذا المعني .
فمن أين تأتي شبهة الثيوقراطية في ظل هذه المبادئ الصارمة، والفصل التام بين حق الله في التشريع ؟ وحق الأمة في التنفيذ ؟
ألم ينع القرآن الكريم على بنى إسرائيل أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله بما أعطوهم من حق التحليل والتحريم من دون الله ؟ فسوى بين التسليم للأحبار والرهبان بالحق في التحليل والتحريم وبين القول بألوهية المسيح وجمع بينهما في نسق واحد ، ألم يقل القرآن الكريم :
• ( النحل : 116).
ألم يقل النبى في الحديث الذي أخرجه مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه : « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدرى أتصيب فيهم حكم الله أم لا ؟ » ففرق بين حكم الله وبين حكم الأمير المجتهد ، ونهي أن يسمي حكم المجتهدين حكم الله .
ألم ينه كبار الأئمة تلاميذهم ومن جاء بعدهم عن تقليدهم حتى يحتاطوا لدينهم ويستوثقوا لأنفسهم ويأخذوا من حيث أخذوا ، فكيف يزعم اليوم تائه من التائهين أوماكر من الفاتنين أن تطبيق الشريعة يقود إلى الثيوقراطية ، ويمهد السبيل لكهنوت الدولة الدينية ؟!
الأمة مصدر السلطات
أما عن مصدر السلطة السياسية في النظام الإسلامي فهو الاختيار الحر بواسطة أهل الحل والعقد في الأمة فهو يعتمد على رضا الأمة واختيارها وليس تفويضا من الله كما يزعم الزاعمون .
ولقد تكلم أهل العلم على ثلاثة طرق لاختيار الحاكم في الفكر الإسلامي :
أولهــا : النص . وهوخاص بالشيعة ولا يقول به من أهل السنة أحد .
والثانـى : الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد .
والثالث : العهد من الإمام السابق ، وإذا كان العهد من الإمام السابق هو مجرد ترشيح والأمة بعد ذلك هي صاحبة القرار في إمضاء هذا الترشيح أو إلغائه فقد آل الأمر إلى طريق واحد لا غير، وهو الاختيار بواسطة أهل الاختيار .
فالأمة هى صاحبة الحق في تولية حكامها ، وفي ممارسة الرقابة عليهم ، وفي عزلهم عند الاقتضاء ، فإذا زاغ الأئمة على الحق كانت الأمة عيارا عليهم : إما أن تعدل بهم إلى الحق أو تعدل عنهم إلى غيرهم مالم يفض هذا العزل إلى الفتن والتهارج و إراقة الدماء .
سيدي : إن مبدأ تقرير السلطة للأمة رغم أننا ننحنى له ونقبل به بغير تحفظ إلا أنه فكرة عالمانية محضة ، وأول من بشر بها فلاسفة الثورة الفرنسية بعد صراع طويل بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية ، فكان هذا المبدأ تتويجا لنضال هؤلاء الأحرار ، ونهاية لعهد الظلام والكهنوت الدينى، فكيف تزعم ان هذا المبدأ صناعة إسلامية ؟
- حق الأمة في تولية حكامها وفي محاسبتهم وفي عزلهم عند الاقتضاء مبدأ إسلامي أصيل ، ومن أدلته ما يلي :
1- ماقاله أبوبكر الصديق رضي الله عنه : « أطيعوني ماأطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم»( ) .
2- وما قاله عمر رضى الله عنه من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بلغني أن قائلا منكم يقول : والله لو مات عمر لبايعت فلانا ، فلا يفرق امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقي الله شرها ، وليس فيكم من تقطع الاعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا . » ( )
فتحرر في هذا أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين واختيار أهل الحل والعقد منهم، وأن ما فعله عمر مخالفا لهذا الأصل كان فلتة خاصة لا أصلا شرعيا يعمل به ، وإن من تصدي لمثل ذلك فبايع أحدا فلا يصح أن يكون هو ولا من بايعه أهلا للمبايعة ، بل يكون ذلك تغريرا منهما بأنفسهما قد يفضي إلى قتلهما إذا أحدثا في الأمة شقاقا يوجبه .
بل يذهب عمر إلى ما هو أبعد من ذلك فيقرر أن للأمة الحق في قتل أئمتها إذا زاغوا عن الحق فيقول : لوددت أنى وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقا وغربا ، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاعنهم ، فإن استقام اتبعوه ، وإن جنف قتلوه،فقال طلحة : وما عليك لو قلت: « وإن تعوج عزلوه » فقال عمر:« لا القتل أنكل لمن بعده » ( ) .
3- ما قاله على رضى الله عنه عندما اجتمع إليه الناس في بيته وأرادوا أن يعقدوا له البيعة فقال: إن بيعتى لا تكون خفية ، ولا تكون إلا في المسجد . فحضر الناس إلى المسجد ثم جاء على فصعد المنبر وقال : « أيها الناس عن ملأ وأذن إن هذا أمركم ليس لأحد من حق إلا من أمرتم ، وقد افترقنا بالأمس عـلى أمـــر وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا وأن ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي ، وليس لي أن آخذ درهما دونكم فإن شئت قعدت لكم والا فلا آخذ على أحد ، فقالوا : نحن على ما فارقناك عليه بالأمس : اللهم اشهد، فبايعه طلحة والزبير وقال لهما إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما ؟ فقالا : بل نبايعك فبايعاه ثم بايعه الناس » ( ) .
وفي رواية أخري أن الزبير قام فحمد الله وأثني عليه ثم قال : « أيها الناس.. إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى ، وقد تشاورنا فرضينا عليا فبايعوه ، وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه إن أمره إلى الله ، فقام الناس فأتوا عليا في داره فقالوا : نبايعك فمد يدك ، لابد من أمير ، فأنت أحق بها ، فقال : ليس ذلك إليكم ، إنما هو لأهل الشوري وأهل بدر فمن رضى به أهل الشوري وأهل بدر فهو الخليفة»( ).
4- ما روى عن عمر بن عبد العزيز بعد أن أخذت له البيعة بناء على عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك إليه أنه قام فصعد على المنبر ثم قال : « أيها الناس إنى لست بمبتدع ولكنى متبع ، وأن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتـم فأنا واليكم ،وإن هم أبوا فلست لكم بوال ثم نزل »( ).
فهو يري في عهد الخليفة إليه أنه مجرد ترشيح ، وأن الأمة هى صاحبة القرار وأن من كانوا في حاضرة الخلافة ليسوا بأولي من غيرهم في هذا الحق بل هو إلى عموم الأمة ، ويجب أن ينعقد الرضا من الكافة .
5 - إن الإمامة معتبرة عند أهل العلم من الفروض الكفائية ، والفروض الكفائية هى التي يتوجه التكليف بها إلى الأمة ، فالأمة شرعا هي المخاطبة بإقامة هذا الواجب ، وإذا لم تقم به على وجهه أثم الكافة . فهو ليس مجرد حق لها بل واجب أناطته الشريعة بها ، إن نزعه عنها أحد فهو ظالم . وإن تخلفت هي عن أدائه فهي آثمة .
6- ما قر في فقه السياسة الشرعية من أن لثبوت الإمامة عند أهل السنة طريقين: العهد من الإمام السابق ، أو الاختيار من الأمة ، وإذا كان الصحيح في العهد أنه مجرد ترشيح وأن الاختيار النهائي للأمة فلم يبق إذا إلا اختيار الأمة طريقا شرعيا معتبرا لانعقاد الإمامة ، فامتهد بذلك أن الأمة هي صاحبة الحق في ذلك .
قال البغدادي في أصول الدين : « قال الجمهور الأعظم من أصحابنا - يقصد أهل السنة - ومن المعتزلة ، والخوارج والنجارية : أن طريق ثبوتها - أي الإمامة - الاختيار من الأمة » ( ) .
7- إن الإمام إذا أراد الاستعفاء من منصبه فإنه يتقدم بذلك إلى الأمة فالأمة هى التي تعين وهى التي تقيل، وهى التي يطلب إليها الاستعفاء ، فدل ذلك على أنها هى صاحبة الحق في السلطة ابتداء ودواما .
قال الماوردى رحمه الله في بيان الأمور التي يختلف فيها الإمام عن الوزير : «للإمام أن يستعفي الأمة عن الإمامة وليس ذلك للوزير » ( ) .
8 - ما قرره أهل العلم من أن الأمة هى التي تتولي خلع الأئمة عند الاقتضاء لسبب يوجبه ، وهذا أمر بدهى لأن من يملك سلطة التوليه هو الذي يملك سلطة العزل .
قال البغدادي : « ومتي زاغ عن ذلك كانت الإمامة عيارا عليه في العدول به من خطئه إلى صواب ، أو في العدول عنه إلى غيره . وسبيلهم معه فيها كسبيله مع خلفائه ، وقضاته ، وعماله ، وسعاته إن زاغوا عن سننه عدل بهم ، أو عدل عنهم » ( ) .
وقال الإيجى : « وللأمة خلع الإمام وعزله ، بسبب يوجبه - أضاف الشارح- مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين ، وانتكاس أمور الدين ، كما لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها .»( )
أما الشكل العملى لممارسة الأمة لهذه السلطات فهو من أمور السياسة الشرعية التي تترك لتقدير أهل الفتوى في كل عصر ، وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال .
وإذا تقرر أن السلطة السياسية في الإسلام مصدرها الأمة ، وأن التشريع المطلق حق خالص لله عزوجل وحده فقد سقطت كل شبهة تنسب النظام الإسلامى إلى الثيوقراطية ، وتدمغه بكهنوت الدولة الدينية .
ويبقي الفارق الأساسى بين الإسلام وبين العلمانية أن سلطة الأمة في الإسلام مقيدة بسيادة الشريعة وحاكمية القرآن والسنة ، فليس لها أن تحل حراما أو أن تحرم حلالا أو أن تشرع من الدين مالم يأذن به الله ، أما سلطة الأمة في العلمانية فهي مطلقة من كل قيد فهي التي تصنع الحلال والحرام وهي التي تقرر ما تشاء من الشرائع بلا حريجة دينية ، ولا تقيد بشريعة سماوية .
وبقيت كلمة أخيرة تتعلق بما ذكرت من أن الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة سوف تحاسب الناس على ما استكن في صدورهم ووقر في قلوبهم ، وتجدد في العالم ذكرى محاكم التفتيش ونحوه ، فإن هذا لعمر الحق من أنكر التهم وأبطل ما تفوه به لسان منذ أن استطالت الألسنة على هذه الشريعة وانتصب لحربها المحاربون .
إن أمر المحاسبة على ما تكن الصدور ليس إلا للذى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور !! بل لو أطلع الله عبدا من عباده على شيء منه بواسطة الوحى المعصوم فإنه لا يصلح حجة تقام عليها أحكام أو تستباح بها حرمات !
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف من خلال الوحى المعصوم كثيرا من المنافقين ، ولكنه لا يملك إلا أن يجرى عليهم حكم الإسلام في الظاهر لأن نفاقهم لم يثبت بما تثبت به الاعتقادات المبيحة للدماء في أحكام القضاء .
ولقد جاءه رجل وهو يعطى فريقا من المؤلفة قلوبهم فقال له : « يا رسول الله اتق الله ! قال : ويلك أو لست أحق أهل الأرضأن يتقي الله ؟ ثم ولي الرجل فقال خالد بن الوليد : يارسول الله ألا اضرب عنقه ؟ وفي رواية قال عمر يارسول الله : إإذن لى أن أضرب عنقه ، قال : لا تفعل لعله أن يكون يصلى ؟ فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لم أومر أن أنقب في قلوب الناس ولا أشق بطونهم » ( رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدرى ) .
فإن كان هذا الحق لم يعط لرسول الله صلى الله عليه وسلم و هو المسدد بالوحي المعصوم فكيف يزعم زاعم أنه حق لمن يلي أمور المسلمين ، وأنه وصف ملازم للحكومة الإسلامية ؟!
سيدى : لقد حفظ لنا التاريخ رفض عثمان رضى الله عنه أن يعزل نفسه عن الخلافة وقوله في تعليل ذلك : قميص ألبسنيه الله لا أخلعه ، فكان بذلك أول من رأس الثيوقراطية في تاريخ الحكم الإسلامى ! كما حفظ لنا مقال المنصور في إحدى خطبه : أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده ، وحارسه على ماله ، أعمل فيه بمشيئته وإرادته ، وأعطيه بإذنه ، فقد جعلني الله عليه قفلا إن شاء أن يفتحنى فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم ، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلنى . فكيف يتسنى لنا القول بعد ذلك بأن الثيوقراطية فكرة كنسية لا يعرفها تاريخ الإسلام ؟
- أما مقولة عثمان رضى الله عنه فلا تحمل عند التحقيق شبهة الثيوقراطية من قريب أو من بعيد ، فقد كان يتحدث عن بيعة له وكان يعلم أن الذين بايعوه لم ينقضوا بيعته ، وأن الخارجين عليه ليسوا هم أهل الحل والعقد الذين يملكون القرار في التوليه والعزل ، وإنما كانوا قلة من الغاصبين ، ولقد أراد رضي الله عنه أن يصون منصب الخلافة عن أن يكون ألعوبة في أيدي الطائشين والمتمردين ، وأبى أن يترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض ، وتولى هذه القلة من يروق لها فتقع في الهرج ويفسد الأمر ، وعندما رفض أن يستجيب لهؤلاء الخارجين أبي أن يستنفر مؤيديه لصدهم وآثر أن يقدم نفسه قربانا حتى لا تسل السيوف بين المسلمين ، وقدم نفسه للشهادة راضيا مرضيا !! أفيصح أن يقال ممن يقف هذا الموقف إنه يحتمي بالحق الإلهي ليفرض سلطانه على الناس ؟!
ومن ناحية أخرى فقد روى أن هذا الموقف كان لوصية أوصاه بها النبى صلى الله عليه وسلم في نبوءة من نبوءات الغيب حيث قال له : « إن الله لعله يقمصك قميصا ، فإن أرادك أحد على خلعه فلا تخلعه ، ثلاث مرات » ( ) .
أما مقالة المنصور فقد نقلها أصحابها من كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه وهو كتاب أدب وليس من مراجع الفقه ولا من مصادر التاريخ ومامثل هؤلاء الذين ينقلون عن كتب الأدب كالعقد الفريد والأغاني ونحوه في الحكم على التاريخ الإسلامي إلا كمن يريد أن يحكم على مجتمع من المجتمعات من خلال الأفلام السينمائية التي تعرض في هذا المجتمع والتي لا تعبر إلا عما يسمى بالوسط الفنى !
وعلى فرض ثبوت هذه المقولة فإنها كلمة هو قائلها لا يحتج بها على دين الله ، فالحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير، وإذا كنا نرد على مثل الصحابة والتابعين فكيف لا نرد على مثل المنصور وغيره من حكام المسلمين !
هذا... فضلا عن قابلية هذه الكلمة في ذاتها للتأويل ، واحتمالها لأن يكون المقصود بها أنه يمثل شرع الله في الأرض، ويقوم بتنفيذ كلمته بين عباده ، أليس عجيبا أن يتهم الإسلام الذي دعا إلى التوحيد ، وحارب الشرك في جميع صوره وأشكاله بأنه يدعو إلى تأليه الملوك ، وإضفاء القداسة والعصمة على تصرفاتهم ، وتعبيد الرعية لهم من دون الله؟
أليس عجيبا أن يتهم الإسلام الذي ينعي على النصارى اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله بأنه يدعو إلى اتخاذ الملوك والحكام أربابا من دون الله ؟!
لو أن القوم اتهموا الإسلام بعيدا عن هذه الدائرة لراج اتهامهم ولنفقت شبهتهم على السذج والأغرار ، أما أن يتهموه في صلب عقيدة التوحيد التي تمثل محور دعوته وأساس بنيانه فذلك الذي يذهل العقول !
وإذا كان هؤلاء يقدرون شهادة العلماء والمتخصصين فلقد شهد بهذا المعني أكابرالمتخصصين في الدراسات القانونية كالسنهوري والطماوي ، ومن يشار إليهم بالاستناره في فهم الشريعة كمحمد عبده ومحمد رشيد رضا وشلتوت ، ومن المؤرخين طارق البشري وضياء الدين الريس وغيرهم وغيرهم ممن لا يحصي عددهم إلا الله ( ) .
الحاكمية والمدخل إلى الثيوقراطية !
سيدي الكريم : إذا سلمنا جدلا بما تقول ، ألا تتمحور الجماعات الإسلامية كلها حول فكرة الحاكمية حتى أصبحت هي أهم المنطلقات الفكرية عند التيار الإسلامي المعاصر ؟ ألا تعني هذه الفكرة أن الحكم لا يكون إلا لله ، ولا يمارس إلا باسمه وحده ، الأمر الذي لا يأتي إلا بدولة دينية ، ولا يتمخض إلا عن طغيان يمارس باسم الدين ، وكهنوت يفرض وصايته باسم الشريعة على عامة المواطنين ؟
- يجب أن تحرر ابتداء مقصود هذا التيار من لفظة الحاكمية حتى يتسني لك بعد ذلك محاكمته إلى الضابط الذي اتفقنا عليه للثيوقراطية أو الحكومة الدينية ، إن الحاكمية التي تنادى بها هذه الجماعات هى تفرد الله بالحق في التشريع المطلق ، فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ماحرمه ، ولا دين إلا ماشرعه ، وليس لأحد من البشر أن ينازع الله في هذا الحق ، فمن فعل ذلك منهم فقد جعل نفسه إلها من دون الله ، ومن أطاعه على ذلك فقد عبده من دون الله !
وهذا المفهوم هو أحد المعالم الأساسية في قضية التوحيد ، لأن تفرد الله بالأمر كتفرده بالخلق ولا فرق ، كما قال تعالى : ( الأعراف : 54 ) ولأن الإسلام هو الاستسلام لله وحده فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ، ومن استكبر عن الاستسلام له كان كافرًا .
وقد تأصل في محكمات الشريعة أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لاغير، وأن الطاعة المطلقة حق خالص لله لا غير ، وأن طاعة غيره مقيدة بأن تكون في طاعة الله عز وجل ،وأن الإجماع لابد له من مستند من الأدلة الشرعية ، لأن الأمة في الإسلام لا تملك حق التشريع بغير سلطان من الله، وأن الشورى لا تكون إلا في دائرة العفو وموارد الاجتهاد، أما ما قطعت فيه النصوص فلا تشاور ولا خيرة، وكل ذلك من البديهيات المقررة في الدين وقد سبق تقرير ذلك كله .
ولهذا اتفقت كلمة علماء الأصول على أن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا ، وأن الحاكم في الفقه الإسلامي هو الله عز وجل وحده ، لأن شريعة الإسلام شريعة إلهية منزلة من عند الله عز وجل ، وليست شريعة وضعية من صنع البشر ، وهذه الحاكمية التي تنفي عن البشر حق التشريع بغير سلطان من الله ، لا يمكن أن تكون مدخلا إلى الثيوقراطية التي ينفرد فيها الحاكم بتلقي الشريعة من الله ، ويكون له وحده حق الأثرة بالتشريع ، وله على الناس حق الطاعة لا بمقتضى البيعة بل بمقتضى الإيمان !
ولعل منشأ هذه الشبهة هو الخلط بين مصدر السلطة السياسية ، وبين مصدر النظام القانوني ، فالسلطة في الإسلام مصدرها الأمة والنظام القانوني مصدره الشارع ، وهذا المصدر الرباني للنظام القانوني لا يضفي أية قداسة على النظام السياسي ، ولا يعني بالضرورة أن السلطة تستمد شرعيتها من الحق الإلهي ، بل على النقيض من ذلك فإنه يمثل ضمانة تحول دون طغيان السلطة السياسية ، لأن هذا النظام القانوني يخاطب الحاكم كما يخاطب المحكومين ، ويخضع له الجميع حكاما ورعية على السواء ، ولا سبيل إلى تغييره أو العبث به باصطناع أغلبية مأجورة تتبني أهواء الحاكم داخل المجالس التشريعية كما هو الحال في كثير من الأنظمة الوضعية .
سيدي الكريم : ولكن هذا الطرح حتى مع التسليم بكل ما تقول سيجعل من كل قرارات الحاكم شريعة ملزمة ، وسينقل مناقشة كافة شئون الدولة من دائرة الصواب والخطأ إلى دائرة الحل والحرمة ، وسينقل المخالف من دائرة المعارضة المشروعة كما هو الحال في ظل الأنظمة العلمانية إلى دائرة البغي والخروج عن الطاعة بل وربما الردة والخروج من الإسلام في ظل الدولة الإسلامية ، فأي إرهاب يعدل هذا الإرهاب ؟ وأي مصادرة للحـريات تعدل هذه المصادرة ؟
- لا يكون الحل والحرمة إلا حيث يكون الدليل القاطع ، أما ماعدا ذلك من مسائل الحكم والسياسة الشرعية فالأصل أنها من موارد الاجتهاد ، وأنه لا يثرب فيها على المخالف إلا إذا تحولت مخالفته إلى مناهضة مسلحة للنظام تهدد أمنه وتزعزع استقراره ! فلا تثريب على المسلم في ظل دولة الإسلام أن يتبنى اجتهادا مخالفا لاجتهاد النظام ، وأن يعلن ذلك على الملأ ، وأن يسوق الأدلة لإثباته ما دامت المسألة من موارد الاجتهاد ، وما دام أهلا لذلك بمقتضى ضوابط الاجتهاد المعتبرة شرعا ، ولكن المحذور كما سبق أن يشق بهذا الاجتهاد عصا الطاعة ، أو أن يخرج بها عن الجماعة ، وهذا القدر هو أقصي ما تتيحه النظم العلمانية في أحسن أحوالها من حرية للمعارضين فإنها تفرق بين المعارضة وبين الإرهاب ، فتسمح بالأولي وتمنع من الثانية.
ولعل منشأ الشبهة في هذه النقطة هو الخلط بين الشرع المحكم وبين الشرع المؤول ، أو بين مواضع الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة والإجماع وبين موارد الاجتهاد التي يقوم فيها أهل العلم بالتخريج على الأدلة ومعرفة الأمثال ورد النظير إلى النظير ونحوه .
فالأول : وهو الشرع المحكم أو مواضع الأدلة القاطعة لا يحل لأحد أن يخالفه كأئنا من كان ، وأهله هم أهل الإسلام المحض ، وهم أهل السنة والجماعة ، والخارجون عنه هم أهل الفرق والضلالة ، وضابطه كما سبق : كل ما كان موضعا لدليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح ، أو هو كما ذكر الشافعى رحمه الله في الرسالة : كل ماأقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصا بَيِّنا 0
أما الثانى : وهو الشرع المؤول أو اجتهادات الفقهاء في موارد الاجتهاد فهو الذي لا يضيق فيه على المخالف ، ولا يعتبر مخالفه بتأويل سائغ حاكما بغير ما أنزل الله . وضابطه كما يقول الشافعى : كل ما كان يحتمل التأويل ويدرك قياسا أى ما عرى عن الأدلة القاطعة .
فليس كل اجتهاد إذن وإن كان معتبرا ينكر فيه على المخالف ، ويتهم بالمروق ، ويوسم بالتمرد ، ويصبح به من المفسدين في الأرض، إن هذا من المبالغات المنكورة المجافية للشرع والواقع أيها الاخ الكريم0
بل أزيدك على هذا فأقول إن من خالف في قاعدة كلية من قواعد الدين ، وتحزب على أصل بدعى يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة بتأويل وإن كان فاسدا كتأويلات أهل البدع من الخوارج والمرجئة والمعتزلة وأمثالهم فإنه لا ينكل به لمجرد هذه المخالفة ، بل الأصل هو مقابلة الشبهة بالحجة ، ودفع بدعته بالحوار والمجادلة بالحسنى ، ولا يتصدى له الإمام بالقوة إلا إذا تحول موقفه إلى بغي وإفساد في الأرض، وانتقل من دائرة الفكر إلى دائرة الإرهاب المسلح ، وغاية ما في الأمر أنه يهجر لبدعته إذا كان في هذا الهجر مصلحة راجحة .
ومعلوم أن الخوارج كانوا من أشد الناس بدعة وتكفيرا للأمة ، وخروجا على جماعتها ومع ذلك فلم يبدأهم على رضي الله عنه بقتال ، بل قال لهم فيما قال : «ولا نبدأكم بقتال ما لم تقطعوا السبيل وتسفكوا الدماء الحرام » وما نفذ إليهم بقتال فعلا حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام !
الحاكمية وفتنة الخوارج !
ولكن ألا تسلم معي أن شعار - إن الحكم إلا لله - لم يرفعه على مدار التاريخ إلا الخوارج الذي تذكر من أخبارهم أنهم كانوا أشد الناس بدعة وتكفيرا للأمة وخروجا على جماعتها ، ثم جاء التيار الإسلامي في هذا العصر ليرفع نفس الشعار ويتبنى نفس المقولة ، ويسلك نفس المسلك من تكفير الأمة والخروج على جماعتها ؟
أ لا ترى أن التيار الإسلامي يجدد فتنة الخوارج ، ويحيي ما اندثر من مقولاتهم الفاسدة ؟
- ليس الأمر على هذا الإطلاق - أيها العزيز - فإن هذا الشعار آية تتلى في القرآن الكريم في سورة يوسف ، لقد حكاه القرآن الكريم على لسان الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في قوله لصاحبيه في السجن :
( يوسف :40 )
وذلك قبل أن تنقله لنا دواوين التاريخ على ألسنة الخوارج !
واستشهد بهذه الآية أئمة أهل السنة لإثبات تفرد الله بالحاكمية العليا والتشريع المطلق : استشهد بها العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام ، واستشهد بها الغزالى في الإحياء ، وغيرهم وغيرهم كثير .
لقد رفع الخوارج هذا الشعار ليكفروا به أئمة الجور من المسلمين في وقت كان الأصل فيه هو التحاكم إلى الشريعة ، وقيام الدولة على حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، وإن شابها شيء من الجور ، فكانوا مبطلين خارجين عن الحق .
ويرفعه اليوم أبناء العمل الإسلامي وقد أعلنت العلمانية ، وحكمت القوانين الوضعية التي تحل الربا والزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وتحميها بقوة الشرطة والقضاء ، يرفعونه ليردوا به الأمر إلى الله عز وجل ، ولينتصروا به لشريعتهم المضاعة وكتابهم المهدر ، وليدفعوا به عن الأمة شرك التشريع بما لم يأذن به الله ، وباطل التحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله ، فكانوا مجاهدين أنصارا لله ورسوله .
وإذا كان كل من دعا إلى إقامة الدين وتحكيم الشريعة وإفراد الله بالعبادة والتشريع المطلق خارجيا من الخوارج ؟ ترى ماذا يكون إذن مبدل الشرع ، ومحل الحرام ومحرم الحلال والداعي للفصل بين الدين والدولة ، أيكون على بن أبي طالب أيها الصديق العزيز ؟!
إن ضلال الخوارج في هذا الباب أنهم تذرعوا بهذه المقولة لتكفير المسلمين بدعوى أن كل من ارتكب ذنبا فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافرا ، وقد رد عليهم أئمة أهل السنة ، وفرقوا بين الشرك وبين ما دونه لقول الله تعالى :
• (النساء : 48 ) .
ولقد برأ الله جمهور العمل الإسلامى المعاصر من بدعة التكفير بالمعصية ، التي لم يقل بها إلا قلة مارقة شقت صف التيار الإسلامي نفسه كما شقت الخوارج صف أهل السنة فيما مضى من التاريخ ، ولقد كان من ضلال الخوارج أيضا في هذه القضية إنكارهم تحكيم الرجال للتوصل إلى إقامة حكم الله ، ومعلوم بالبداهة أن القرآن ليس له لسان ينطق به ولابد في تحكيمه من الرجال ، فكأنهم يقولون لا إمرة إلا لله ، ومعلوم بالبداهة كذلك أن الحكم بالقرآن يقتضي إمرة من البشر تقيم هذا الحكم وتنفذه على وجهه .
لقد أنكروا به على على كرم الله وجهه قبوله التحكيم عندما دعاه القوم إلى ذلك ورفعوا في وجهه هذا الشعار ، ومعلوم بالبداهة أن قبوله بالتحكيم كان على أساس الحكم بالقرآن، والرجوع لهديه الذي يحكم به هؤلاء المحكمون ، فالآية تقول لا حكم إلا لله ولم تقل لا إمرة إلا لله ! وعلى هذا فإن قياس التيار الإسلامي المعاصر في الاستشهاد بهذه الآية لإثبات تفرد الله بالحق في الحكم والتشريع المطلق في واقع نقل مصدرية الأحكام من الشريعة إلى القانون ، ومن الكتاب والسنة إلى مجالس الأمة ، على الخوارج في استشهادهم بها على تكفير العامة من الأمة بمجرد الذنوب ، أو نفي الإمرة إلا عن الله ، قياس مع الفارق ، وأن المسافة بين الأول والثانى كالمسافة بين أهل السنة وبين الخوارج .
ألا ترى أن في إطلاق شعار - الحاكمية لله - تعميما لايخلو من المجازفة؟ إذ كيف نجد نصوصا لتنظيم المرور مثلا ، وترتيب الأمور الإدارية ، وجدولة الديون الخارجية ، وحل مشكلة الإسكان وأزمة المواصلات ونحوه !
- ليست المشكلة في إطلاق هذا التعبير لأن الله هو الذي أطلقه في القرآن فقال :
(ولكن المشكلة في حسن الفهم عن الله عزوجل، والإحاطة بالمنهج الذي عالجت به الشريعة هذه القضية !
لا يخفي على عاقل أن النصوص الشرعية متناهية ، وأن الوقائع غير متناهية ، فكيف تحكم النصوص وهي محدودة هذه الوقائع وهى غير محدودة ؟
الجواب على ذلك أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث لا محالة ، ولكن الإسلام في تشريعه لهذه الأحكام قد تضمن نوعين من النصوص :
أحدهما : نصوص جزئية تتضمن أحكاما مباشرة لبعض هذه الوقائع .
والثانى: نصوص تتضمن أحكاما عامة وقواعد كلية تنطبق على ما لا ينحصرمن الوقائع ، وما لا يتناهي من الجزئيات ، وهناك منطقة العفو التي أحالت فيها الشريعة إلى الخبرة والتجربة في إطار هذه المبادئ العامة والقواعد الكلية ، ولم يقل أحد من أهل العلم إن الشريعة تتضمن نصوصا جزئية بعدد ما يتجدد من الوقائع ولا فهم ذلك أحد منهم على مدار التاريخ ، وإنما الذي نزعمه أن الشريعة بنصوصها الجزئية وقواعدها الكلية ومقاصدها العامة قد تضمنت منهجا شاملا لمختلف جوانب الحياة، فلا تخرج عن حكمها واقعة بحال من الأحوال ، واستوعبت بأحكامها ماكان و ما يكون وما لم يكن ولو كان من الحوادث والأقضيات !
فما لا يتناهى من الحوادث يكون أنواعا يندرج كل نوع منها تحت حكم واحد ، فتدخل الأفراد التي لا تتناهى في الأنواع التي تتناهى ، ويكون غير المتناهي عددًا متناهيا نوعا ويحكم عليه بحكم نوعه ، فيكون اجتهاد أهل العلم في رد الحادث الجديد إلى مايندرج تحته من النصوص .
وإننا لو استطردنا في هذا السؤال لقلنا إننا لا نجد نصوصا دينية تحدد لنا عددً المدارس التي نبنيها والطرق التي نرصفها والأرغفة التي نخبزها ... إلخ ، وهذا لا يقول بمثله عاقل .
ألا يعني هذا المنهج إلغاء دور العقل ، والاحتباس في ربقة النص ؟
- لقد ذكرت لك مرارًا أن القطعيات ومواضع الإجماع هى التي لا يملك معها المسلم إلا الانقياد والإذعان ، لأنها تمثل الشرع المحكم والدين المنزل الذي لا تحل مخالفته بحال من الأحوال ، قال تعالى :
• • (الاحزاب : 36 ).
أما ما وراء ذلك من موارد الاجتهاد ومنطقة العفو والفراغ من النصوص التشريعية 0
فإن للنظر فيها مسارح رحبة وللعقل فيها مجالات واسعة ، على أن يستهدى فيى نظره بأصول الشريعة ومقاصدها الكلية - لأن العقل كما سبق ليس بشارع - حتى لا تتشعب السبل ، وتتفرق به الأهواء ، وإنما يسرح في مجال النظر بقدر ما يسرحه الشارع .
ثم ما هذه الجرأة على النصوص واعتبار التقيد بها أسرا واحتباسا ؟ أليست هذه النصوص تمثل هداية الله وتحمل إلينا نوره وتنقل إلينا مراده ؟ أيليق بالمسلم أن يجعل من التفلت من النصوص هدفا ، ومن التمرد على شرع الله غاية ؟ فإن جاء من يذكِّره بها ويردُّه إليها أرغي وأزبد ، ودعا بالويل والثبور ، وتباكى على العقل المكبل والحرية المهدرة ؟؟! اللهم غفرا .
دور العقل مع النقل
أليس العقل باعتباره من أجل النِّعم التي أنعم الله بها على عباده والذي فجر الذرة وغزا الفضاء قادرا على معرفة مواقع المصلحة ، وعلى أن يقرر من التشريعات مايحقق هذه المصالح ؟ ألم يجعله الله مناط التكليف ، والفارق ما بين الإنسان والحيوان ؟ فلماذا لا يستقل العقل بالتشريع في مجال المعاملات كما تستقل النصوص بالتشريع في مجال العبادات ، فنكون قد جمعنا حقيقة بين الثبات والتغيير وألفنا بين الالتزام والتجديد ؟
- نحن لا ننكر أن العقل مناط التكليف ، وأنه شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال ، ولكنه لا يستقل بذلك ، بل لا بد له من نور من الوحي لأنه غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر في العين ، فإذا اتصل به نور الوحي كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس ، ونحن نجزم أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح بحال من الاحوال .
ومن ناحية أخري فإن العقول متفاوتة واجتهاداتها نسبية ، فأي عقل منها هو الذي يعول عليه في قضية التشريع ، إن الناس لو وكلوا إلى عقولهم وحدها لذهبت بهم الآراء كل مذهب ، وتشعبت بهم الطرق كل متشعب ، ولكن الله عز وجل قد كفاهم مؤنة ذلك وتولى بحكمته ورحمته وعلمه بيان ما يصلحهم في دينهم ودنياهم ، بالمنهج الذي يحقق لهم ذلك في سهولة ويسر ، فأجمل فيما يحتمل التغيير وتمس الحاجة فيه إلى التجديد والابتكار ، وفصَّل فيما لا يتغير وشأنه الثبات فجمع لهم بين الثابت والمتغير ، والمطلق والنسبى ، في شريعة ربانية متكاملة ، من قال بها صدق ، ومن حكم بها عدل ، ومن تمسك بها هدي إلى صراط مستقيم !
وإذا تعارض النقل مع العقل فما العمل ؟
- لا يمكن لصحيح المنقول أن يتعارض مع صريح المعقول بوجه من الوجوه ، فإن حدث ما يوهم ذلك كان ذلك لظنية أحد الأمرين ثبوتا أو دلالة ، فإما أن يكون النص ظنيا في ثبوته أو دلالته ، وإما أن يكون المعقول موهوما أو لم يبلغ بعد درجة اليقين والحقيقة العلمية ، والشريعة لا تأتي بما يعلم بالعقل امتناعه ولكن قد تأتي بما يعجز العقل عن إدراكه ، أو كما يقول أهل العلم قد تأتي بمحارات العقل ولكن لا تأتي بمحالاتها بحال من الأحوال ، فهي تحدثنا عن الله وعن صفاته ولا سبيل للعقل لأن يدرك كنه ذلك أو كيفيته ، ولكنها لا تجمع لنا بين النقيضين مثلا ، ولا تقول لك إن الثلاثة واحد أو الواحد ثلاثة ، وغير ذلك مما تقطع العقول باستحالته .
هل نفهم من ذلك إلغاء دور العقل بالكلية في قضية التشريع ؟
- لقد ذكرت لك مرارا أن هناك منطقة العفو و هي التي أحالت فيها الشريعة إلى الخبرة والتجربة البشرية ، وهناك موارد الاجتهاد ، وهي كل مالم تقطع فيه الشريعة بأدلة قاطعة ، فيأتي دور العقل في المقابلة بين الأدلة والمقارنة بين الآراء ، واختبار ما ترجحه الأدلة وتتحقق به المصلحة ، ولا شك أن هاتين الدائرتين أوسع بكثير من دائرة المحكمات والمسائل القاطعة .
وغاية القول - أيها العزير - إنكم تريدون للعقل أن يخلع الربقة فلا يتقيد بوحي ، ولا يهتدى بنص ، ولا يركض إلا وراء رغائبه وأهوائه ، ونحن نريد العقل الراشد الذي يهتدى بنور الوحى ، ويدور في فلك المقاصد العامة للشريعة ، فلا يقود إلا إلى خير ، ولا يسلم إلا إلى رشد . فأى الفريقين أحق في ذلك بالصواب والأمن والسلامة ؟!
علاقة المصلحة بالنص
وماذا عن المصلحة ؟ أليس لها دور في توجيه الاستفادة من النص ، وبعبارة أخري ما علاقة المصلحة بالنص ؟ وهل يمكن أن نتجاوز بعض النصوص مرحليا إذا اقتضت المصلحة ذلك ؟
- الأصل أن النصوص مستقر المصالح ، وأن كل ماشرعه الله لعباده قد راعي فيه مصالحهم ولبي به حوائجهم ، وأنه لا سبيل إلى افتراض أن تطبيق نص من النصوص بعد الاجتهاد في معرفة مناطه وشر ائط تطبيقه يفضي إلى مفسدة بحال من الأحوال ، لأن مثل هذا الافتراض قدح في الشارع ، ونقص لحكمته ، وقد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
ولكن قد يقال إن هناك من المصالح ما يكون مسكوتا عنه لم يشهد له نص جزئي بعينه بالاعتبار أو بالإلغاء فهذه إن كانت ملائمة لجنس تصرفات الشارع بأن شهدت النصوص لنوع هذه المصلحة أو لجنسها فهذه هي المصالح المرسلة التي قال بها كثير من أهل العلم ، واشتهر بها الفقه المالكي حتى صارت علامة مميزة له .
والمقصود أن نبين أن هذه المصلحة المرسلة التي أخذ بها جمهور أهل العلم هى التي شهدت النصوص لنوعها أو لجنسها بالاعتبار وليست هى حكم العقل المجرد ، ولم تناقض دليلا من أدلة الشرع الثابتة وإلا كانت ملغاة وباطلة .
وقد اشترط أهل العلم للعمل بهذه المصلحة شروطا : منها أن تكون حقيقية لامتوهمة ، وأن تكون عامة لا خاصة ، وألا تعارض حكما ثبت بالنص أو بالإجماع .
ما معني قولك شهدت الشريعة لنوعها أو لجنسها بالاعتبار ؟
- معني ذلك أنها ملائمة لتصرفات الشارع فهى ليست مصلحة غريبة ، ولم تعتمد على حكم العقل المجرد.
هلا أوردت أمثلة على ذلك ؟
- نستطيع أن نمثل للمصلحة التي شهدت الشريعة لنوعها بتضمين السارق قيمة المسروق وإن أقيم عليه الحد ، زجرًا له عن العدوان ، فإن الشريعة قد شهدت لنوعها وذلك بحكمها بالضمان على الغاصب لتعديه .
ونستطيع أن نمثل للمصلحة التي شهدت الشريعة لجنسها بإعطاء الشارب حكم القاذف إقامة لمظنة القذف وهو الشرب مقام القذف ، فقد شهدت الشريعة لجنس هذه المصلحة، وذلك بإقامة الخلوة مقام الزنا في الحرمة .
نظرية الطوفي في الميزان
ولكن الإمام نجم الدين الطوفي وهو من كبار المحققين قد قضي بتقديم المصلحة على النص عند التعارض ، فهو قد افترض هذا التعارض أولا ، ثم قضى بتقديم المصلحة على النص في هذه الحالة ثانيا، ولم يقدح أحد من أهل العلم في ديانته وإمامته ؟؟
- ما دام الحديث قد جرنا إلى موقف الطوفي من المصلحة فيجب أن نفصل القول في ذلك تفصيلا مناسبا حتى يرتفع اللبس في هذه القضية ، لأننى أري حفاوة بالغة ومريبة من قبل بعض المعاصرين بنظرية المصلحة عند الطوفي باعتبارها مدخلا لما يتطلع إليه هؤلاء من التفلت من النصوص وخلع ربقة التكليف باسم المصلحة .
ولنبدأ بفهم نظرية الطوفي وبيان أدلتها ثم نطرح هذه الأدلة للتحليل والمناقشة : يذهب الطوفي إلى أن النصوص الشرعية تتقاعد عن إفادة المصالح أحيانا ، وتأتي مضادة لهذه المصالح أحيانا أخرى ، وإن العقل إذا رأى المصلحة في غير ما جاء به النص أو أجمع عليه أهل العلم وجب تقديم ما يحكم به العقل على ما يقضي به النص أو الإجماع على سبيل التخصيص للنص والبيان له لا الافتيات عليه أو التعطيل له 0
وقد بني نظريته هذه على عدد من الأسس نوجزها فيما يلي :
الأساس الأول : استقلال العقول بإدراك المصالح والمفاسد ، و اعتبار المصلحة دليلا شرعيا مستقلا عن النصوص . فالمصلحة عنده تعتمد على حكم العقل وحده وما تقضى به العادات والتجارب، ولا تعتمد في حجيتها على شهادة النصوص لنوعها أو لجنسها بالاعتبار ، وهذا مخالف لإجماع أهل العلم الذين اشترطوا لاعتبار المصلحة أن تعتمد في دلالتها على النصوص الشرعية ، أى أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع وذلك بأن تشهد النصوص لنوعها أو لجنسها بالاعتبار ، وإلا كانت مجرد أهواء وشهوات زينتها النفس وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح .
لقد كان أهل الجاهلية يرون المصلحة في وأد البنات وحرمان الإناث من الميراث وقتل غير القاتل ، وما كانوا يرون شرب الخمر أو لعب الميسر أو زواج الأخدان أو نسبة الابن إلى غير أبيه مفسدة !!
وكان القانون الروماني في أوج عظمته يجيز للدائن أن يسترق المدين ، فإن كان هناك أكثر من دائن ولم يوجد من يرغب في شراء المدين كان للدائنين الحق في اقتسام جثة المدين ، وما كانوا يرون في ذلك مفسدة !!
وقد ظل القانون الإنجليزى قرابة عشرة قرون يرى أن المصلحة في حرمان الإناث من الميراث . واستقلال الابن الأكبر بالتركة ، ويري أن الميراث كحجر إذا ألقى فإنه ينزل إلى أسفل ولا يصعد إلى أعلى ، وعلى ذلك فما كانوا يتصورن أن الأصول يأخذون نصيبا من الميراث ، ولا زال القانون الأمريكي يرى المصلحة في إطلاق حرية الموصى ولو أدي ذلك إلى أن يوصى الشخص بكل تركته إلى خليلته تاركا ورثته عالة يتكففون الناس !
ولعل أبلغ مثال على عرض الأهواء والشهوات في ثوب المصالح هذا القانون الذي أقر به مجلس العموم واللوردات الإنجليزى ، وهو يجعل اللواط عملا مشروعا لا ضرر فيه على الفرد ولا على الجماعة !! فلقد نشرت جريدة الأهرام بتاريخ 21 فبراير 6691م مايلي : «وافق مجلس العموم البريطاني أمس على قانون باعتبار الشذوذ الجنسى عملا مشروعا من البالغين ، وقد تمت الموافقة بأغلية 461 ضد 701 أصوات ، وقد استقبل الجالسون في شرفة الزوار الموافقة بالتصفيق » !
الأساس الثاني : أن مجال العمل بالمصلحة هو المعاملات والعادت دون العبادات .
وعلل ذلك بأن العبادات حق الشارع خاص به ، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته ، أما المعاملات فالمقصود بها مصالح العباد ، وهم أدرى بمصالحهم فكان لهم تحصيلها وإن خالفت النصوص الشرعية .
الأساس الثالث : إن المصلحة أقوى من أدلة الشرع الأخرى فتقدم عليها عند التعارض .
فالمصلحة عنده أقوي الأدلة الشرعية على الإطلاق ، ولذلك تقدم على النص والإجماع عند التعارض ، فهو يفترض التخالف والتعارض بين المصلحة وبين النص من ناحية ، ويقرر أن الواجب في هذه الحالة تقديم المصلحة على النص على سبيل التخصيص والبيان له لا على سبيل الافتيات عليه والتعطيل له من ناحية أخري ، مع مراعاة أن النصوص التي تقيد عنده بالمصلحة هى النصوص الظنية الدلالة .
ولكن ما هي الأدلة التي ساقها الطوفي على حجية المصلحة المجردة ؟
- استدل الطوفي من جهة الإجمال بقوله تعالى : •• • ( يونس : 57 ).
فكون القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، يدل على مراعاة الشارع لمصالح المكلفين واهتمامه بها ، كما ساق جملة من الأدلة التفصيلية التي تثبت اشتمال النصوص على المصالح وتحقيقها لها ، وهذا الدليل صحيح في ذاته ولكن ينتج عكس ما أراده الطوفي ، إذ أن هذا الدليل يفيد أن النصوص قد جاءت لرعاية مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم وأن الشارع قد راعى ذلك في كل نص أنزله وفي كل حكم شرعه ، وإذا كان ذلك كذلك فهو اعتراف من الطوفي بأن النصوص محققة لمصالح العباد ، فكيف إذن يفترض تقاصر النصوص عن القيام بمصالح العباد ، بل وتخالفها معها في بعض الأحيان ويدعو إلى تقديم المصلحة على النص ، أليس ذلك محض التناقض ؟!
كما استدل بالإجماع على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد ، وهذا الدليل بدوره لا ينتج مطلوب الطوفي من تقاصر النصوص على القيام بالمصالح في بعض الأحيان ، وتقديم النصوص على المصلحة أو الإجماع عند التعارض ، لأن غاية ما في هذا الدليل هو العمل بالمصلحة المرسلة فيما سكتت عنه نصوص الشريعة ، لا أن تلغى النصوص ويهدر الإجماع لصالح المصلحة المتوهمة ، أن الذي يفيده القول بأن الأحكام معللة بالمصالح هو وجوب التمسك بهذه الأحكام وعدم الخروج على هذه النصوص وإن ظن المكلف المصلحة في غيرها ! وهو نقيض ما يريده الطوفي بالكلية .
ولكن ما هي أدلته على تقديم المصلحة على النص عند التعارض ؟
- استدل الطوفي على ذلك بما يلي :
إن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح ، فهي إذن محل اتفاق ، والإجماع مختلف فيه ، والتمسك بما أتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه .
وماذا تقول أنت في هذا الدليل ؟
- نقول هذا دليل لم تقع العين على أغرب منه لاشتماله على التناقض الصارخ .
كيف ؟
- لأنه حاول أن يضعف من قوة الإجماع في الحجية ليثبت أن المصلحة أولي منه بالرعاية عند التعارض ، ثم استدل على وجوب تقديم المصلحة على الإجماع بأن الإجماع قد انعقد على رعاية المصلحة .فكيف يضعف حجية الإجماع في بداية قوله ثم يعود فيستدل به في آخره ؟! لقد صار معني كلامه :
إن رعاية المصلحة تقدم على الإجماع لأن رعاية المصلحة مجمع عليها والإجماع غير مجمع عليه ! فهل هناك تناقض أبلغ من ذلك ؟
هذا مع التجاوز عما في هذا الدليل من تحفظات أخرى لا داعى للخوض في تفاصيليها اكتفاء بهذا التناقض السابق
وماذا عن الأدلة الأخرى ؟
- واستدل أيضا بالقول بأن النصوص متعارضة متخالفة فهى سبب الاختلاف في الأحكام المذموم شرعا في حين أن رعاية المصالح في الأحكام أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا فكان اتباعه أولى .
أعتقد أن الحجة في هذا الدليل واضحة ، فنحن نري اختلاف الفقهاء وتباين المذاهب وتعصب أتباعها بصورة مزرية ، أليس كذلك ؟
- على رسلك ! إن هذا الدليل ينطوي على شبهتين :
الأولى : أن النصوص الشرعية متخالفة متعارضة ، فهى إذن سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعا .
الثانية : أن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه ، فهي سبب الاتفاق المطلوب شرعا ولنناقش كلا من هاتين الشبهتين على حدة .
أولا: ماذا يقصد الطوفي بتخالف النصوص وتعارضها ؟ هل يقصد أنها في ذاتها متخالفة متعارضة ؟ أم يقصد أن التخالف والتعارض في الظاهر وبالنسبة إلى المجتهد ؟ أى أن يفهم أحد المجتهدين من النص حكما ويفهم منه غيره حكما آخر ؟
إن كان يقصد الأول فهو أبطل الباطل وأمحل المحال ، بل لا يجرؤ على هذه المقالة أحد ممن ينتسب إلى الإسلام وقد قال تعالى : (النساء:82).
فالاختلاف والتناقض لا يرد على ما جاء من عند الله بحال من الأحوال . والأدلة على بطلان ذلك كثيرة بل هو من المعلوم بالضرورة من الدين 0
أما إن قصد الثانى فيسلم له ، ولكن لا يسلم له أنه يفضى بالضرورة إلى الاختلاف المذموم شرعا لأن الاختلاف المذموم شرعا ليس هو اختلاف المجتهدين في فهم بعض النصوص ، وإنما هو الخلاف الناتج عن تحكيم العقول واتباع الأهواء على ما جاءت به النصوص الشرعية ، وإلا لزم التناقض من الشارع إذ كيف يأمرنا باتباع النصوص والرجوع إليها عند الاختلاف ، ومن لازم ذلك أن يفهم بعض المجتهدين من النص معني ويفهم منه آخرون معني آخر ، ثم ينهي عن هذا الاختلاف ويحذر منه ؟
فلو كانت النصوص تؤدي إلى الخلاف المذموم شرعا لما أنزلها الشارع ولما أمر باتباعها ولأحال عباده إلى عقولهم وما يشتهون ! والعجيب أن الطوفي يقرر أن المصلحة لا عمل لها في باب العبادات فهل يعنى هذا أن النصوص متخالفة متعارضة في العادات والمعاملات دون العبادات ؟ أم يعني أن الشارع ذم الخلاف وحذر منه في العادات والمعاملات دون العبادات ؟ وإذا كان قد قرر أن النصوص حجة شرعية في باب العبادات ، و وضع القواعد التي تجمع بين ظواهرها عند التعارض فمعنى هذا أنه يعتقد أن التعارض بين النصوص تعارض ظاهري يمكن إزالته بطرق الجمع المختلفة ، فلم لا يتبع نفس المنهج بالنسبة لنصوص المعاملات ؟ أم هو التناقض الذي لابد أن يقع فيه كل من ابتدع في الدين واتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين ؟ !
ثانيا : ماذا يقصد الطوفي بقوله : إن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه؟ إن قصد به أن أصل اتباع المصالح في التشريع هو ذلك المحكم الذي لا يختلف فيه بصرف النظر عن نتائج تطبيقه على الوقائع والجزئيات فهو مسلم له، ولكنه ينطبق بنفس القدر على النصوص الشرعية فإن أصل اتباع هذه النصوص أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه إذا صرفنا النظر عن نتيجة تطبيق هذه النصوص على الوقائع والجزئيات فالنصوص تعادل المصلحة في هذا القدر ، فلا يسلم دليل الطوفي في التفريق بينهما على هذا الاعتبار ، أما إن قصد به رعاية تطبيق المصلحة على الجزئيات وإن التحاكم إلى المصلحة التي يهتدى إليها العقل مسترشدا بالعادات والتجارب يفضي إلى أمور حقيقة لا يختلف فيها فهو باطل صراح ، ودليلنا على ذلك الواقع المشاهد ، فقد رأينا العقول التي لا تصدر في أحكامها عن هدى السماء تختلف في أصل المصالح والمفاسد بل ومع اتفاقهم على أن الأمر مصلحة أو مفسدة يختلفون في الأحكام الجزئية التي تحصل هذه المصالح وتدفع هذه المفاسد .
ألم يجعل قوم لوط من الطهارة مفسدة عقوبتها النفي ؟ فكانوا يقولون : • (النمل : 56 ) وأصبح المتوطن الصالح في عرفهم هو الذي يزاول اللواطة ويدعو إليها ؟!
ألم يجعل الرومان استرقاق المدين العاجز عن الوفاء بل وقتله وتمزيق جثته بين الدائنين إن عجزوا عن بيعه هو حكم المصلحة ، فجعلوه عقوبة رسمية في قوانينهم ، وهم أصحاب العقول المشهود لها بالإبداع ! ولا تزال آثارهم القانونية مبعث إعجاب الغرب والشرق على السواء ؟!
ألم يجعل الإنجليز المصلحة في حرمان الإناث من الميراث بل وحصره في الابن الأكبر فقط ؟ حتى اتجهوا أخيرا بعد عشرة قرون كاملة إلى أحكام قريبة من أحكام الفقه الإسلامى في الجملة ؟ ألم ير القانون الأمريكى المصلحة في إطلاق حرية الشخص في الإيصاء حتى آل الأمر ببعضهم أن يوصى بتركته التي تبلغ الملايين إلى عشيقته تاركا وراءه أولاده عالة يتكففون الناس ، بل ربما أوصي بها إلى كلبه أو قطته ؟!
ألا ترى القوانين الوضعية أن المصلحة في إباحة الزنا بين الرجل والمرأة بعد البلوغ إذا وقع عن تراض ولم يكن أحدهما مرتبطا بعقد زواج مع شخص آخر ، وحتى في حالة زنا الزوج لا ترى فيه مفسدة إلا إذا وقع على فراش الزوجية ؟ فإن وقع في مكان آخر فلا يعد جريمة ولا يفوت مصلحة ؟!
إن تفاوت العقول في تقدير المصالح والمفاسد وفي الوسائل التي تحصل هذه المصالح أو تدرأ تلك المفاسد حقيقة واقعة ولو أن الطوفي تخلف به الزمان ليري صراع هذه الأيدولوجيات في واقعنا المعاصر لرأى ما يهوله ويذهله ، ويحمله على الإقرار الجازم بأنه لا عاصم من هذا التخبط إلا باتباع الوحى المعصوم واللياذ بكنف النصوص الشرعية ، فإن فيه المخرج من الفتنة والأمان من هذه المتناقضات !!
ولكن ألا يؤدى تطبيق النصوص أيضا إلى سلسلة من الآراء والاجتهادات المتباينة ، وفي تعدد المذاهب وتعصب أتباعها شاهد على ذلك ؟
- لا منازعة في أن تطبيق النصوص قد يؤدى إلى تفاوت الاجتهادات في بعض المسائل ، ولكن المجتهد هنا ملزم بعدم الخروج على النصوص القاطعة ، وملزم فىما عداها بعدم الخروج على جميع احتمالات النص المعتبرة ، وهى احتمالات محصورة في الواقع ومهتد بما لا نص فيه بالمصالح التي تشهد النصوص لنوعها أو لجنسها بالاعتبار ، فأين هذا من إطلاق العنان للعقل وحده يشرع وفقا لما يراه مصلحة دون حدود أو قيود أو ضوابط ؟!
وهل للطوفي من أدلة أخري على ما ذهب إليه ؟
- ومما استدل به الطوفي كذلك قوله : إنه قد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح : كمعارضة ابن مسعود للنص والإجماع في التيمم بمصلحة الاحتىاط في العبادة ، ومخالفة بعض الصحابة لقوله صلى الله عليه وسلم « من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة ، فصلى بعضهم قبلها وقالوا لم يرد منا ذلك .» ( ) وقوله لعائشة : «لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم » ( ) .فترك الواجب لمصلحة ، ومنها أنه لما أمرهم صلى الله عليه وسلم بجعل الحج عمرة قالوا : كيف وقد سمينا الحج وتوقفوا ، وهذا معارضة للنص بالعادة ، ومنها ما روى أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ينادى : « من قال لاإله إلا الله دخل الجنة » فوجده عمر فرده وقال إذن يتكلوا ، وهو معارضة للنص بالمصلحة ، ثم استنبط من هذه الوقائع وأمثالها أن الشارع قدم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة الشرع بقصد اصلاحهم وانتظام أمورهم ، فدل ذلك على أن تقديم رعاية المصلحة على باقى أدلة الشرع هو الراجح المتيقن .
الله أكبر ! أعتقد أن هذه أدلة قطعية مباشرة في هذه القضية فما تقول في هذه الأدلة ؟
- أقول إنها أدلة من تخبط فلم يعد يدرى ماذا يريد ! ولا كيف يصل إلى ما يريد ، وذلك لما يلي :
أولا : أن هذه الوقائع التي ساقها تنطوى في معظمها على عمل من صاحب الشرع نفسه .
- فالذي ترك إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم هو النبى صلى الله عليه وسلم نفسه ، فكيف يقال إنه ترك النص للمصلحة ؟ وهل إقراره إلا النص ذاته ؟
- والذي أقر اجتهاد عمر في منع أبي بكر من النداء بأن من قال « لا إله إلا الله دخل الجنة » هو النبى نفسه ، فصار بهذا التقرير سنة ، ولم يعد مصلحة في مقابلة نص .
- والصحابة الذين لم يصلوا حتى وصلوا إلى بنى قريظة اجتهدوا في فهم المراد من النص ، ونفذوه وفقا للحكمة والمصلحة التي فهموها منه ، أى أن كلا منهم قد اجتهد في العمل بالنص على وجهه ، لا أنهم تركوا النص للمصلحة ، وفوق ذلك فقد أقرهم النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك فصار سنة .
- أما موقف ابن مسعود رضى الله عنه فقد كان فهما في نص ، فقد فهم رضى الله عنه أن قول الله تعالى : ( المائدة : 6 ) ينصرف إلى اللمس الذي يوجب الوضوء لا الجماع ، ولم يكن مصلحة في مقابلة نص .
ثانيا : إن كثيرا من الأمثلة التي ساقها الطوفي هى في مجال العبادات كمثال ابن مسعود في التيمم، ومثال الصحابة في صلاة العصر ، ومثال الصحابة أيضا في الحج، ومثل هذه الأمثلة لا يصح الاستشهاد بها بناء على مذهبه ، لأنه فرق بين العبادات والمعاملات ، وقال إن الحجة في الأولى هى النصوص ، والحجة في الثانية هى المصالح ، فكيف ذهل ( ) عن ذلك ؟ لا أدري !!
هذا وإن الحفاوة المريبة بهذه الشخصية المريبة لتدعو إلى العجب والحيرة !
إن تاريخ الطوفي تاريخ مريب ، فقد قال عنه ابن رجب في طبقاته : أنه كان شيعيا منحرفا عن السنة ، ونقل ابن العماد في شذرات الذهب عن أحمد بن مكتوم أنه قد اشتهر عنه الرفض .
وقد نقل ابن حجر عن الذهبي قوله : «ويقال إنه تاب عن الرفض» وعموما لقد عاش الرجل متخبطا لا يثبت على شيء ، وأصدق ما يوصف به ما قاله هو عن نفسه :
أشعـرى حــنبلي ظـاهـري رافـضي هـذه إحدى العـبر
المبادرات العـمـرية
ولكننا إذا تجاوزنا موقف الطوفي مؤقتا فإننا نجد أن عمر رضي الله عنه قد عطَّل حد السرقة في عام الرمادة للمصلحة ، ورفض تقسيم أرض السواد بين الفاتحين للمصلحة ، وأمضى الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة للمصلحة ، ومنع سهم المؤلفة قلوبهم للمصلحة ، فماذا تقولون في ذلك كله ؟
- كل ذلك خارج عن محل النزاع ، أيها الصديق ، لأنه لم يكن إلا إعمالا للنصوص واجتهادا في فهمها ، ولم يكن تركا لها بالمصلحة بحال من الأحوال ، وإليك تفصيل القول في ذلك :
أما إيقافه العمل بحد السرقة في عام الرمادة فلكثرة المحاويج في هذا العام الأمر الذي أدي إلى وقوع الاشتباه بين من يسرق اضطرارا وبين من يسرق عدوانا ، وغلبة من يسرقون اضطرارا على غيرهم ، ولا يخفي أن درء الحدود بالشبهات من القواعد القطعية في الشريعة ، وأن من شروط إقامة الحد انتفاء الشبهه ، وأن خطأ الإمام في العفو خير من خطئه في العقوبة ، فقد روى الترمذى عن الإمام أحمد : «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة» فعمر رضى الله عنه لم يسقط الحد بعد وجوبه بل هو لم يجب أصلا لوجود الشبهه العامة التي أوجبت درأه ، فكيف يقال إنه عطل النص بالمصلحة ؟
هل تقبل أنت بالتأسى بعمر رضي الله عنه بالنسبة لواقعنا المعاصر ؟
- ولم لا ؟ وقد قال : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ » ( )؟ إذا بلغ القحط بأمة من الناس ما بلغ بالمسلمين في عام الرمادة أوقفنا إقامة الحد عليهم تأسيا بعمر رضي الله عنه ، بل وإعمالا للقواعد الشرعية التي أعملها وهى درء الحدود بالشبهات ، وعدم إقامة الحد على من سرق لحاجة ، وقد سئل في ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه فقال : لا أقطعه إذا حملته الحاجة على ذلك ، والناس في مجاعة وشدة .
- أما إلغاؤه لسهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة فقد كان اجتهادا منه في تحقيق مناط الحكم ، ولم يكن نسخا له وإخراجا له بالكلية من عداد مصارف الزكاة .
فتأليف القلوب صفة إن وجدت الحاجة إليها استحق أصحابها من الزكاة ، وإن لم توجد لم يستحقوا شأنها شأن الفقر والمسكنة وغيرها من بقية الصفات التي أناطت بها الآية استحقاق الزكاة .
ولقد كان احتجاج عمر أن الحاجة في عهده إلى التأليف منتفية لعزة الإسلام ومنعته ، فتخلفت الصفة التي كان يعطى من أجلها هؤلاء من أموال الزكاة ، ثم إن تجددت هذه الصفة في عصر لاحق تجدد عطاؤهم و هكذا ، وذلك كما لو كنت تعطي إنسانا لفقره ثم أغناه الله فامتنعت عن إعطائه فإن افتقر مرة أخرى أعطيته وهكذا، لأنك لا تعطيه لذاته وإنما تعطيه لما اتصف به من الفقر فإن وجدت الصفة أعطيته وإن لم توجد منعته.
وأما إمضاؤه الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة فلقد كان هذا اجتهادا منه رضى الله عنه ، وله عليه شواهد كثيرة من السنة ، فقد استفاضت الأحاديث والآثار فيمن طلق ألفا أو مائة أو تسعة وتسعين فاستقر في حقهم ثلاثا ، ومن هذه الأحاديث ما هو مروي عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ومنها ما هو مروي عن الصحابة أو التابعين ، فلم يكن في فعله هذا مخالفا للسنة ولا رادا لها بالمصلحة .
ومن هذه الشواهد أيضا حديث فاطمة بنت قيس وهو في الصحيحين قالت : طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى .
وقد عقد ابن ماجة في سننه بابا بعنوان : باب من طلق ثلاثا في مجلس واحد ، وساق فيه حديثا عن الشعبي أنه قال : لفاطمة بنت قيس : حدثيني عن طلاقك ، قالت طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن ، فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم .
ومن هذه الشواهد أيضا حديث ركانة الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني والشافعي أنه طلق زوجته البته فقال له النبى صلى الله عليه وسلم : «ما أردت إلا واحدة؟ فقال الله ما أردت إلا واحدة ، فردها إليه » وفيه دليل أنه لو أراد ثلاثا لأمضاها عليه .
ولكن ماذا تقول في الحديث الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس : «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم » وهو حديث صريح في أن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة كانت تحسب له تطليقه واحدة ، وفي عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر ، بل وفي صدر خلافة عمر نفسه ثم أمضاه عليهم ثلاثا بعد ذلك تحقيقا للمصلحة حتى ينزجروا عن المسارعة في التطليق ؟
- لقد ذكر النووى رحمه الله تعالى في بيانه لهذا الحديث أن معناه أن من كان يقول لزوجته في أول الأمر أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم ينو تأكيدا ولا استئنافا كانت تحسب عليه طلقة واحدة لقلة إرادتهم الاستئناف يومئذ ، بل كان التأكيد هو الغالب ، فلما كان زمن عمر كثر استعمال الناس لهذه الصيغة وغلب عليهم إرادة الاستئناف بها فحملت عند الإطلاق على الثلاثة عملا بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر .
وأيا كان الأمر فالمسألة من موارد الاجتهاد بين الصحابة وبين الأئمة ، والذي يعنينا هو ورود سنة صحيحة تؤكد أن الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة كان يحسب ثلاث تطليقات .. وتبقى قضية الجمع بين النصوص وهى قضية اجتهادية ، فلم يكن الأمر مجرد المصلحة أو محض تحكيم العقل كما يريد أن يحملنا على ذلك المجادلون !
وماذا عن عدم قسمه سواد العراق بين الفاتحين ، وجعلها وقفا على جميع المسلمين ، خلافا للمقطوع به من الدين من قسمة الغنائم أخماسا خمس لله ورسوله وأربعة أخماس للمجـــاهدين كما قال تعالى :
• ( الآنفال : 41 ) ؟
- الجواب عن ذلك أن عمر رضي الله عنه قد فهم من خلال التأمل في النصوص أن قسم الغنائم كان تصرفا من النبى صلى الله عليه وسلم بوصف الإمامة ورياسة الدولة وليس على سبيل التبليغ ، وما كان كذلك فإنه لايكون شريعة عامة ، ولكنه يدور مع المصلحة الشرعية وجودا وعدما .
وإذا كان ذلك كذلك فإنه يكون تخصيصا لعموم آية الآنفال ، ويكون المراد بها المنقولات ونحوها مما يغنم ويحاز حقيقة للأفراد والمقاتلين ، ولا يكون معارضا لها ولا رادا لعمومها بمحض المصلحة .
ولم يكن عمر في صنيعه هذا مبتدعا بل كان مهتديا بنور النبوة ، فلقد فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولم يقسمها كما هو مشهور ، بل مَنَّ على أهلها وترك أرضهم وأموالهم في أيديهم لما رأى في ذلك من المصلحة وتأليف القلوب على الإسلام ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما فتح خيبر قسم نصفها فقط ووقف نصفها لنوائبه .
بل كان متأولا لقوله تعالى في سورة الحشر: • • • ( الحشر : 7 ) .
وإذا كان الأمر في ذلك واسعا فلا تثريب على الفاروق أنه اجتهد أن تبقى الأرضملكا للمسلمين في جميع أجيالهم ، ويقر أربابها عليها مقابل خراج يكون في المصالح العامة للمسلمين حتى لا تكون دولة بين الفاتحين ، وقد وافقه على ذلك كثير من فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ماذا تعنى بقولك أن هذا تصرف من النبى صلى الله عليه وسلم بمقتضي الرياسة والإمامة؟
- أعنى أن هناك ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه إمام الجماعة الإسلامية ورئيسها لا بصفته مبلغا عن الله تعالى ، فما صدر عنه على سبيل التبليغ والرسالة كان حكما عاما وشريعة ملزمة على الثقلين إلى يوم القيامة .
أما ما صدر عنه بوصف الإمامة فإن الأمر فيه يكون موكولا إلى الإمام ، ولا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذنه ، ومن الأمثلة على ذلك تصرفه صلى الله عليه وسلم في أمر الحرب وتعبئة الجيوش وعقد العهود وقسمة العنائم ونحوه .
ولا يخفي أن هناك من الأمور الشرعية ما اتفق على كونه قد صدر عنه صلى الله عليه وسلم على سبيل التبليغ ككافة مسائل العبادات وكثير من مسائل المعاملات ، كما أن هناك من المسائل الأخري ما اتفق على صدوره عنه بوصف الإمامة .
ويبقي بعد ذلك قسم ثالث هو موضع نظر أهل العلم ، هل صدر عنه بوصف التبليغ أم بوصف الإمامة ؟ وذلك كقوله : « من قتل قتيلا فله سلبه » (رواه البخارى ) وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أرسله إلى اليمن : « خذ من كل حالم دينارًا » وذلك في الجزية ، وكقضائه على الزانى بالتغريب والنفي عن البلد ، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن النبى قد فعل ذلك سياسة وتعزيرا فيكون الأمر في توقيع هذه العقوبة من بعده إلى الإمام ، وكقسمه أرض خيبر بين الفاتحين ، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إدخار لحوم الأضاحى بعد ثلاثة أيام من عيد الأضحى ونحوه ، ومن رجع إلى كتب المحققين من أهل العلم وقف من ذلك على الكثير ، وقد أشار إلى هذا التفريق القرافي المالكي رحمه الله في كتابه الفروق فليراجع .
عقوبة القطع وتبدل المجتمعات
سيدى : أنت تعلم أن النص الشرعى الوارد في قطع يد السارق نزل في مجتمع كان يعتمد في نشاطه الاقتصادى على التجارة ، التي لا يزرع مباشرها حقلا ، ولا يدير آلة في مصنع ، فهل ترى أن نبقى الآن على تطبيق هذه العقوبة في مجتمعنا الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى سواعد أبنائه على استقامتهم أو انحرافهم ؟!
- ولكنك يا سيدى تعلم كذلك أن الإسلام لم ينزل لمجتمع البادية فحسب ، بل هو رسالة الله الخاتمة إلى الناس أجمعين ، عربهم وعجمهم ، باديهم وحاضرهم ، من كان منهم يعتمد على الزراعة أو الصناعة أو التجارة فالكل أمام حكمه سواء 0
وقد امتدت فتوحات الإسلام إلى أغلب بلاد العالم وانتظمت في سلكه دول وحضارات متفاوتة ولم يقل منهم أحد ولا نقل إلينا عبر التاريخ أن هناك أحكاما للمجتمعات الصحراوية وأخري لأهل الحضر ، أو أن هناك أحكاما للمجتمعات التجارية وأخرى للمجتمعات الزراعية وثالثة للصناعية وهكذا ، فإن ذلك ما لم يجرؤ أحد على القول به في تاريخ الإسلام !
أما تباكيك على ساعد هذا المنحرف فكيف نسيت أننا نحمي ببترها مجتمعا بأسره من عادية السراق ، ونصون أمة كاملة من غوائل السرقة وقطع الطريق وترويع الآمنين ؟!
إن الشبهة التي دخلت عليك - أيها العزيز - أنك تظن أن الإسلام سيقطع بقدر ما تسجن الأنظمة الوضعية ، فإذا رأيت السجون ملأى بالسراق ، وتصورت أن هؤلاء جميعا مقطعوا الأطراف هالك الأمر واستنكرت شدته ولكنك لو تدبرت قليلا لعلمت أن يدا واحدة تقطع أو بضعة أيد قليلة كفيلة بأن تقطع دابر هذه الجريمة ، وأن تقتل الهمة إلى الإجرام في نفوس أشد الناس جسارة وعتوا .
ألا ما أشبه ذلك بهذا اللغز الدراج الذي كان يلغز به علينا ونحن صغار يقال لنا : رجل أطلق مقذوفا ناريا على شجرة بها مائة عصفور فقتل واحدا، فكم عدد العصافير الباقية على الشجرة ؟ فيسارع الصغار ليقولوا : تسعة وتسعون ، فيهز الملغز رأسه نفيا ، ويحار الصغار ، أليست المائة إذا طرح منها واحد بقى تسعة وتسعون ؟ ولكن الجواب الصحيح أنه لا يبقى فوق الشجرة منها شيء ، فقد قتل واحد وفر الباقون !
هل تعلم - أيها العزيز - أن ستة عشر يدا فقط هى التي قطعت في الحجاز طوال مدة حكم الملك عبد العزيز وهى أربع وعشرون سنة ، وحسمت بها جريمة السرقة من هذا المجتمع ، وأصبح الحجيج يروحون ويغدون وهم آمنون ، بعد أن كانت القوافل نهبا لقطاع الطرق ، وكان الحاج يوصي بأن يكتب وصيته قبل سفره لأنه لا يدري إن كان يرجع إلى أهله أم تدركه عادية اللصوص في الطريق فيلقى مصرعه .
وإننا لو استطردنا مع منطقك هذا - أيها العزيز - لانتهينا إلى نسخ الشريعة كلها وإبطال الإسلام كله من الأساس .
فلقائل أن يقول : لقد جاء الإسلام بالصلاة والصوم في بيئة تجارية يسهل اجتماعها لأداء الصلاة ، أما وقد تطورت المجتمعات وأصبح إقامة الجمع والجماعات مما يعطل الإنتاج ويهدد المصانع بالتوقف عن العمل فلا بأس بإعادة النظر في عقد الجمع والجماعات ، وفي الالتزام بفريضة الصوم في هذه المجتمعات !
وللمسلمين في الغرب أن يقولوا : لم لا تنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد وهو يوم العطلة الرسمي حتى يستفيد أكبر قدر من المسلمين من حضور الصلاة والاستماع إلى الخطبة ؟ لقد كان اختيار يوم الجمعة في بلاد المسلمين ، فما بالنا نصر على ذلك ونحن لا نملك من أمرنا شيئا في بلاد الكافرين ؟!
ولأخر أن يقول : لقد كان تحريم الخمر والميسر في مجتمعات بدائية محدودة الصلات بالآخرين وتعتمد في مواردها على إمكاناتها الذاتية ، فما بالنا نحن وقد تشابكت العلاقات ، وأصبحت معظم مواردنا تعتمد على ما يأتي به السياح من عملة صعبة ، ولا سبيل إلى جذبهم إلا بالسماح في مجتمعاتنا بهذه الموبقات؟لم لايعاد النظر في أمر هذه المحرمات ؟
بل لقائل أن يقول : إن حجاب النساء كان من أجل أن يتميزن عن الإماء فلا يؤذين
( الأحزاب : 59 )
أما وقد انتهي الرق وانتفت الحكمة فلتلبس المرأة ما تشاء ، وقد قال ذلك فعلا أحد فلاسفة العلمانية المعاصرين واعتبر قوله هذا غاية في الاستنارة والتقدمية 0
بل ولقائل أن يقول : إن انتسابنا إلى الإسلام وإصرارنا على تطبيق الشريعة يستنفر علينا الشرق والغرب ويجلب علينا عداء اليهود والصليبيين ، ونحن أمة منهوكة القوى ومحدودة الموارد، فلم لا نتخلى في هذه المرحلة عن الانتساب إلى الإسلام حتى نكسب صداقة هؤلاء ونأمن غوائلهم ، فإذا اشتد عودنا فكرنا في العودة إلى الإسلام من جديد 0
ولا حد لإيقاف هذه التداعيات لأن بحر الهوى لا ساحل له ، فهل ترضي بكل هذه التداعيات أيها العزيز ؟!
المأزق !!
ولكنك قد اتفقت معي على ضرورة توفير حد الكفاية حتى يمكن تطبيق حد القطع مثلا ، وإلا فعلنا كما فعل عمر عندما أوقف العمل بالحد في عام الرمادة وتوفير حد الكفاية يعني حل مشكلة التنمية ومشكلات البطالة و الفقر و الجوع والإسكان ونحوه ، وهذا يوقعكم في إشكالية وفي مأزق ، لأنه يحول مطالبتكم بتطبيق الشريعة إلى دعوى لا مبرر لها ، وقضية لا وجه لإكثار الجلبة حولها !
- كيف ذلك ؟
لأنكم إن بدأتم بتطبيق الحدود على الفور وقعتم في مظالم لا محالة ، وخالفتم فقه عمر الذي أوقف الحد في عام الرمادة ، و إن بدأتم بتهيئة المجتمع وحل مشكلاته وانتظرتم حتى تختفي هذه المشكلات فقدتم الأسباب التي كانت تستوجب تطبيق الشريعة !
- ما أشد التباس الأمر في ذهنك أيها العزيز !
لقد اختزلت الشريعة في إقامة الحدود ، واختزلت الغاية من إقامة الشريعة في حل مشكلات التنمية والبطالة وأزمة الإسكان ، ولقد قررت لك مرارا أن الحدود جزء من المعاملات ، والمعاملات أحد أبواب الشريعة بمفهومها الشامل الذي ينتظم العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات ، وهي بهذا المعنى ترادف كلمة الدين أو الإسلام ، ودعاة الشريعة لا يدعون إلى إقامة الحدود فقط وإنما يدعون إلى إقامة الإسلام أو تطبيق الشريعة بمفهومها العام والشامل ، ولهذا اتفق أهل العلم قديما وحديثا على تعريف الدولة الإسلامية بأنها نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، وأن أول واجبات الإمام حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ، فالمطلوب حفظ الدين كله لا حفظ الحدود فقط ، والغاية حراسة الدين كله ، وسياسة الدنيا به ، لا اقتطاع جزء منه وتقديمه على أنه هو الدين وهوالإ سلام !!
أما اختزالك الغاية من تطبيق الشريعة في حل مشكلات التنمية والبطالة ونحوه فهو تزييف للوعي لا يقبل من مثقف موضوعي مثلك ! لقد ذكرت لك من قبل أننا نطبق الشريعة لأنها أمر الله ، والله يقول:
• • (الأحزاب : 36 ).
نطبق الشريعة حتى يصح إيماننا ويثبت لنا عقده ، فإن الله يقول :
( النساء : 65 ) . ويقول سبحانه : (المائدة : 44 ).
نطبق الشريعة لكي نبرأ من النفاق الأكبر فإن الله يقول : (النساء : 60 ).
ثم نطبق الشريعة لأنها السبيل الأوحد إلى الحياة الطيبة في الأرضكما قال تعالي:
• • • (طه : 123 - 124) . ويقول : • • (الأعراف : 96 ) ويقول تعالى : • • ( المائدة : 66 ).
ونطبقها لكى ندفع عن أنفسنا وعن أمتنا الكوارث والأزمات فإن الله يقول : • • ( النحل : 112 ) ويقول تعالى : • (الطلاق : 8-9 ) .
فهل عرفت أيها العزيز إلى أى مدي قد التبس عليك الأمر وغامت أمامك الرؤية ؟!
عقوبة القطع وتبدل المفاهيم
لكن أتظن أننا نستطيع أن نواجه العالم اليوم بحد القطع وقد تطورت المفاهيم وتبدلت النظرة إلى المجرمين ، وسادت في عصرنا حقوق الإنسان ، ماترى ماذا يقول عنا المجتمع الدولي وقد تحولنا إلى مجموعة من القصابين نقطع الأطراف ونتضرع في الدماء ؟!!
- إنا لله وإنا إليه راجعون ! وماذا فعلنا بعالمانيتك أيها العزيز ؟ لقد خلعنا ربقة الشريعة وتحللنا من التكاليف الشرعية وأصبحنا نعدو وراء القوم نقيم باطلهم ، ونمجد حضارتهم ، ونتحاكم إلى شرائعهم ، فماذا كانت النتيجة ؟ هل أصبحنا دولة عظمي أو شبه عظمى ؟ هل اجتمعت كلمتنا ؟ هل اتحدت رايتنا ؟ هل قهرنا إسرائيل ؟ هل قضينا على البطالة ؟ هل تغلبنا على مشكلة التنمية ؟ هل تحررنا من التبعية للشرق أو الغرب ؟ هل حافظنا على حقوق الإنسان في بلادنا المنكوبة ؟
أم إننا قد صرنا كمًّا هَمًلا في ذيل قافلة الرقيق ؟؟! وأصبحنا جذاذات مهلهلة يذوق بعضنا بأس بعض ، وتمتطي ظهورنا حثالات أهل الأرض؟
أتستحي أن تواجه بحكم الله من لا يستحون من إباحة اللواطة ، ويعقدون زواج الرجل على الرجل والمرأة على المرأة بقانون ، ويمارسون الزنا على قوارع الطرق في حماية القانون ؟ ! أتتوارى خجلا من انتسابك إلى الإسلام وتخشي أن تضبط متلبسا بتطبيق شريعته وهي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في الوقت الذي لا تستحى دولة كإسرائيل من انتسابها إلى التوراة المحرفة ومن إقامة كيانها على أساس هذا الكتاب ، واتخاذه مستندا لا ستحلال البلاد والعباد ؟ لقد كنا أيها الصديق أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ، فمتى ابتغينا العزة في غير الإسلام أذلنا الله !!
وإن كنت ترى من منظور التطور البشري أن القطع عقوبة قاسية لا تتفق وحضارة هذا العصر فما تقول فيمن يقررون القتل عقوبة لهذه الجريمة،وهم في مقدمة مايسمي بالدول العظمى وفي طليعة موكب الحضارة والمتحضرين ؟
هل بلغك أيها العزيز أن الاتحاد السوفيتى يقررعقوبة الإعدام على الرشوة ؟ لقد نشرت جريدة الأخبار يوم 8/5/6891 تحت عنوان : إعدام المدير بتهمة الرشوة . (موسكو - رويتر ) تم إعدام مدير مصنع للنسيج في جنوب شرق موسكو ويدعى (كوشنار ميكو ) لقبوله رشاوى لمدة ثلاث سنوات قيمتها - 2470000 - روبيل ، وقد وجهت الصحف السوفيتية نقدا شديدا لوزارة الصناعة لعدم تمكنها من السيطرة على هذه الانحرافات طوال الثلاث سنوات !!
ثم ما هو البديل الذي قدمته العلمانية المعاصرة أيها العزيز ؟ وهل أدي هذا البديل دوره في القضاء على الجريمة والضرب على أيدي المجرمين ؟ لقد جعلت السجن هو البديل فماذا ترتب على هذه العقوبة ؟ هل أدت هذه العقوبة دورها في استئصال هذه الجريمة أو التقليل منها ؟ لقد ذكرت وكالة التحقيق الفيدرالية ( إف .بي .إي ) بأن الجرائم التي حدثت في عام 3891 في الولايات المتحدة كانت بمعدل جريمة كل 3 ثوان ، ويشير التقرير إلى أن جريمة قتل ترتكب كل 72 دقيقة ، وجريمة اغتصاب كل 7 دقائق . وسرقة كل 36 ثانية ، وسرقة سيارة كل 13 ثانية ، وسطو على منزل كل 01 ثوان ، وسرقة أمتعة صغيرة كل 5 ثوان ( ) .
إن السجن بشهادة أكابر علماء الإجرام والعقاب خاصة ما كان منه قصير المدة يعتبر مدرسة للجريمة يدخل فيها المجرم العارض فيتمرس فيه بفنون الإجرام وأساليب الاحتيال ، ويعقد الصلات مع أكابر المجرمين وأصحاب السوابق الخطرين فلا تنقضي مدة عقوبته إلا وقد أتقن وتخصص ، وتهيأ لممارسة أعمال إجرامية واسعة النطاق بالتنسيق مع زملائه وأساتذته من المحترفين وعتاة المجرمين !!
هذا فضلا عن أن قيمة العقوبة إنما تكمن في التهديد بها ، فإذا طبقت مرة ألفها الإنسان ، وسقطت رهبتها من نفسه وأصبحت لا تشكل لديه رادعا يذكر ، بل قد يجد فيها مخرجا من تعقيدات الحياة وضيق فرص العيش في الخارج خاصة في العالم الثالث التي تعيش الكثرة الكاثرة من سكانه دون حد الكفاية .
ومن ناحية ثالثة فإن ماينفق على السجين في سجنه إنما يكون من خزينة الضرائب التي تجبى من عموم المواطنين ، ومن بينهم هؤلاء المعتدي عليهم ، فكأنهم بذلك قد اعتدى عليهم مرتين:مرة عندما اعتدى عليهم بواسطة هؤلاء الجناة ، ومرة أخري اعتدي عليهم بواسطة الدولة حيث أمروا أن يشتركوا في الإنفاق على مستبيحي دمائهم وأموالهم وأعراضهم بغير حق ، هذه هي عقوبة الجاهلية وذلكم هو حكم الطاغوت .وصدق الله العظيم :
• (المائدة : 05 ) .
تطبيق الشريعة والوحدة الوطنية
ولكن تطبيق الشريعة سيقودنا إلى طائفية بغيضة يتشرذم فيها الوطن ، ويتمزق معها نسيجه ؛ نظرا لما تؤدي إليه من تحول أبناء الديانات الأخرى إلى رعايا من الدرجة الثانية أو الثالثة حيث تفرض عليهم الجزية، ويحرمون من كثير من الحقوق ، ويفقدون حق المواطنة الكاملة ، وهو حق قد اكتسبوه عبر كفاح طويل ولن يتخلوا عنه بسهولة ، فضلا عن أن هذا يحرك فيهم الرغبة في المطالبة بتطبيق شريعتهم كذلك ، لا سيما إذا كنت تطالب بتطبيق الشريعة باعتباره التزاما عقديا وواجبا دينيا فكيف يكرهون على اعتقاد ما لا يدينون به، وقد سئل كثير من القيادات القبطية عن رأيهم في قضية تطبيق الشريعة فأبدوا تخوفهم على وضعهم في ظل هذه السياسة الجديدة ، وتساءلوا عن حقوقهم في المواطنة ، وهذه تخوفات يبدونها اليوم على استحياء نظرا للحساسية المحيطة بموقفهم من هذه القضية ، لكن الأمر قد ينتقل غدا إذا جد الجد إلى صعيد آخر ، وقد يتجاوز الحوار إلى المواجهة ، وربما أفضى إلى ما لا تحمد عقباه !
أليس من الخير لنا أن نبقى جميعا في إطار من الدولة المدنية التي ارتضاها الجميع لما تتسم به من تسامح ديني يتسع للجميع في ظل شعار - الدين للديان والوطن للجميع - حتى نفرغ جميعا لبناء هذا الوطن ، ويتعاون أبناؤه جميعا مسلمين وأقباطا في صناعة مستقبله بعيدا عن أدواء التعصب والتشرذم والطائفية ؟
- ليس صحيحا ما ذكرت أيها العزيز ، فقد عاش المسلمون والأقباط في ظل تطبيق الشريعة ثلاثة عشر قرنا أو يزيد فلم تتشرذم الأمة ولم يتمزق الوطن ، بل تكاتفت سواعد الجميع في بناء حضارته ورد العدوان عنه في إطار جامع من العهود المصونة والذمم المرعية ، ولم يطالب الأقباط قط بأن يلتزموا بالشريعة كدين أو أن يخضعوا لحكمها عقديًا، فهذا الذي لا سبيل إليه في ظل قاعدة - لكم دينكم ولي دين - وقد اختاروا أن يكونوا أقباطا ، فكيف يكرهون على ما هم به كافرون .
إن هذا المنحى في تطبيق الشريعة لم يطف قط بخاطر أحد من المسلمين ، وإنما خضع الأقباط لحكمها كقانون عام واجب النفاذ في الدولة ، تماما كما يخضعون الآن للقوانين الوضعية وليست هي دينهم الذي به يدينون ، ولا مردها كتابهم الذي هم به مؤمنون .
كما أنهم قبلوا بها باعتبارها تراثا قوميا وحضاريا لهم ، فإن لم يؤمنوا بها دينا فقد آمنوا بها ثقافة وحضارة حتى كان بعضهم يقول: أنا – مسيحي دينا ومسلم وطنا وثقافة - ولقد حفلت مقالات أدبائهم وقصائد شعرائهم بهذا المعنى ، قال أمين نخلة « الإسلام إسلامان : واحد بالديانة ، وواحد بالقومية واللغة ، ومن لا يمت إلى محمد بعصبية ، ولا إلى لغة محمد ، وقومية محمد ، فهو ضيف ثقيل علينا ، غريب الوجه بيننا .ويا محمد : يمينا بديني ودين ابن مريم .. إننا في هذا الحي من العرب نتطلع إليك من شبابيك البيعة ، فعقولنا في الإنجيل وعيوننا في القرآن » ( ).
ويقول فارس الخوري : « أنا مسيحي ولكني أجاهر بصراحة : إن عندنا النظام الإسلامي ، وبما أن الدول العربية المتحدة - كان ذلك في عهد الوحدة بين مصر وسوريا واتحاد هما مع اليمن - بأكثريتها الساحقة مسلمة ، فليس هناك ما يمنعها من تطبيق المبادئ الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع»( ).
ويقول: « نحن بحاجة إلى حكومة حازمة تؤمن بالإسلام كدين ونظام متكامل ، وتعمل لتطبيقه، فكما أن الشيوعية تحتاج لدكتاتورية حازمة تشق لها طريق الانتشار والازدهار والثبات فالإسلام أشد حاجة لمثل ذلك . ومن ذا الذي يرضي ضميره ويطمئن قلبه إلى سلامة أمته وكيان بلده وهو يعلم أن التحلل والفساد منتشران لدرجة يصعب معها صدهما وإيقاف تيارهما ؟ ومن ذا الذي ينكر على المسئولين فيه ، مكافحة ذلك التحلل وذلك الفساد بشريعة هي من تلك الأمة وفيها »( ).
أما حقوقهم في ظل الدولة الإسلامية التي تطبق شريعة الله فقد أوجزتها هذه العبارة المأثورة الجامعة « لهم ما لنا وعليهم ما علينا » ومن الممكن أن يتضمن الدستور الأساسي في الدولة الإسلامية بابا خاصا يفصل هذه الحقوق ، وتكون جزءا من القانون الأساسي في البلاد ، ولا مجال للمساس بها ولا للانتقاص منها .
وإن الوفاء بهذه الحقوق سيتحول في ظل الدولة الإسلامية إلى التزام ديني واجب الأداء ، ولا سبيل للمسلم إلى التحلل منه أو التلاعب به وقد أعطي عليه ذمة الله ورسوله ، وإن صدي هذه الكلمة النبوية لا يزال يشق حجب الزمان ويدوي عبر القرون ، « من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه يوم القيامة » ومن ذا الذي يقوى على ذلك ؟ أو يرضي أن يكون شفيعه خصيمه وحجيجه يوم القيامة .
أما عبارة « الدين للديان والوطن للجميع » فهي عبارة غريبة على الحس الإسلامي لأن الدين والوطن والمواطنين لله رب العالمين قال تعالى :
] [ (المؤمنون : 48-58 )
وإن الإسلام لا يعرف هذه الاثنينية أو الازدواجية في صلة الإنسان بخالقه ، لأنه يقوم على أن الأمر كله لله دينا ودنيا ، عقيدة وشريعة ، روحا وجسما ، لا يجعل من قيصر شريكا لله في حكمه ، ولا ندا له في ملكه ، بل يجزم في وضوح أن قيصر وما ملكت يمينه والناس أجمعين لله رب العالمين لا شريك له :
] [ ( مريم : 39 ) .
أما التسامح الذي نتحدث عنه فإن الدولة الإسلامية أحق به وأهله ، ولو كان من منهج الإسلام أن يقهر أحدا من أبناء الديانات الأخرى على تغيير معتقده ما بقي على أرضه منهم أحد ، ولك أن تقارن بين وضع المسلمين في دولة كأسبانيا في أعقاب سقوط الحكم الإسلامي بها مثلا : وبين وضع غير المسلمين في الشرق ففي هذه المقارنة أبلغ الجواب على رد هذه الشبهة .
وإن أردت شهادة التاريخ على هذا التسامح فلن أسوق لك شهادة أحد من المسلمين لأنها ربما كانت في هذا المقام في موضع التهمة ، ولكن أسوق لك شهادة المنصفين من غير المسلمين سواء أ كانوا من المفكرين أم من رجال الدين .
يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون : «وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب أبصارهم ، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة ، ويسيئوا معاملة المغلوبين ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم ...ولكن العرب اجتنبوا ذلك ، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة - أن النظم والديانات ليست مما يفرض قسرا فعاملوا كما رأينا أهل سوريا ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم ، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقا في مقابل حفظ الأمن بينهم ، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ، ولا دين سمحا مثل دينهم » ( ).
ويقول ريتشارد ستيبز : « على الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب .. فقد سمحوا للمسيحيين جميعا : للإغريق منهم واللاتين منهم أن يعيشوا محافظين على دينهم ، وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاؤا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفي أماكن أخري كثيرة جدا ، على حين أستطيع أن أؤكد بحق - بدليل اثني عشر عاما قضيتها في أسبانيا أننا لا نرغم على مشاهدة حفلاتهم البابوية فحسب بل إننا في خطر على حياتنا وأحفادنا .
وهذا ما جعل بطريرك إنطاكية واسمه مكاريوس يقول : أدام الله دولة الترك خالدة إلى الأبد ! فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان سواء إن كان رعاياهم مسيحيين أو يهودا أو سامرة » ( ) .
ونسوق في هذا المقام وثيقة تاريخية تبين كيف كان يعامل غير المسلمين في الدول الإسلامية ولو كان من اليهود ، وتتمثل هذه الوثيقة في نص الفرمان « الظهير » الذي أصدره السلطان محمد بن عبد الله سلطان المغرب في 5 فبراير 4681 م وهذا نصها :
« بسم الله الرحمن الرحيم . و لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم . نأمر من يقف على كتابنا هذا من سائر خدامنا وعمالنا القائمين بوظائف أعمالنا أن يعاملوا اليهود الذين بسائر آياتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام ، حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام ، ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام ، وألا يعتدوا هم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم ، وألا يستعملوا أهل الحرف منهم إلا عن طيب أنفسهم وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم ، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة ، ونحن لا نوافق عليه ، لا في حقهم ولا في حق غيرهم، ولا نرضاه لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء . ومن ظلم أحدا منهم أو تعدى عليه فإنا نعاقبه بحول الله ، وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقررا ، ومعروفا محررا، لكن زدنا هذا المسطور تقريرا وتأكيدا ووعيدا في حق من يريد ظلمهم ، وتشديدا ليزيد اليهود أمنا إلى أمنهم ، ومن يريد التعدي عليهم خوفا إلى خوفهم . صدر به أمرنا المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام 0821 هـ ثمانين ومائتين وألف» ( ) .
ويقول القس برسوم شحاتة وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر وقد وجه إليه سؤال هذا نصه : من خلال دراستكم للتاريخ ماذا ترون في حكم الإسلام بالنسبة للأقليات من ناحية العبادة والأموال والأعراض ؟
فأجاب : « في كل عهد أو حكم إسلامي التزم المسلمون فيه بمبادئ الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين - والمسيحيين على وجه الخصوص - بكل أسباب الحرية والأمن والسلام ، وكلما قامت الشرائع الدينية في النفوس بصدق بعيدة عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيلين على الدين ، كلما سطعت شمس الحريات الدينية ، والتقي المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي والوحدة الخلاقة »( ) .
ويجيب على هذا السؤال الأنبا غرغريوس أسقف البحث والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القبطية وممثل الأقباط الأرثوذكس فيقول : «ولقد لقيت الأقليات غير المسلمة - والمسيحيون بالذات - في ظل الحكم الإسلامي الذي تتجلى فيه روح الإسلام السمحة كل حرية وسلام وأمن في دينها ، ومالها ، وعرضها » ( ) .
ويجيب عليه الكاردينال اصطفانوس بطريك الأقباط الكاثوليك قائلا : « إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان ، وكل دين يدعو إلى المحبة والإخاء ، وأي إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يبغض أحدا أو يلقي بغضا من أحد . ولقد وجدت الديانات الأخرى - والمسيحية بالذات - في كل العصور التي كان الحكم الإسلامي فيها قائما بصورته الصادقة ، ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر ، من حيث الأمان والاطمئنان في دينها ومالها ، وعرضها وحريتها » ( ) .
أما الإطار المدني أو العلماني فلم يكن دائما مخرجا من الفتن الطائفية ، ولا أدل على ذلك من الهند التي تشهد المذابح الرهيبة من حين إلى آخر ويذهب ضحيتها عشرات الألوف من المسلمين ، ولا تزال المصادمات الدامية بين السيخ والهندوس والتي ذهبت ضحيتها رئيسة وزراء الهند تثير الفزع في أنحاء البلاد ولا يكاد يهدأ لها أوار رغم الإطار العلماني للدولة ولا تزال الطائفية في لبنان رغم علمانيتها تأتي على الأخضر واليابس وتغرق البلاد في بحر من الدماء !
ومن ناحية أخري فإنه لا خيار لنا في قبول تحكيم الشريعة أو عدم قبوله ، لأن القضية بالنسبة لنا نحن المسلمين قضية إيمان أو كفر ، فالقبول بالشريعة من جنس القبول بالإسلام ،وردها رد للإسلام، وقد أجمعت الأمة على كفر من أبى الحاكم إلى الكتاب والسنة وقد قال تعالى :
] • • [ ( الأحزاب : 63 )
وقال : « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال من أطاعني دخل الجنة،ومن عصاني فقد أبى » (رواه البخاري )0
وأخيرا ... ألا يتغنى العلمانيون بالديموقراطية ويرونها مخرجا من الطائفية والصراعات الدينية ، ليحتكموا إلى الديموقراطية وليسمحوا باستفتاء حقيقي يتعرف على إرادة الأغلبية ، فإذا كانت الأغلبية مع الشريعة فبأي منطق يستجيزون قهر إرادة الأغلبية ويفرضون عليها قانونا لا يمت لدينها ولا لتاريخها ولا لحضارتها بصلة ؟ ولا لمبادئهم الديمقراطية نفسها !
حق المواطنة لغير المسلمين
لقد لمست حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية بإجمال يغلب عليه التعميم و الدبلوماسية ، وما هكذا تناقش القضايا المصيرية التي تشكل مستقبل الأمة ، فهلا ألقيت مزيدا من الضوء حول هذه النقطة ؟
- أهل الذمة في الدولة الإسلامية لهم حقوق وعليهم واجبات :
أما حقوقهم فهم آمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم بمثل ما يأمن به المسلمون ، وهم آمنون على شعائرهم ومعابدهم يتركون فيها وما يدينون ، ولهم على ذلك النصرة والمنعة .
ولهم تنظيم مسائل الأسرة وما يتعلق بالأحوال الشخصية وفقا لما يعتقدون ، ثم يخضعون بعد ذلك لما يخضع له سائر المتوطنين في الدولة من القانون والنظام العام .
أما واجباتهم فإنهم يلتزمون بما يلتزم به سائر المسلمين من الولاء للدولة الإسلامية والمشاركة في أعبائها المالية ، وعدم النيل من حرماتها ومقدساتها بسوء 0
ماذا تفعل الدولة المسلمة التي تطبق الشريعة بما قد يوجد على أرضها من أقليات لا تدين بدين سماوي كالبوذية والهندوسية وسائر الديانات الوثنية ؟ هل تعقد لهم الذمة كذلك ؟ أم أن عقد الذمة خاص بأصحاب الديانات السماوية ؟ وإذا لم تعقد لهم الذمة هل تكرههم على اعتناق الإسلام أم تلزمهم بالهجرة ؟ أم توقفهم بين قبول الإسلام أو السيف ؟
- يجوز للدولة المسلمة أن تعقد الذمة لهؤلاء في أحد قولي العلماء ، ثم يعرض عليهم الإسلام بعد ذلك كما يعرض على غيرهم من سائر الملل الأخرى ، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم جواز عقد الذمة لعامة المشركين أخذا من عموم قوله صلى الله علية وسلم في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه : « وإذا لقيت عدوك ومن معه من المشركين فاعرض عليهم ثلاث خصال .. وبين أنها : الإسلام أو الجزية أو السيف» [ أخرجه مسلم في الصحيح ] . واعتبارا بأخذها من مجوس هجر ، والمجوس هم عبدة النار فهم وسائر الوثنيين سواء .
أما ما ورد من قوله تعالى :
] • [ ( الفتح : 61 )
فقد نص كثير من المفسرين على أنه خاص بهؤلاء القوم المشار إليهم وليس قاعدة عامة في الدين.
وإذا كان النبي صلى الله علية وسلم لم يأخذ الجزية من عباد الأصنام فلعدم وجود من تؤخذ منه يومئذ منهم كما أشار إلى ذلك ابن القيم في زاد المعاد ، فلقد كان فرضها في السنة الثامنة من الهجرة بعد أن فتحت مكة وأسلمت جزيرة العرب ولم يبق فيها مشرك ، وقد صح عنه أنه أخذها من المجوس وهم عبدة النار ، فإذا أخذها منهم فأخذها من عباد الأصنام أولي ( ) . والله أعلم .
وماذا عن الجزية ؟
- الجزية التزام مالي يوضع على القادر من أهل الذمة مساهمة منه في أعباء الدولة ، ورمزا لالتزامه بسلطتها العامة ، وهو أقل من الزكاة التي يلتزم بآدائها المسلمون بكثير ، أليس من العدل في توزيع الأعباء أن يشارك غير المسلم في أعباء الدولة المالية كما يشارك المسلم ، وكلا الفريقين يتمتع بمرافق الدولة وينعم بما توفره له من رعاية وخدمات عامة ؟!
ولكن هل يعتقد الدعاة إلى تطبيق الشريعة أن روح العصر تقبل بفرض جزية على فريق من المواطنين وإفرادهم بهذا الالتزام في الوقت الذي سادت فيه مفاهيم المساواة وحقوق الإنسان ونحوه ؟
- الجزية كما ذكرت لك نظام مالي يفرض للمشاركة في الأعباء المالية في الدولة ويعبر عن الالتزام بالسلطة الشرعية القائمة ، والمسلم يدفع أضعاف هذا الالتزام تحت مسمي آخر وهو الزكاة والصدقات ونحوه ، ولا مشاحة في التسمية ، فلا حرج أن تعتبر هذه الجزية ضريبة ، ولا حرج أيضا أن تكون في مقدار الزكاة التي يدفعها المسلمون ، ولا حرج أن يصدر تشريع عام موحد يلزم الجميع بهذا الالتزام يدفعه المسلم تحت مسمى الزكاة ويدفعه الذمي تحت مسمى الضريبة ، ولنا فيما فعله عمر مع نصارى بنى تغلب أسوة ( ) .
والالتزام بالمشاركة في الأعباء المالية للدولة نظير التمتع بالمرافق العامة جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية المعاصرة ، بل يعتبرون الالتزام به سمة من سمات التحضر والإحساس بالمسئولية في هذه البلاد .
هل للجزية مقدار معين في الشرع لا يزاد عليه ولا ينقص منه ؟
- هذه المسألة من موارد الاجتهاد والراجح أنها غير مقدرة الجنس ولا القدر ، وإنما تقدر بحسب الحاجة وحسب احتمال من تؤخذ منه ، وحاله في الميسرة وما عنده من المال ، وما ورد في السنة من تقديرات متفاوتة لها فإن تفاوتها يدل على أن هذا التقدير ليس شريعة لازمة ، وأنه تصرف من النبي صلى الله علية وسلم بمقتضى الإمامة والسياسة وليس بصفة التبليغ والرسالة ، فقد وجه النبي صلى الله علية وسلم معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو قيمته من المعافري وصالح أهل نجران من النصارى على ألفي حلة وعارية بعض آلات الحرب ، وفي هذه التفاوت دليل على ما ذكرت 0
هل يتمتع أهل الذمة بحقوق المواطنة في الدولة الإسلامية ؟
- نعم يتمتعون بذلك ، فإن الذمة قد عقدت لهم ليكون ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) ولا يستثنى من ذلك إلا الولايات الدينية التي يعتبر الإسلام شرطا في عقدها .
وماذا عن قاعدة لا ولاية بين المسلم وغير المسلم ؟
- الولاية المنهي عنها هي ولاية النصرة والمظاهرة لمن كان محاربا من الكافرين ، فإذا كان ثمة مواجهة بين المسلمين وأعدائهم من غير المسلمين فليس للمسلم أن يظاهر الكافرين على المسلمين ولا أن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، وهو ما يعبر عنه حديثا بواجب الانتماء والولاء للدولة ، الذي يقتضى من المواطنين أن لا يظاهروا عليها خصومها في حالة حرب ، وإلا فقد ارتكبوا ما اصطلح على تسميته بالخيانة العظمي .
وبديهي أنه لا توجد مواجهة بين الدول الإسلامية وأهل ذمتها ، وإلا لما بذلت لهم الذمة ، بل على النقيض من ذلك لهم الحماية والنصرة على كل من اعتدي عليهم كائنا من كان ما داموا على ذمتهم ، فلو اعتدى فريق من المسلمين على أهل الذمة جردت الدولة الإسلامية جيوشها للانتصاف لأهل ذمتها تماما كما لو كان الاعتداء قد وقع على فريق من المسلمين .
وقد عرف الجميع موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما خاطب التتار في إطلاق الأسري ، فأطلقوا المسلمين واستبقوا من كان معهم من أهل الذمة من النصارى الذين أخذوهم من القدس،فأبى ذلك وقال:« بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا فإنا نفتكهم ولا ندع منهم أسيرا ، لا من أهل الذمة ولا من أهل ( ) . » (1) وأبى إلا أن تكون المفاوضة على الجميع ، لأن الذمة قد بذلت لهم على أن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وقد تم له ذلك بفضل الله ورحمته .
وماذا عن الوظائف العامة ؟
- فيما عدا الولايات الدينية التي يعتبر الإسلام شرطا لانعقادها فالأصل أن تفتح أمامهم كغيرهم من المتوطنين كافة الأبواب للمشاركة في بناء هذا الوطن شأنهم في ذلك شأن المسلمين سواء بسواء
ويحضرنا من هذا المقام ما قرره الماوردي بشأن وزارة التنفيذ وهي أن يعين الإمام من ينوب عنه في تنفيذ الأمور ، ويكون وسيطا بينه وبين الرعية ، فقد بين أن الإسلام ليس شرطا في هذه الوزارة ، فيجوز للإمام أن يعين بعض وزراء التنفيذ من أهل الذمة ، وبناء على ذلك فإن السفراء في هذا العصر والوزراء المفوضين ونحوهم يجوز للإمام أن يختار بعضهم من أهل الذمة في ضوء ما تقتضيه المصلحة العامة .
ولكن هذا ليس من المجمع عليه ، فلا تزال كثير من الآراء الإسلامية تنازعك في هذه الآراء المستنيرة ؟
- لا حرج في أن توجد اجتهادات مخالفة ، بل إن هذا التفاوت دليل على السعة وعلى المرونة ، ولكننا نختار من هذه الاجتهادات ما ترجحه الأدلة وتتحقق به المصلحة ما دامت لم تخرج في الجملة على وجوه الدلالة المحتملة شرعا للنصوص ، ولم نبتدع قولا ليس لنا فيه سلف من أئمة المسلمين ، ثم تصدر وثيقة بهذه الاجتهادات المختارة لتكون ميثاقا بيننا وبين أهل ذمتنا لا يحل لأحد أن يخفره بحال من الأحوال .
هناك بعض أنواع من الخمور تستخدمها الكنيسة في أداء بعض الطقوس الدينية ، فما الموقف منها في ظل تحريم الشريعة للخمر ؟
- الأصل تركهم وما يدينون ، على أن يظل الأمر في هذا النطاق ، ولا يتعداه إلى إشاعة الخمر في المجتمع ، فإن هذا مما اتفقت المسيحية والإسلام على رده .
هل يلزم أهل الذمة بزي معين يتميزون به عن المسلمين في الدولة الإسلامية؟
- لا يلزم ذلك وما ورد في كتب الفقه أو التاريخ الإسلامي من ذلك فقد كان لاعتبارات خاصة اقتضتها طبيعة الدولة يومئذ التي كانت في حالة دفاع وفتوحات مستمرة ، وكان رجالها جميعا أشبه ما يكونون بالمجندين في الوقت الحاضر ، والدول كل الدول تحرص على أن يتميز جنودها بزي معين خاص بهم لا يشاركهم فيه أحد لاعتبارات الأمن والمصلحة العامة ولم يقل أحد ممن تكلم في هذه الشروط من أهل العلم أنها شريعة محكمة وسنة دائمة 0
هل يجوز للدولة الإسلامية أن تلزم أهل الذمة بالتزامات أخري كأن تسخرهم في أداء بعض الأعمال مثلا؟
- معاذ الله أن يقع في الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة شيء من ذلك ! لا على أهل الذمة ولا على غيرهم ، فإن هذا فعل الملوك الظلمة وليس من دين الله في شيء .
ومما هو جدير بالذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان قد رفع إليه كتاب زوره يهود خيبر يزعمون فيه أن النبي صلى الله علية وسلم أسقط عنهم الجزية ، فقرر أن هذا الكتاب مزور ومكذوب على رسول الله صلى الله علية وسلم وكان مما استدل به على كذبه ما جاء فيه من أن النبي صلى الله علية وسلم أسقط عنهم الكلف والسخر !! إذ لم يكن في زمانه صلى الله علية وسلم كلف ولا سخر تؤخذ منهم ولا من غيرهم ، وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من ذلك .
إذا نقض أحد من أهل الذمة عهده بتآمر على المسلمين فهل ينتقض تبعا لذلك عقد الباقين ؟
- الأصل في الإسلام بل وفي سائر الديانات السماوية ألا تزر وازرة وزر أخري ، فقد قال تعالى :
] [ (النجم : 63 - 83 ) .
وقال تعالى : ] • • • [ ( الإسراء : 51 ).
فإذا نقض أحد من أهل الذمة عهده كان هو الذي يوآخذ على هذا النقض ، إلا إذا أعانه على ذلك أو أقره أو تواطأ معه عليه آخرون ، فمن رضي صنيعه وتواطأ معه عليه أخذ حكمه ، ويبقى من سوي هؤلاء على حكم العهد الذي عقد لهم .
وماذا عن حوادث العنف التي وقعت مؤخرا بين بعض الجماعات الإسلامية وبين بعـض المسيحيين ؟
- لا ننكر أن هناك توجسا وتوترا متبادلا بين الفريقين ، وفي مثل هذا المناخ الردئ تعمل الشائعات دورها في إثارة الفتن والإغراء بالتناوش والتهارج ، وقد تعمل بعض القوى الأجنبية من خلال بعض عملائها على مزيد من التصعيد والتوتر ، ولكن المقطوع به أن كل هذه الحوادث ليست في مصلحة الفريقين ، لا في مصلحة الجماعات الإسلامية المنادية بتحكيم الشريعة ، لأن هذه الأحداث تكون ذريعة إلى مزيد من القلق والتوجس من قبل غير المسلمين؛ الأمر الذي قد يرى فيه كثير من الناس مبررا لمزيد من التسويف والمماطلة في تطبيق الشريعة ، ولا هي في مصلحة غير المسلمين لأنها تؤدي إلى تكريس الخصومات بينهم وبين عامة المسلمين وتعبئة الشعور العام ضدهم الأمر الذي يضيق أمامهم فرص المشاركة في الحياة العامة وينتهي بهم إلى عزلة خانقة .
بم تفسر الفتاوى التي نسبت مؤخرا إلى بعض قادة الجماعات الإسلامية باستحلال دماء النصارى وممتلكاتهم والتي ترتب عليها بالفعل بعض الحوادث المؤسفة ؟ وإذا كان هذا يقع ولا تزال هذه الجماعات في موقع المعارضة فكيف يكون الحال إذا وصلت إلى سدة الحكم ؟ ألا ترى أن الصورة تبدو كئيبة وحالكة ، وتدعو إلى كثير من القلق والتشاؤم ؟ ! وهل على غير المسلمين من حرج إن هم أبدوا مخاوفهم وعبروا عن قلقهم إزاء هذا الوجود المتنامي لهذه الجماعات المتطرفة ؟ بل هل عليهم من حرج إن هم أبدوا تحفظهم على قضية تطبيق الشريعة ككل ما دامت هذه النماذج هي التي ترفع لواءها وتتبنى المطالبة بها ؟ ومهما ذكرت من ضمانات لأهل الذمة على المستوى النظري فإن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر ، وما من مذهب من المذاهب الوضعية التي طبقت في بلادنا إلا وبشر المواطنين بالجنة التي يدخلونها في ظله ، ويدغدغ مشاعرهم بآمال الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة ، ثم يسوق الناس بعد ذلك سوقا إلى نقيض ما بشرهم به ، فتتبدد الشعارات وتتبخر النظريات ، ولا يبقى للشعوب منها إلا الغصص والحسرات ، فالعبرة إذن بالواقع العملي الذي سيعيشه أهل الذمة إذا انتقلت السلطة إلى هؤلاء المتطرفين ، فإذا كانت هذه الجماعات تحمل هذا القدر من التعصب والعداء لغير المسلمين فإن معنى ذلك أن بحارا من الدماء سوف تجري بمجرد تسلم هؤلاء لأزمَّة الحكم ، فدع عنك حديث الشعارات والأحلام الوردية ، ونبئني عن مدى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور فعلا من الناحية العملية ؟ !
- أخي الكريم ! عندما حدثتك عن المركز القانوني لأهل الذمة في الدولة الإسلامية لم أجنح بك إلى خيال ، ولم أحدثك عن نظريات سياسية لم تمتحن على صعيد التطبيق العملي ، وإنما حدثتك من واقع عملي عاشته الأمة ثلاثة عشر قرنا أو يزيد ، وشهدت به أقلام غير المسلمين من المفكرين ومن رجال الدين ... وقد ذكرت لك أن الوفاء بهذه الحقوق جزء من الدين ، وأنها لذلك تستمد إلزامها وقدسيتها من النصوص الشرعية ، فالالتزام بها من جنس الالتزام بالصلاة والصيام والحج ونحوه ، فهي ليست مجاملة سياسية أو مزايدة حزبية سرعان ما تتبخر إذا تغيرت مواقع المصلحة على النحو الذي يجري عليه الحال في الأيدولوجيات الوضعية .
أما ما تتحدث عنه من فتاوى تنسب إلى بعض الجماعات الإسلامية فلا يخفي عليك أن الواقع واقع فتنة ، وأن رصيدا من التوتر والتوجس متبادل بين الفريقين .. وأن الشائعات تلعب دورها في مثل هذا المناخ الردئ ، ولك أن تتخيل معي عندما بتنامي إلى سمع هذه الجماعات الإسلامية أن غير المسلمين يتآمرون ويخططون لإقامة دولة قبطية ، وأنهم يريدون الانفصال بالقسم الجنوبي لتكوين دولة مستقلة ، وأنهم يكدسون الأسلحة في الكنائس ؛ وأنهم يوصون أطباءهم بتعقيم نساء المسلمين ، ويوصون شعبهم بعدم التعامل مع المسلمين أو الشراء من محالهم أو تأجير المساكن لهم ، وتصدر بهذه المعاني وثيقة تنسب إلى أحد الاجتماعات الدينية الكنسية وتنشر في بعض الكتب السيارة ، بل عندما يصل إلى مسامعهم أنهم يقتلون من أسلم منهم ويمثلون بجثته ، ويرون بأعينهم بعض الحوادث التي تشهد على ذلك ، وأنهم يتلقون الدعم من بعض الجهات الخارجية التي تدعمهم لإنقاذ هذا المخطط ، ترى ماذا يكون رد الفعل الطبيعي إزاء ذلك كله ؟!
إنني أرجو أن تنظر إلى المشكلة نظرة متوازنة ، فلا تنظر إلى رد الفعل وتتجاهل الفعل ، أو تنظر إلى النتيجة وتغفل السبب ، وأنا لا أنازعك أن كثيرا من هذه الشائعات قد يكون مفتعلا لا أساس له ، وأن القاعدة من الفريقين لا تقر هذا الشطط ، وتتطلع إلى السلام الاجتماعي ، وتشجب كل ما يعكر صفو العلاقة بين الفريقين ، ولكننا في هذا المقام نفسر ولا نبرر ، ونحاول أن نضع أيدينا على جذور المشكلة حتى نتمكن من اقتراح الحلول الجذرية التي تستأصل الفتنة باستئصال مسبباتها ولا نكتفي ببعض المسكنات الوقتية .
والذي أود أن أخلص إليه أن هذا التوتر المعاصر يمثل انعطافة مفاجئة وطارئة في تاريخ العلاقة بين الفريقين في هذا البلد ، وله أسبابه المعلومة والتي يجب أن تعالج بهدوء ، ولا علاقة له بتطبيق الشريعة ولا بإقامة الدولة الإسلامية ، ولا أدل على ذلك من أن الشريعة طبقت ثلاثة عشر قرنا ولم ينجم عن تطبيقها شيء مما ذكرت على تطاول هذه القرون!
ولكن بعض السوابق التاريخية تشهد باضطهاد النصارى كما حدث في عهد الخليفة المتوكل والحاكم بأمر الله وأمثالهم ؟
- هؤلاء لم تقتصر مظالمهم على غير المسلمين ، بل كان في طليعة من اكتوي بنارهم العلماء وصالحوا المؤمنين ، ومثل هؤلاء لا شرعية لحكمهم ولا حرمة لولايتهم، والوقوف في وجه مظالمهم جهاد مقدس ، والأمة كلها مطالبة بتقويمهم والعدول بهم إلى الحق أو العدول عنهم إلى غيرهم ، فمن قوى على ذلك فله الأجر، ومن صدقهم على كذبهم ، أو أعانهم على ظلمهم كان منهم ، وحشر يوم القيامة معهم ، فلم يكن عداء هؤلاء موجها إلى فريق من أبناء الأمة دون فريق ، بل كان إلى الأمة كلها، واصطلي بنارهم الجميع .
وما السبيل إلى معالجة هذه التوترات الراهنة ؟
- باللقاءات المباشرة والحوار والمصارحة ، ثم الاتفاق على وثيقة تحكم العلاقة بين الفريقين يلتزم بها الجميع وتعمم على منتسبيهم في مختلف المواقع ، على أن تتضمن هذه الوثيقة جهة يفزع إليها إذا طرأ ما يعكر صفو هذه العلاقة وتكون موضع قبول من الفريقين ، بحيث نتمكن من احتواء أي مشكلة تطرأ ، والقضاء على أي فتنة تطل برأسها في محيط الأمة .
إننا يجب أن ننطلق من أن تنظيم صفوفنا الداخلية مقدمة حتمية للتفرغ لمواجهة الأخطار الأجنبية التي أطلت نذرها في هذه الأيام ، وإن للقوى الأجنبية المعادية مصلحة في تشر ذم هذا البلد وفي تقاتل أبنائه ، وقد تدفع ببعض عملائها للتحريش بينهم وإشاعة الفتن بين صفوفهم ، حتى يشغل بعضهم ببعض فيتمكنون من بلوغ مآربهم وإنقاذ ما يريدون .
تطبيق الشريعة وشهادة التاريخ
ولكن تطبيق الشريعة على مدار التاريخ لم يكن إلا سلسلة طويلة من الفشل ، فقد كان الاستبداد هو القاعدة ، والظلم هو أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، ولا أدل على ذلك من لجوء أنصار تطبيق الشريعة إلى الاستشهاد الدائم بعهد الخلفاء الراشدين الأمر الذي يعني أنهم لم يجدوا ما يستشهدون به طوال فترة التاريخ الإسلامي الذي دام ثلاثة عشر قرنا إلا هذه المدة المحدودة ، فلماذا يداعبون أنفسهم بالأمل المستحيل في عودة عصر الراشدين ؟ وإذا كانت تجارب القرون العديدة بل وتجارب العصر الحاضر قد أخفقت في الإتيان بحاكم يداني حكام ذلك العصر ، وكان الخط البياني للحق والعدل قد ازداد هبوطا على مر التاريخ ، وبلغ الحضيض في التجارب المعاصرة لتطبيق الشريعة ، فعلى أي أساس يأملون أن تكون التجربة المقبلة التي يدعون إليها في مصر أو في غيرها هي وحدها التجربة التي ستنجح فيما أخفقت فيه الأنظمة الإسلامية على مر القرون ؟؟!
- لا يزال أهل العلم والإنصاف يفرقون بين الإسلام من ناحية وبين الفكر الإسلامي والحكم الإسلامي من ناحية أخرى . فالإسلام وحي معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أما الفكر الإسلامي فهو عمل الفكر البشري في فهمه ، والحكم الإسلامي هو عمل السلطة البشرية في تنفيذه ، وكلاهما لا عصمة له ، فعندما يَزِلُّ فكر أو يظلم حاكم فإنه يتحمل وحده مسئولية الله أو ظلمه ، ويبقي الإسلام من ذلك براء .
إن الاحتجاج على المبدأ بالممارسة أو التطبيق يمثل خطأ منهجيا يجب أن يتحاشاه الباحثون ، فقد كانت اليونان أرقى الأمم وأعظمها قبل أن تدخل في الدين المسيحي ، ولكنها بدأت في التردي والانحطاط بعد أن تنصرت ، كذلك كانت الإمبراطورية الرومانية ولكن ذلك لا ينبغي أن يعد دليلا على أن المسيحية مسئولة عن انحطاط أثينا وروما ، أو أن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية !
بل إن أوربا ظلت غارقة في التخلف والهمجية بعد تنصرها قرابة ألف سنة ، ولا ينبغي أن يحمل ذلك على الدين المسيحي ، وإنما يجب أن نميز بوضوح بين المبدأ وبين التطبيق .
إننا لو استطردنا مع هذا المنطق فقد ينتهي بنا الأمر إلى ترك العقيدة ، وإلى ترك العبادات ، وهدم ما تبقي من الإسلام !
فإننا قد نسمع بنفس المنطق من يطرح هذه التساؤلات :
أليست الغاية من العقيدة أن تحرر الإنسان من العبودية لغير الله ؟ فإذا كانت لم تنجح على مدار التاريخ في إقامة مجتمع يتحرر من قبضة الطواغيت من الحكام ، ولا يدين بالولاء إلا لله ، فلماذا نصر على الإبقاء عليها بعد هذه السلسلة الطويلة من الفشل ؟! أليست الغاية من العقيدة تحرير الإنسان من التوجه بالعبادة لغير الله ؟ فإذا لم تنجح اليوم في أغلب بلاد العالم الإسلامي في تحرير المسلمين من عبادة الموتى والاستعانة بأصحاب القبور فلم نبقي عليها إلى الآن ؟
وقد يقول قائل كذلك : وما الغاية من العبادات ؟ أليس تطهير النفوس وتزكية الأرواح والدعوة إلى الفضيلة ؟ فإذا كانت لم تنجح في إقامة ذلك على وجهه على مدار التاريخ ، وكان تاريخ الإسلام في الأعم الأغلب تاريخ المجون والخمر والتهتك والغزل بالغلمان فلماذا نبقي عليها بعد هذا الفشل الذريع ؟
ولماذا الصلاة ؟! أليست قيمة الصلاة أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر ؟ فإذا لم يتحقق ذلك على مدار التاريخ ، وكانت الفواحش والمنكرات هي الأصل فلماذا نبقي على الصلاة ؟
ولماذا الصوم ؟! أليس من أجل أن نستشعر آلام المحرومين والمحتاجين والمعوزين؟ فإذا كانت الطبقية وطغيان الأغنياء هو الأصل في ماضي المسلمين وحاضرهم فلماذا نبقي على الصوم ؟
ولماذا الحج ؟! أليس من أجل أن يتطهر الناس من ذنوبهم ويجددوا توبتهم ، فإذا كانت أكثر المظالم تقع ممن يحملون لقب « حاج » فلماذا نبقي على هذه الشعيرة ؟
وإذا كانت الغاية من الحج أن ينعقد مؤتمر سنوي على مستوي الأمة تناقش فيه مشكلات المسلمين وتتوحد من خلاله كلمتهم ومواقفهم ، فلماذا الإبقاء عليه إذا كان التشرذم وتفرق الكلمة هو الأصل في ماضي المسلمين وحاضرهم ، ولم تنجح فريضة الحج في تحقيق هذه الألفة المنشودة ؟ وهكذا ينتهي بنا الاستطراد إلى عدمية مخيفة تفضي بأصحابها إلى خلع ربقة الإسلام كل الإسلام !!
فهل ترضي بكل هذه التداعيات كذلك أيها العزيز ؟!
- إنه إذا صح أن تكون التجارب التطبيقية هي الفيصل في الحكم على صحة الأنظمة الوضعية لأنها بطبيعتها عرضة للخطأ والصواب باعتبارها نتاجا بشريا فإن هذا المعيار لا يصح بحال من الأحوال في الحكم على الرسالات السماوية التي تمثل الحقيقة المطلقة والتي تستند إلى الوحي المعصوم .
فالرسالات السماوية حق لأنها تنزلت من عند الله ، ولا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتمارى في ذلك ، أو أن يحاكمها إلى نتائج تطبيقها في عصر من العصور أو من خلال أمة من الأمم فإن رأي خيرا قبل ، وإن كانت الأخرى أدبر واستكبر ، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، فإن الإيمان بالغيب هو معقد التفرقة بين المؤمنين والكافرين !
هل كان يتصور أو يقبل من صحابة رسول الله صلى الله علية وسلم وقد جاءهم النبي صلى الله علية وسلم بالقرآن، وأمرهم بالإيمان به، والتحاكم إليه في مختلف شئونهم أن يقولوا : نجرب ! فإن ثبتت صلاحيته قبلناه وآمنا بأنه من عند الله وإن ثبت فشله رددناه وقلنا إنه أساطير الأولين ؟!
لقد جاء رجل إلى النبي صلى الله علية وسلم فقال له يا رسول الله إن أخي يشتكي بطنه فقال : «اسقه عسلا فسقاه عسلا فلم يبرأ بل ازدادت علته ، فعاد إلى النبي صلى الله علية وسلم في ذلك ، فقال له : اسقه عسلا فسقاه فلم يبرأ ، فعاد إليه مرة ثالثة فقال له : صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا فسقاه الثالثة فبرئ !» ( ) .
والمقصود أن نفرق بين الحقائق المعصومة التي تنزلت من عند الله ، وبين الأيدولوجيات الوضعية التي لم تهتد بنور الوحي ، ولم يأت بها نبي من عند الله . فالثانية هي التي تحاكم إلى نتائجها ، وتقاس بآثارها ، وتستمد مصداقيتها مما يسفر عنه تطبيقها من إيجابيات ، أما الأولى فهي تستمد مصداقيتها وصدقها من مصدرها التي تنزلت من عنده ، ونؤمن بالغيب بأنها اليقين المطلق والحقيقة المطلقة ، فإن أسفر تطبيقها عن بعض المثالب اتهمنا أنفسنا ، ورجعنا باللوم على طريقتنا في التطبيق ، وسياستنا في التنفيذ ، وتبقي هذه الحقائق المعصومة فوق الشك وفوق التهم وإلا لزمنا أن نراجع أصل إيماننا كله !
إن اختزال تاريخ العدل في الإسلام في فترة الراشدين ظلما للتاريخ الإسلامي ، فأين ذهب عمر بن عبد العزيز وأين ذهب يزيد بن الوليد الذي كان بعد عمر بن عبد العزيز أعدل بني مروان ، وأين ذهب نور الدين محمود الشهيد الذي كان يشبه الراشدين في جهاده وعدله وحرصه على تطهير المجتمع في عهده من الظلم والفساد ، وأين ذهب صلاح الدين الأيوبي الذي شهدت له الدنيا كلها بالعدل وأقر بفضله الأعداء الصليبيون كما أقر به المسلمون .
هذا ... وإن كثيرًا من الأخبار التي تنقل عن مفاسد الخلفاء وتَبذَُّلِهم تحتاج إلى تحقيق علمي ، ولو عمل فيها مبضع الجرح والتعديل لم تثبت لها قائمة ، لاسيما وأن بعض ما ينقل من هذه الأخبار ينقل من كتب الأدب كالأغاني للأصفهاني ونحوه ، وهو شيء أشبه ما يكون بالحكم على المجتمع المصري كله من خلال الأفلام السينمائية المصرية التي لا تمثل إلا شريحة الوسط الفني فحسب .
وحسبك مثلا على ذلك هارون الرشيد الذي صار في ذاكرتنا مضرب المثل في المجون والتهتك ، وهو الذي كان يغزو عاما ويحج عاما ، وقد دافع عنه ابن خلدون دفاعا علميا رصينا ، وإن كانت حياته لم تخل من هنات وسقطات ولكنها لم تكن بهذه الصورة الفجة المظلمة التي يحاول أن يصوره بها الظالمون !
بل حسبك مثلا على ذلك معاوية بن أبى سفيان ذلك الصحابي الجليل الذي لم يرتبط في أذهان كثير من المعاصرين إلا بالمكر والتآمر ، ويتجاهلون صفحات مضيئة من عدله وحلمه وحمله الأمة على الشريعة في الجملة .يذكر الحافظ الذهبي عن ابن عون قال : كان الرجل يقول لمعاوية والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنقومنك !، فيقول بماذا ؟ فيقول بالخشب !! فيقول إذن أستقيم ! ، ويدخل عليه أبو مسلم الخولاني فيقول :السلام عليك أيها الأجير ! ويحاول بعض الحاضرين تصحيح عبارته السلام عليك أيها الأمير ، فيصر الرجل على مقولته ، فيقول معاوية دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول ، فيقول أبو مسلم : أنت أجير المسلمين استأجروك على رعاية مصالحهم !
ولكن تاريخ بنى أمية لم يكتب إلا بعد أن زالت دولتهم وجاء خصومهم من بنى العباس ، وقد رأينا في واقعنا المعاصر كيف يكتب المنتصرون تاريخ العهود البائدة من قبلهم !!
هذا وإن كنا ننكر على معاوية رضي الله عنه تحول الخلافة على يديه إلى ملك عضوض ، وما كان بينه وبين على بن أبي طالب رضي عنه من أحداث أسيفة .
- إن الخلفاء والملوك في تاريخ الإسلام على ما كان من بعضهم من أغلاط وتجاوزات إلا أنهم بقوا في الجملة على ولائهم للإسلام وتحكيم شريعته ونشر دعوته في المشارق والمغارب ، فاستأنفوا الجهاد الخارجي وتركوا لأهل العلم حرية الحركة ما لم يمسوا سلطانهم في الزعامة ، فمضت العلوم الدينية في طريقها توسع الآفاق ، وتربي الجماهير ، وتقرر الحقائق الإسلامية كلها من الناحية النظرية ، ورغم ازورار الإسلام عن السلطة في كثير من الأحيان إلا أنه بقي على مستوى الأمة قادرا على الامتداد والتأثير .
وأخيرا فإن هذا المنهج الذي يعير المسلمين بتاريخهم ، ويقدمه باعتباره صحيفة سوابق تشهد على الأمة بالإدانة وسوء السمعة ولا تقع عينه إلا على السقطات ، و لا يقرأ في صفحاته إلا المظالم والمفاسد ، إن رأي خيرا كتمه أو نسبه إلى ملكات شخصية فيمن نسب إليه ، وإن رأي شرا أذاعه ونسبه إلى طبيعة المنهج الإسلامي نفسه ، هل هذا المنهج يمكن أن يصدر ممن يحمل في قلبه ولاء للإسلام ، وغيرة على دينه ، وانتماءًا إلى أمته ؟
إننا نفهم أن يصدر هذا من المستشرقين فهم الكارهون الحاقدون ، فلا تقع أعينهم إلا على العقر ، ولا يسترعي انتباههم إلا الأغلاط والتجاوزات ، وأكبر همهم البحث عنها ، ليستخدموا ذلك في حرب الإسلام التي نذروا أنفسهم لها وفرغتهم دولهم من أجلها ، فما بال هذه الروح الصليبية تتسلل إلى فريق من جلدتنا ، فممن يتكلمون بألسنتنا ، ويزعمون أنهم يدينون بديننا ، وأنهم لمصلحته يفعلون كل هذه الأفاعيل ؟!!
تري هل يبلغ أعداؤنا في النكاية في الإسلام ما يبلغ هؤلاء ؟ إننا نقرأ لهؤلاء في هذا المقام ما نكاد نجزم معه بأن القوم قد قطعوا مابينهم وبين هذه الأمة من وشائج وأواصر ، فهم يتحدثون عن تاريخها الذي يفترض أنه تاريخهم كذلك بأنكي مما يتحدث به اليهود والمستشرقون ، ثم يطيرون ذلك في المشارق والمغارب ، ويحاضر به بعضهم في جامعات الغرب ويكرره على مسامع اليهود والنصارى ، وليته كان صادقا منصفا فيما يقول ، فيذكر الخير والشر ، ويقدم الحسن والقبيح ، ولكنه كما ذكرت لا يلتقط إلا السقطات ! أليس هذا مما يدع الحليم حيران ! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا .
تطبيق الشريعة والبرامج التفصيلية
ولكن ألا تري أن دعاة الحل الإسلامي يقودوننا إلى طريق مجهول ، إنهم لم يقدموا لنا برنامجا تفصيليا يبين لنا كيف يكون الحل الإسلامي علاجا لمشكلاتنا الراهنة ، لم يقولوا لنا كيف يحلون مشكلة التنمية ، وكيف يتعاملون مع أزمة الإسكان ، وأزمة المواصلات ، وأزمة البطالة وغيرها من أزماتنا الخانقة ؟ لم يحدثونا عن ديوننا الخارجية ، ولا كيف ستحل الشريعة مشاكلنا مع صندوق النقد الدولي الذي أصبح هو البديل المعاصر للاستعمار في صورته الأولى ، لم نر لديهم برامج بديلة للإعلام بمختلف وسائله ، والتعليم في مختلف مراحله ، لم نر منهم إلا شعارات زئبقية وعبارات مطاطة تصلح للشيء ونقيضه ، هي أقرب إلى تغييب الوعي منها إلى العمل الجاد الذي يريد وجه الله ويستهدف مصلحة الوطن ، ويريدون أن نأخذ دعوتهم مأخذ الجد، أيريدون أن يجرونا وراءهم إلى متاهات لا يعرف فيها دليل ، ولا يهتدي فيها إلى سبيل ؟ أم يخوضوا بنا بحارا من التجارب لا يدري أين شواطئها ولا يعرف كيف عواقبها؟!
- إن التيار الإسلامي عندما يدعو الناس إلى تحكيم الشريعة لا يبتدع في الناس أمرا لا عهد لهم به من قبل ، بل يردهم إلى ما درجوا عليه وعاشوا في ظله ثلاثة عشر قرنا من الزمان ، ولم يتوقف إلا على يد الاستعمار الكالح الذي وطئت خيله الأزهر على يد نابليون ، وقتل الأبرياء في دنشواي على يد كرومر ، ومكن لليهود في فلسطين على يد بلفور ، وفعل بأمتنا الأفاعيل والعجائب !
وعلى هذا فإن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، وهي التي تتبني الإسلام بشموله عقيدة وشريعة 0 إقرارا به ، وعملا بموجبه ، ودعوة إليه ، وولاء وبراء على أساسه ، وأن مفتاح التغيير المنشود هو الإعلان عن سيادة الشريعة ، وأنها وحدها الحجة القاطعة والحكم الأعلى ، وأن كل قانون يتعارض معها فهو باطل يجب على المحاكم أن تمتنع من تطبيقه تلقائيا لمخالفته لمبدأ المشروعية ، ومن حق أي مواطن أن يطعن أمامها ببطلان أي قانون يعتقد مخالفته للشريعة وتقضي ببطلانه إذا ثبت لديها ذلك .
أما مشروعات القوانين فلعل من نافلة القول أن نذكر أن لدينا منها الآن مشروعات متكاملة لقوانين إسلامية على كافة مذاهب الفقه الإسلامي ، سواء تلك التي أنجزتها وزارة العدل أو المشروعات الأخرى التي أنجزها الأزهر بالتعاون مع الجهات الأخرى ، ولا تحتاج هذه المشرعات إلا إلى المناقشة والإقرار ، فكيف يتجاهل العلمانيون كل هذه الإنجازات الضخمة في هذا المجال والتي شاركت فيها الجهات الرسمية وغير الرسمية ويصورون الدعوة إلى تحكيم الشريعة على أنها مجرد عواطف وشعارات خالية من الرؤية العملية والبرامج التفصيلية ؟
ومن ناحية أخري هب أن المنادين بتحكيم الشريعة لا يملكون هذه البرامج وتنقصهم الكفايات والتخصصات النظرية أو العملية فأين ذهبت الجهات المتخصصة التي تقدر على ذلك في بلادنا الإسلامية ؟ والتي إذا استنفرتها الدولة نفرت وإذا دعتها لبت؟ ألسنا نعلن أننا مسلمون : ديننا الرسمى هو الإسلام ؟ ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ؟ وعلى أرضنا توجد أعرق جامعات العالم ، وبلادنا هي التي تصدر العلماء والمتخصصين في علوم الشريعة وفي غيرها إلى جميع أنحاء العالم ؟
إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست برنامجا حزبيا تطرحه فئة محدودة على أرض الوطن ، إنها إرادة هذه الأمة ، والدين الذي يستمسك به الكافة ، فهي فوق الأطر الحزبية ، والتنظيمات السياسية ، والخلافات المذهبية ، والدولة كل الدولة حكومة ومعارضة مسئولة أمام الله عز وجل عن أن تقيم هذا الدين وأن تجِّيش له الطاقات ، وأن تعد له الرجال ، وأن توظف كل إمكاناتها المادية والبشرية لإقامته على وجهه كما أمر الله .
إن هذا العمل مسئولية أمة وليس مسئولية حزب من أحزابها ، أو تيار من تياراتها الفكرية أو السياسية، ولا حرج على الدعاة إلى الله إن هم رأوا تعطيلا لشرائع الله وتحاكما إلى غير ما أنزل الله ، أن يصدعوا بالنصيحة الواجبة ، وأن يجهروا بكلمة الحق في مختلف المواقع ، وأن يطلبوا إلى كل قادر ومتخصص أن يدلي بدلوه ، وأن يبذل قصارى جهده لتقويم هذا الخلل ، وإعادة الدولة إلى حظيرة الإسلام ، وحسبهم أن يشاركوا في ذلك بقدر ما تؤهلهم له قدراتهم وتخصصاتهم ، وأن لا يَضِنُّوا على ذلك بوقت ولا جهد ولا مال .
إن الجامعات الإسلامية ومراكز البحوث والمجامع الفقهية ودور الإفتاء في العالم الإسلامي رصيد هائل للدعوة إلى تطبيق الشريعة ، وهي تملك من البحوث والدراسات العلمية الجادة في مختلف المجالات والكفايات النادرة المتخصصة ما يفوق الحصر ويذهل العقل ، فهل يصح مع ذلك أن يقال : إن الدعوة إلى تحكيم الشريعة دعوة عاطفية تفتقد البرامج التفصيلية والكفايات العملية ؟ أليس هذا غمطا للأمة كلها ، واتهاما لجميع مؤسساتها وجامعاتها بالعقم والسلبية والقصور ، بل بالخيانة وإضاعة الأمانة ؟
إن ما كتب في مجال الاقتصاد الإسلامي من الدراسات والبحوث الإسلامية المتخصصة رغم حداثة العهد بالكتابة في هذا المجال يبلغ بضع مئات وفق التقرير الذي قدم إلى المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي عقد بمكة المكرمة قبل ما يزيد على عشر سنوات ! تري كم بلغ عددها الآن ؟ وما عدد الدراسات المتخصصة في المجالات الأخرى التي لا يزال المتخصصون فيها يكتبون منذ أمد بعيد ؟ إن الأزمة التي تواجه الدعوة إلى تطبيق الشريعة ليست أزمة برامج وتفصيلات وإنما هي أزمة إرادة سياسية قادرة على التغيير واتخاذ القرار ! ولو وجدت هذه الإرادة لتحولت كل كفايات الأمة ومؤسساتها إلى جنود في معركة التطبيق ، ولتحولت القيادة السياسية إلى غرفة عمليات تشرف على ذلك كله ، تحث الخطى وتوجه المسـار !
ومن ناحية أخري فإن العلمانيين وخصوم الشريعة عندما يرددون هذه الشبهة فهم محجوجون بمنهج التغيير الذي اعتمدته كبريات الحركات الأيديولوجية العالمية التي لم تعن إلا بالعقائد والمبادئ الأساسية ، ولم تعن بما وراء ذلك من التفاصيل والجزئيات .
فالثورة الفرنسية تجمع الناس حول ثالوثها المعروف ، الحرية والإخاء والمساواة ، ومن خلاله عرف الناس أي مجتمع تنشده هذه الثورة 0 والشيوعية لا تعنى في بداية الأمر إلا بالعقائد الاشتراكية الكبرى والمبادئ الرئيسية العامة ، وكان جل اهتمامها منصَبَّاً على الجانب السلبي الذي يجب هدمه حتى يمهد الطريق لإقامة اقتصاد اشتراكي ، أما الخطوات الجزئية والبرامج التفصيلية فلا نكاد نجد في كتابات روادها الأوائل ما يغطى شيئا من ذلك ، بل إن ماركس في رسالته التي كتبها إلى صديقه (تيسلي) عام 9681 م اعتبر ذلك من قبيل الرجعية ، وأن من يرسم خطة للمستقبل يكون رجعيا ، ومن هنا يقرر ندوب ميلا أن ماركس كان بخيلا جدا في تحديد المجتمع الجديد ، وفي امتناعه عن إعطاء أي صورة واضحة عنه ( ) .
يقول مؤلفوا علم الاقتصاد الحديث : « لقد ركز كل من « ماركس » و «لينين» اهتمامهما في العقائد الاقتصادية والاجتماعية ولذلك عندما تسلم « البولشفيك » زمام السلطة سنة 1917 م لم يكن أمامهم أي مخطط جاهز للنظام الاقتصادي الذي ستنشئه ديكتاتورية العمال ، ولقد حاولوا لفترة قصيرة تطبيق نظرية ماركس في ( القيمة المنبثقة من العمل ) لكنهم تخلوا عن هذه المحاولة . وأظهر « البولشيفك » براعة سياسية أمنت لهم البقاء في الحكم ، وأخذوا يطبقون التجارب على مر السنين حتى أنشئوا النظام الروسي الحالي . وربما كان باستطاعة الزعماء الروس أن يكتشفوا نفس النتائج بطريقة أقصر، وكلفة أقل لو درسوا علم الاقتصاد دراسة نظامية ، ولكن عقيدتهم الماركسية كانت تنكر هذا العلم من أساسه.» ( )
فإذا كان هذا هو المنهج مع كبريات الحركات العالمية التي ينتمي إليها هؤلاء الخصوم فلماذا يطالبون العمل الإسلامي وحده بأن يقدم ابتداءً برامجه التفصيلية وحلوله العملية لكل جزئية من جزئيات الحياة في المجتمع ، وهو الأمر الذي اعتبره قادتهم وأئمتهم من جنس الرجعية والتخلف .
إن كثيرا من مشكلاتنا المعاصرة هي نتاج لهذه المناهج الوضعية السائدة في بلادنا ، وترتبط بها وجودا وعدما ، وقد يختفي كثير منها بحلول أيدلوجية أخرى لتنشأ مشكلات من نوع آخر وتحديات من لون جديد ، فلماذا نفترض أن كل علل مجتمعاتنا سوف تبقى في ظل تحكيم الشريعة ؟وأن علينا أن نستغرق في وضع الحلول التفصيلية لها من الآن ؟ ألا يعد هذا من قبيل العبث وإضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ؟!
وبعد ! فإننا نؤكد ما سبق أن قررناه من أن تحكيم الشريعة لا يعد مطلبا حزبيا ضيقا تنادى به فئة محدودة من الأمة، وتتحمل وحدها مسئولية الإعداد له وتهيئة المناخ الملائم لتنفيذه ، إنه مسئولية الأمة بأكملها لأنه يتعلق بأصل إيمانها بالله ورسوله ، ويرتبط بعقدها المجمل الذي لا تثبت صفة الإسلام ابتداء إلا باستيفائه ، وعلى هذا فإن جميع من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله علية وسلم نبيا ورسولا من هذه الأمة سواء أكان من صفوف الحكومة أو صفوف المعارضة أو كان مستقلا لا علاقة له بأحدهما ، مدعو للمشاركة في أداء هذه الفريضة ، وبذل أقصى ما يستطيعه في إقامتها من الجهد والوقت والمال ، لأن الإسلام هو دين هؤلاء جميعا ، لا يختص به فريق منهم دون فريق، لا ينكر ذلك إلا جهول أو كفور !
وإذا تقرر ذلك فلا وجه لإثارة هذه المشكلة من الأساس لأن بلادنا ذاخرة بهذه الخبرات التي لو استنفرتها حكومة إسلامية في ساعة من نهار لتكون منها جيش جرار يملأ السهل والجبل ، ويسد وجه الأفق !! ، ولا يضر دعاة العمل الإسلامي في هذه الحالة أن يكونوا جنودا مغمورين في هذه المسيرة ، لا يشاد لهم فيها بذكر ، ولا ينسب إليهم فيها عطاء ولا مشاركة ، وحسبهم من الذكر أن يذكرهم الله في الملأ الأعلى ،ومن المثوبة ما يدخره لهم عنده في دار كرامته من الرضوان والنعيم المقيم .
تطبيق الشريعة والتداعيات !!
ولكن تطبيق الشريعة يستتبع عددا من التداعيات الحتمية التي لا قِبَل للأمة بها ، وذلك عندما يسود منطق الحلال والحرام وتراجع في ضوئه مختلف الأنشطة الثقافية والإعلامية والسياحية والترفيهية فيقضى بالحرمة على تسعة أعشارها ، وتتحول الحياة معه إلى كابوس مظلم يتنكر للفن والحب والحياة والجمال ، ويقتل في الأمة طاقات الإبداع الفني ، ويقضى على مواردنا الاقتصادية من هذه الأنشطة ! كيف تتخيل دولة عصرية بلا سينما ولا مسرح ولا تليفزيون ولا دور للأوبرا ولا قصور للثقافة ولا أندية رياضية ، إن الصورة تبدو في غاية القتامة والبؤس !
- هذه التداعيات لا وجود لها إلا في ذهن القائلين بها فحسب ، فإن منطق الحلال والحرام الذي تتحدث عنه لا يصادر هذه الأنشطة ، ولا يحد من فاعليتها وإنما يسمو بها وتتحول في ظله إلى أدوات للبناء ومرتكزات لتشييد حضارة إسلامية راقية ، ستبقى الدولة الإسلامية على جميع الأنشطة الثقافية والإعلامية والدعائية والسياحية والترفيهية ولكن تطهرها من الفجور والعربدة ، وتنأي بها من أن تكون وسائل هدم وتدمير تدغدغ الغرائز ، وتوقظ الحيوان الرابض وراء جلود البشر !
لن تصادر الدولة الإسلامية السينما ولا المسرح ولا المرناة ـ التليفزيون _ ، ولن تغلق قصور الثقافة ولا الأندية الرياضية ، ولكن ستستخدمها في بناء الإنسان بناء سويا بلا رهبنة ولا عربدة ، فتسمو بعقله وروحه ، وتربيه على الجد والاستقامة ، وتقدم له المتعة البريئة التي لا تستثير غرائزه ، ولا تؤزه إلى ارتكاب الفاحشة ، ولا تغريه بارتكاب الجرائم الخلقية ، وفي الحلال منادح واسعة ومجالات رحبة .
يقول فضيلة شيخ الأزهر جاد الحق على جاد الحق في حديث نشرته له جريدة الوفد في يوليو 1988 م : أما عن السينما والمسرح وما شابههما وهل يحرم أو يحل ارتيادهما؟ فإن هذه الدور ولا شك أدوات هامة للتوجيه والترفيه والتثقيف ، وكشأن كل أداة صالحة لأن تستعمل في النفع أو في الضرر ، فهي في ذاتها لا ضرر فيها ، كالسكين يستعمل في النفع كما يستعمل في العدوان،فهي صالحة لما تستثمر فيه بوصفها أداة ، ومن ثم فهذه الدور ذاتها مباحة ، بمراعاة قيود فرضها الإسلام في نصوصه وقواعده، أن تكون الموضوعات المعروضة فيها وروادها بعيدين عن المجون وتابعه ومن كل ما تمنعه شريعة الإسلام وآدابه ، كتلك الروايات التي تغرى بالجريمة ، وتحرض على الآثام ، وتثير الغرائز المفسدة ، أو تدعو إلى عقائد باطلة وأفكار منحرفة ، إذ كل ما يدعو إلى هذا حرام لا يحل لمسلم أن ينتجه ، أو يشارك في إنتاجه كما لا تحل مشاهدته أو تشجيعه أو الدعوة إلى شيء من ذلك ، وإلا يترتب على دخول هذه الدور ضياع واجب ديني ، أو إهمال وتضييع عمل مشروع يستفيد به الفرد أو المجتمع، وأن يحافظ مرتادو هذه الدور على منع الاختلاط والملاصقة المثيرة للغرائز بين الرجال والنساء درءا للمفاسد ومنعا للفتنة ، لا سيما والعرض في هذه الدور يتم في حالة إظلام تام ... وعلى كل رب أسرة أن يحرص على صون كرامة أهل بيته باصطحابهن إلى تلك الدور إذا دعت الحاجة حتى لا يتعرض إلى ما هو شائع ومعروف ، وليعلم الناس جميعا ] [ ( ) .
لقد انطلقت مؤخرا حملة مسعورة تريد أن تخرج الفن عن دائرة الحلال والحرام بالكلية ، وتلحقه بالتقنية والمنجزات العلمية التي تحكمها سنن كونية بحتة(*)، وكان هذا بمناسبة غلو نسب إلى بعض الإسلاميين ، والتشنيع عليهم من ناحية وإطلاق القول بخروج الفن بجميع صوره وأشكاله غناء ورقصا وتمثيلا عن دائرة الحلال والحرام من ناحية أخرى !! وهي جرأة فجة لم يسمع بمثلها على مدار التاريخ !!
إن الغلو لا ينسخ بغلو مقابل ، وإن الشطط لا يعالج بشطط مماثل ، فلا يقابل تحريم كل صور الترفيه بإخراجها جميعا من دائرة الحل والحرمة ، وإلحاقها الناس هذه المفاهيم ( ) فمن أين جاء المعارضون بمقولة أن هذه الأنشطة لا بأعمال السيادة التي لا يسأل فيها أصحابها عما يفعلون !! ، وإنما القصد بين هذا وذلك أن يقال : ما كان من ذلك حسنا لا يغرى بفاحشة ولا ينطوي على محرم فهو حسن ، وما كان من ذلك قبيحا لاشتماله على شيء من المحرمات فهو قبيح . لا مندوحة من مصادرتها في ظل تطبيق الشريعة ؟ أهو الجهل والغيبة عن الواقع ؟ أم هو التجاهل المتعمد بقصد الإرجاف والإثارة ؟
والعجيب أن التيار الإسلامي المعاصر قد استطاع رغم فقر إمكاناته أن يقدم بعض النماذج الإعلامية الناجحة من مسلسلات وأناشيد ومسرحيات ونحوه ، ولقد تلقفها الجمهور العريض من الناس بإقبال منقطع النظير ، وهي مجرد نموذج لما يمكن أن يكون عليه الإعلام الإسلامي لا سيما إذا كان مدعوما بإمكانات دولة ولم يقتصر على مجرد الجهود الذاتية .
أما إن كان الخوف والتباكي على الخنا والعربدة والفجور والتهتك فأحسب أن العقلاء جميعا لا يرضون هذه المناكر ويتطلعون إلى يوم تتطهر فيه مرافقنا العامة من شرها ، ولا يمكن لشريعة سماوية أن تهادن مثل هذا الدنس ، أو أن تطلق له العنان يغتال إيمان الأمة وأخلاقها ، ويفسد عليها رجالها ونساءها ، ويقذف بها إلى مستنقع الشهوات والشبهات !
تطبيق الشريعة وعودة الخلافة
يتفق أنصار الحل الإسلامي على المطالبة بإحياء الخلافة ، واعتبارها الصورة المثلى لنظام الحكم في الإسلام ، وأنها الترجمة العملية الدقيقة لمبادئ الإسلام في الحكم والسياسة في الوقت الذي لا نعرف دليلا من كتاب ولا سنة يوجب هذا النظام بعينه ، بل لم يرتبط هذا النظام تاريخيا إلا بالمظالم السياسية ، ولم يتبلور من خلاله فقه متكامل يعني بقواعد نظام الحكم ، وحقوق الإنسان ، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، والعلاقة بين مختلف سلطات الدولة ونحوه مما لا غنى عن بيانه وتفصيله لكل تيار سياسي يطالب بعودة هذا النظام ، ويقدم نفسه باعتباره البديل الشرعي الوحيد لكل هذه الأنظمة المعاصرة ؟
- مشروعية الخلافة مما دلت عليه السنة المطهرة وانعقد عليه إجماع الأمة في مختلف أعصارها وأمصارها .
فمن السنة المطهرة نذكر :
ما رواه أحمد في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله علية وسلم قال : « لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أَمَّروا عليهم أحدهم » ( ).
فقد أوجب النبي إمارة الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر منبها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ، ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولي وأحرى ، وفي ذلك دليل على أنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام .
وأما الإجماع :
وهو العمدة في هذا الباب ، فقد أجمع الصحابة بعد موت النبي صلى الله علية وسلم على وجوب الإمامة وبادروا إلى إقامتها ، حتى قدموا الاشتغال بذلك على أهم الأمور لديهم ساعتئذ وهو تجهيزه ودفنه ، وما دار من خلاف في سقيفة بنى ساعدة لم يكن حول وجوب الإمامة إنما حول شخص القائم بها ، فدل ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول كانوا عن بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من إمام ، فذلك الإجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب الإمامة وقد نقل هذا الإجماع الجمع الغفير من العلماء كالماوردى و القرطبي والنووي وابن حجر الهيثمي والجويني وابن خلدون وغيرهم من أهل العلم ( ) .
إن هذا الكلام ينطوي على مغالطة كبري ، لأن غاية ما فيه يدل على وجوب إقامة حكومة للدولة الإسلامية والنهي عن الفوضى التي كان يعيشها الناس في الجاهلية ، وهذا أمر لا منازعة فيه ، ولكنه لا يوجب شكلا معينا من أشكال الحكومات فسواء كانت الحكومة دينية أم مدنية ، وسواء اتخذت شكل الخلافة أو اتخذت شكلا من أشكال الدولة المعاصرة فهذا الذي لم تتعرض له الأدلة التي ذكرت ، وهذا هو موضع النزاع يا شيخنا الجليل !! فلا تجهد نفسك كثيرا في إثبات وجوب رياسة عليا للمسلمين ، فإن هذا الأمر لا ينازع فيه أحد من العقلاء ، وإنما الخلاف في إثبات وجوب نظام الخلافة بعينه دون غيره من النظم الأخرى ؟
- إن جوهر الخلافة أنها رياسة عامة للمسلمين تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، وقد أجمع على هذا المعني كل من تكلم عن الخلافة من أهل العلم ، فهي تتكون من ثلاث مقومات أساسية :
الأول : كونها رياسة عامة للمسلمين ، حتى تتحقق من خلالها وحدة الأمة الإسلامية التي أوجبها الله تعالى في مثل قوله تعالى : ] • • • [ ( الأنبياء : 29 ) وفي قوله : ] [ ( آل عمران : 301 ) .
الثاني : قيامها على حراسة الدين ، ووجوب ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام .
الثالث : سياسة الدنيا بالدين ، وهو معلوم كذلك بالاضطرار من دين الإسلام ، وقد تضمنته جميع النصوص التي توجب الحكم بما أنزل الله وتجعله شرطا في ثبوت عقد الإيمان ، وتنفي الإيمان عمن أعرض عنه ولم يقم به ويسلم له تسليما ..
فأي هذه المقومات موضع النزاع أيها الصديق العزيز؟ دع عنك مؤقتا أمر الخلاف حول التسمية وليكن حديثنا وحوارنا حول هذه المقومات 0
هل تنازعوا في وجوب اجتماع الأمة الإسلامية حول قيادة واحدة ؟ أم تنازعوا في وجوب حراسة الدين ؟ أم تنازعوا في وجوب سياسة الدنيا به والحكم بين الناس بما أنزل الله ؟ هذه هي خصائص الخلافة الإسلامية ، وكل نظام يقوم على هذه الدعائم فهو نظام إسلامي ، ولا مشاحة في التسمية !
ولكن قد يتعذر الآن أن تجتمع كل أقطار العالم الإسلامي تحت قيادة واحدة ؟
- وأنا أوافقك على ذلك ، ولكن يبقي هذا الاجتماع هدفا نؤمن به ونسعي إليه ونجتهد في تحصيله، وكل عمل يقربنا إليه فهو سعي إسلامي كريم ، ثم لماذا تستبعد مثل هذا الهدف ، وقد رأيت ألمانيا تتوحد بعد تمزق ، وأوربا بصدد أن تتوحد على اختلاف لغاتها ، وتباين مذاهبها ، فكيف تنكر على أمة الإسلام أن تتنادي إلى الوحدة وقد علمت أنه لا مكان في هذا العالم لكيانات صغيرات أو دويلات متناحرة !
هل يسمح بتطبيق الشريعة في أكثر من دولة مع بقائها منفصلة ، أما أن كل دولة تطبق الشريعة يجب أن تنضم إلى الأخرى لتكون نواة لإقامة نظام الخلافة ؟
- لقد انفرط عقد الأمة الإسلامية اليوم شعوبا وحكومات ، وحكم فيها بغير ما أنزل الله منذ أمد بعيد ، ولا يخفي أن الطريق إلى إعادتها إلى الجادة طريق طويل ، ويكتنفه كثير من العقبات والعوائق ، ويجب على من يغذ السير على هذا الطريق أن يتحلى بالصبر وطول النفس ، وأن يدرك فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل مع الأحداث ، وهو فقه منضبط بالقواعد الشرعية ولا مدخل فيه للهوي والتشهي ، وجماعه كما قرر أهل العلم أن مبنى الشريعة تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما .
وعلى هذا فإن الطريق إلى إعادة الخلافة لابد أن يسبقه بعث إسلامي في مختلف البلاد الإسلامية بتبني المطالبة بتطبيق الشريعة وإحياء الخلافة ، فإذا طبقت الشريعة في البلاد الإسلامية واستعادت هويتها الإسلامية وتغلب الإسلام فيها على الجاهلية فقد امتهد السبيل لتقارب الخطى والتفكير العملي في إحياء الخلافة .
وقد يقضى الأمر التوطنة لذلك بخطوات وحدوية كإيجاد أنظمة مشتركة للتعليم والإعلام، وإيجاد سوق إسلامية مشتركة ، ونقد إسلامي مشترك ، ونظام مصرفي مشترك ، ثم تكون الوحدة السياسية بعد ذلك نتيجة منطقية لمثل هذه الخطوات الوحدوية الراشدة ، وقد تمر فترة بطبيعة الحال بين إعلان تطبيق الشريعة في هذه البلاد ، وبين ارتباطها في منظومة سياسية واحدة ، وقد تطول هذه الفترة أو تقصر إلا أن إقامة الخلافة يظل التزاما إسلاميا في أعناق هذه الدول تسعى إلى تحقيقه ، وتذلل كل عقبة تعترض طريقه ، وهذه الفترة الانتقالية تستند إلى أحكام الضرورة ، وفي هذه الأحكام متسع لمثل هذه الحالات ، على أن تقدر بقدرها ويسعى في إزالتها .
وماذا عن فقه هذا النظام وقواعد أحكامه ؟
- لم تأت نصوص الكتاب والسنة بأحكام مفصلة في هذا المجال ، وإنما رسمت الإطار العام وأرست المبادئ الكلية ثم أحالت في التفاصيل إلى الخبرة والتجارب البشرية ، ونستطيع أن نوجز الملامح الرئيسة لهذا النظام فيما يلي :
1 - السيادة للشرع :
فأبرز ما يميز هذا النظام أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى فيه هو الشرع لا غير ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وهذا هو مفرق الطرق بين النظام الإسلامي والأنظمة العلمانية المعاصرة ، العلمانية تحكيم العقل المجرد أو بلغة القرآن الكريم اتباع الهوى ، والإسلام تحكيم الشرع واتباع ما أنزل الله .
قال تعالى : ] ¬ [ ( القصص : 05 ) .
وقال تعالى : ] • [ ( الجاثية : 81 ) .
والمقابلة بين أمرين لا ثالث لهما : الاستجابة لأمر الله واتباع شريعته أو اتباع الهوى .والفرق بين المنهجين هو الفرق بين الإيمان والزندقة.
2 - السلطة للأمة :
فالخلافة عقد بين الأمة وبين الحاكم يوجب لكل منهما حقوقا ويرتب عليه التزامات ، فالأمة هي صاحبة الحق في تولية حكامها ، وفي الرقابة على أعمالهم ، وفي عزلهم عند الاقتضاء .
وسبيلها إلى اختيار الحاكم هو الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد ، لأن طرق اختيار الحاكم عند أهل السنة منحصرة في الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد أو العهد من الإمام السابق ، وإذا كان العهد من الإمام السابق عند أغلب المحققين لا يعدو أن يكون ترشيحا يفوض الأمر في شأنه إلى الأمة ، فقد آل الأمر إلى طريق واحد لا غير ، وهو الاختيار بواسطة أهل الحل والعقد .
ومن مقتضيات القول بأن السلطة للأمة أن يكون لها الحق في تقييد حكامها عند توليتهم بما تراه من القيود الدستورية اللازمة لسلامة الحكم والبعد عن الاستبداد ، وأن يكون لها الحق في إقالتهم عند الاقتضاء ، فإن زاغ الإمام عن الحق كانت الأمة عيارا عليه : فإما أن تعدل به إلى الحق أو تعدل عنه إلى غيره !
3 - الشورى أساس الحكم :
فالشورى هي أساس العلاقة بين الحاكم والرعية ، وبعيدا عن الخلاف الفقهي حول كون الشورى ملزمة أو معلمة فإن من حق الأمة أن تنص في عقد تولية الحاكم على إلزامه بالشورى فتصبح ملزمة بمقتضى العقد ، ولا يحق له دستوريا أن يحكم إلا من خلال المؤسسات الدستورية القائمة ، اللهم إلا ما اتفق على استقلال الحاكم بإمضائه وهو ما اصطلح على تسميته في الأنظمة المعاصرة بأعمال السيادة ، والأمة أيضا من خلال أهل الحل والعقد هي التي تحدد هذه الدائرة ، ولها أن تجتهد فيها تضييقا أو توسعة بحسب الحال ، وتقيد الحاكم بذلك من البداية ، ولا تعقد له البيعة إلا على هذا الأساس .
بل إن هذه الدائرة التي اتفق على استقلال الحاكم بإمضاء الأمر فيها بقرارات باتة لا تخرج في المنهج الإسلامي عن رقابة القضاء ، إذ لا يعرف في الإسلام موقف لحاكم أو محكوم لا يخضع للمحاسبة ، ولا يلتزم بالانقياد لحكم القضاء . لأن السيادة المطلقة في هذا المجتمع للشريعة لا غير ، فلا يوجد فوقها سيادة لأحد ، ولا يخرج عن سلطانها قرار من أحد ، وبهذا وحده يكون الدين كله لله ، وهذه ضمانة في النظام الإسلامي لا يتوفر مثلها في أغلب الأنظمة الوضعية المعاصرة .
4 - استقلال القضاء :
فالقضاء في النظام الإسلامي له حرمة خاصة ، والقضاة في ظل هذا النظام مستقلون لا سلطان عليهم إلا للشرع ، ولا يحل لحاكم ولا لغيره أن ينال من حرمة القضاء ، أو أن يتدخل في أعمال القضاة بترغيب أو ترهيب ، وعلى الدولة أن تسن من النظم ما يكفل للقضاء حرمته ، وللقضاة استقلالهم ، وينأى بهم عن نزوات الحكام وأهواء الساسة ، وللأمة أن تلزم حكامها من البداية بالضمانات اللازمة لحيدة القضاء واستقلاله ، ولا تعقد لهم البيعة ابتداء إلا على ذلك .
5 - صيانة الحقوق والحريات العامة في إطار الشريعة :
فللأفراد في ظل النظام الإسلامي حقوقهم المصونة وحرماتهم المرعية في إطار ما قررته الشريعة الغراء ، فحرمة الدماء والأموال والأعراض ، وحرمة المساكن ، والحق في السفر والهجرة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحق في التحاكم إلى الشرع للفصل في الخصومات ولو كانت مع رأس الدولة ، كل هذه حقوق لا سبيل إلى انتهاكها أو المساس بها ، وللأمة أن تنص على ذلك في عقد البيعة وأن تأخذ به المواثيق على حكامها ابتداء لتكون في حل من بيعتهم إذا نكسوا في ذلك .
6- الحسبة :
والحسبة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متي ظهر تركه ، والنهي عن المنكر متي ظهر فعله، وهي ولاية أساسية من الولايات العامة في الدولة الإسلامية ، وبها يصان الدين وتحفظ حرماته ، فإن حراسة الدين هي أول ما يناط بالحكومة الإسلامية ، بل لا يذكر تعريف الخلافة الإسلامية ، إلا مقترنا بذلك ، فهي نيابة عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، ويذكر أهل العلم في مقدمة ما يناط بالأئمة من الواجبات : حفظ الدين على أصوله المستقرة مما أجمع عليه سلف الأمة .
هذا ... وبالإضافة إلى كون الحسبة ولاية عامة من ولايات الدولة الإسلامية فإنها حق عام تخوله الشريعة للكافة بل توجبه عليهم حتى يتعاضد العمل الشعبي مع العمل الحكومي على حفظ الدين وصيانة حرماته والضرب على أيدي العابثين والمفسدين ، فهي إذن صمام أمن في المجتمع الإسلامي يحول دون طغيان الأئمة ودون فساد الرعية حتى يبقي الدين محفوظا من الخلل ، والأمة معصومة من الزلل .
هذه هي بعض الملامح الرئيسية في فقه هذا النظام ، وقد حفلت المكتبة الإسلامية المعاصرة بالمئات بل بالآلاف من الكتب والرسائل العلمية التي فصلت القول في هذه المسائل ، ويمكن الرجوع إليها لمن شاء .
والذي أود أن أؤكد عليه أنه مع عدم الإخلال بالإطار العام لهذا النظام والذي يتمثل في حراسة الدين وسياسة الدنيا به نستطيع أن نستفيد من كل ما ابتكره العقل البشري من وسائل وأساليب لضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، ولضمان سلطة الأمة في تولية حكامها وفي محاسبتهم وفي عزلهم عند الاقتضاء ، ولضمان حريات الأفراد وحقوقهم ، ولضمان استقلال القضاء ونحوه ، فإن كل ما يبتكره العقل البشرى في هذا المجال و يعد إضافة بناءة للحضارة البشرية فلا حرج في الاستفادة منه في حدود الإطار السابق ، كما استفاد عمر رضي الله عنه من الفرس في تدوين الدواوين ونحوه ، بل قد يكون ذلك واجبا في بعض الأحوال .
ذلك أن القاعدة التي تحكم العمل الإسلامي في هذا المجال تتمثل في سلفية المنهج عصرية المواجهة، فالأهداف والأطر العامة هي الثوابت ، أما التفاصيل والوسائل فهي في محل الاجتهاد ، وقد تتغير صورتها بحسب تغير الزمان والمكان والأحوال .
ولكن البيعة التي تعطى للخلفاء في ظل نظام الخلافة توجب لهم سلطانا مطلقا على الرعية ، وتوجب على الأمة طاعة مطلقة لهم ، فأين إذن ضمانات الحرية ، وسلطة الأمة ، وحقوق الإنسان ، وكل ما أشرت إليه في إجابتك السابقة ؟
- الطاعة المطلقة في المنهج الإسلامي لا تكون إلا لله وحده ، فإن الذي يطاع ولا يعصى ، ويذكر ولا ينسى ، ويشكر ولا يكفر ، إنما هو الله رب العالمين .
والالتزام بالطاعة المطلقة لله عز وجل إنما هو المظهر العملي للعبودية ، فإن العبودية كما عرفها أهل العلم كمال المحبة وكمال الطاعة ، وهي على هذا النحو لا تكون إلا لله وحده ، وصرفها لغيره شرك أكبر ، ولهذا كانت كل طاعة لغيره مقيدة بأن تكون في حدود طاعته ، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فقد قال تعالى عن طاعة الولد لأبويه : ] • [ (لقمان 51) ( )
وقال عن طاعة أولي الأمر : ]
[ ( النساء : 95)
فكررت الآية ذكر الطاعة مع الرسول صلى الله علية وسلم ولم تكرره مع أ ولى الأمر للدلالة على أن الطاعة لهم ليست مطلقة ، بل فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة ( ) . و قال: « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بعصية فلا سمع ولا طاعة ». (متفق عليه)
وكذلك طاعة العبد لسيده والزوجة لزوجها والرعية لحكامها كل هذا مقيد بهذا القيد السابق ، لأنه لا طاعة لأحد في معصية الله . قال صلى الله علية وسلم : « لا طاعة لاحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف » ( ) .
وقال صلى الله علية وسلم : « لاطاعه لمخلوق في معصية الخالق » ( ) . وقال : « لاطاعة لمن لم يطع الله »( ).
بل نص شيخ الإسلام ابن تيميه على أن : «من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل، وإن قال ينبغي كان جاهلا ضالا» ( ) .
ووجه ذلك أن الطاعة المطلقة والاتباع المطلق لا يكون إلا لله ورسوله ، فمن اسبغ هذه المنزلة على أحد من الناس فقد أشرك بالله عز وجل .
ويبين العز بن عبد السلام وجه تفرد الله جل وعلا بهذه الطاعة المطلقة فيقول : «وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي ، فما من خير إلا هو جالبه ، وما من ضير إلا هو سالبه ، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا أولى من البعض ، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله .
وكذلك لا حكم إلا له ، فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة ، فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة ، ولا أن يقلد أحدا لم يأمر بتقليده ، كالمجتهد في تقليد المجتهد ، أو في تقليد الصحابة ، وفي هذه المسائل اختلاف بين العلماء ، ويرد على من خالف ذلك قوله عز وجل : ] ¬ [
ويستثني من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدى إلى الحكم » ( ) .
فكيف يزعم زاعم أن الإسلام جاء بتعبيد الأمة لحكامها واتخاذهم أربابا من دون الله ؟
ومن ناحية أخري فإن هذه البيعة كما سبق عقد بين الأمة وبين الحاكم ، للأمة أن تقيدها بما شاءت من الشروط الشرعية ولنا في أصحاب رسول الله أسوة ، فهذا هو عبد الرحمن بن عوف وقد حمل أمانة الاختيار بين عثمان وعلى وعقد البيعة لهما بعد التنازلات التي تمت من الآخرين يعرضها على على كرم الله وجهه على أن يتقيد في حكمه بسيرة الشيخين من قبله فيجيبه بقوله : ( أجتهد رأيي ولا آلو ) فيعدل عنه إلى عثمان الذي قبل ذلك ، وكان هذا قيدا على بيعته وشرطا في توليته ، فالبيعة . إذن مقيدة بالشرع ابتداء ويمكن تقييدها بالاتفاق ، وللجماعة الإسلامية أن تقيم من المؤسسات الدستورية ما يكفل الوفاء بذلك كله .
فإن كانت القضية قضية ضمانات فنحن نرحب بكل ما انتهت إليه البشرية من وسائل عملية لمنع الاستبداد ومقاومة الطغيان ، ونعمل معهم على اكتشاف الجديد ، وتقديم المزيد حتى تحاط هذه الحقوق بسياج منيع ، فلا يعبث بها عابث ولا ينتهكها ظلوم !
ولكن هذا الذي تقول يتناقض جذريا مع ما يتبناه السواد الأعظم من التيار الإسلامي المعاصر من رفض الديموقراطية والدعوة إلى الحاكمية، ويؤكد أن الديموقراطية والدعوة إلى الحاكمية على طرفي نقيض ، فما تعليقك على هذه السطحية الفجة ؟!
- الديمقراطية التي يرفضها التيار الإسلامي ويري فيها تناقضا جذريا مع الثوابت الإسلامية هي الديموقراطية المطلقة التي لا حدود فيها على سيادة الأمة وسلطة المؤسسات التشريعية ، بحيث تنتقل مصدرية التحليل والتحريم والتجريم والعقاب من الشريعة إلى القانون ، ومن الكتاب والسنة إلى نواب الأمة ، فتستطيع السلطة التشريعية في ظل هذه الديموقراطية أن تحل الحرام المجمع عليه كالزنا والشذوذ الجنسي أو سب الله ورسوله ونحوه ، وأن تحرم الحلال المجمع عليه كالدعوة إلى إقامة الخلافة أو إقامة المدارس الإسلامية أو القسم بالله كما فعلت العلمانية في تركيا على سبيل المثال ، ولا أحسب أن أحدا من المسلمين يجادل في أن الديموقراطية بهذا العمل مرفوضة ، وأنها قرينة الإشراك بالله .
ولكن إذا قيدت هذه الديموقراطية بسيادة الشريعة أصبحت هي الشورى التي تؤكد عليها نصوص الكتاب والسنة وتجعلها إحدي السمات الملازمة لهذه الأمة ، فالفرق بين الديموقراطية وبين الشورى يتمثل في الثوابت المحددة المفروضة على سلطة الأمة ومؤسساتها الشريعة .
وماذا تقصد بتقييدها بسيادة الشريعة ؟
- أي أن يقال ما قطعت فيه نصوص الشريعة بأحكام جازمة أو انعقد عليه إجماع الأمة فإنه يخرج عن دائرة الخيرة والتشاور ، لأن الله يقول :] • [ ( الأحزاب: 62 )0 ويقول : ] [ ( النساء : 56 ) .
أما ما كان في دائرة العفو وأحالت فيه النصوص إلى الخبرة البشرية ، أو ما كان من موارد الاجتهاد فهذا الذي يكون موضع النظر والتشاور ، على أن يوسد الأمر إلى أهله ، ويستشار في كل مسألة خبراؤها المتخصصون .
وهكذا عدنا مرة أخرى إلى الثيوقراطية ووصاية رجال الدين !! فقد جعلت الشورى إلى الخبراء ، ومن الخبراء بالفقه الإسلامي والقواعد الشرعية ؟ أ ليسوا هم الفقهاء وعلماء الشريعة ، إذن فقد آلت الأمور إليهم مرة أخرى ليصبحوا المتمكنين في أَزِمَّة البلاد ورقاب العباد ؟!
- لا أرى كيف تجعل إحالة الأمر إلى الخبراء ذريعة إلى سيادة الكهنوت وتحكم رجال الدين ؟ إننا جميعا نتفق على أنه لا كهانة في الطب ولكننا لا نطلق ممارسته لغير المتخصصين في الدراسات الطبية ، ونقول لا كهانة في القانون و لانطلق ممارسة القضاء والمحاماة لغير المتخصصين في الدراسات القانونية !!
ومن ذا الذي قال إن الخبرة المقصودة في هذا المقام هي الخبرة الفقهية الشرعية فحسب ؟ إن الخبرة في كل مجال بحسبه ، فإن كنت تناقش مشكلة من مشاكل الاقتصاد فالمرجع فيها إلى خبراء الاقتصاد ، وإن كنت تناقش مشكلة تتعلق بالإسكان فالمرجع فيها إلى خبراء الإسكان ، وإن كنت تناقش قضية عسكرية فالمرجع فيها إلى الخبراء العسكريين ، وهكذا
وأين تطبيق الشريعة إذن ؟ إن هذا هو الذي تنادى به العلمانية على اختلاف مدارسها ؟
- تطبيق الشريعة يتمثل في التقيد بالأطر الشرعية والالتزام بالثوابت المقررة في الكتاب والسنة في هذه المجالات ، فلا تقر خطة في الاقتصاد تقوم على الربا أو الغرر أو الاحتكار المحرم ، أو تأميم الأموال بغير حق ، ولا يقر منهج في القضاء يقوم على الحكم بغير ما أنزل الله ، ولا تقر خطط في السياحة تقوم على إقامة حفلات داعرة وتنظيم مسابقات لملكات الجمال ، وترويج الخمور من أجل تنشيط السياحة وهكذا
وفيما عدا هذه الأطر العامة فالأصل هو الرجوع إلى الخبراء والمتخصصين الذين يمثلون في مجالاتهم أهل الذكر الذين يجب سؤالهم والصدور عن آرائهم في هذه المسائل .
تطبيق الشريعة والأحزاب السياسية
إن هذا يقودنا إلى الأحزاب السياسية ومدى إمكانية قيامها في الدولة الإسلامية ؟
- إذا التزمت الأحزاب السياسية بالإطار الإسلامي العام كانت من مسائل الاجتهاد ، وقد أفتى بشرعيتها بل وبلزومها كثير من المعاصرين ، باعتبارها الصورة المثلي في عالمنا المعاصر لصيانة حقوق الأمة ، ووضع المبادئ الإسلامية المتعلقة بسياسة الحكم في الإسلام موضع التنفيذ .
فهي أوعية للرقابة الشعبية الجماعية على أعمال السلطة ، وهي بهذا تشارك في القيام بواجب الحسبة الذي أكدت عليه الشريعة ، وجعلته مناط الخيرية لهذه الأمة بعد الإيمان بالله ، فيكتسب معها الآمر من هذا الاجتماع قوة تتيح له أن يبلغ صوته إلى أبعد مدي وتحول دون أن يبطش به الحاكم وأعوانه .
ومن أدلتهم على ذلك قول الله عز وجل :] • [ (آل عمران : 104)
فالآية تحيل في أمر الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أمة من المسلمين وهم قادة الفكر والرأي في مختلف المواقع ، وهؤلاء قد تتنوع وسائلهم في تحقيق مصلحة الجماعة فيتحزبون حول هذه الوسائل ، وهذه هي الأحزاب السياسية. ومن ناحية أخرى فهي قنوات تمكن المعارضة من المشاركة في السلطة ، وتستوعبها داخل الإطار القائم ، فتكون بذلك عنصرا من عناصر الاستقرار السياسي في الأمة ، وهو أحد المقاصد الأساسية في فقه الإمامة العظمي .
وهي من ناحية ثالثة أنظمة تجدد الحيوية والخصوبة في الساحة السياسية وتمدها بالكفايات المتجددة ، وتحول دون الاستبداد بالسلطة ، أو الركود السياسي الذي يفرض ضريبته على الأنظمة التقليدية النمطية 0
هذا ... ولا يخفي من جانب آخر أن للتعددية السياسية آفاتها المتمثلة - كما يذكر المانعون - في تشرذم الأمة وتمزقها بين ولاءات متصارعة ، والتنافس في طلب الولاية ، ومنازعة الأئمة ، والخروج على الجماعة ، والمهاترات الحزبية وإفساد الحياة السياسية ونحوه ، وهي آفات جديرة بالتأمل والدراسة، ولن يعدم العقل السياسي الإسلامي أن يقدم صياغة نموذجية لتعددية سياسية تحقق إيجابيات هذه التعددية،وتتلافي سلبياتها، وتكون سابقة مضيئة في هذا المجال .
والأمر كما ذكرت من مسائل الاجتهاد ، وأهل العلم فيه ما بين مانع ومجيز ، والأمر في ذلك واسع.
ولكن ما الذي تقصده بالتزام الأحزاب السياسية بإطار الشرعية الإسلامية ؟
- أقصد ألا تتحزب على مثل الإلحاد أو إنكار معلوم بالضرورة من الدين ، أو أمر مجمع على حرمته ، فإن مثل هذه الأحزاب بخرقها لإطار الشرعية الإسلامية لا مكان لها في ظل الدولة الإسلامية .
هل يمكن أن تذكر لنا مفردات الإطار الإسلامي الذي يجب أن تلتزم به الأحزاب السياسية في ظل الدولة الإسلامية ؟
- يتمثل هذا الإطار في تقديرنا فيما يلي :
1- التزامها بالمرجعية العليا للدولة الإسلامية وهي الكتاب والسنة والإجماع ، وألا تتحزب على أمر يخالف هذه الأصول .
2- الالتزام بدعم السلطة الشرعية القائمة في المحافظة على هذه الأصول ، ودفع ما قد تتعرض له الأمة من المخاطر العامة .
3- التزامها بمنهج الحوار ، والخضوع لما تقرره الأغلبية في غير معصية ، وبعدم اللجوء إلى العنف في فرض أطروحاتها السياسية .
ويمكن صياغة وثيقة بهذه المعاني يتم إقرارها بواسطة أهل الحل والعقد وتصبح جزءا من الدستور الملزم في البلاد .
وماذا عن الأحزاب الشيوعية واللادينية ؟
- إن أسفرت هذه الأحزاب عن وجهها ، وصرحت بقيامها على الإلحاد بالله والكفر بشرائعه فلا سبيل لقبولها في الدولة الإسلامية ، وإن لجأت إلى النفاق السياسي وقدمت أطروحات سياسية أو اجتماعية مقبولة في الجملة فلا يبعد القول بقبولها وترك أمر مواجهتها وكشف باطلها إلى الأمة .
ولكن الواقع العلمي يقول إن مثل هذه الأحزاب لن تغامر بالإعلان عن حقيقة مواقفها العقدية لأن هذا يمثل نوعا من الانتحار السياسي بالنسبة لها ، ومن ثم ستلجأ إلى النفاق ، وتبني شعارات عامة مقبولة في الجملة ، وإذا قبلنا مبدأ الأحزاب فليس لنا والحال كذلك أن نفتش عن مكنون صدور هؤلاء أو أن نشق عن قلوبهم ، بل نقبل ظواهرهم ونكل سرائرهم إلى الله عز وجل ، ويبقي على الأمة واجب اليقظة ، والتصدى لمثل هذه الأحزاب المشبوهة وإسقاطها سياسيا .
هناك من يعارض في شرعية هذه الأحزاب ابتداء ، وينازعك في كل ما تقول ؟
- قد ذكرت لك في بداية إجابتي أن المسألة في هذا الإطار من موارد الاجتهاد ، وكونها كذلك يعني وجود من ينازع فيها وذلك هو الشأن في كافة المسائل الاجتهادية ، ولكن كيف يكون الترجيح ؟
إن مرد الأمر في ذلك إلى أهل الحل والعقد من الفقهاء والخبراء ليقرروا ما ترجحه الأدلة وتتحقق به المصلحة ، وهذا هو الضابط الذي تجتمع به الكلمة في المسائل الاجتهادية ، وعلى الأقلية المعارضة أن تلتزم بما ينتهي إليه الجمهور عمليا ، وإن كان لها من الناحية النظرية أن تعتقد في المسألة ما تشاء.
وكيف يتسنى الجمع بين هذين النقيضين ؟
- إذا انفكت لجهة فلا وجه للقول بالتناقض . أضرب لك مثالا عمليا : ترافع خصمان إلى قاض ، وكان أحدهما ألحن بحجته من الآخر فقضى له على أخيه رغم أنه ليس بمحق ، ماذا يفعل الطرف الآخر ؟ ليس عليه إلا أن يذعن لحكم القضاء ما دام قد عجز عن إثبات حقه أمامه ، وأن يسلم لخصمه بما قضى له به ، وإن كان هذا لا يمنع من أن يعتقد في قرارة نفسه أنه صاحب حق وأن خصمه مبطل .
وقريب من هذا ما يجري في النظم الديموقراطية حيث تخضع الأقلية لما تقرره الأغلبية وإن كان هذا لا يمنع من تبنيها لموقف النقد والمعارضة لما خضعت له .
سلطة الأمة في عزل الأئمة
هل يجوز عزل الحاكم من قبل الأمة ؟متى ذلك وكيف ؟ وما العمل إذا رفض الحاكم الانصياع لقرار الأمة في ذلك ؟ هل يجوز الخروج المسلح عليه ؟
- إذا ارتد الحاكم عن الإسلام أو بدل شرائعه وجب عزله بالإجماع ، فقد روي عن عبادة بن الصامت فيما أخرجه البخاري في الصحيح أنه قال : « بايعنا رسول الله صلى الله علية وسلم على العسر واليسر في المنشط والمكره وأثرة علينا ؟ وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان » 0
وإذا جار أو فسق فقد استحق العزل بذلك ، ولكن إنفاذ العزل عمليا يتوقف على الموازنة بين المصالح والمفاسد التي تترتب على عملية العزل ، فإن كانت المصلحة أرجح سعت الأمة في عزله ، وإلا صبرت حتى يتاح لها عزله بغير مفسدة راجحة ، وعليها في هذه الفترة ألا تمل من النصيحة ، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وألا تصدقه على كذبه أو تعينه على ظلمه .
وأقوال علماء الإسلام صريحة في هذا المعني لا لبس فيها ولا اضطراب ، وممن نص على ذلك : الشافعي والبغدادي و الماوردي والشهر ستاني والغزإلى والرازي والإيجي وغيرهم كثير ( ) .
وكيف تكون مفسدة العزل أرجح من مفسدة إقرار الظلم الذي يصبه الحاكم على رؤوس الرعية؟
- إذا كان هذا الحاكم مستظهرا بالأعوان والأجناد ، وترتب على مواجهته انشطار الأمة ، ووقوع مواجهة مسلحة بين الفريقين تراق فيها الدماء ، ويكثر فيها الهرج ، فإن من المفاسد في فوضي ساعة ما يربو على المفاسد في جور سنين !!
ومن الذي له حق العزل عند الافتضاء ؟
- الذي له حق إبرام البيعة ابتداء وهو الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد .
هذا ويحسن في واقعنا المعاصر أن ينص في الوثيقة الدستورية على كل هذه التفاصيل ، وأن لا تعقد البيعة للحاكم إلا على أساس التقيد بهذه الوثيقة ، حتى تكون الأمة في حِلًّ من بيعته إذا أخل بشيء مما جاء في هذه الوثيقة .
تطبيق الشريعة والتنكر للانتماء القومي !
يشيع بين الدعاة إلى تطبيق الشريعة رفض الدعوة إلى القومية العربية وإلى غيرها من القوميات ابتداءً ، ويزعمون أنها تمثل امتدادا للعصبيات الجاهلية التي أماتها الإسلام في الوقت الذي تسعي فيه الأمة العربية جاهدة إلى تحقيق الوحدة العربية الخلاقة لمقاومة الاستعمار والصهيونية ، والقضاء على الرجعية والتخلف وتحقيق مجتمع الكفاية والعدل ، فتأتى دعوة هذه الاتجاهات المتطرفة خرقا لهذا الإجماع ، وخروجا على ما ارتضته الجماعة ، وشقا لصفوفها بدعوة عدمية لا تخدم إلا مخططات الأعداء ، ولا سبيل إلى تحقيقها في الواقع ، إذ كيف نقيم الوحدة بين المسلمين وقد عجزنا عن إقامتها بين العرب ؟
- يجب أن نبدأ بتحرير محل النزاع حتى نميز المختلف فيه من المجمع عليه في هذه القضية ، ولنبدأ بإيراد هذه الأسئلة : هل جادل أحد من هؤلاء في شرعية الميل الفطرى إلى الأهل والعشيرة ، أو الحنين التلقائي الذي يحس به الرجل تجاه وطنه وقومه ؟ إن هذه المشاعر عواطف مركوزة في الفطر ومشاعر طبيعية أودعها الله جل وعلا في حنايا القلوب ، فلم تقهرها هذه الشريعة ، ولم تثرب على أصحابها ، بل على النقيض من ذلك شرعت من الأحكام ما يلبى هذه الأشواق ويتناسق مع هذه المشاعر، فقررت أن الأقربين أولى بالمعروف ، وأن حق الجيران آكد من حقوق غيرهم من سائر المسلمين ، وأن الزكاة تنفق في إقليمها ولا تنقل إلى غيره إلا لحاجة راجحة، إلى غير ذلك من التشريعات التي تتجاوب مع هذه المشاعر الفطرية .
هل يجادل أحد من هؤلاء في شرعية العمل من أجل إحياء العالم العربي بالإسلام وجمع كلمته حوله ليكون ذلك مدخلا إلى إحياء بقية الأمة الإسلامية بالإسلام واجتماع كلمتها حوله؟
إن أحدا منهم لا يجادل في ذلك بل ولا فيما هو دونه ، كالعمل على إحياء دولته بالإسلام ليتدرج منها إلى إحياء العالم العربي ثم إلى إحياء الأمة الإسلامية جمعاء فتجتمع كلمة هذه الأمة في النهاية حول الإسلام ، بل إن هذا هو الذي يجرى عليه العمل فعلا ، فما من داعية من هؤلاء إلا وتجده غارقا في شئون بلده الذي ينتمي إليه لأن طاقته لا تتسع مرحليا لما هو أكثر من ذلك ، وهو يوصى إخوانه الدعاة في بلادهم بأن يكدحوا مثل كدحه حتى يلتقي الجميع حول الإسلام في النهاية .
فما هو موضع النزاع إذن ؟
- موضع النزاع هو ذلك المعنى الجاهلي البغيض الذي خطط له الرواد الأوائل للقومية العربية ، وطعنوا به الإسلام في ليلاء حالكة الظلام ، ألا وهو التفريق بين المسلمين ، وسلخ العرب عن نسبهم الإسلامي ، وعقد الولاء والبراء على أساس العروبة فحسب ، إنها الدعوة إلى التشرذم داخل الأمة الإسلامية الكبرى ، فيتعصب العرب لعروبتهم ، ويتعصب الترك لتركيتهم ، وتتعصب كل أمة لقوميتها ، فتتمزق الأمة وينفرط عقدها ، وتلبسها هذه الدعوة شيعا ، ويذوق بعضها بأس بعض ، فيحل التفرق حول القوميات محل الاجتماع حول الإسلام ، وترد الأمة بذلك إلى الجاهلية الأولى ، ولهذا لم يكن غريبا أن تحرص الدول الكبرى التي تولت كبر إسقاط الخلافة على تبنى الدعوة إلى القومية العربية ، حتى قال جورج كيرك مؤلف كتاب<< موجز تاريخ الشرق الأوسط >>: « إن القومية العربية ولدت في دار المندوب السامي البريطاني » .
ولم يكن غريبا أيها العزيز أن يكون الرواد الأوائل لهذه الدعوة من غير المسلمين ، فقد كان 90 % من قادة حركة القومية العربية من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت ، إن نصيف اليازجى وبطرس البستاني وهما أول من ابتدع الدعوة إلى هذه الفكرة كانا من نصارى جبل لبنان ، وإن الإرساليات التبشيرية والجمعيات العلمية النصرانية كانت وقود الدعوة إلى هذه الفكرة .
إن طبيعة الإسلام تتناقض جذريا مع هذه التحوصلات العرقية الضيقة ، فإنه رسالة عامة لأهل الأرض أجمعين وإن كتابه هو القائل : ] • • • [ (الأنبياء : 29 ) .
ولهذا كان الإسلام بالمرصاد لكل بادرة تطل برأسها في مجتمعه تزكى نيران الفتنة ، أو تحرك الرغبة إلى التشرذم والعودة إلى الجاهلية الأولي ، ولولا ذلك لما استطاع أن يقيم الأمة الواحدة التي تجمع تحت لوائها كافة الأجناس والألوان والألسنة « لا فضل لعربي فيها على عجمي إلا بالتقوى » .
وحسبك هذه القصة التي وقعت في عهد النبوة وفيها دلالة بالغة على خطورة التشرذم العرقى والتداعى بدعوى الجاهلية ، فلقد روي أن شاس بن قيس أحد يهود المدينة مر بمجلس من الصحابة فيهم الأوس والخزرج يتحدثون ، فغاظه ما رأي - وكان شديد الإحن والحقد على الإسلام وأهله - فدس فيهم شابا من يهود ، فجلس ذلك الشاب بينهم ، وأخذ يذكرهم يوم بعاث ، حتى أثار بينهم فتنة التفاخر ، فتنازعوا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وتقاولا ، ثم وصل الأمر إلى شهر السلاح ، واجتمع الفريقان بالحرة ، وكادت تضطرم بينهم نار الحرب ، ولكن وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله علية وسلم فخرج إليهم مع المهاجرين ، فوعظهم وقال لهم : « يا معشر المسلمين : الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا » ؟
فعرف القوم أنها نزغه من الشيطان ، وكيد من عدوهم لهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق الرجال بعضهم بعضا ، وانصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين ، وأنزل الله :
] [(الآيات: آل عمران 100- 105 ) .
ولكن ما هي المحاذير الشرعية التي تتضمنها هذه الدعوة التي يتصلب الإسلام - كما تذكر - في تعامله معها هذا التصلب ؟
- تتضمن هذه الدعوة عددا من المحاذير الأساسية نوجز بيانها فيما يلي :
1 - إنها دعوة إلى عقد الولاء والبراء على أساس العروبة ، وقد تقرر في محكمات الأدلة أن معقد الولاء والبراء هو الإسلام لا غير ، وأن الدعوة إلى الإسلام تنتظم جميع الأجناس والألسنة لأفضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، ولهذا كانت الدعوة إلى عقد الولاء والبراء على أساس العروبة من دعاوى الجاهلية التي تفرق بين المسلمين ، والتي صح فيها قوله صلى الله علية وسلم : « وأن من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم وإن صام وزعم أنه مسلم » ( ) .
وحسبك أنها فرقت جماعة المسلمين ، وأسقطت دولة الخلافة ، حيث تعصب العرب لعروبتهم ، وتعصب الترك لطورا نيتهم فنشأت حركة التتريك في تركيا ، ثم نشأت حركة القومية العربية في بلاد العرب ، ثم تنادى الجميع إلى الانفصال ، ثم انتهي الأمر إلى أن تحركت الجيوش العربية بقيادة لورانس لتحارب مع الحلفاء الكافرين جيوش الأتراك المسلمين !!!
2 - إنها سلم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم بجامع العروبة والقومية ، ففي الوقت الذي تعمل فيه القومية العربية على قطع وشائج الولاء والتناصر مع بقية المسلمين من غير العرب تمهد السبيل إلى موالاة الكفار العرب ، لأن منهاجها لا يفرق بين عربي وعربي وإن تفرقت أديانهم ، وقد تمهد في محكمات النصوص تحريم موالاة الكافرين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين والنصوص في ذلك كثيرة نذكر منها قوله تعالي:
] ¬ • • [ ( المائدة : 151 ) .
3 - إنها المدخل الطبيعي إلى العَلمانية وفصل الدولة عن الدين ، لأنها بهذه الصورة تنتظم أديانا شتى ، وبطبيعة الحال لن يرضي أبناء هذه الديانات بسيادة شريعة إحدى هذه الديانات دون غيرها ، فيتواضع الجميع على تعطيل العمل بكافة الشرائع والتحاكم إلى ما يختارونه لأنفسهم من القوانين الوضعية ، وقد تمهد في محكمات النصوص وجوب التحاكم إلى ما أنزل الله ، والقطع بالحكم بالردة عن الإسلام على كل من يأبي الانقياد لحكم الله .
قال تعالى: ] • •• [ ( المائدة: 94 ) وقال تعالى : ] [ ( النساء : 56 ) وقال تعالي: ] [ ( المائدة : 44 ) .
فهل على التيار الإسلامي من حرج بعد ذلك إن هو رفض هذه الدعوة ونابذها العداء ؟!!
وماذا عن المسألة الوطنية ورفض التيار الإسلامي لها ؟
- تعبير الوطنية من التعبيرات المجملة التي اختلط فيها الحق بالباطل وامتزج بها الخبيث والطيب ، من ثم وجب التفصيل ، فنقول : إن قصد بالوطنية حنين الإنسان إلى وطنه وانجذابه الفطري إليه فذلك أمر مركوز في الفطر لا تثريب على أصحابه ولا حرج، ما لم يدفعهم إلى فعل معصية أو يقعد بهم عن أداء واجب ، ولقد كان بلال يهتف وهو في دار الهجرة بالمدينة بالحنين إلى مكة في أبيات تذوب عذوبة ورقة فكان يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليـل
وهل أردن يومـا ميـاه مجنـة وهل تبدون لي شامة وطفيل
ولقد سمع رسول الله وصف مكة من - أصيل - فجرى دمعه حنينا إليها قال : يا أصيل دع القلوب تقر !
- وإن قصد بالوطنية العمل على تحرير أرض الوطن من الغاصبين وتطهيرها من المستعمرين فذلك جهاد إسلامي متعين ، وقد تمهد في كتب أهل العلم أنه إذا داهم العدو محلة قوم من المسلمين فقد تعين الجهاد على أهل هذه المحلة ، فإن عجزوا عن دفعه امتد التعين إلى من وراءهم وهكذا إلى أن يعم التعيين الأرض كلها ، فتحرير بلاد المسلمين من قبضة المستعمرين من أهم فروض الأعيان ، ولا منازعة في ذلك ولا جدال، وإن كنا نذكر في هذا المقام باستحضار نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا حتى لا تتحول النية من جهاد في سبيل الله إلى جهاد في سبيل ذرات الرمال وحبات التراب كما يردد ذلك بوعي أو بغير وعي فريق من المعاصرين !
- وإن أريد بالوطنية ما ذكرناه في القومية من أن جيران الرجل وأبناء وطنه أولي الناس ببره وأحقهم بإحسانه وجهاده فذلك محتمل ، فقد تأسس في فقه الشريعة أن الأقربين أولي بالمعروف ، وأن حق الجيران آكد من حقوق غيرهم من سائر المسلمين ، وأن الزكاة تنفق في إقليمها ولا تنقل منه إلا لحاجة .
- أما إن قصد بها إقامة الولاء والبراء على أساس هذه الحدود الجغرافية المصطنعة وما يعنيه ذلك من تقسيم الأمة إلى شيع متناحرة يذوق بعضها بأس بعض ، ويكيد بعضها لبعض . ويتحزب كل منهم على مناهج وضعية وعصبات جاهلية ، وعدوهم من وراء ذلك يذكي نيران الفتنة ، ويكرس الخصومات والعداوات ، ويغرى بعضهم ببعض ، فتلك لعمر الحق الوطنية الزائفة والجاهلية المنتنة التي لا تزيد أصحابها من الله إلا بعدا ، ولا يجنون من ورائها إلا رصيدا ضخما من الخيبة والخسران !!
إن الخلاف الحقيقي مع دعاة الوطنية أنهم يفسرون حدود الوطنية بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية ، ويفسره الدعاة إلى تطبيق الشريعة بالعقيدة والإيمان ، وقد سبق قول الشاعر :
ولست أرضي سوي الإسلام لي وطنـا الشـام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذ كــــــــر اسـم اللـه في بلــد عددت أرجاءه من لـب أوطانى
فدار الإسلام كلها لنا وطن ، وأبناء الإسلام جميعا لنا أهل ، وإن كنا لا نرى تعارضا بين المعنيين في حس المسلم السوي ، إذ لا تعارض بين الخاص والعام ، ولابين الجزء والكل ، فعمل الإنسان لبلده بالمفهوم الجغرافي سوف ينعكس ذلك على وطنه الكبير بالمفهوم الإسلامي إذا خلصت النيات وصححت المفاهيم .
أما الذين يحبسون أنفسهم داخل المفهوم الجغرافي للوطن فلا ينظرون أبعد من ذلك فهذا نوع من الانفصال عن جماعة المسلمين ، إذ لا يصح إسلام المسلم حتى يوالى في الله كافة المسلمين ، ويعادى في الله من كفر به من أهل الأرض أجمعين ، و يستشعر الانتماء إلى هذه الأمة الواحدة .
هل يمكن أن يتعارض الولاء للوطن مع الولاء للإسلام ؟
- قد يقع هذا التعارض إذا استحب أهل هذا الوطن الكفر على الإيمان ، فيلتحق الوطن في هذه الحالة بدار الكفر أو دار الحرب ، وقد تجب الهجرة منه أو مقاتلة أهله بحسب الأحوال .
وقد رأينا ذلك في سيرة النبي صلى الله علية وسلم عندما استحب أهل مكة الكفر على الإيمان ، وآذوا رسول الله صلى الله علية وسلم وأصحابه ، وأخرجوهم من مكة فكانت الهجرة من مكة يومئذ آيه على صدق الإيمان ، بل شرطا في موالاة من انتسب إلى الإسلام ، كما قال تعالى :
] ¬ [ ( النساء : 98 ) ، وكما حكي الله تعالى عن المستضعفين في مكة أنهم كانوا يقولون : ] ¬ • [ ( النساء : 57 ) .
بل بلغ الأمر مبلغ الحرب والمقاتلة بدءا من بدر وأحد وانتهاء بفتح مكة .
بل قد يقع التعارض بين الولاء للأهل والعشيرة وبين الولاء للإيمان والعقيدة ، وقد قال تعالى :] ¬ [ (التوبة : 32 ) ، وقال تعالى :] • ¬ .... [ ( المجادلة : 22 ) .
وقال تعالى : ] [ ( الممتحنة :4 ) .
وقد رأينا ذلك في سيرة النبي صلى الله علية وسلم وسيرة الصحابة . ففي غزوة بدر تعارض الولاءان والتقي الجمعان، فانتصر ولاء العقيدة والإيمان على الولاء للرحم والقرابة والدم ، فرأينا الصحابي الجليل أبا عبيدة يقتل أباه ، ولم تمنعه صلة الأبوة من أن ينتصر منه لله ورسوله والمؤمنين ، ورأينا الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، يمر بأخيه عزيز بن عمير وهو في الأسر فيقول لا صحابه : شدوا وثاقه جيدا فإن أمه غنية !!
بل قد رأينا في تاريخ الأنبياء براءة إبراهيم ـ عليه السلام - من أبيه لما تبين له أنه عدو لله ، وبراءة إبراهيم ـ عليه السلام - والذين معه من قومهم ، وقولهم لهم
] [ ( الممتحنة : 4 ) . ورأينا قول الله عز وجل لعبده نوح - عليه السلام - عندما جادله في ولده : ] [ ( هود : 64) . وبراءة امرأة فرعون من فرعون عندما قالت :] •
[ ( التحريم : 11 ) .
ولم تحظ قضية في القرآن الكريم بما حظيت به قضية الولاء والبراء من النصوص المستفيضة التي غفل عن فقهها كثير من الناس ، وما أجدرها بالدراسة والتأمل !
ولهذا كان حرص المستعمرين على النيل من هذه القضية ، وإقامة محاور أخري للولاء والبراء كالوطنية والقومية ونحوها ليظل المسلم على الأقل مذبذبا بين هذه الولاءات إن لم ينجذب بالكلية إلى هذه المحاور الجديدة . ولهذا يقول أحد المستشرقين : إننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض لنحصل على تراث الحضارات القديمة قبل الإسلام ولسنا نعتقد بهذا أن المسلم سيترك دينه ، ولكنه يكفينا منه تذبذب ولائه بين الإسلام وتلك الحضارات .
تطبيق الشريعة وقضايا المرأة
لقد أدت مشكلة الخلط بين النص الإلهي كما ورد في القرآن الكريم وبين تفسيره كما سمحت به القدرات المحدودة لزمان ومكان المفسرين القدامى إلى آثار بالغة الخطورة في نظر دعاة الحل الإسلامي إلى المرأة ، فقد تأثروا بأفكار فقهاء عاشوا منذ مئات السنين ، وأدى القياس الخاطئ إلى مطالبة المرأة بالعودة إلى ما كانت عليه في هذه العهود الغابرة أيام الجواري والمحظيات والعبيد والفوضي الاجتماعية متجاهلين التطور الجوهرى الذي حدث في شخصيتها وفي متطلبات المجتمع من حولها ، فكيف تري هذا المأزق ؟ وما تعليقك على هذه الردة الحضارية التي نساق إليها باسم السلفية واتباع النصوص ؟
- النصوص كما ذكرت لك مرارا منها ما هو قطعي الدلالة ، وهذا لا سبيل لأ حد معه إلا الإذعان والانقياد ، وفي آية سورة الأحزاب تحديد للمنهج الواجب الإتباع في التعامل مع هذه النصوص ، قال تعالي:
] • • [ (الأحزاب : 63 )
ومنها ما هو ظني الدلالة وهذا هو موضع الاجتهاد، ولكن الاجتهاد المعتبر شرعا له ضوابطه وأدواته ، وبدونها يستباح حرم الإسلام لكل عابث وعابثة ، وعلى أهل الاجتهاد في كل عصر أن يجمعوا بين النصوص ، وأن يقارنوا بين الآراء ، لترجيح ما تشهد بقوته الأدلة وتتحقق به المصلحة .
وتعبير مطالبة المرأة بالعودة إلى ما كانت عليه في العهود الغابرة تعبير موهم ويكتنفه كثير من الإجمال ، فلا يصح أن يقبل بإطلاق ولا أن يرفض بإطلاق ، بل يجب التفصيل والبيان منعا للبس ، وإزالة للاشتباه ، فماذا يقصد بهذا التعبير على وجه التحديد ؟
إن قصد به ارتداء المرأة للحجاب كما أمر الله فذلك حق لا ريب فيه ، وقد شهدت به محكمات الأدلة وانعقد عليه إجماع الأمة ، وكل منازعة في هذا القدر، أو تحيز إلى السفور فهي منازعة ظالمة وتحيز جهول ، فلم يزل نساء المسلمين يرتدين الحجاب جيلا بعد جيل ، ولم تتعر المرأة إلا بتأثير من الغزو الفكري الوافد الذي تقاسم رواده على أن ينزعوا الحجاب عن المرأة وأن يغطوا به القرآن حتى يسلس لهم قياد هذه البلاد ، ولست بحاجة لإيراد الأدلة القاطعة الواردة في وجوب الحجاب فقد بلغ هذا الأمر مبلغ المعلوم بالضرورة من الدين ..
يبقي بعد هذا بعض التفاصيل المتعلقة بشكل هذا الحجاب ونماذجه المختلفة ، والمسألة في هذا الإطار من المتغيرات التي تتفاوت فيها أوضاع المجتمعات ، ولأهل كل مجتمع أن يختاروا من هذه النماذج ما يناسبهم بعد الاتفاق على الأطر العامة من كون الحجاب سابغا ساترا لجميع الجسد لا يكشف عما تحته ولا يصفه ، ولا تشبه فيه بالرجال ولا بالكفار . وأما تغطية الوجه خاصة فهي مسألة خلافية والأمر فيها واسع .
وإن كان المقصود به طاعة المرأة لزوجها في غير معصية فهذا حق ، وسيظل حقا ما بقيت السماوات والأرض، وإذا كان لا يصلح للسفينة إلا ربان واحد فلن يصلح سفينة البيت إلا قيم واحد كذلك !!
وهذه الطاعة لا تعنى القهر والتسلط ، ولا تتنافي مع المناقشة والمراجعة في القول، فلقد كان أزواج النبي صلى الله علية وسلم يراجعنه القول وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، ولكن المرجع النهائي يجب أن يكون لربان واحد كما ذكرت .
وإن كان المقصود به رعاية المرأة لبيتها وقيامها على تربية أولادها ، وألا تأتي من الأفعال ما يتعارض مع ذلك فهذا حق كذلك ، بل هو رسالة المرأة الأولي ما بقيت السماوات والأرض، وإن كان هذا لا يتعارض مع مشاركتها في الحياة العامة بما يتناسب مع ظروفها ومكوناتها الفطرية .
ولا يتعارض هذا مع حقها في المعاملة الكريمة ، فما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم ، وحسبنا وصية النبي صلى الله علية وسلم بهن وهو على فراش الموت حيث ظل يردد بأبي هو وأمي : « النساء وما ملكت أيمانكم » فهي قد جاءت إلى بيت زوجها تحمل في يديها وصية رسول الله صلى الله علية وسلم « استوصوا بالنساء خيرا » متفق عليه . وقوله - عليه الصلاة والسلام - « إني أحرج عليكم حق الضعيفين : اليتيم والمرأة » ! ( )
ولا يتعارض هذا مع طلبها للعلم ، وحصولها على أرقي الشهادات ، وللدعاة إلى تطبيق الشريعة النصيب الأوفى فأغلب المنتسبات إلى هذه الدعوة من الطبيبات والمهندسات والمعلمات ونحوه .
ولا يتعارض هذا مع عملها خارج بيتها عند الحاجة مادام ذلك لا يعرضها لمحرم كإضاعة أطفالها أو الخلوة بأجنبي أو الاختلاط المنكور .
ولا يتعارض كذلك مع طلبها للخلع أو التطليق للضرر عند الضرورة الملحة ، وقد أعطتها الشريعة الحق في ذلك ، أن أيما إمرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس لم ترح رائحة الجنة ، تذكرها بهذا وحسابها على الله .
فأين إذن تكمن المشكلة بالتحديد ؟ هل صادر أحد من الناس حقها في طلب العلم ؟ هل صادر حقها في العمل عند الحاجة أحد ؟ هل صادر حقها في طلب إنهاء العلاقة الزوجية برمتها عند الضرورة أحد ؟ فعلام إذن هذه الجلبة والضجة المفتعلة؟!
لا تزال نظرة بعض الدعاة إلى تطبيق الشريعة إلى المرأة نظرة ظالمة ، فهي عندهم في مرتبة أدني، ويرونها دائما في حاجة إلى القيادة والقهر ؟
- أشك كثيرا في هذه المقولة التي لا أحسب لها وجودا عند عامة أصحاب هذه الدعوة ، وإنما قد توجد في بعض المناطق القبلية ذات الموروثات الجاهلية ، وعموما هذه نظرة خاطئة يتحمل أصحابها وزرها والإسلام منها براء .
يعارض التيار الإسلامي في مسألة عمل المرأة منطلقا من تفسيرات بيئية لبعض النصوص القرآنية ، متجاهلا هذه القفزة الحضارية الهائلة التي تعيشها مجتمعاتنا المعاصرة فكيف يكون مستقبل المرأة إذا قفز هذا التيار إلى الحكم في غيبة من المستنيرين والعقلانيين ؟
- أعتقد أن هناك مبالغة في نسبة هذا الموقف إلى التيار الإسلامي برمته ، لأن نسبة كثيرة من المحتجبات والمتنقبات يمارسن أعمالا بالفعل في مختلف المواقع ، وهذا أمر لا تخطئه العين .
وقد ذكرت لك أن عمل المرأة عند الحاجة وفي إطار الضوابط الشرعية مشروع ولا منازعة فيه( )، ولاشك أن الأوضاع الاقتصادية المتردية التي نمر بها في ظروفنا الراهنة تجعل هذه الحاجة عامة، أو أن الأصل فيها هو العموم ، وتبقي المناقشة في مدي تحقق الضوابط الشرعية في هذه الأعمال .
ومن ناحية أخري فلا تثريب على من بسط الله له في الرزق أن يحمل زوجه على الانقطاع لرعاية ولده ، فإن هذا هو الأصل الذي لا يضحى به إلا لحاجة ، ومن خبر أزمة المواصلات واختناق الطرق في واقعنا المعاصر يدرك أن رحمة الله تدرك المرأة يوم أن تكفل لها حاجاتها وتستغني عن الدخول في هذا المعترك الذي ضاق به ذرعا أشد الرجال قوة وبأسا .
وإلى الذين تبهرهم شهادة غير المسلمين نسوق لهم كلمة الرئيس السوفيتي جورباتشوف في كتابه البروسترويكا عن المرأة يقول فيها : «ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولي والشاق عجزنا عن أن نولي اهتماما لحقوق المرأة الخاصة ، واحتياجاتها الناشئة عن دورها كأم وربة منزل ووظيفتها التعليمية التي لا غنى عنها بالنسبة للأطفال . إن المرأة إذ تعمل في مجال البحث العلمي ، وفي مواقع البناء ، وفي الإنتاج والخدمات ، وتشارك في النشاط الإبداعي ، لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية في المنزل - العمل المنزلي ، وتربية الأطفال ، وإقامة جو أسرى طيب . لقد اكتشفنا أن كثيرا من مشاكلنا - في سلوك الأطفال والشباب ، وفي معنوياتنا ، وثقافتنا وفي الإنتاج - تعود جزئيا إلى تدهور العلاقات الأسرية ، والموقف المتراخي من المسئوليات الأسرية . وهذه نتيجة متناقضة لرغبتنا المخلصة والمبررة سياسيا لمساواة المرأة بالرجل في كل شيء ، والآن ، في مجري البيريسترويكا ، بدأنا نتغلب على هذا الوضع . ولهذا السبب فإننا نجري الآن مناقشات حادة في الصحافة ، وفي المنظمات العامة ، وفي العمل والمنزل ، بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة.
وهناك مشكلة أخرى هي استخدام المرأة في الوظائف الشاقة الضارة بصحتها . وهذا هو تراث الحرب التي فقدنا فيها أعدادا ضخمة من الرجال ، والتي خلفت لنا نقصا حادا في اليد العاملة في كل مكان ، في كافة مجالات الإنتاج . لقد بدأنا الآن نعالج هذه المشكلة بشكل جاد .»( )
ولى تحفظ على تسمية التفلت من التكاليف الشرعية عقلانية واستنارة ، فإن العقل إذا لم يتصل به قبس من الوحي المعصوم ضل وأضل ، وإن الاستنارة مالم تكن بنور الله وبهداية رسله فهي ظلمات بعضها فوق بعض !!
وماذا عن معارضة التيار الإسلامي لتحديد النسل واعتباره إحدى الجرائم الدينية والخلقية في الوقت الذي تمس الحاجة إليه في واقعنا المعاصر لمصلحة المرأة نفسها ولمصلحة الوطن في مجموعه؟
- لا أجد جوابا على ذلك أبلغ من القرار الذي أصدره في هذا الصدد مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني المنعقد في شهر محرم سنة 1385 هـ والذي ضم ممثلين ومندوبين من خمس وثلاثين دولة إسلامية وهذا نصه :
يقرر المؤتمر ما يلي :
1- إن الإسلام رغب في زيادة النسل وتكثيره لأن كثرة النسل تقوي الأمة الإسلامية اجتماعيا واقتصاديا وحربيا وتزيدها عزة ومنعة .
2- إذا كانت هناك ضرورة شخصية تحتم تنظيم النسل فللزوجين أن يتصرفا طبقا لما تقتضيه الضرورة ، وتقدير هذه الضرورة متروك لضمير الفرد ودينه .
3- لا يصح شرعا وضع قوانين تجبر الناس على تحديد النسل بأي وجه من الوجوه .
4- إن الإجهاض بقصد تحديد النسل أو استعمال الوسائل التي تؤدي إلى العقم لهذا الغرض أمر لا تجوز ممارسته شرعا للزوجين أو لغيرهما . ويوصي المؤتمر بتوعية المواطنين وتقديم المعونة لهم في كل ما سبق تقريره بصدد تنظيم النسل .»( )
وإن أردت مزيدا من اليقين فإليك نص قرار المجمع الفقهي في دورته الثالثة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1400 هـ وهذا نصه : «نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره ، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة مَنَّ الله بها على عباده ، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده .
ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة ، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة ، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية ، وحيث أن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى ، وإضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها .
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، أو كان ذلك لأسباب أخري غير معتبرة شرعا . أما تعاطى أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعا ، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخري شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة ، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين .
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعا للأسباب المتقدم ذكرها ، وأشد من ذلك بالإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنقق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير ، بدلا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب » ( ) .
وماذا عن الذين ينادون بتحريم الاختلاط ، والعودة بالمرأة إلى عصر الحريم ؟
- بعد الاتفاق على أنه لا يحل للمرأة أن تبدي زينتها إلا ما ظهر منها أو ،تخلو بأجنبي ليس معها ذو رحم محرم فإن الاختلاط ينقسم إلى قسمين : اختلاط مشروع واختلاط ممنوع ، أما الاختلاط المشروع فهو في ثلاثة مواضع :
الموضع الأول : مواطن العبادة كمناسك الحج من الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة ورمي الجمار ونحوه ، كما يجوز لها أن تحضر الجمع والجماعات على أن يكون لها مكان منفصل عن الرجال قدر الطاقة ، فقد كان النساء في حياته صلى الله عليه وسلم يحضرن خطبة العيد ودروس وعظه صلى الله عليه وسلم منفصلات عن الرجال .
الموضع الثاني : مواطن العلم فيجوز لها أن تحضر مجالس العلم مع الرجال على أن تكون منفصلة عنهم ما أمكن .
الموضع الثالث : مواطن الجهاد حيث يعلن النفير العام ، فتخرج للجهاد مع الرجال لتطب الجرحى وتسقي العطشى بل وتشترك في أعمال القتال إن لزم الأمر على أن يكون لهن تجمعاتهن الخاصة.
أما الاختلاط الممنوع فهو مثل اختلاطهم في الحفلات العامة وأماكن اللهو ونحوه .
وماذا عن الاختلاط في أماكن العلم وفي المواصلات العامة ؟
- يجب أن نبدأ بتقرير مسئولية الدولة الإسلامية عن تخصيص أماكن للنساء سواء من مفاسد قد لا يصبر لها بعض الرجال .
فإذا لم تستجب هذه الدول لذلك واقتضت الضرورة الملجئة أو الحاجة الماسة أو المصلحة الراجحة هذا الاختلاط فعلى المرأة المسلمة أن تتقى الله ما استطاعت ، وأرجو ألا تحرج بعد ذلك بإذن الله ، فإن الواجب هو إقامة المصالح الشرعية وإن اعترض في طريقها بعض المناكر ، على أن يتقي المسلم ربه في ذلك ما استطاع ، فإن لم يقدر على دفع هذه المنكرات فلا أقل من حصر دائرتها وتقليل مفسدتها قدر الطاقة ، وقد علمت أن مبني الشريعة تحقيق أكمل المصلحتين ودفع أعظم المفسدتين .
تطبيق الشريعة والحقوق السياسية للمرأة
وماذا عن الحقوق السياسية وأهلية المرأة لتولي الولايات العامة في ظل مقولة «لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة » التي ما فتئ الدعاة إلى تطبيق الشريعة يرفعونها في وجه الحركات النسائية المستنيرة التي تدعو إلى تحرير المرأة وكفالة حقوقها السياسية ؟»
- لنبدأ أولا بالحقوق السياسية وهي التي تتمثل بصفة أساسية في واقعنا المعاصر في حق الانتخاب، وحق الترشيح بالمجالس النيابية أو مجالس الشورى .
أما الانتخاب فهو نوع من التوكيل في ممارسة الحقوق السياسية تقوم من خلاله الأمة باختيار من ينوب عنها في مباشرة هذه المهام . حيث يذهب الناخبون إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم فيمن يختاروهم وكلاء عنهم في المجالس النيابية أو مجالس الشورى للقيام بمهمة التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية ، وتبنى مطالب الأمة والدفاع عن حقوقها .
وليس في قواعد الشرع ما يأبى أن توكل المرأة إنسانا للدفاع عن حقوقها والتعبير عن إرادتها في هذه المجالس أو في غيرها من سائر مؤسسات الدولة .
إلا أن المحظور في ذلك هو ما قد ينشأ عن ممارسة هذا الحق من مفاسد ، كمفسدة الاختلاط المحرم وسفرها بغير محرم ونحوه ، فإذا أمكن تجنب هذه المفاسد بإنشاء مراكز اقتراع خاصة للنساء وتيسير سبل الانتقال إليها فقد دخل الأمر في دائرة المشروعية ويبقى النظر في مدى المصلحة التي تترتب على ذلك ، فإذا قرر الخبراء وأهل الحل والعقد أن المصلحة في ذلك راجحة فلا حرج .
أما حق النيابة وتمثيل الأمة في مجالس الشورى والمجالس النيابية فإن طبيعة العمل في هذه المجالس تدور حول محورين رئيسين : محور الاجتهاد في سّنِّ الأنظمة واللوائح وهي عملية علمية ، ومحور المراقبة على السلطة التنفيذية وهي من جنس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس في قواعد الشرع فيما نعلم ما يمنع المرأة من أن تكون خبيرة أو مجتهدة ، وأن تشارك بعلمها وتخصصها في صياغة أنظمة الدولة أو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ما توافرت لديها المؤهلات اللازمة لذلك من الدراية بالشرع والخبرة بالواقع أو بإحداهما ، واقتضت المصلحة العامة وجودها في هذه المواقع ، هذه من الناحية الشرعية البحتة ، أما من ناحية ملاءمة ذلك في الواقع وعدم ملاءمته فهو مما تتباين فيه المجتمعات تباينا ظاهرا ويتجدد الاجتهاد فيه بتجدد الزمان والمكان .
وإذا اقتضت المصلحة العامة كف النساء عن الدخول في هذا المجال فليس ذلك غضا من كرامتها ولا امتهانا لإنسانيتها ، فإن القوانين الوضعية القائمة تمنع بعض الفئات من الاشتغال بالأعمال السياسية كالقضاة ورجال القوات المسلحة حفاظا على المصلحة العامة ، ونأيا بهم عن الدخول فيما يؤثر على حيدتهم وموضوعيتهم تجاه قضايا الأمة العامة ، ولم يقل أحد إأن في ذلك غضا من كرامتهم أو إهدارا لإنسانيتهم ، وكذلك تمنع القوانين القائمة الموظف من الاشتغال بالتجارة لنفس الاعتبارات ، ولم يعتبر ذلك عدوانا على كرامته أو إهدارا لإنسانيته ، فإذا اقتضت المصلحة العامة منع المرأة من الاشتغال بهذا العمل صيانة لها من مفاسده وضنا بها على مآزقه فلم لا يكون هذا الأمر من جنس منع القضاة ورجال الجيش من ذلك ، وليس تفرغ الأم لواجب الأمومة بأقل خطرا من تفرغ الجندي للحراسة وتفرغ الموظف للإدارة دون التجارة 0
أما ما يتعلق بحق النقد وحرية التعبير والاحتجاج ونحوه فالأصل أن المرأة والرجل في ذلك سواء ، لان دارج هذه الحقوق تحت باب الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتكليف به يتوجه إلى الكافة الرجال والنساء في ذلك سواء ، لا يرد على النساء في ذلك إلا وجوب التصون والبعد عن التبذل والاختلاط المنكور 0
وأختم حديثي بأن قواعد الشرع لا تأبي فيما نعلم تقرير هذه الحقوق للمرأة لاسيما إذا تم الاحتياط لما قد يصحبه أو ينشأ عنه من مفاسد الاختلاط ونحوه ، ثم تبقي المصلحة بعد ذلك هي الحكم في مدى ملاءمة هذا الأمر أو عدم ملاءمته .
ومما هو جدير بالذكر أن المرأة قد رفضت باختيارها ممارسة حقوقها السياسية عدة مرات ، وكانت نتيجة الاستفتاء يوم ذلك تعلن أن 59% من النساء السويسريات يرفضن هذا الحق ، ولا وجه لاتهامهن بالجمود أو التزمت أو الرجعية أو الرضا بالقيود والأغلال فإنهن ينتسبن إلى بلد قد أوفي على الغاية فيما يسمى بالمدنية والحضارة .
أما الولايات العامة فمنها ما هو مجمع على حرمته بالنسبة للمرأة وهو منصب الإمامة العظمى أو الرياسة العامة للدولة، وما كان معناها في عموم المسؤولية وخطرها كرئاسة الوزراء وولاية الأقاليم ونحوه ، أما ما وراء ذلك فهو في محل الاجتهاد .
فقد أجاز الأحناف للمرأة القضاء فيما تقبل شهادتها فيه ، وهو ما سوي القصاص والحدود ، بل أجاز الطبري وابن حزم لها ذلك بإطلاق قياسا على جواز إفتائها ، وجعلوا الحديث خاصا في الإمامة العظمى فحسب .
ووجه تأويل الحديث بأن المراد من الإمامة العظمى أو ما كان في معناها في عموم المسؤولية وخطرها هو اتفاق أهل العلم قاطبة على جواز أن تكون المرأة وصية على الصغار وناقصي الأهلية وأن تكون شاهدة ، والشهادة ولاية ، وأن تكون وكيلة لأي فريق من الناس تتولى تصريف أموالهم وإدارة مشروعاتهم ونحوه ، بالإضافة إلى مورد الحديث فقد قاله رسول الله صلى الله علية وسلم عندما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى ، فالحديث إذن كان تعليقا على مثل هذه الرياسة العامة 0
أما وجه منعها من الإمامة العظمى وما في معناها فلما يقتضيه هذا الموقع من رباطة الجأش وتغليب العقل على العاطفة والتفرغ التام لمعالجة قضايا الدولة ، وهذا مما تتجافي طبيعة المرأة ورسالتها عنه ، و إذا كان التاريخ قد عرف من النساء من قدن الجيوش وخضن المعارك فإن هذا من الندرة والقلة بحيث لا يقاس عليه .
ومرة أخري نقرر أن المسألة فيما عدا الإمامة العظمي وما كان في معناها من الولايات العامة من موارد الاجتهاد ، وأن لكلا الرأيين فيها حظا من النظر ، ويبقي الترجيح في مثل ذلك كما ذكرنا لأهل الاجتهاد يقابلون بين الأدلة ، ويقارنون بين الآراء ويتعرفون على مواقع المصلحة ، ثم يكون قرارهم في النهاية في ضوء ما ترجحه الأدلة ويحقق المصلحة العامة للأمة بعيدا عن الإفراط والتفريط .
ولكن أتظن أنه يقبل في هذا العصر أن نقرر أن للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث ، وأن دية المرأة على النصف من دية الرجل ؟ ألا يمثل هذا ظلما صارخا للمرأة، وامتدادا للنظرة الدونية التي يتعامل بهامع المرأة في ظل الرجعية الدينية؟
- على رسلك ! فإن الذي شرع هذه الشرائع هو الله رب العالمين ، وليس للدعاة إلى تطبيق الشريعة من ذلك إلا البلاغ ، وكل تَنَقُّصِِ لهذا التشريع فإنه يقع مباشرة على المشرع جل في علاه !!
إننا جميعا مسلمون والحمد لله ، نصلي الخمس ونصوم رمضان ونحج البيت ونتعصب للإسلام أكثر مما يتعصب له هؤلاء ، ولكن أي إسلام هذا الذي يجب أن نتعصب له ؟ أهو الإسلام التراثي المودع في المتون والحواشي ، والذي كان نتيجة لاجتهادات بيئية ارتبطت بظروف الزمان والمكان ، ولبت حاجات الناس في حينها ثم تجاوزتها مسيرة الحياة بعد ذلك ، فطرأت ظروف ، وتجددت أحوال ، ومست الحاجة إلى تفسيرات عصرية ، واجتهادات مستنيرة تنعتق من ربقة النص ، وتستهدى بالمصالح العامة التي ما نزلت الشريعة إلا من أجلها ، وما قصد الشارع إلا إلى تحقيقها إننا في حاجة إلى فقهاء عظام أمثال محمد عبده وقاسم أمين ورفاعة الطهطاوي وطه حسين لإحياء العقلانية المستنيرة ، وحل هذه الاشكالية المزمنة بين الدين والمعاصرة !
- لقد فرقت لك مرارا بين الثابت وبين المتغير ، وبين المحكم وبين المتشابه ، وبين المجمع عليه وبين المختلف فيه ، وقلت لك حيث يكون النص القاطع أو الإجماع الصريح فثمة المصلحة ، وثم الشرع المحكم الذي لا يحل لأحد أن يخرج عليه ولا أن يجادل فيه ، ولا يملك المسلم معه إلا التسليم والإذعان ، كما قال تعالى :
] • [ (الأحزاب: 63 ) .
فالنصوص القطعية هي مستقر المصالح ومستودعها ، ولا عبرة بما يجول في النفوس من أهواء تتوارى خلف أقنعة زائفة من ادعاء العقلانية والمصلحة ، قال تعالي: ] • [ (الجاثية : 81 ) وقال تعالى : ] ¬ [ (القصص : 05)
أما النصوص الظنية وموارد الاجتهاد وما كان مبنيا على العرف أو المصلحة من الأحكام فهذا الذي يتسع المجال معه للنظر والمقابلة والترجيح باعتبار المصلحة ونحوه .
والسؤال الآن : هل قسمة المواريث من المحكم أم من المتشابه ؟ هل إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين محض اجتهاد للفقهاء أم أنه صريح آيات القرآن . إنه صريح آيات القرآن أيها الصديق ، ولايصح لنا إيمان إلا إذا آمنا به تصديقا وانقيادا ، ولم نجد في أنفسنا حرجا من ذلك ، وسلمنا له تسليما ، كما قال تعالى :
] [ ( النساء : 56 ) .
أما إن أردت أن تتعرف على الحكمة في ذلك فإنك لو تدبرت قليلا لأدركت أنها العدالة في توزيع الأعباء والواجبات وفقا لقاعدة الغرم بالغنم ، فقد أناط الإسلام بالرجل من الأعباء والالتزامات المالية ما لم ينط مثله بالمرأة ، فالرجل هو الذي يدفع المهر، ويجهز البيت ، ويتولى الإنفاق على الزوجة والأولاد ، أما المرأة فهي تأخذ المهر ولا تلزم بالإسهام في نفقات البيت على نفسها أو على ولدها ولو كانت غنية ، فقد طرح الإسلام عنها كل الأعباء وجعلها جميعا على الرجل ثم أعطاها بعد ذلك نصف ما يأخذ .
ولو تخيلت رجلا مات عن بنت وابن وترك لهما مالا ، ترى ماذا يكون مصير هذا المال في الغالب بعد أمد قليل ؟ مال البنت إلى ازدياد يزيد بالمهر الذي تناله من زوجها ، ويزيد بالربح إن وجهت هذا المال إلى أي وعاء من أوعية الاستثمار ، أما مال أخيها فهو إلى نقصان ينقص منه المهر الذي سيدفعه ، ونفقات العرس وتجهيز منزل الزوجية ثم ما يكون بعد ذلك من نفقة على الزوجة وعلى الأولاد ، فمال البنت يدخر لما يفاجأ من الأحداث ، أما مال الابن فهو معرض للاستهلاك المتجدد فيما ذكرت لك من وجوه الإنفاق . فهل عرفت الحكمة أن جعل الله للذكر مثل حظ الأنثيين ؟
وقبل أن أغادر هذه النقطة أقتطف لك هذه القطوف من هذه الوثيقة التاريخية وهي نص خطاب السيدة هدى شعراوى زعيمة الحركة النسائية في هذا العصر إلى الأستاذ سلامة موسى ردا على رسالته التي طالب فيها أن تتبنى الحركة النسائية في مصر المطالبة بقانون يقضى بمساواة المرأة للرجل في الميراث والسيدة هدي شعراوى لا سبيل لاتهامها بالجمود أو التطرف أو الرجعية الدينية ، بل على النقيض من ذلك فهي التي سنت التمرد على الحجاب ، وارتبط باسمها كل ما ترتب على ذلك من التداعيات !
تقول في جواب على هذه الرسالة : « إني لست من الموافقين على رأي الأستاذ الخطيب سلامة موسى ، فيما يتعلق بتعديل نصيب المرأة في الميراث ، و لا أظن مثله أن النهضة النسوية في هذه البلاد لتأثرها بالحركة النسوية بأوربا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها ، وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده ، وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر .
على أننا لم نلاحظ تذمرا من المرأة أو شكوى من عدم مساواتها للرجل في الميراث ، والظاهر أن اقتناعها بما قسم لها من نصيب ، ناشئ من أن الشريعة عوضتها مقابل ذلك بتكليف الزوج بالإنفاق عليها وعلى أولادها ، كما منحتها حق التصرف في أموالها .
أما القول بأن عدم المساواة في الميراث من دواعي إحجام كثير من الشبان عن الزواج في الشرق فغير وجيه ، لأننا نشاهد في أوروبا انتشار هذا الداء - الإعراض عن الزواج - في عصرنا الحالي انتشارا أشد خطورة منه في الشرق ، بالرغم من أن المرأة الأوربية ترث مقدار ما يرث الرجل ، فضلا عن أنها ملزمة بدفع المهر ، ومكلفة بالتخلي عن إدارة أموالها لزوجها .
ولو سلمنا بنظرية الأستاذ سلامة موسي وجاريناه في طلب تشريع جديد فهل لا يخشى أن يؤدى إلى إسقاط الواجبات الملقاة على عاتق الزوج نحوه زوجته وأولاده بإلزام الزوجة بالاشتراك في الصرف و في ذلك ما فيه من حرمان يعود بالشقاء والبؤس على الزوجات الفقيرات اللاتي لم ينلن ميراثا من ذويهن ؟ وهذه الطبقة تشمل أغلبية الزوجات و لا يخفي ما هن عليه من جهل وأمية لا تسمحان لهن بمقاومة هذا الشقاء أو تلطيفه ، بخلاف مثيلاتهن في الفقر في أوروبا لأن التعليم هناك يشمل مختلف الطبقات .
نري الغربية أكثر حظا منها لأنها تظهر لنا حائزة لقسط كبير من الحرية المدنية المساوية للرجل ، بيد أنها أقل حظا من أختها الشرقية في الحرية الاقتصادية ، فبينما الشرقية غير المتساوية بالرجل في حق الميراث ، تتمتع بكافة أنواع الاستقلال في إدارة أعمالها وأموالها ، نجد الغربية المساوية لأخيها في الميراث ، محرومة من هذه النعم ، إذ لا يمكنها أن تنفق أي مبلغ من مالها ولا أن تتعاقد مع الغير ، ولا أن تحترف حرفة ، دون تصديق زوجها وموافقته ، لذلك نراها ثائرة في جميع بلدان أوروبا على تلك القيود التي تحول بينها وبين الحرية الحقيقية والاستقلال اللذين تتمتع بهما المرأة الشرقية منذ عصور طويلة .
ثم قالت : إن أهم ما يشغلها اليوم في الوصول بالمرأة إلى المركز اللائق بها ليس هو السعي في تغيير القوانين ، أو قلب الشريعة ، فلله الحمد لم نجد في هذه و لا تلك من الأحكام ما يحملنا على التذمر والشكوى ، بل كل ما نسعى إليه حسن تطبيق هذه القوانين بما يطابق غرض الشارع وحكمه ». ا. هـ ( )
أما أمر الدية وكونها على النصف من دية الرجل ، فلا علاقة له بالتفرقة بين إنسانية المرأة وإنسانية الرجل ، وإنما علاقته بالضرر الذي ينشأ للأسرة عن قتل كل منهما ، ولهذا كان القتل العمد يوجب القصاص بإطلاق لأن المقابلة فيه بين نفس ونفس وهما متساويتان في الإنسانية ، فلم تفرق الشريعة بينهما ، وأوجبت القصاص في قتل الرجل للمرأة أو العكس .
أما الدية التي تترتب على القتل الخطأ فإنها تقوم على أساس التعويض ، والتعويض يجب أن تراعي فيه الخسارة المالية قلة وكثرة ، فهل خسارة الأسرة بالمرأة كخسارتها بالرجل ؟
أن الدية ليست تقديرا لقيمة الإنسانية في القتيل لأن هذه لا تقدر بمال ، وإنما هي تقدير لقيمة الخسارة المادية التي لحقت أسرته بفقده ، فالأولاد الذين قتل أبوهم خطأ والزوجة التي قتل زوجها خطأ قد فقدوا معيلهم الذي كان يتولى الإنفاق عليهم ويسعى في سبيل إعاشتهم، أما الأولاد الذين قتلت أمهم خطأ والزوج الذي قتلت زوجته خطأ فلم يفتقدوا إلا ناحية معنوية لا يمكن أن تقابل بمال، أو أن يكون المال تعويضا عنها، ولعل هذا بعض الحكمة في هذه التفرقة بين الاثنين والله أعلم.
وأخيرا فإنني أتحفظ على ما ذكرت من الإشادة بطه حسين ورفاعة الطهطاوي وقاسم أمين فقد كان هؤلاء رواد في مسيرة التغريب التي شقيت بها الأمة وساهمت في تركيعها أمام الخصوم!، وتفصيل القول في ذلك له مقام آخر بإذن الله.
أليس من الحرفية الفجة في التمسك بظواهر النصوص دون اعتبار لمتغيرات الزمان والمكان هذا الذي يتمسك به الدعاة إلى تطبيق الشريعة من القول بقوامة الرجل على المرأة وفرض وصايته عليها وإلزامها ربقة العبودية، وسوقها إلى بيت الطاعة إلى بدت منها بادرة شكاية أو تذمر، أليس هذا هو - الظلم المقدس !- الذي يتوارى خلف عباءة الدين ليستطيل باسمه على رقاب العباد؟!
- لقد خلطت في حديثك بين أمرين : أحدهما: حق وهو قوامة الرجل على المرأة، والآخر باطل وهو هذه التداعيات التي رتبتها على هذه القوامة، وهي تداعيات لا يقرها شرع ولا عقل، وإن كان إيرادها في هذا المقام من قبيل لزوم مالا يلزم، فإن هذه التداعيات ليست لوازم حتمية لهذه القوامة، ولكنها قد توجد وقد لا توجد، وإن وجدت فكما توجد سائر مظاهر الانحراف فتنكر في ذاتها وترد على أصحابها، ولكنها لا تقدح في صلاحية المبدأ في ذاته لأن إساءة استخدام الحق لا تعالج بمصادرة أصل الحق، وإنما بتقويم هذه الممارسة ومنع ما يصحبها أو ينشأ عنها من عدوان أو استطالة .
أما أن مبدأ القوامة في ذاته حق فلصريح قوله تعالى :
] [ (النساء:34).
إن قانون الفطرة يقضي أنه لا بد عن الاجتماع من رأس، ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولو تخيلنا البيت مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلا بد له من رأس ينتظم به أمره، ونحن أمام خيارات أربعة :
إما أن يكون كل منهما رأسا وفي ذلك فساد عظيم لتضارب الإرادات الذي يفضي إلى التهارج لا محالة، وإما أن تنتفي قوامة كل منهما ليعود الأمر إلى الفوضى التي اتفق العقلاء كل العقلاء على ردها. وإما أن تكون القوامة للمرأة على الرجل وهو ضد ما تقضي به الفطرة والمنطق بل ولا ترضى به المرأة بنفسها، فلم يبق إذن إلا أن تكون القوامة على البيت للرجل وذلك صريح قوله تعالى : ]الرجال قوامون على النساء].
وهذه القوامة ليست قوامة القهر والاستبداد، فإن هناك داخل البيت المسلم ما يسمى بحدود الله، وهي الضوابط التي تمنع من الفوضى والاستخفاف والاستضعاف، ضوابط الفطرة، وضوابط الوحي المعصوم وضوابط العقل الراشد الذي يرى بنور الله، ولقد تكررت كلمة حدود الله ست مرات في آيتين اثنتين في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى :
] • [ (البقرة: 229-230).
ومن تعدى هذه الحدود فقد ظلم نفسه وإن ظلم الأزواج للأزواج أسخط للجبار وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرعية .
ليست هذه القوامة إذن قوامة التسلط أو القهر، بل قوامة العقل على العاطفة ولهذا فهي لا توجب للزوج على زوجه طاعة مطلقة بل الطاعة في المعروف، فإن مال الرجل عن القصد ونكب عن الصراط كان من حقها بل من واجبها أن تنكر عليه، وأن تحتكم في اعتراضها عليه بالحق إلى أهلها وأهله، ثم إلى القضاء الذي يجب عليه أن يقيم حدود الله، وأما ما ذكرت من بيت الطاعة فهو اجتهاد باطل أو على الأقل شاذ ومردود ولا يعبأ به ولا يعول عليه.
ولكن هذه الآية التي تستشهد بها قد فهمها المستنيرون من أهل العلم على غير هذا الوجه، ولم يخرجوا منها بهذا الذي قصد إليه بعض المتعصبين من إذلال المرأة ووضعها في مكانة دون مكانة الرجل؟ إن الآية لم تقض بتفضيل مطلق للرجل على النساء فقالت : ] [ هذا فضلا عن نزولها ابتداء بخصوص المرأة الناشز ولهذا قالت ] [
- أولا : لم يقصد أحد من أهل العلم فيما نعلم إلى تفسير الآية على وجه يقضي بإذلال المرأة ووضعها في مكان دون مكانة الرجل، وأنى لهم ذلك ومحكمات الشريعة تقضي بأن النساء شقائق الرجال، وأن لهن مثل الذي عليهم بالمعروف؟ أنى لأهل العلم لذلك وهم يعلمون إن المرأة قد قدمت إلى بيت زوجها وهي تحمل في يديها وصية من الحبيب الشفيع محمد صلى الله عليه وسلم يقول فيها : « استوصوا بالنساء خيرا » ( ) ويقول فيها : « اتقوا الله في النساء » ويقول فيها : « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي » ( ) . ويقول فيها : « لا يفرك مؤمنا مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر » ( ).
أنى لهم ذلك وهم يعلمون أن آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم وهو يجود بأنفاسه الأخيرة على فراش الموت بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم قوله : « النساء وما ملكت أيمانكم ؟! » .
أنى لهم بعد ذلك كله أن يقرروا باسم القرآن باسم القرآن دونية المرأة وأن يسنوا في الأمة سنة إذلالها وإعناتها؟ اللهم إلا إذا كان تقرير مبدأ القوامة في ذاته يعد إذلالا للمرأة، وهذا كما بينا خلاف ما يقضي به المنطق والمعقول وطبائع الأشياء .
أما تذكر من أن الآية قد حصرت سبب القوامة في إنفاق المال فقط فهو مكابرة، لأن الآية تقول: (بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) فكيف تقفز فوق شطرها الأول بهذه الجرأة ؟
أما قولك إن الآية جاءت في مقام النشوز فذلك لا علاقة له بالمعنى الكلي المستفاد من الآية، والذي أثبتته الآية في صدرها قولا محكما وقاعدة مطلقة لا يكابر في مثله إلا معاند، وحسبك إجماع الأمة كلها في مختلف أعصارها وأمصارها على ذلك .
ولا أريد أن أطيل الجدل حول هذه النقاط، وقد ذكرت لك فيها من قبل أمورا محكمة أرجو أن تتدبرها على مهل!!.
وماذا عن عادة تعدد الزوجات التي قرر المستنيرون من أهل العلم مشروعية إبطالها، ولا يزال يتمسك بها الدعاة إلى تطبيق الشريعة؟
- مشروعية التعدد أمر ثابت في محكم التنزيل، قال تعالى:] [ (النساء:3)
وماذا عن بقية الآية؟
- ] [
إذن مشروعية التعدد مرتبطة بالقدرة على العدل، فإذا علمت أن العدل غير مقدور بنص القرآن في الآية الأخرى من سورة النساء ] [ عرفت أن التعدد غير مشروع لتخلف شرطه؟
- وماذا عن بقية آية سورة النساء ؟
- ] • [ (النساء: 129)
- فالعدل المشروط في الأولى غير العدل المقطوع باستحالته في الثانية .
إذن فهذه الآية تخفيف من الشرط الذي أناطت به الآية الأولى مشروعية التعدد، لقد علم الله جل وعلا أن العدل المطلق غير مقدور عليه للبشر خاصة فيما يتعلق بالميل القلبي، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أم المؤمنين عائشة أكثر من بقية نسائه ولكنه كان يعدل في القسم الظاهر ويقول: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك وأستغفرك لما تملك ولا أملك ».
إذن مشروعية التعدد ليست مرتبطة بالعدل المطلق لأنه غير مقدور عليه حتى للرسل، ولكنها مرتبطة بقوله تعالى] • [ أي لا تميلوا كل الميل إلى واحدة فتذروا الأخرى كالمعلقة، فالمقصود إذن ألا نميل كل الميل وهذا هو مناط التكليف، أما العدل المطلق فهو في دائرة العفو لأنه غير مقدور، فهل أدركت فقه الجمع بين الآيتين أيها العزيز؟
إن هذا الذي تذكره لو صح لكانت مشروعية التعدد منسوخة، ولكنات آية ] [
ناسخة للآية (فانكحوا ... رباع) فهل ذهلت الأمة كلها عن هذا النسخ وأطبقت على الفهم الباطل لهذه الآية أربعة عشر قرنا حتى جاء هؤلاء المستنيرون الجدد ليصححوا لها هذه الخطيئة التاريخية التي تتابعت عليها قرونا بعد قرون ؟ ألا ما أقبح هذه الفرية وما أتعس القائلين بها !
وإن كنت في شك من ذلك فإني أحيلك إلى بعض الأئمة المعاصرين مثل السيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق وهو معدود من المجددين خاصة عند جماهير المستنيرين، فقد رد على هذه الشبهة في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة وشدد النكير على أصحابها واعتبره عبثا بآيات الله وتحريفا لها عن مواضعها. كما أحيلك إلى ما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار، بل إلى الفتوى الرسمية الصادرة من دار الإفتاء المصرية في عهد الشيخ حسين مخاوف، وكلها تقطع ببطلان هذا الفهم واعتباره من التخريف والعبث (*).
وليس المقام هنا مقام تفصيل القول في حكمة التعدد ولا مقام الرد على أباطيل المستشرقين الذين يمارسونه في أوطانهم بطريقة مشينة حيث يتزوج الرجل في هذه البلاد بواحدة ويخادن العشرات، ولن أحدثك عن التناقض الذي وقعت فيه بعض التشريعات في بلادنا عندما حرمت التعدد في الوقت الذي تبيح فيه الزنا إذا كان عن تراض، حتى قبض على رجل بتهمة الزواج بثانية فدفع أمام القاضي بأن هذه المرأة خليلة وليست حليلة فأخلي سبيله وقضي له بالبراءة!! لن أحدثك عن ذلك كله ولكني سأكتفي بهذه الإشارة المجملة، وآمل أن تتاح لنا فرصة أخرى لمناقشة ذلك كله بالتفصيل.
ومن ناحية أخرى فإن نسبة التعدد في بلد كمصر على سبيل المثال لا تتجاوز نصف في المائة من عدد المتزوجين! فهل تشكل هذه النسبة ظاهرة تستحق أن تستنفر لها الهمم، وتسود فيها الصحائف، وأن تجيش ضدها كل مشاعر البغضاء والكراهية؟ أم أننا نردد كل ما يزين لنا من المفاهيم الوافدة وندفع إلى تبنيه بوعي أو بغير وعي؟ أم هو الولع بالتمرد على شرائع الإسلام لا لشيء وإنما لمجرد التمرد؟
هل تستطيع الدولة الإسلامية التي ينشدها الدعاة إلى تطبيق الشريعة أن تواجه الحضارة العالمية بمثل هذه التشريعات؟ أتظن أن الضمير العالمي يستسيغ فكرة كفكرة التعدد، ويرى لأصحابها مكانا في مصاف الدول المتحضرة؟
- إن القلب الممتلئ بجلال الله وكبريائه، المعقود على الإيمان بأسراره في خلقه وحكمته في شرعه لا يأبه لهذه الاعتبارات المتهافتة ، لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله!
أليس عجبا أن تتوارى خجلا من الزوجة الثانية في الوقت الذي لا يتوارى فيه أهل هذه المجتمعات من مخادنة ثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة حتى امتلأت الملاجئ عندهم باللقطاء ؟
وكيف يجرؤ هؤلاء الغربيون على الثورة ضد تعدد الزوجات المحدود عندنا في الوقت الذي ينتشر فيه البغاء اللامحدود في بلادهم؟ وهل يصح أن يقال إنهم يأخذون بمبدأ الزوجة الواحدة وإلى جانب الزوجة الشرعية خدينات من وراء ستار؟؟!
إن المنصفين من الغرب ومفكريهم يقرون بعظمة التشريع الإسلامي في هذه القضية وعدله وواقعيته، ولكن الزخم العلماني في إعلامنا المبجل! يحول دون هذه الأصوات إلى عامة المسلمين (*).
إذا كان الأمر كما ذكرت بالنسبة لتعدد الزوجات فلماذا لا يباح أيضا للمرأة تعدد الأزواج ؟
- هذا سؤال لا يخلو من قدر من الطرافة ، ولا بأس من هذه الإشارة العابرة في الإجابة عليه . لقد منعت المرأة من ذلك منعا من اختلاط الأنساب أيها العزيز ، فإن المرأة بطبيعتها لا تحمل إلا في وقت واحد مرة واحدة في السنة كلها بخلاف الرجل الذي يستطيع أن يكون له أولاد متعددون من نساء متعددات ، فالمرأة لا يمكن أن يكون لها إلا مولود واحد من رجل واحد فإذا أبحنا تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة فإن معنى ذلك اختلاط الأنساب وعدم القدرة على نسبة ولدها إلى شخص معين ، وليس الأمر كذلك بالنسبة للرجل ، ولهذا كانت المساواة بين الرجل والمرأة في أمر التعدد مستحيلة بمقتضى الجِبِلَّة والطبيعة .
ومن ناحية أخري فقد أجمعت كافة شرائع العالم السماوية والوضعية على أن الرجل هو صاحب القوامة على الأسرة ، فإذا أبحنا للمرأة تعدد الأزواج وصار فيها شركاء متشاكسون فلمن منهم يكون حق القوامة ؟ ولأي منهم يجب عليها أن تبذل له حق الطاعة ؟ ألم أقل إن الأمر لا يخلو من قدر من الدعابة والطرافة !!
لقد كان من أسباب إعراض بعض الغربيين عن قبول الإسلام إنكارهم على النبي صلى الله علية وسلم زواجه بتسع نساء ؟.
- هؤلاء قوم أعمتهم الأحقاد والعصبيات ، وجعلت على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ! إنهم ينكرون ذلك على نبينا صلى الله علية وسلم وهم يقرأون في التوراة التي بين أيديهم أن نبى الله داود - عليه السلام- كانت له تسع وتسعون زوجة أكملهن بمائة من زواجه من زوجة قائده أوريا ! وأن نبي الله سليمان - عليه السلام- كانت له سبعمائة زوجة من الحرائر وثلاثمائة من الجواري وكن أجمل أهل زمانهن فكيف يقبلون بنبوة من تزوج ألف امرأة وينكرون نبوة من تزوج تسعة : ثمانية منهن ثيبات ، وأمهات ، وبعضهن عجائز ، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة عمره ؟ أليس هذا محض التناقض والخذلان ؟!
ولماذا لا يوافق دعاة تطبيق الشريعة على جعل العصمة بيد الزوجة بحيث تتمكن من تطليق نفسها بنفسها متي قدرت أن الاستمرار في هذه الحياة لا فائدة فية ؟
- الأصل في العصمة أن تكون بيد الزوج بمقتضي قوامته على الأسرة ، وبحكم ما جبل الله عليه الرجال من غلبة العقل على العاطفة ، والحزم على النزوة الطارئة ، وتستمر هذه القوامة ما بقى امتياز المرأة بالعاطفة وامتياز الرجل بالعقل ، ولو أطلق الأمر لرأينا بأعيننا كيف تهدم بيوت وتتشرد أسر ، ولله الحكمة البالغة !
ومع هذا فإن الشريعة لم تغلق هذا الباب في وجه المرأة ، فقد أجاز الإمام ابو حنيفة للمرأة أن تشترط لنفسها هذا في العقد فإن فعلت كان الطلاق بيدها توقعه متى شاءت ، وهو من الشروط الجائزة في مذهب الإمام أحمد ، ولا حرج من الأخذ بهذا الاجتهاد عند الاقتضاء ( ) .
الشورى بين الإعلام والإلزام
هل يجب على الحاكم التقيد بنتيجة الشورى في ظل الدولة الإسلامية، أم أن الشورى بالنسبة له لا تعدو أن تكون معلمة ؟
- هذه المسألة من موارد الاجتهاد ، ولكن للأمة في معالجتها مدخلا أخر ، وهو أن تنص في عقد البيعة على أن يتقيد الحاكم في قراراته العامة بما ينتهي إليه مجلس الشوري ، فإذا تمت البيعة على ذلك فقد أصبحت الشورى ملزمة بهذا العقد لا سبيل له ولا لغيره إلى التفلت منها ، ونكون قد تجاوزنا الخلاف التقليدي في كونها ملزمة أو معلمة .
ولا شك أن مصلحة الأمة في واقعنا المعاصر تقتضى وقد رق دين الناس أن نلزم الحكام بالتقيد بنتيجة الشورى إلجاما لنزواتهم ، وكبحا لجماح أهوائهم ، ومنعا لهم من الاستبداد والتسلط ، وإن لنا في تقييد البيعة من البداية بالالتزام بنتيجة الشورى مخرجا من هذا الخلاف ، وتأكيدا لهذا الالتزام ، ووقاية للأمة من غوائل التصدع والانقسام .
ولا بأس بتفويض بعض المجالات الثانوية للحاكم يبت فيها بصورة نهائية ، ويكون فيها صاحب القرار فإن ذلك من ضرورات وجوده في موقع المسؤولية العامة ، أما القرارات الاستراتيجية والمصالح العامة فالأصل هو إلزامه بعرضها على أهل الشورى ، والصدور عما ينتهي إليه نظرهم فيها .
نواب الأمة في ظل الدولة الإسلامية
من هم أهل الحل والعقد ؟ وما كيفية اختيارهم في الدولة الإسلامية ؟
- أهل الحل والعقد هم زعماء الأمة وقادة الرأي فيها ممن يلجأ إليهم في المهمات والمصالح العامة ، فهم أهل النظر الذين عرفوا في الأمة بكمال الاختصاص في بحث الشئون العامة و إدراك المصالح والغيرة عليها ، وهذا ينتظم في الواقع فريقين من النـاس : أهل العلم ، وأهل الخبرة والقدرة ، أي العلماء والخبراء في شتى المجالات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعسكرية ونحوها ، وهم أولوا الأمر المشار إليهم في قوله تعالى :
] [ (النساء 95 ) .
يقول الشيخ محمود شلتوت : « ولاشك أن شئون الأمة متعددة بتعدد شئون الحياة ، وأن الله قد وزع الاستعداد الإدراكي على الأفراد حسب تنوع الشئون ، وصار لكل شأن بهذا التوزيع رجال ، هم أهل معرفته ، ومعرفة ما يجب أن يكون عليه ، ففي الأمة جانب القوة التي تحمي حماها ، والتي تحفظ أمنها الداخلي ، وفي الأمة جانب القضاء وفض المنازعات وحسم الخصومات ، وفيها جانب المال والاقتصاد ، وفيها جانب السياسة الخارجية وفيها غير ذلك من الجوانب ، ولكل جانب رجال عرفوا فيه بنضج الآراء ، وعظيم الآثار ، وطول الخبرة والمران ، وهؤلاء الرجال هم (أولوا الأمر من الأمة) وهم الذين يجب على الأمة أن تعرفهم بآثارهم ، وتمنحهم ثقتها ، وتنيبهم عنها في نظمها وتشريعها والهيمنة على حياتها » ( ) .
وهؤلاء هم الذين تتمثل فيهم إرادة الأمة ، ويعبر رضاؤهم عن رضائها ، ويصح اعتبار إجماعهم إجماعا للأمة إذا فوضتهم الأمة بالفعل في القيام بهذه الشئون ، وقد تنبه علماء المسلمين إلى هذا المعني ونصوا على إمكانية دخول العامة في الإجماع وتحقق إجماع الأمة كلها علماء وعامة بهذا الطريق.
وقال الغزالى في المستصفي : «كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شيءء يقال هذا باتفاق جميع الجند ، فإذًا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجمع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة » ( ) .
أما كيفية اختيارهم فهي من المسائل الاجتهادية التي تترك لأهل كل عصر يقررون فيها ما يحقق المصلحة ، وقد ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية عن بعض أهل العلم تمثيل كل محلة من محلات الدولة في أهل الحل والعقد ليكون الرضا بقرارهم عاما والتسليم به إجماعا ، وهو أمر قريب من الانتخاب الذي يجرى عليه العمل في واقعنا المعاصر .
ألا يتنافى عهد الإمام بالخلافة مع مقولة أن السلطة للأمة وأن لها وحدها الحق في تولية حكامها ؟
- لقد ذكرت لك أن العهد من الإمام السابق عند كثير من أهل العلم لا يعدو أن يكون ترشيحا ، والأمة بعد ذلك هي صاحبة القرار في إمضائه أو إلغائه ، ولو أن الأمة لم ترض بعمر خليفة بعد أبي بكر ولم تعقد له البيعة لما صارا إماما ، فإن الإمام لا يكون إماما إلا بمبايعة جمهور الناس ومن تحصل ببيعتهم له الشوكة والمنعة ، وإذا كان القول في العهد أنه مجرد ترشيح ، وأن مرد الأمر في شأنه إلى الأمة(*) فقد آلت الأمور كلها إليها في النهاية ، وانحصرت طرق اختيار الإمامة على التحقيق في هذا الطريق ، وصدقت مقولة على كرم الله وجهه : ليس لأحد في هذا الأمر حق إلا من وليتم !
من قاموس الإرهاب !!
لم يقدم لـنا التـيار الإسلامـي حتى هذه اللحظة برنامجا واضح المعالم ، وإنما اكتفي بشعارات عـامـة غائمة مثل شعـار [ الإسلام هو الحل] و [ القرآن دستورنا ] ونحوه ، وشاع في قاموسهم بعض المصطلحات الغريبة كتعبير الإسلاميين ، وجماعة المسلمين ، وغير ذلك من المصطلحات التي تشي بتكفير المجتمع ونفي صفة الإسلام عمن عداهم من بقية المسلمين ، ولا يخفي أن من يجنح إلى هذا المنهج فإنه يعطى نفسه حق إطلاق الحكم، وحق توقيع العقوبة التي ينفرد بتقديرها ، الأمر الذي يحمل في طياته بذور الإرهاب ، وتنطلق من تحت عباءته كل مظاهر العنف الفجة التي زلزلت أمن المجتمع في الأيام الأخيرة فما تعليقك على ذلك كله ؟
- لقد سبق أن ناقشنا دعوي نقص البرامج لدي الدعاة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وما يتهمون به من الاكتفاء بالعمومات والشعارات الغامضة ، ونضيف هنا أن الحديث عن نقص البرامج أو عن غموض الشعارات يعكس الغفلة عن جانب من أهم جوانب الصراع الدائر في بلادنا ، والذي يساهم مع غيره في رسم حركة التاريخ ، وهو الصراع العقدي والحضاري بين الوافد والموروث ، فإذا أخذنا هذا الجانب في الاعتبار توارت مشكلة الغموض ونقص البرامج أو خفت حدتها إلى حد كبير .
إن قضية التيار الإسلامي تتمحور حول الدعوة إلى الاستقلال العقائدي والحضاري ، وتتلخص في المطالبة بالالتزام بسيادة الشريعة والإقرار العام الشامل بتطبيق الإسلام من حيث كونه انتماء سياسيا وامتثالا لما يقرره للحياة من نظم ، ثم بعد ذلك وفي هذا الإطار يمكن أن يجري الاتفاق أو الاختلاف في طرائق تطبيق تلك الأحكام ، فلا تمثل عمومية الدعوة وجها للنقد في هذه الحالة إذا تم التعامل معها من هذا المنظور، وما أثيرت الدعوة بهذا الإطلاق والعموم إلا في مواجهة ما لقيته مجتمعاتنا من تحد حضاري وعقائدي عات ومدمر !
فالحركة الإسلامية اليوم لا تواجه خصومة جزئية داخل إطار إسلامي عام ، وإنما تواجه غزوا حضاريا وعقديا شاملا يريد أن يطمس الهوية الإسلامية ، ويكرس مفاهيم الحضارة الغربية ، ويجتال الناس من دينهم بزخرف من القول وزور من الادعاءات !
ومن هنا كانت دعوتها إلى الالتزام بالإطار العام للمذهبية الإسلامية : « الإقرار المجمل بالإسلام ، والالتزام المطلق بما يقرره من الأحكام» وكل خلاف داخل هذه الدائرة فهو خلاف من داخل الصف ، وكل تعدد في وجهات النظر داخل هذا الإطار فهو تعدد مقبول ولا تثريب عليه ، ولا يوجب لأصحابه انسلاخا من الدين ، ولا خروجا عن جماعة المسلمين .
أما تعبير الإسلاميين فهو تعبير اقتضاه تعدد الحركات الإسلامية المعاصرة ، وعدم وجود إطار تنظيمي شامل يمكن تعريفها به فكان هذا التعبير باعتبار أن المناداة بإقامة الإسلام وتحكيم شريعته في مواجهة الغزو العقدي والحضاري هو القضية الأساسية التي تمحور حولها هؤلاء جميعا ، والتي تمثل القاسم المشترك بينهم جميعا على تفاوت مناهجهم في التفكير وتنوع أساليبهم في العمل .
ولم يقل أحد من هؤلاء إنه يمثل جماعة المسلمين التي تعني تكفير كل من عداها من الجماعات والتجمعات ، اللهم إلا قلة مارقة من دعاة التكفير بالمعصية وهؤلاء قد لفظتهم مسيرة العمل الإسلامي المعاصر وحددت موقفها منهم في وقت مبكر .
وعلى هذا فإن تعبير الإسلاميين يقصد به هؤلاء الذين أدركوا شمول رسالة الإسلام للدين والدنيا ، فلم يقفوا عند حدود الجوانب العقدية والتعبدية في الإسلام فحسب ، بل تجاوزوا ذلك إلى الاهتمام بقضية تطبيق الشريعة والسعي إلى إقامة الدين وسياسة الدنيا به ، فهو تعبير لا ينكر على بقيه المسلمين إسلامهم ، وإنما قصد به التعريف بطائفة من المسلمين تميزت بالاهتمام بالجانب السياسي في الإسلام ، وتبنت الدعوة إلى الربط بين الدين والحياة .
لقد ابتدع قاموس الدعاة إلى تطبيق الشريعة بعض المصطلحات الغريبة كإطلاق وصف الجاهلية على المجتمعات الإسلامية المعاصرة بحجة عدم تطبيق الشريعة ، وقد بلغ الأمر ببعضهم مبلغ اتهامها بالكفر والمروق المطلق من الدين ، علما بأن الجاهلية قد انقضى عهدها بظهور الإسلام ، والكفر لا يصح إطلاقه إلا على من فارق الإسلام إلى ملة أخرى كاليهودية مثلا ، فما تعليقكم على ذلك ؟
- الجاهلية حالة نفسية ترفض الاهتداء بهدى الله ، ووضع تنظيمي يأبى التحاكم إلى ما أنزل الله ، والجاهلية قد تطلق ويراد بها الكفر والمروق من الدين ، كما قد تطلق ويراد بها مجرد المعصية والفسوق عن أمر الله ، فهي ليست اصطلاحا مرادفا للكفر في جميع الأحوال ، بل تطلق على العصاة كما تطلق على الكفار ، وهي في كل موضع بحسبه ، فمن إطلاقها على أهل الكفر إطلاقها على الكفار قبل البعثة وعلى الكفار في كل زمان ومكان ، ومن إطلاقها على الفسوق والعصيان قول النبي صلى الله علية وسلم لأبى ذر وقد عير بلالا بأمه : « أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية » (رواه مسلم ) .
قال مجاهد وغير واحد من السلف : «كل من عصي الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب» ، وروى عن ابن عباس قوله : « من جهالته عمل السوء» . وروي أبو قتاده وأبو العالية أن أصحاب رسول الله كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة وكل شيء عصى الله به فهو جهالة »( ) .
وعلى هذا فإن المجتمعات التي لا تحكم بما أنزل الله يصح إطلاق لفظ الجاهلية عليها ، ولا يعنى هذا بالضرورة أن تكون كافرة ، لأن لفظ الجاهلية ليس مرادفا للكفر في جميع الأحوال كما ذكرنا ، بل قد يراد به الكفر وقد يراد به الفسوق والعصيان. والدليل على جواز إطلاق لفظ الجاهلية على الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله قوله تعالى :
] • [ ( المائدة : 05 )
فمن لم يحكم بما أنزل الله كان حاكما بأحكام الجاهلية بنص هذه الأية الكريمة ، ثم قد تبلغ هذه الأنظمة مبلغ الكفر أو لا تبلغ ذلك بحسب درجة مروقها عن الحكم بما أنزل الله .
أما ما ذكرت من الاتهام بالكفر فلا يخفي أن للحكم بالكفر ضوابطه المفصلة التي قررها أهل السنة والجماعة وكانوا بها وسطا بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة ، ولا ينبغى أن يكفر المسلم بكل شبهة عارضة ، كما لا ينبغى أن تعطى شهادات مزورة بالإسلام لمن ستعلنون برفض الشريعة ، والطعن في صلاحيتها ، والتمرد السافر على أحكامها ، وتسويد الصحائف في حربها ، واستباحة دعاتها بغير حق، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه .
أما ما ذكرت من أن الكفر لا يقع إلا بمفارقة ملة الإسلام بالكلية إلى ملة أخري كاليهودية مثلا فهو غلط بين ، لأن هذه صورة واحدة من صور الكفر ، وللكفر صور أخرى متعددة ، فمن كذب بنبي من أنبياء الله ولو بقي على أصل التزامه بالإسلام فإنه يكون كافرا ، وكذلك من كذب بآية من آيات القرآن أو استحل محرما من المحرمات القطعية أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو أبى الانقياد لشريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة . كل هذه صور من الكفر الأكبر ولا يلزم أن يكون أصحابها ممن فارقوا الإسلام إلى ملة أخري .
ولعلك تذكر قصة القوم الذين كانوا يتنقصون أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم بحديث يقطعون به الوقت في السفر ، فأنزل الله تعالى فيهم قوله :
] • [ ( التوبة : 56- 66 ).
ولقد جاءوا يعتذرون إلى النبي صلى الله علية وسلم بأنهم لم يقصدوا حقيقة هذه الكلمات وإنما كانت لمجرد الخوض واللعب والنبي صلى الله علية وسلم يجيبهم بقوله تعالى : ] [
وعلى هذا فقد يكون الكفر بمفارقة الإسلام إلى ملة أخري وقد يكون بإنكار أمر قطعي من الإسلام أو رده ، ولا يزال أصحابه يحسبون أنفسهم في عداد المسلمين . فأسأل الله العافية !
تطبيق الشريعة والعلاقات الدولية
وماذا عن علاقة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة بالمجتمع الدولى ؟ لقد سمعنا من رموز التيار الديني من يعلن الحرب على المجتمع الدولي كله بلا استثناء : لا فرق عنده بين الدول الإسلامية والدول غير الإسلامية ، أما الأولي فلأنها لا تطبق الشريعة ، وأما الثانية فلكفرها وعدم دخولها ابتداء في الإسلام !! ، فكيف يتأتي القبول بهذه المفاهيم الإرهابية في الوقت الذي سادت فيه مفاهيم السلام والحل السلمي للمنازعات الدولية ، والذي عجزت فيه القوي العربية والإسلامية مجتمعة عن هزيمة دولة الكيان الصهيوني ، وتحولت من المطالبة بازالتها إلى القناعة بالتعايش السلمي معها ، وبلغ الأمر ببعض هذه الدول مبلغ الاعتراف الرسمي بها ، وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها ، وتطبيع العلاقات مع شعبها إلى آخر ما تعرفه من هذا المسلسل البغيض ؟!
- الأصل في الدولة الإسلامية أنها ذات رسالة عالمية ، وأنها مخاطبة بتبليغ هذه الرسالة إلى جميع أهل الأرض. وأنها لا تكره أحدا على الدخول في الإيمان ، ولكنها لا تقبل أن يكره أحد على عدم الدخول فيه ، فإن وقفت قوة في الأرض تحول بين الناس وبين الإيمان فقد وجب عليها أن تتعامل مع هذه القوة بالردع المناسب محافظة على حق الإنسان في الاختيار ، وتمكينا له من الدخول في الإيمان إن شاء بلا فتنة يخافها في نفسه أو في عرضه أو في ماله .
ولكن مر تشريع الجهاد في الإسلام بمراحل : ففي البداية كان ممنوعا في مكة ، ولقد لبث النبي صلى الله علية وسلم في مكة بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال من غير أن يفرض عليه . ثم أمر بقتال من قاتل والكف عمن اعتزله ولم يقاتله ، ثم أمر بقتال المشركين كافة حتى يكون الدين كله لله .
وهذا القتال كما سبق ليس للإكراه على الدين ، ولكن لحماية الحق في الاختيار ، وازالة القوة الغاشمة التي تكره الناس على عدم الإيمان .
وكل مرحلة من هذه المراحل تناسب طورا من أطوار الدولة الإسلامية ، وهي على التحقيق باقية لم تنسخ ، ويعمل المسلمون بكل مرحلة إذا وجدت الظروف المشابهة للحالة التي شرعت فيها .
فمن كان بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف عمل بآيات الصبر والصفح والعفو ، وتأسي بأول مراحل الجهاد أو بأوسطها ، ومن كان من أهل القوة عمل بآيات القتال والجهاد وتأسي بآخر مراحل الجهاد . وكل حالة بحسبها .
فإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر . وجدنا أن أقصي ما تتطلع إليه دولة إسلامية في أوضاعنا الراهنة هو الدفاع عن النفس ومقاتلة من جاء يستبيح بيضتها أو يتضرع في حرماتها بغير الحق .
فهي عندما تعلن وقوفها عند حدود الدفاع عن النفس والتزامها بالسلام العالمي فلأن هذا هو أقصي ما تتيحه لها إمكانياتها الحاضرة بل والمتوقعة في المستقبل القريب . فوقوفها عند جهاد الدفاع ليس إنكارا لجهاد الطلب ولكن لتقاصر إمكاناتها دونه .
وقد نص على عدم نسخ مراحل الجهاد وأنه يعمل بكل مرحلة عند تحقق الظروف المشابهة للحالة التي شرعت فيها كثير من أهل العلم ، نذكر منهم الزركشي والسيوطي وابن تيمية وآخرين ( ) .
ولكن التزامها بالسلام العالمي سيتعارض مع ما يصر عليه الدعاة إلى تطبيق الشريعة من عدم مشروعية المعاهدات الدولية الدائمة ، وأنها لا يجوز أن تزيد عن عشر سنوات أسوة بمعاهدة الحديبية ، فما تعليقكم على ذلك ؟
- توقيت المعاهدات الدولية بمدة محدودة من مسائل الاجتهاد . فالحنفية على أنها عشر سنوات ، ويجوز الزيادة عليها إذا كانت المصلحة في ذلك ، والمالكية على أنها منوطة بنظر الإمام ، وعند الحنابلة روايتان : إحداهما على أنها عشر سنوات والأخرى على جوازها بأي مدة مادامت معلومة ، والشافعية على أنها أربعة أشهر إلا لضعف فجوزوا أن تصل إلى عشر سنين ، وقيل بجوازها مطلقا من غير توقيت .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم إلى جواز الهدنة مطلقا من غير توقيت استنادا إلى مصالحة النبي صلى الله علية وسلم يهود خيبر على أرضهم بشطر ما يخرج منها . مطلقا من غير توقيت ، وذكر ابن القيم أن هذا قد نص عليه الشافعي في رواية المزني ونص عليه غيره من الأئمة . ولا يجوز للإمام نقضها إلا إذا آذنهم على سواء ، أي يعلمهم بنبذ عهدهم إليهم إذا وجد من الظروف ما يقتضي ذلك ( ).
وعلى هذا فإطلاق الصلح من غير اجتهاد إسلامي معتبر ، له من عمله صلى الله علية وسلم مع يهود خيبر مستند ، ومن كلام أهل العلم معتضد ، وإذا طرأ ما يقتضي نبذ هذا العهد فيجب أن ينبذ إلى أصحابه على سواء لأنه لا يحل في ديننا الغدر .
أما ما ذكرت من عجز الدول العربية والإسلامية مجتمعة على تحرير القدس وسائر الأرض المحتلة في فلسطين فلما تعلمه من إصرار قادة هذه الدول على إخراج الإسلام من المعركة ، فوقفت العقيدة المدعومة بالقوة أمام العلمانية المنكوبة بالضعف والتخلف ، فتراجعت العلمانية واندحرت ، ويوم أن يدخل الإسلام في هذه المواجهة سيكون لنا مع القوم شأن آخر .
تطبيق الشريعة والمنظمات الدولية
ما مدي شرعية أن تنضم البلاد التي تطبق الشريعة إلى المنظمات الدولية كالأمم المتحدة مثلا؟
- الظاهر في هذه المنظمات أنها تجمعات عالمية تهدف إلى فض المنازعات بالوسائل السلمية ، وتنسيق التعاون الدولي بين الدول الأعضاء في مختلف المجالات العلمية والعملية .
والمسألة في هذا الإطار مما تتسع لها قواعد السياسية الشرعية في الجملة فلقد روي أن النبي صلى الله علية وسلم قال: « لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت » ( ) .
نعم قد تتضمن مواثيق هذه المنظمات بعض القواعد التي لا تتفق مع الشريعة الإسلامية ، ولكن يزول هذا الأشكال إذا نصت الدولة الإسلامية في دستورها على أن التزامها بأحكام الإسلام أسبق من التزامها بأي ميثاق أخر دولي أو محلي ، وأن كل التزام يتعارض مع هذا الالتزام فهو باطل .
فلا تلتزم الدولة الإسلامية في هذه الحالة من مواثيق هذه المنظمات إلا بما يتفق مع المذهبية الإسلامية ، وهذا ليس بغريب في المجتمع الدولي ، فكم من قرارت تجاهلتها كثير من الدول الصغيرة والكبيرة ، ولم تلق لها بالا لتعارضها مع سياساتها ومصالحها المحلية والعالمية !!
تطبيق الشريعة وحقوق الإنسان
وما موقف الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية من المواثيق العالمية لحقوق الإنسان ؟؟
- للإنسان في الشريعة منزلة عالية ، وحقوقه فيها مصونة ومعصومة ، فالدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة أولى برعاية حقوق الإنسان من أي نظام دولي أخر ، إلا أن بعض هذه الحقوق المقررة في المواثيق الدولية لابد من تقييده بأن لا يتعارض مع الشريعة . لأن السيادة العليا في دار الإسلام للشريعة لا غير .
لقد صيغت هذه الحقوق صياغة عالمانية لا تقيم حرمة لكتاب منزل ، ولا لنبي مرسل ، فلكي يصح الالتزام بها والتعاقد على أساسها مع الأخرى يجب أن يضاف إليها هذا القيد ( بما لا يتعارض مع الشريعة ) أو يكتفي بالنص في دستور الدولة الإسلامية بأن التزامها بالشريعة هو الأصل ، وأن كل التزام يتعارض معها فهو باطل .
على سبيل المثال تنص المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الحرية باعتبارها أحد حقوق الإنسان الأساسية ، وذلك في ذاته حق ، فقد قدس الإسلام حرية الإنسان وأحاطها بضمانات شاملة ، ولا تزال كلمة عمر بن الخطاب لواليه على مصر عمرو بن العاص تدوي في سمع الزمان منذ أن قال له (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا ؟!! ) ولكن هذا الحق يجب أن يكون ضمن الأطر العامة التي نظمت بها الشريعة ممارسة هذا الحق ، حتى لا تتحول ممارسته إلى فوضى أو وسيلة من وسائل الهدم والتخريب .
فحرية الاعتقاد لا تعنى حرية الردة عن الإسلام في المجتمع الإسلامي ، كحرية إدعاء الألوهية ، أو ادعاء النبوة ، أو التطاول على المقدسات الدينية ، فقد نص الإسلام على أن من بدل دينه فاقتلوه ، وقال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدي ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة .
والحرية الشخصية في المجتمع الإسلامي لا تعنى كما هو الحال في المجتمعات الغربية حرية الزنا أو حرية اللواط أو حرية نكاح المحارم أو حرية تعاطى الخمور ونحوه .
وإذا كانت المادة 61 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على حق الرجل والمرأة متي بلغا الزواج في التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين فإن ذلك لا يجوز تفسيره في المجتمع الإسلامي بأنه ييبح نكاح المسلمة من غير المسلم بعد أن فصلت الشريعة في ذلك بنصوص قاطعة .
و القاعدة الجامعة في ذلك كله أن للدولة الإسلامية أن تتحالف في حدود المذهبية الإسلامية مع أي تجمع من التجمعات البشرية على عمل من أعمال الخير تقدر أنه يعود عليها بالمصلحة و تقدير ذلك متروك إلى أهل الشورى (*).
و لكن ألا يتناقض حد الردة مع حرية الاعتقاد ، و منع المسلمة من الزواج من غير المسلم مع حق المساواة ؟
- لقد أراد الإسلام بتشريع حد الردة حماية هذه الحرية من العبث ، و صيانة الأديان عن أن تكون مطية لأصحاب الأهواء و النزوات و لهذا فهو يقرر من البداية " لا إكراه في الدين " فللمرء أن يبقى على غير الإسلام في المجتمع المسلم ، و تعقد له الذمة التي يعصم بها دمه و ماله و عرضه و حسابه يوم القيامة على الله ، فإذا أراد أن يدخل في الإسلام فإن عليه أن يفكر مليَّا قبل أن يدخل ، و أن يناقش كافة الشبهات و ينشد اليقين ما استطاع حتى إذا ما اعتنق الإسلام اعتنقه عن قناعة كاملة و يقين مطلق ، فلا يبقى متذبذبا بين الديانات ، و لا يجعل من الانتساب إلى إحداها ذريعة لتحقيق بعض الرغبات .
و لكن قصارى ما يفعله حد الردة أنه يمنع من الإعلان بالكفر و يحول الراغبين في الارتداد إلى منافقين أو زنادقة و هم أخطر على الإسلام من الكفار الأصليين ؟
- إن الإسلام بإعلانه عن حد الردة يمنع من دخول هؤلاء إلى الإسلام من البداية ، و يحكم لهم على الاحتياط لأنفسهم ، قبل المسارعة إلى اتخاذ القرار ، إن الأغلب في هؤلاء أنهم كانوا منافقين في دياناتهم أو زنادقة فإذا تحولوا إلى الإسلام أصبحوا منافقين بين البراءة من النفاق و الدخول في الإسلام، أو الابتعاد عن الإسلام ابتداءً فيبقى على نفسه و يبقى على الإسلام .
و بعد ..فإن كافة الدول المعاصرة تعاقب على جريمة الخيانة العظمى بالإعدام ، و الخيانة العظمى عندهم هي التآمر على سلامة البلاد ، لأن البلاد أو النظام عندهم هو أسمى قيمة تقدسها الدولة ، و لما كان الإسلام هو القيمة العليا في الدولة الإسلامية كان العدوان عليه بالردة من جنس الاعتداء على سلامة الدولة في الأنظمة العلمانية بالتآمر فيكون الإعدام جزاء مناسبا في الحالتين .
و ماذا عن منع المسلمة من الزواج بغير المسلم في الوقت الذي يباح فيه زواج السلم بغير المسلمة و علاقة ذلك بالمساواة .؟
- الأصل في الإسلام أن الناس جميعا سواسية أمام الشريعة « لا فضل لعربي على أعجمي إلا و لا عجمي على عربي و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلا بالتقوى » ( ) . و لا نميز بين الأفراد في تطبيقها عليهم « لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها » ( ) و لا في حمايتها إياهم قول أبي بكر عندما تولى الخلافة « أ لا إن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق له ، و أقواكم عندي الضعيف حتى أخذ الحق منه » .
أما ما ذكرت من أن منع المسلمة من الزواج بغير المسلم عدوان على حق المساواة لاسيما و قد قررت الشريعة إباحة زواج المسلم من أهل الكتاب فإن هذا عند التحقيق عين الرحمة و عين المحافظة على حقوق الإنسان ، فالمسلم حينما يتزوج بغير المسلمة فإن هذا يتيح لها عن كثب أن تطلع على سماحة الإسلام و صدق دعوته و عصمة كتابه الأمر الذي قد يمهد به سبيل إلى دخولها في الإسلام فتعتق بذلك رقبتها من النار .
و الأولاد المرجون من هذا الزواج سينشئون في كنف أب مسلم فينشئون على الإسلام فتعتق بذلك رقابهم من النار و يفوزون بجنة الخلد و نعيم الأبد .
أما في الصورة المقابلة إذا تزوجت المسلمة بغير المسلم ، و المرأة ضعيفة بطبعها ، و لقوامة الرجل عليها تأثير في تقديرها لأمور فقد يحملها ذلك على متابعته على كفره ، أو بالأقل على هجر دينها فلا إلى المسلمين و لا إلى أهل الكتاب فنكون قد عرضنا تلك النفس للفتنة و التهلكة و تنطبق نفس هذه المقولة على ما سيتمخض عنه هذا الزواج من الأولاد ، لأنهم سينشئون في كنف أ ب مشرك و سيكون حريصا بطبيعة الحال على اجتذابهم إلى ملته ، فينشئون على الكفر فنقدمهم بذلك وقودا إلى النار .
إن من حقوق الإنسان أن نحول بينه و بين ما يهلكه ، فإذا رأينا إنسانا على و شك الانتحار فمن حقه على المجتمع من حوله أن يحول بينه و بين ذلك حماية لحقه .
و من هنا منعت الشريعة زواج المسلمة بغير المسلم لأنه شروع في عملية انتحار ديني سواء بالنسبة لها أو بالنسبة لذريتها المرجوة في المستقبل ، و هو انتحار تفوق جسامته جسامة الانتحار المادي بالقتل و نحوه ، فمن حقها على المجتمع المسلم أن يحول بينها و بين هذه النهاية البئيسة حماية لحقها في الإيمان و حقها في النجاة في الآخرة .
تطبيق الشريعة و التدرج
ما مدى قبول الاتجاه الإسلامي بالتدرج في قضية تطبيق الشريعة ؟
- لا خلاف على مراعاة مبدأ التدرج عند تطبيق الشريعة ، و هو تدرج في التنفيذ و ليس تدرجا في التشريع ، لأن التشريع قد تم و اكتمل باكتمال الدين و وجه ذلك التدرج أننا نعالج فتنا و تراكمات شب عليها الصغير و شاب عليها الكبير فقد أحدثت هذه العلمانية في الإسلام فتوقا واسعة و لابد في معالجتها من الأناة و الروية ، و من الشواهد التي تذكر في هذا المقام أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة و ورث تركة مثقلة من مظالم بني أمية قال له و لده الصالح عبد الملك : مالك لا تنفذ الأمور ؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي و بك في الحق ، فكان جواب الخليفة الراشد: لا تعجل يا بني ، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين و حرمها في الثالثة ، و إني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة و يكون من ذا فتنة (*) .
لا منازعة إذن في مبدأ التدرج لمعالجة الفتوق العظيمة ، و لكن المنازعة مع هؤلاء الذين يجعلون من هذا التدرج ذريعة لتعطيل العمل بالشريعة و تجميد أحكامها بصفة نهائية ، فإن سئلوا قالوا : التدرج و الحكمة و المواءمات السياسية ، و الله يعلم أن القضية ليست قضية تدرج و إنما هو أمر بيت بليل ، و انهم تقاسموا على أن لا يتقدموا خطوة واحدة نحو الإسلام و إنما هي كلمات هم قائلوها لتكون ملهاة للجماهير و تخديرا لمشاعر الشعوب .
فالتدرج المقبول هو التدرج المجدول المبرمج الذي ينطلق من خطط و برامج جادة و يرتبط بمراحل زمنية محددة فلا يمر على أصحابه يوم إلا و قد تقدموا خطوة نحو الإسلام لتنهض شاهدا عدلاً لهم على ما يدعون .
على من تقع المسئولية
إذا كانت قضية تطبيق الشريعة هي المحور الذي تلتقي حوله كافة فصائل التيار الإسلامي ، و تزعم جميعا أن تطبيق الشريعة هو سند الشريعة الوحيد للأنظمة الحاكمة ، و أن تعطيلها يؤدي إلى انهيار شرعية هذه الأنظمة من الأساس ، فعلى من تقع مسئولية هذا التطبيق بالتحديد ؟ على السلطة الحاكمة ؟ أم على المجالس النيابية ؟ أ/ على الأفراد و المؤسسات ؟ أم على كل هؤلاء ؟ و إذا كانت الأخيرة فما دور كل منهم بالتحديد في هذه القضية ؟
- تتوقف الدقة في الإجابة على هذا السؤال على معرفة المقصود بالشريعة في سؤالك على و جه التحديد ، ذلك أن من الناس من يختزل الشريعة في تطبيق الحدود فتصبح حينئذ مسئولية المؤسسات الدستورية في الدولة كالمجالس النيابية و السلطة التنفيذية و نحوها ، و لكن تقديم القضية على هذا النحو يتضمن مغالطة كبرى ، لأ، الشريعة ليست منهجا عقابيا فحسب ، و لكنها منهج شامل للحياة يمثل النظام العقابي جانبا من جوانبه و ركنا من أركانه ، و إنها كما سبق القول تنتظم العقائد و العبادات و الأخلاق و المعاملات و تطبيق الشريعة يعني إقامة كل هذه الجوانب ، دعوة إليها باللسان وز حماية لها بالسلطان و ردعا للخارجين عليها ، فهو يعني على الجملة حراسة الدين و سياسة الدنيا به ، و حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في أمورهم الدينية و الدنيوية ، و هذا هو مفرق الطرق بين النظام الإسلامي و الأنظمة العلمانية المعاصرة .
و إذا تقرر أن الشريعة هي ما شرعه الله كافة لعباده من الدين و أنها بهذا المعنى تنتظم جوانب الإسلام العلمية و العملية جميعا لم يعد تطبيقها قاصرا على جهاز دون جهاز و لا على فريق دون فريق ، بل هي مسئولية الأمة حكاما و محكومين أفرادا و مؤسسات ، معارضة و حكومة ، لا يستثنى من هذه المسئولية أحد ، و هي من كل بحسبه ، و إن كانت المسئولية تتضاعف على الحاكم نظرا لما يتاح له باعتبار موقعه من صلاحيات و سلطات واسعة فالرجل في بيته راع و هو مسئول عن إقامة الإسلام في هذا البيت ، و المؤسسات الإدارية و الاقتصادية راعية فيمن أنتسب إليها من العاملين و هي مسؤولة عن تطهير برامجها مما يخالف الإسلام من ناحية ، و عن إقامة منسوبيها على الإسلام من ناحية أخرى، و المؤسسات الحاكمة راعية و هي مسئولة عن حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في أمورهم الدينية و الدنيوية ، و مسئولة كذلك عن إزالة العقبات و تذليل الصعوبات التي تحول بين الناس و بين إقامة الدين و التحاكم إلى ما أنزل الله ، إن إقامة الشريعة هي إقامة الدين فهل يستثنى أو يعفى من المسئولية عن إقامة الدين أحد ؟
و لكن كيف تسهم المؤسسات الإدراية و الاقتصادية بدورها ف بقضية تطبيق الشريعة و هي محكومة بأنظمة الدولة و قوانينها السارية ؟
- الأصل في ذلك قوله تعالى : " فاتقوا الله ما استطعتم " " التغابن : 16" . و القاعدة الأصولية التي تقضي بأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، و ما لا يدرك كله لا يترك جله ، فالمدير الذي يقيم الصلاة في مؤسسته ، و يخصص لذلك وقتا و مكانا ، و يحث العاملين على ذلك يمارس دوره في قضية تطبيق الشريعة ، و هو عندما يحث العاملات في مؤسسته على الحجاب و يقدم لهن التسهيلات التي تشجعهن على إقامة هذه الفريضة فإنه يسهم بذلك في قضية تطبيق الشريعة .
و عندما يحيى التكافل الاجتماعي بين العاملين لديه ، و يبدأ في ذلك بنفسه و يجدد ما تقطع بين الناس بفعل هذه المدنية الظلوم من وشائج المودة و أواصر الرحم و نحوها فيحمل قويهم ضعيفهم و يكفل غنيهم فقيرهم فإنه يسهم بذلك في قضية تطبيق الشريعة و هكذا .
و الخلاصة أنه لا يفرط في تطبيق الشريعة فيما يدخل تحت ولايته من الأعمال تعللا بتعطيلها فيما يدخل تحت ولاية الآخرين ، فإن الله سيحاسب كل إنسان عما كسبت يداه ، و لا يحاسبه إن قام بواجب النصيحة عما كسبت أيدي الآخرين .
] • • [ ( )