بيتاً للحوار لا نزلاً للمتحاورين

بيتاً للحوار لا نزلاً للمتحاورين

 

طفا في الآونة الاخيرة موضوع الحوار على وجه الاحداث وحظي باهتمام لافت من وسائل الاعلام وتحول مادة للبحث والنقاش

خصوصا بعد انعقاد الجمعية العمومية للامم المتحدة تحت عنوان "حوار الاديان طريق الى السلام" بمبادرة من الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز.

 

ويأتي في هذا السياق العام اقتراح رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان جعل لبنان مركزا لهذا الحوار،

وحمله هذا المشروع الى مختلف المنتديات والمؤسسات الدولية كمنظمة الدول الفرنكوفونية والامم المتحدة

بهدف تبنيه وتقديم الدعم له. تصعب معارضة هذا الطرح، اقله من الناحية المبدئية،

وقد قيل في هذا البلد الصغير على لسان رجل القرن العشرين البابا يوحنا بولس الثاني "لبنان اكثر من وطن: انه رسالة حرية ومثال وتعددية للشرق كما للغرب".

فكلنا مع فخامته في دعم هذا المشروع والسعي الى تحقيقه،

ولكنني اعتقد انه علينا التفاهم اولا على معنى هذا الطرح وعلى مقومات نجاحه. فلا بد اذاً من تحديد للمفاهيم وبلورة للاهداف التي نرجو تحقيقها من خلال هذا المركز.

1- ازمة الحوار

ليس عجبا ان يعبر اصحاب الخبرة والقناعة في مجال الحوار عن قلقهم وخيبة املهم وتساؤلاتهم المستجدة في الوقت الذي يلقى فيه هذا الموضوع رواجا في ميادين مختلفة من المجتمع،

لعل اهمها السياسية والاعلامية منه. فهل يعني هذا التململ خوفا على الحوار من تحويله من فعل يتطلب التزاما وثباتا في مسيرة مضنية

بقدر ما هي مفرحة الى منتوج يوضع في دائرة الاستهلاك السريع والاستخدام لأغراض لم تكن في الحسبان؟ او هل ان المخضرمين في هذا المجال بدأوا يشعرون بعدم امكان المتابعة في هذا الالتزام دون الوقوف عند النتائج التي تحققت حتى الآن؟

فالحوار يجد نفسه اليوم مع المتحاورين في قفص الاتهام، وامام محاسبة تعدد المحاسبون فيها وتنوعوا ابتداء من كل مواطن سئم من تناقضات القول مع الواقع وصولا الى اصحاب الاختصاص الذين يرفضون اغراق هذا الفعل النبيل في اسواق المتاجرة والذهنية الاستهلاكية.

فواقعنا اليومي يضعنا امام هذا التحدي الكبير لان نقول للمواطنين بشكل مقنع ومشجع لماذا الحوار واهميته وحتميته.

ومن حاول يعلم بان ذلك ليس بالأمر السهل في ظروف متلبدة تثقل وجدان الناس بضعف الثقة بالآخر والخوف على المصير. ومن ناحية ثانية تتهشم حقيقة الحوار في مناسبات ونشاطات عديدة يكذب مضمونها المعلن او غير المعلن عنوانها الحواري.

فالكلمة اصبحت دعائية اكثر منها واقعية. كتب اخيرا المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه: "الا تلاحظون بان الشارع غير معني ببياناتنا ونداءاتنا المشتركة لعيش السلام والتسامح والاخوة، والتشاؤم في تزايد في اوساطنا، كما والتعب، والاحساس بالعقم، والمجاملات الفارغة، والتكرار والدوران في حلقة مفرغة...

هذا ما يوحي به اليوم حوار الثقافات والاديان، رغم حفاوة المظهر وجمالية الصور التذكارية... ضئيلة قدرة تأثير "طقوسنا الحوارية" الموسمية على مسار الامور، وكأننا في رمال متحركة  تبتلع كل شيء".

 

لا، لم نيأس بعد ولن نيأس! لكننا نعترف بان المهمة اصبحت اصعب واكثر تعقيدا. لذلك علينا التأني والتمحيص والتعمق بالموضوع وحيثياته اذا اردنا ان يكتب النجاح لمشروع الرئيس بجعل لبنان مركزا دوليا للحوار.

ومن بين تعقيدات المسألة تداخل الدين والسياسة ضمن الاشكالية الواحدة وتعدد المقاربات وتشابكها. فما الفرق وما الرابط بين اجتماع للامم المتحدة ومؤتمر اكاديمي ولقاء روحي تحت العنوان نفسه "حوار الاديان طريق للسلام"؟ تقتضي المستجدات اليوم تحديدا جديدا لانواع الحوار.

واود هنا التركيز على نمطين رئيسيين للحوار، قد لا يختصران الصورة العامة للموضوع الا انهما يساهمان في انجلاء معالمه الاساسية وخاصة ما يتعلق بالمشروع اللبناني المطروح، فأميز شخصيا بين حوار الحضارات والحوار الديني ذي البعد الثقافي والروحي.

2- حوار الحضارات

ليس بالامكان فهم ما يسمى بحوار الحضارات خارج السياق التاريخي للعالم في العقدين الاخيرين. ان الحضارة، بما تشكل من اطار شامل لدينامية مشتركة تجمع بين عدد كبير ومتمايز من الشعوب،

ترتبط بشكل وثيق بالمسار التاريخي العام وبتفاعلها مع سائر الحضارات. فمنذ العاشر من تشرين الاول 1989 شكل سقوط جدار برلين والانهيار التدريجي للانظمة الشيوعية اشكالية جديدة تتطلب تجددا في التموضع الحضاري لاختلاف الاطار العام وتوزيع الادوار.

فالاصطفاف بين رأسمالي وشيوعي وغير منحاز لم يعد مناسبا للواقع الجديد. لذلك حاولت نظريات ثلاث رسم خريطة العالم الجديد على الشكل الآتي:

 

- النظرية الاولى تعبر عنها مقولة "نهاية التاريخ" القائمة على الفرضية التي تضفي على الليبرالية السياسية والاقتصادية (انظمة ديموقراطية مع سوق عالمية حرة) هوية حضارية شاملة.

فاعتبرت الليبرالية ذروة ما يمكن ان يتوصل اليه الفكر البشري من تنظيم للحياة الاجتماعية العامة،

والتي تسير نحوها وبشكل حتمي وبدون منازع جميع الدول والشعوب. فنقترب بذلك من نهاية التاريخ بقدر ما تنتفي مع هذه النظرية الصراعات الايديولوجية ولا يبقى الا الولوج التدريجي للمجتمعات في هذا المسار الاحادي.

 

لهذا السبب لا نجد عند فرنسيس فوكوياما، احد اهم ممثلي هذه النظرية، مكاناً او اهمية للحوار بين الحضارات، طالما المطلوب التأقلم مع الحضارة الجديدة المشتركة بين الجميع.

 

- النظرية الثانية تعبّر عنها مقولة "صدام الحضارات" القائمة على فرضيتين متلازمتين. الاولى تقول بالتراجع المحتم اللحضارة الغربية التي بحسب صاموئيل هانتغتون دخلت في مرحلة الانحطاط رغم مظاهر القوة التي ما زالت تتمتع بها.

والفرضية الثانية هي ان الدين يشكل في العالم الجديد القوة المحورية التي تحرّك القوى وتؤثر على القرارات. فيحدد هانتنغتون تسعة فضاءات حضارية مختلفة تشكل اقطاباً متنافسة وتحدد الصراعات الآتية.

 

- النظرية الثالثة تعبّر عنها مقولة "الحرب العالمية ضد الارهاب" والتي ترتبط بشكل مباشر بأحداث 11 ايلول 2001. تختلف هذه النظرية مع سابقتيها

اذ انها لا تعتبر العالم موحداً حضارياً ولا منقسماً الى حضارات عدة متصارعة، بل هو في صراع مصيري بين جبهتين: جبهة الارهاب والموت من جهة وجبهة الحضارة والحياة من جهة اخرى.

ولا حوار اساساً بين هاتين الجبهتين، كما كتب احدهم: "علينا تعلم الحرب من جديد، لانه بين الحضارة والبربرية لا امكان للتواصل". فحربا افغانستان والعراق وُضعتا تحت هذا الشعار. وكتب روبيرت فيسك كتابه الاخير تحت عنوان: "الحرب الحضارية الكبرى: اجتياح الغرب للشرق الاوسط".

 

اهمية هذه النظريات وخطورتها تكمن في كونها تحظى بتأثير على الحياة والمسار التاريخي وتتحكم السياسات المرتكزة عليها بمصير العديد من الشعوب. كما انها تشكل مفاتيح تفسيرية للاحداث والمبادرات المتعلقة بمسألة حوار الحضارات.

فنشأ هذا المصطلح وتطور في السنوات الاخيرة كردة فعل وجواب مثلّث الابعاد على هذه النظريات الثلاث. فيريد اولاً حوار الحضارات التأكيد على ثبات التعددية الحضارية رغم العولمة بشكلها الاقتصادي،

لان شعوب العالم ليست في وارد التخلي عن خصوصياتها الثقافية وهوياتها الخاصة. بل على العكس،

تشكل اللقاءات الدولية للحوار مناسبة لابراز هذه الهويات المختلفة بدءاً باللباس التقليدي مروراً باللغة والاشكاليات الثقافية الخاصة وصولاً الى الطقوس والعبادات. ثم يؤكد حوار الحضارات على ان هذا التنوّع الحضاري لا يقود حكماً الى تصادم وتصارع،

بل هو منفتح على التفاعل الايجابي من خلال التبادل الثقافي والتعاون وحتى التضامن في مسائل محددة.

هذا ما عبّر عنه مثلاً اعلان نيويورك الصادر عن مؤتمر حوار الاديان (14 تشرين الثاني 2008) حيث قررت الدول المشاركة العمل معاً "على تقوية وتدعيم الاطر القائمة ضمن منظومة الامم المتحدة لتشجع التسامح وحقوق الانسان،

والحفاظ على الاسرة، وحماية البيئة، ونشر التعليم، ومكافحة الفقر والمخدرات والجريمة والارهاب،

آخذاً في عين الاعتبار المساهمة الايجابية للاديان والمعتقدات والقيم الانسانية الاخلاقية في مواجهة هذه التحديات". واخيراً يريد ان يكون حوار الحضارات جوابا، لا بل علاجا للخوف المتبادل الذي يتغذى مما يسمى الحرب على الارهاب.

فالغرب يعيش حالة من الاسلاموفوبيا ويتنامى لدى الشعوب المسلمة شعورا بالمعتدى عليهم من قبل الغرب وبالعدائية له

.

ان الاهداف التي حددها المؤتمر الاسلامي العالمي للحوار، الذي انعقد في مكة في 4 حزيران 2008، لهي خير دليل على رغبة المسلمين الحالية عامة بالانخراط في حوار الحضارات

وحتى اخذ زمام المبادرة كما فعل الملك عبدالله عندما دعا الى المؤتمر العالمي للحوار في مدريد (16 – 18 تموز 2008) ومن ثم الى انعقاد الجمعية العمومية للامم المتحدة (14 تشرين الثاني 2008). فحدد نداء مكة اهداف الحوار كالآتي:

 

- التعريف بالاسلام وشرائعه ومبادئه الانسانية، وما يملكه من رصيد حضاري كبير يمكنه من الاسهام الفاعل في ترشيد مسيرة الحضارة الانسانية.

- الرد على الافتراءات المثارة عن الاسلام وتصحيح الصورة المغلوطة عنه، وكشف دعاوى المروجين لصراع الحضارات ونهاية التاريخ ورفض مزاعمهم بعداء الاسلام للحضارة المعاصرة، والعمل على انخراط المسلمين ضمن التعددية الحضارية لبني الانسان.

 

- الاسهام في مواجهة التحديات وحل المشكلات المتعددة التي تواجه البشرية ومساندة القضايا العادلة المتعلقة بحقوق الانسان.

 

ويضيف النداء هدفين آخرين يتعلقان بالسعي للتعرف على غير المسلمين وثقافاتهم والعمل على التخفيف من آثار العصبية والخصومة بين اتباع المذاهب الاسلامية

.

ان مؤتمر مكة وما تبعه من خطوات شكل بالفعل خارطة طريق واضحة وجريئة لانخراط المسلمين والمؤسسات الاسلامية في حوار الحضارات.

ونجد في المقابل مبادرات مثيلة صادرة عن مؤسسات دينية اخرى كمجلس الكنائس العالمي او المجلس العالمي للاديان من اجل السلام او الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي وغيرها.

اذ في وقت يطمح فيه لبنان ان يكون مركزا لهذا الحوار، علينا قراءة الواقع بشكل واضح، والاستفادة من الزخم الذي اعطته المبادرات الاسلامية الاخيرة لهذا الموضوع،

وتقديم طرح يتكامل مع المؤسسات والهيكليات الموجودة والعاملة في هذا المجال.

 

(•) رئيس مؤسسة "أديان"

تتبع حلقة ثانية اخيرة

الأب فادي ضو(•)

المصدر: http://www.hdf-iq.org/ar/index.php?option=com_content&view=article&id=243:2012-01-22-21-42-07&catid=48:2010-11-07-15-50-33&Itemid=154

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك