الرحمة والسماحة في شخصيته صلى الله عليه وسلم مع المرأة

الرحمة والسماحة في شخصيته صلى الله عليه وسلم مع المرأة

 

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
فيضٌ من الرحمة تراه في قسمات وجهه الوضاء، في سكناته وحركاته، في صمته وكلماته، رحيم مع القريب والغريب، مع العدو والصديق، مع الأسير والطليق.
هذا الانسان الذي تعجز عن وصفه الكلمات، جاء بمنهج شامل للحياة. الرحمة ركيزة من ركائزه. علّمنا بمواقفه العظيمة كيف نغزل شباك الرحمة وننسج منها ثوباً، نهديه إلى من حولنا؛ ليتحول العدو إلى حبيب بتلك اللمسة الحانية.
ولو أحببنا أن نغوص في أعماق هذا البحر لوجدنا الكثير والكثير مما تعجز عن احتوائه هذه الوريقات القليلة، وكفاه أن قال فيه ربه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
وكأن رسالته الخاتمة جاءت في حقيقتها من أجل الرحمة.
وللرحمة عند المصطفى صلى الله عليه وسلم مظاهر شتى ومتعددة. وسنعرض لبعض من هذه المظاهر. وما هذه اللمحات سوى غيض من فيض لمن أراد أن يعرف نبذة عن أرحم الخلق أجمعين.
الرحمة مع المرأة:
المرأة في حياة النبي لم تكن كما مهملا كما يتصور البعض، بل كانت كياناً له قدره ومكانته. بيد أن هذا المخلوق تعرض إبان فترة الجاهلية لتجاوزات رفضها الشرع وحرّمها واستنكرها. وجاءت لمسات نبينا الحبيب تمسح (برقّة) آثار هذه القسوة التي استوطنت قلوب الرجال في المجتمعات الجاهلية، ولترسل إشارات واضحة لكل مجتمع، ولو كان مجتمع عصر الذرة والوصول إلى الفضاء. رسالة مغزاها أنك أيها الرجل لن يمكنك أن تمتلك قلب ومشاعر المرأة سوى بالرحمة. فهانحن نراه في خدمة أهل بيته دوما، وكأنه يريد أن يخفف عنهم وطأة متاعب أشغال المنزل. هذه الأعمال التي يأنف معظم الرجال أن يعيروها قدرا من تعاونهم، كانت أمراً طبيعيا في حياته صلى الله عليه وسلم.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيما بالمرأة، ويوصي بالرحمة بها، بل كان يشفق على المرأة حين يسرع الحادي في قيادة الإبل التي تركبها النساء، فيقول له: رفقا بالقوارير.
فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان هناك غلام اسمه أنجشة يحدو بهن (أي ببعض أمهات المؤمنين وأم سليم) فاشتد بهن في السياق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير." (رواه البخاري).
هكذا كانت رحمة النبي بالنساء؛ يوصي الحادي ألا يسرع بهن. وما الإسراع بهن شيء يذكر بجوار ما تلاقيه المرأة من معاناة في حياتها من غلظة رب بيتها في أحيان كثيرة.
وترى ما هذا الوصف الدقيق الذي وصف به المرأة؟ لقد شبه النساء بالقوراير: سريعات الكسر، بطيئات الجبر، في حاجة دائمة إلى الرفق والرحمة، وكأنه يرسل إشارات واضحة لكل رجل مغزاها: إن كان نبيك يوصي بالرحمة في السير بالنساء، فكيف تكون الرحمة بهن في مختلف نواحي الحياة؟
وكان النبي إذا دخل بيته، بادر بالسلام، وإذا دخل ليلاً، خافت به حتى لا تستيقظ زوجته إن كانت نائمة. كما ورد في حديث المقداد قال: "فيجيء من الليل فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان." (رواه مسلم).
نوع آخر من الرحمة يظهر في حياة النبي؛ رحمة تتمثل في تقدير النواحي النفسية للآخرين، وهذا النوع من الرحمة نادر الوجود حقا.
كلنا يعرف أن المرأة تمر بأيام يختل فيها نظام الهرمونات لديها؛ فترة يصفها أهل العلم بأنها أصعب الفترات في حياة المرأة .
هذه الفترة لا يقدرها الرجال في أيامنا هذه، بل يزيدون من ضغوطهم على المرأة بغير قصد، وربما يغضبون حين يجدون من المرأة تغيرا في السلوك، ويصفونها بالمتقلبة وبالعبوس.
في هذه الفترة، نرى أنوار رحمته تفيض على زوجته عائشة، حين تشرب فيبحث عن موضع شفتيها ليشرب منه. وكأن لسان حاله يخبرها بأنه إلى جوارها، يحنو عليها، ويحبها، ويقدر ما هي فيه من ألم نفسي وعضوي. وهذا في حد ذاته قمة الإنسانية؛ أن تحتمل من تحب في لحظات ضعفه وتحنو عليه وترحم آلامه، لا أن تتجاهل مشاعره أو تضغط عليه وتحمّله عبئاً فوق عبئه.
ومن رحمته، أنه كان لين الطابع مع أهل بيته، كما أخبرتنا السيدة عائشة رضي الله عنها- تقول: "كنت إذا هَوَيْتُ شيئاً تابعني - صلى الله عليه وسلم- عليه. كنت أتعرق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه. (رواه أبو داود).
وفي حديث آخر، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "وكان يتكئ في حجري ويقرأ القرآن." (رواه البخاري).
وربما انتاب المرأة القلق على حياتها مع من تحب. فطبيعة المرأة النفسية تجعلها قلقة من حين إلى آخر على مكانتها لدى زوجها، وعلى مشاعر زوجها تجاهها مما يجعلها تبدي أنواعا من السلوك لا تتفق مع طبيعتها التي اعتادها زوجها.
ودواعي الرحمة تقتضي أن يبث الزوج مشاعر الاطمئنان في قلب زوجته، حتى لو كانت ظنونها لا أساس لها من الصحة، لا أن يصفها بالقلقة أو المتشائمة، أو أن يستغل هذا القلق لصالحه فيزيد من قلقها من أجل استمتاع يجده في قلقها على مكانتها لديه.
فالمرأة تبحث دوما عن الأمان، وربما تحاول أن تنتزع كلمة من زوجها تؤكد لها استمرار ذلك الأمان.
وهذا ما كان مع السيدة عائشة، حين حدّثت الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا طويلا وهو حديث أم زرع وهو: أن إحدى عشرة امرأة تعاهدت وتعاقدت أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فوصفت كل واحدة منهن زوجها، فكانت أحسنهن وصفاً لزوجها وأكثرهن تعداداً لنعمه عليها، زوجة أبي زرع، غير أن أبا زرع طلقها في نهاية المطاف.
هذا الحديث الطويل الذي لو قصّته زوجة على مسامع زوجها، فلربما تضايق من طوله، وربما استدار وانشغل عنها بشيء آخر، أو ربما لم ينتبه إلى الرسالة التي تريد أن ترسلها زوجته إليه. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر بقلبه الرحيم وبعقله الراجح بما يدور في خلد زوجته، فاستمع وأحسن الاستماع ثم أكمل الحوار معها ممسكا خيوط الرحمة قائلا لحبيبته عائشه: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع، غير أني لا أطلقك."
ياله من ذكاء وفن للتعامل مع المرأة برحمة وتقدير لمشاعرها ونفسيتها في شتى الظروف والمواقف. يعرف ما يثير قلق زوجته فيرحم ضعفها تجاه هذا القلق ويمنحها أمانا لا مثيل له.
وكان من رحمته بنسائه أنه يشاركهن المرح واللعب حتى يضفي على حياتهن جوا من البشر والسرور، ويخفف عنهن ويدخل السرور إلى قلوبهن.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر الركب أن يتقدم، ويسابق السيدة عائشة فيسبقها وتسبقه.
وأجمل نفحات الرحمة تلك التي أهداها إلى النساء حين قال: خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي." (رواه ابن ماجه).
وكأنه يقول لكل رجل: إذا أردت أن تتصف بالخيرية، فكن خيّرا مع أهل بيتك. وهل تكتمل هذه الخيرية إلا بوجود الرحمة عنصرا أساسيا فيها؟

المصدر: http://www.sunnah.org.sa/ar/sunnah-sciences/prophet-biography/84-curriculum-research/995-2010-09-28-14-47-29

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك