صدام الحضارات..البحث عن جذور إغريقية

صدام الحضارات..البحث عن جذور إغريقية

أ. أحمد بركات

برزت على الساحة الفكرية في العقد الأخير من القرن الماضي تنظيرات أثارت موجات من الجدل وعاصفة من الرفض، حيث انضوت على تفسيرات ساذجة للعلاقة بين الشرق والغرب من أجل خدمة أهداف سياسية.  فقد كتب "فرانسيس فوكوياما"، الذي كان يعمل مديرا لدائرة التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية مقالته الشهيرة عن "نهاية التاريخ" End of History، التي لم تلبث أن تحولت إلى كتاب تنظيري ترجم لعشرات اللغات وأطرت لوقوف عجلة التاريخ عند الرأسمالية وأبديتها، وتحول العقيدة السياسية للعالم إلى الوجهة الليبرالية.

ثم جاء السيناتور وعالم السياسة الأمريكي "صمويل هنتنجتون" بمقولة "صدام الحضارات" في مقالة استعار فكرتها من أستاذه "برنارد لويس"، ونشرها على صفحات المجلة الأمريكية الشهيرة "فورين بوليسي" Foreign Policy، ثم لم يلبث أن حولها أيضا إلى كتاب تنظيري بعنوان "صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي" The Clash of Civilizations & the Remaking of World Order  عام 1996، والذي قسم فيه العالم إلى سبع حضارات، وجعل من الحضارة الإسلامية العدو الأول للغرب، بعد تهاوي مقولات الماركسية وانهيار الاتحاد السوفييتي، ثم قدم الحضارة الكونفشيوسية كعدو احتياطي.   

في انتظار البرابرة

غير أن هذه المقولات لم تثبت كثيرا أمام الموضوعية الفكرية في الشرق والغرب، وتراجع من تحمسوا لها تحت ضغوط متغيرات السياسة.. وضمن مشروع فكري يقدمه موقع History & Policy، بالتعاون مع موقع Open Democracy، بعنوان Lest We Forget "لكي لا ننسى"، والذي يتم خلاله دعوة مجموعة من المؤرخين للتأمل في الحروب والنظريات الصدامية الغابرة، ورصد علاقتها بالصراعات الآنية عبر سلسلة من المقالات البحثية، صدر مؤخرا منها، في سبتمبر 2010، مقالة هامة بعنوان : "الوهم و الحقيقة.. صدام الحضارات من اليونان الكلاسيكية حتى اليوم"، لبيان زيف دعاوى النظريات الصدامية، وانفصالها عن الزمان والمكان منذ عهد الإغريق وحتى اليوم. 

وقبل الخوض في عرض المقالة، أجد مناسبا التأكيد على تهاوي هذه المقولة ذاتيا من خلال أبيات من القصيدة اليونانية الشهيرة "في انتظار البرابرة"، للشاعر الأشهر في اليونان المعاصرة "قسطنطين كافافي" (1864 ـ 1933)، والذي برع دائما في التجسير بين الماضي والحاضر "فالتاريخ بالنسبة لكافافي"، كما يؤكد الكاتب الفرنسي "جورج كاتاوي"، "هو ذلك التفاعل بين الماضي و الحاضر، حيث يعمل الماضي في الحاضر و المستقبل، ... وهو يعيش التاريخ كما لو كان امتداده الشخصي ضمن زمان أكثر اتساعا.." وتبلور هذه القصيدة بجلاء فكرة التلويح بـ "البرابرة"، وتوظيفها براغماتيا لتحقيق مرامٍ سياسية من دون وجود حقائق تستند إليها هذه القراءات في تحديد المسار التاريخي، ومن ثم المستقبلي، لعلاقة الشرق بالغرب. يقول الشاعر اليوناني:

انتشرت إشاعة في المدينة أن البرابرة قادمون لغزوها

وانبرى الحاكم .. مرتدياً بزته العسكرية المرصعة بالنياشين

وكذلك أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان

وهرعوا جميعاً إلى الحدود

حتى يكونوا في استقبالهم والترحيب بقدومهم لغزو المدينة

وانتظر الحاكم والزعماء السياسيون والأعيان

منذ الصباح الباكر حتى المساء

ولكن البرابرة لم يظهروا في الأفق

وقال الحاكم وهو ينصرف كسيف البال:

لم يأت البرابرة..

مع أن قدومهم كان حلا من الحلول!! 

إن الوعي الجمعي الغربي يعاني إشكالية في علاقته بـ "البربر"، أيا كان هؤلاء "البربر"، في اللاشعور يتم استدعاؤها- كما تؤكد القصيدة التي عرضناها والمقالة التي سنعرض لها- في لحظة تاريخية بعينها، وتوظيفها براغماتياً لخدمة مشروع سياسي بعينه من دون أن يكون لهذا الخوف أصل في جوهر العلاقة.

 كما أن هذه القراءات الصدامية تروق لأنصار الخصوصية الحضارية والقومية المتطرفة والنزعات الأصولية الذين أثبتوا نجاحات باهرة في الهيمنة على العقل الجمعي عبر هذا الباب، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار أنها تضع الصدام في إطار نظريات "المتتالية الحضارية"، والتي تزعم أن حضارة "الآخر" لن تقوم إلا على أنقاض حضارتنا "نحن"، وأن هذا الصراع لا يمثل تطورا مرحليا لتدافع الرؤى وتعدد الأيديولوجيات، لا يلبث أن ينتهي ليأخذ التاريخ مساره الطبيعي في التكامل بين الحضارات، وإنما في إطار تفوق الغرب الأبدي على الشرق، والتكثيف التاريخي لسياقات معينة وتفسيرها على نحو يضمن استثارة المشاعر وشحذ العواطف ضد "الآخر".  

ويسخر "فريد هاليداي"، أستاذ العلاقات الدولية بمدرسة لندن، من هذه القراءة الاختزالية لعلاقة معقدة ومتشابكة، والتي تريح صاحبها من "التحليل الرصين للظواهر المتعددة التي تحدث داخل المجتمعات، وللعلاقات التي تنشأ بين الدول".

الأسطورة اليونانية وصدام الحضارات

تؤكد الكاتبة "نويز ماك سويني"، المؤرخة المتخصصة في التاريخ القديم، وأستاذة التاريخ القديم بمدرسة الآثار والتاريخ القديم بجامعة ليسستر، في تقديمها للمقالة على "سنّة" علمية سار عليها المفكرون في الغرب هي التأصيل التاريخي لمقولات الصدام الحضاري وربطه باليونان الكلاسيكية، ولكنها سرعان ما تنفي إمكانية هذا التأصيل العلمي لفكرة "عبثية التجسير بين الغرب والآخرين The west and the Rest (هذا التعبير استخدمه صمويل هنتنجتون في كتابه المشار إليه سابقا) في الحضارة اليونانية الغابرة وفي الحضارة الغربية الراهنة على السواء." وتؤكد على أن هذه الفكرة "تمثل توجها في الخطاب السياسي، أكثر منها توصيفا موضوعيا لحقائق التاريخ."

تتجه "ماك سويني" سريعا إلى الحاضر لتؤكد شيوع الخطاب التصادمي في الواقع السياسي العالمي في مناسبات بعينها، فعلى صعيد السياسات الداخلية، يُستدعى الخطاب التصادمي عند إثارة موضوعات الهجرة أو اندماج الأقليات، أما على الصعيد الدولي، فيمثل هذا الخطاب ركنا ركينا في نقاشات الحروب التي تقودها الولايات المتحدة ضد العراق وأفغانستان، أو في الحديث عن الدول الإسلامية التي تقع داخل دائرة "محور الشر"، بحسب التصنيف الغربي طبعا، مثل إيران.

وتستدعى الحضارة اليونانية، بكل ما تحمله من قيمة فكرية، وتاريخية لتمرير هذه المقولة ولتجذير الصراع التاريخي بين أوروبا وآسيا، وبين الشرق والغرب، وبين "نحن" و"هم"، والتأكيد على أن تاريخية هذه الثنائية من تاريخية الحضارة البشرية ذاتها.

وللتأكيد على زيف هذه الادعاءات تؤكد الكاتبة ابتداء أن الفلسفات السياسية الإغريقية كانت أكثر عمقا، وربما تعقيدا، من توظيفها على هذا النحو. ففكرة "الشرق مقابل الغرب" كانت واردة في الفكر الإغريقي، ولكنها لم تكن أكثر من خيط واحد ضمن شبكة معقدة في الخطاب السياسي اليوناني.

أما عن كتابات الأسلاف المفكرين في الحقبة اليونانية الكلاسيكية التي يتكئ عليها أنصار مقولات الصدام الحضاري الحداثية فقد أخذت في البداية شكل الأسطورة التي تحكي قصة "أوروبا" ابنة الملك الفينيقي (لبنان اليوم). تقول الأسطورة إن "زيوس" (أحد شخصيات الميثولوجيا الإغريقية، وهو إله السماء والرعد، وأكبر الآلهة الأولمبية ـ نسبة إلى جبل أولمبوس ـ والذي اعتبر في بعض الفترات الإله الأوحد ومصرّف شؤون الكون حسب اعتقادهم)  صور نفسه في هيئة "ثور" لإغواء "أوروبا"، و حملها عبر البحر إلى القارة المهجورة "قارة أوروبا" لتضع هناك نسلها الأول من "الأوروبيين الأوائل".

أدى هذا الحادث إلى سلسلة من عمليات اختطاف النساء العابرة للقارات بين الآسيويين والأوروبيين كان من أبرزها اختطاف "هيلين" أميرة طروادة. ولعل هذه العمليات المتبادلة هي الشرارة الأولى، بحسب المؤرخ الكبير "هيرودوتس" في العداء، أو حتى الكراهية، بين الآسيويين والأوروبيين، والتي أدت بعد ذلك إلى اندلاع الحروب الفارسية اليونانية على مدى خمسين عاما (499 ـ 449 قبل الميلاد)، والتي شهدت وقوف كونفدرالية مصغرة من المدن والولايات اليونانية في وجه الإمبراطورية الفارسية العظمى آنذاك.

كانت الحروب الفارسية-اليونانية نقطة تحول في تاريخ اليونان؛ فعلى الرغم من أن هذه الحروب لم يكن لها فضل كبير في تغيير الخارطة السياسية لمنطقة البحر المتوسط، إلا أنها مثلت لبزوغ حقبة أيديولوجية جديدة تقوم على خطاب الوحدة الإغريقية. و ظهرت لأول مرة في الكتابات اليونانية الثنائية النماذجية حيث تمثل الأولى اليونان الفاضلة المحبة للحرية، في مقابل النموذج الفارسي الاستعبادي الضعيف، والتي مثلت لظهور ثنائية "الأوروبيين" في مقابل "البربر".

في هذا السياق ظهرت فكرة الصدام الحضاري بين أوروبا وآسيا، أو بين الشرق والغرب، أو بين الآريين وغير الآريين. ولاقت هذه الفكرة رواجا بفعل عوامل عدة. فقد عمد الفن اليوناني إلى تصوير غير اليونانيين بشكل تهكمي، وأبدع فنانو بعض المدارس في وضع غير اليونانيين جميعا في سلة إثنية واحدة حيث أصبح كل "آخر" ينتمي إلى الحضارة الفارسية الشرقية، برغم تنوع الحضارات آنذاك. فالجميع فارسي (آخر) في الملامح والهيئة واللباس. بل أن علوم الطب قد قدمت لتصورات الصدامية الحضارية أسسا علمية استعارية عبر نظريات الحتمية البيئية بأن جعلت الآسيويين أو الشرقيين في مجملهم، بحكم عوامل الطبيعة والمناخ، أكثر ضعفا و تخنثا من اليونانيين الأوروبيين الذين منحتهم الجغرافيا والبيئة قوة وصلابة!!    

التاريخ وطروحات التصادم

وعلى الرغم من ذيوع هذه الفكرة، وما لاقته من قبول واستحسان وما صادفته من هوى لدى البعض لإثباتها التفوق الإثني والحضاري للإنسان الغربي، إلا أنها لم تمثل ملمحا أصيلا في الفكر الإغريقي في تصوره للآخر. وبعبارة أخرى كان هذا التصور التصادمي بدعة من بدع سياق تاريخي معين في لحظة تاريخية بعينها (القرن الخامس)، أكثر من كونه مكونا هيكليا في الفكر السياسي اليوناني. بل تذهب "ماك سويني" إلى أن هذه الفكرة، حتى في أوقات أوجها، لم تتعد أن تكون واحدة من مئات النظريات السياسية المتنافسة، ولم تكن يوما هي النظرية المهيمنة على العقل السياسي اليوناني في علاقته بالآخر.

وبرغم روايات "هيرودوتس" المتعددة عن الصراعات "العالمية"، إلا أنه يعرض لمقاربة تاريخية تؤكد على تصور غير صدامي في العلاقة بالآخر. لقد أثبت هيرودوتس ولعاً تأريخيا بتمجيد أفعال الشرقيين لا يقل عن ولعه بتمجيد أفعال اليونانيين، فقد تزاحمت بصورة ملحوظة في تأريخه للإمبراطورية الفارسية الأفعال النبيلة التي وصلت لمقام "النموذج والقدوة" التي تمثلها واحتذى بها اليونانيون في مسالكهم وأعمالهم.

ومن الأمثلة التي أوردها هيرودوتس على واقعيته في التأريخ للآخر، رواية النبلاء الفارسيين الثلاثة (ربما تكون هذه الرواية من القصص الرمزي) الذين انخرطوا في جدل سياسي على الطراز الإغريقي حول نظم الحكم الأكثر فعالية حيث نافح أحدهم عن الحكومة الملكية، بينما ذهب الآخر إلى النظم الشمولية، في حين أيد الثالث النظام الديمقراطي.

والحقيقة أن هذا المشهد يعرض لقضية هامة تخص الواقع السياسي "الدولي" في تلك الحقبة. فعلى نقيض الصورة الشائعة عن الإمبراطوريات والدول الأخرى في العصر الإغريقي، والتي كانت ترزح تحت نير النظم الشمولية وتجتر مرارات حكم الفرد، يرمي "هيرودوتس"، من خلال هذا المشهد الذي يقوم فيه فارسيون ثلاثة بدور البطولة، إلى تأكيد معاني المساواة في صورة اهتمام "إنساني عام" بالقضايا الكبرى وإبراز التكافؤ العقلاني في تباحث هذا النوع من القضايا، وعدم وجود ثنائية "إنسان النخبة" الذي يملك الوصاية الحضارية  وأدوات المصير، و"البربر" الذين يقعدون على الطرف الآخر مستقبلين وتابعين.

ويؤكد هذا المعنى العديد من المؤرخين والمفكرين في اليونان القديمة والمعاصرة، حتى أن "ثيوسيديدس"، وهو أحد أكبر المؤرخين المحافظين، يرى أن عبارة "هيلينيين" هي بدعة حديثة، ويؤكد أصالة وتاريخية مفاهيم واصطلاحات أخرى متجاوزة لمفاهيم الصدام الحضاري ومؤكدة لقيم المساواتية الإنسانية في الدم والميراث الحضاري وتجاوز تصورات التمييز الإثني والعقلاني.

بالإضافة إلى الواقع الثقافي، لم يحظ التصور التصادمي بحظ وافر في الحياة اليومية في اليونان القديمة التي كانت تعج بالبضائع والتكنولوجيا والطقوس الدينية الشرقية. ففكرة "كوبيلي" Cybele (الإلهة الأم) كانت مستوحاه من "فريجيا" (بتركيا)، كما أن "ديونسيوس" (إله الخمر) قد أخذ عن الحضارة الهندية. كذلك انتشرت أدوات التفاخر والرفاهية والفنون والعمارة الفارسية بزخم كبير بين الطبقات المختلفة في اليونان الكلاسيكية.

ومن الإثراء الثقافي والحياتي، إلى التعاون السياسي والعسكري بين الشرق و الغرب. ففي ذروة الحروب الفارسية - اليونانية اختارت بعض المدن اليونانية، مثل طيبة ودلفي الوقوف إلى جانب الفارسيين ضد الحلفاء اليونانيين؛ بل ذهب "كسينوفون" المؤرخ والكاتب الفلسفي اليوناني إلى أن المحاربين الإسبرطيين الشجعان انضموا إلى الجيش الفارسي كمرتزقة بعد معركة "ترموبيل"، وذلك بعد أقل من قرن على نشوب الحرب. وعندما اندلعت المعركة بين أثينا و إسبرطة (431 ـ 404 ق.م.) سعى الطرفان الإغريقيان إلى التحالف مع الإمبراطورية الفارسية والحصول على دعمها المادي وخدماتها العسكرية.

و تخلص المقالة بعد هذا الفيض من الحقائق التاريخية إلى أن "صدام الحضارات" لم يكن ملمحا أصيلا في صياغة الحياة الفكرية والسياسية فضلا عن الحياة الأدبية واليومية في اليونان القديمة، وإنما مجرد خطاب سياسي يوظف في لحظة تاريخية بعينها، وليس توصيفا علميا للعلاقة المعقدة والممتدة بين الشرق و الغرب.

وما أشبه الليلة بالبارحة، فاليوم، بحسب الكاتبة، قد يبرز الخطاب التصادمي على السطح، وتدفع عجلته المصالح الوقتية، "ولكننا عندما نبحث في دواخلنا، نجد أن هذا الخطاب غريبٌ عن المناخ الثقافي العام للقرن الحادي والعشرين وعلى تعقيدات سياساته الدولية، وحتى على أنماط وأساليب حياتنا اليومية."

المصدر: موقع إسلام أنلاين.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك