الحجج الجلية على الغزالي وأبي الفتوح في إسقاطهما الجزية وتسوية الإسلام بالنصرانية

الحجج الجلية على الغزالي وأبي الفتوح
في إسقاطهما الجزية وتسوية الإسلام بالنصرانية
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبي الهدى محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه.. أما بعد، فإنه مما يؤسف أن المتحدثين باسم الإسلام فى القنوات والجرائد والمجلات الرسمية وغير الرسمية سار أغلبهم إلا من رحم الله حربًا على أصول الإسلام وقواعده، مما سار فتنة للناس فى دينهم، بدلاً من أن يستغلوا الفرصة المتاحة الآن لتعليم الناس أصول دينهم الحق صاروا يلبسون على الناس الحق بالباطل، فشابهوا أهل الكتاب من هذه الحيثية.
ومما استوقفنى فى هذه المجلات ما جاء فى مجلة الأزهر عدد (جمادى الآخرة 1433) (الجزء 6/ السنة 85) مقال لـ"محمد الغزالى"، بعنوان: (الاستعمار التشريعى فى بلادنا) قال فيه خلال حديثه عن الجزية:
"نحن لدينا مبدأ قديم جديد لا لبس فيه ، نقول عن غير المسلمين (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)...".
قلت: نقف أولاً عند قوله: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا!!".
فأقول: لقد صحَّ من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين".
صحَّحه الإمام الألباني في الصحيحة (303)، وقال: "وفيه دليل على بطلان الحديث الشائع اليوم على ألسنة الخطباء والكتاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الذمة: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا ".وهذا مما لا أصل له عنه صلى الله عليه وسلم، بل هذا الحديث الصحيح يبطله؛ لأنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك فيمن أسلم من المشركين وأهل الكتاب، وعمدة أولئك الخطباء على بعض الفقهاء الذين لا علم عندهم بالحديث الشريف، كما بينته في " الأحاديث الضعيفة والموضوعة " (رقم 1103) فراجعه فإنه من المهمات.
وللحديث شاهد بلفظ آخر، وهو: "من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا".
وقال –رحمه الله- في الضعيفة (1103): "باطل لا أصل له، وقد اشتهر في هذه الأزمنة المتأخرة، على ألسنة كثير من الخطباء والدعاة والمرشدين، مغترين ببعض الكتب الفقهية، مثل "الهداية" في المذهب الحنفي، فقد جاء فيه، في آخر "البيوع": "وأهل الذمة في المبايعات كالمسلمين، لقوله عليه السلام في ذلك الحديث، فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم".
فقال الحافظ الزيلعي في " تخريجه ": نصب الراية " (4/55) : "لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف، ولم يتقدم في هذا المعنى إلا حديث معاذ، وهو في " كتاب الزكاة "، وحديث بريدة وهو في " كتاب السير "، وليس فيهما ذلك "، ووافقه الحافظ في "الدراية" (ص 289)".
ثم ذكر حديث أنس الصحيح، وقال: "فهذا نص صريح على أن الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجملة: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا"، ليس هم أهل الذمة الباقين على دينهم، وإنما هم الذين أسلموا منهم، ومن غيرهم من المشركين! وهذا هو المعروف عند السلف، فقد حدث أبو البختري: "أن جيشا من جيوش المسلمين - كان أميرهم سلمان الفارسي -حاصروا قصرًا من قصور فارس، فقالوا: يا أبا عبد الله ألا تنهد إليهم؟ قال: دعوني أدعهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فأتاهم سلمان، فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي، ترون العرب يطيعونني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم، تركناكم عليه، وأعطونا الجزية عن يد، وأنتم صاغرون.. ".
أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وأحمد (5/440 و441 و444) من طرق عن عطاء بن السائب عنه.
ولقد كان هذا الحديث ونحوه من الأحاديث الموضوعة والواهية سببًا لتبني بعض الفقهاء من المتقدمين، وغير واحد من العلماء المعاصرين، أحكاما مخالفة للأحاديث الصحيحة، فالمذهب الحنفي مثلا يرى أن دم المسلمين كدم الذميين،
فيقتل المسلم بالذمي، وديته كديته مع ثبوت نقيض ذلك في السنة على ما بينته في حديث سبق برقم (458)، وذكرت هناك من تبناه من العلماء المعاصرين!
وهذا الحديث الذي نحن في صدد الكلام عليه اليوم طالما سمعناه من كثير من الخطباء والمرشدين يرددونه في خطبهم، يتبجحون به، ويزعمون أن الإسلام سوى بين الذميين والمسلمين في الحقوق".اهـ
قلت: هذا هو الغزالي .. الذى يعتبرونه مجدِّدًا !!
والرجل عنده من البلايا ما لا يعلمه إلا الله؛ فالرجل كان يقر الاشتراكية، ويدافع عنها ويحسِّن منها في كثير من مؤلَّفاته، ويطعن فى بعض الأحاديث فى الصحيحين، ويطعن فى بعض السلف نحو نافع مولى ابن عمر، وله بلايا كثيرة، ومن ضمن هذه البلايا هذه البلية التى قالها هنا في هذا المقال، فقد قال كلامًا فى غاية العجب:
"إن مطالبة بعض الجهلة بفرض الجزية على غير المسلمين لا يجب أن يُحسَب على الإسلام)! هكذا يطلق القول !! فالجزية كانت على الأغلب كبدل للخدمة العسكرية ، فلم يشأ الإسلام أن يفرض على المسيحيين أن يقاتلوا ضمن جيشه، بينما كان هذا القتال يجرى أحيانًا ضد إخوانهم فى الدين، وذلك حرصًا على مشاعرهم، وكذلك لأسباب أمنية، ففرضت الجزية لتكون تعويضا عن إعفائهم عن الخدمة العسكرية، أما الآن فالمسيحيون يعيشون معنا فى أوطان، نحن وإياهم نعتبر مواطنين متساويين فى الحقوق، أما حقوق غير المسلميين فى مجال الأحوال الشخصية وعقود الزواج وغيرها فلا حق لأحد التدخل فيها".اهـ
قلت: وهذا الكلام من الغزالي –والذي يعد أحد أئمة حزب الإخوان المسلمين- صار يردِّده كالببغاوات عدد من رموزهم الحاليين، ومن آخرهم مرشح الرئاسة: أبو الفتوح، حيث سئل في لقاء معه على قناة الجزيرة –الفتَّانة-:
يقولون يدفعون –أي النصارى- الجزية يا دكتور؟!!
فأجاب: "يعني المسألة دي انتهت في ظل الدولة الحديثة!! (الجزية) كان لها مفهوم في ظل الدولة القديمة، وهي أنها زي ما كنا نسميها زمان (البَدَلِيَّة) في ظل الدولة الحديثة لا مكانَ لـ (الجزية) الآن-!! يقوم الأخ المسيحي مثل الأخ المسلم بالدفاع عن الوطن؛ فلا محلَ هنا للجزية !!".
قلت: قال البغوي في معالم التنزيل (2/335/إحياء): "وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّغَارُ هُوَ جَرَيَانُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَرَبًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيِّ وَفِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الْأَدْيَانِ لَا عَلَى الْأَنْسَابِ، فَتُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبَا كَانُوا أَوْ عَجَمًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ بِحَالٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ أَكَيْدِرِ دُوْمَةٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يُقَالُ إِنَّهُ مِنْ غَسَّانَ، [وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِ ذِمَّةِ الْيَمَنِ وَعَامَّتُهُمْ عَرَبٌ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا الْمُرْتَدَّ] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْعُمُومِ وَتُؤْخَذُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِيِّ كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا وَتُؤْخَذُ مِنَ الْعَجَمِيِّ كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ مُشْرِكًا، وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَاتَّفَقَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ".
قلت: ونقل هذا الخلاف أيضًا الحافظ في الفتح (6/299/ريان).
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/79) في استفتاح الكتاب: "فَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنَ الْمَجُوسِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ تَوَقَّفَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»([1])، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ حَكَى هَذَا عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمْ فِيهِ...".
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (2/120-121): "فلا خلاف بين العلماء أن المجوس تؤخذ منهم الجزية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها منهم ..."، وانظر الإجماع لابن عبدالبر (ص196).
وقال ابن القيم: "وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِعَامِلِ كِسْرَى: "أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ"([2]).
قلت: وقد بوَّب البخاري في (كتاب الجزية والموادعة) قال: (باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، وقول الله تعالى: {(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، يعني: أذلاء وما جاء في أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم).
قلت: فهؤلاء الأئمة العظام نقلوا إجماع أهل العلم على مشروعية أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيِّ وَفِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ، وهذا الخلاف مفاده أن الذين قالوا بأن الجزية لا تؤخذ من بعض هذه الطوائف لم يقولوا إنهم يُقرون على كفرهم فى بلاد الإسلام .. بل قالوا إذا لم تؤخذ الجزية من هؤلاء فإما أن يدخلوا فى الإسلا،م وإما أن يقاتلوا ... فلم يعطوهم اختيارًا ثالثًا: إما الإسلام وإما القتال.
وأما الآخرون من الذين اتفقوا على أخذ الجزية منهم فيخيرونهم بين الإسلام أو الجزية ، فإذا لم يرضوا لا بالإسلام ولا بالجزية، فيجب أن يقاتوا من قبل إمام المسلمين .. هذا إذا كان للمسلمين قوة وتمكين.
والبخاري –رحمه الله- احتَّج بآية الجزية على أخذ الجزية من عموم الكفار سواء كانوا من أهل الكتاب أو من الوثنيين، فقال: {صاغرون} يعنى أذلاء ، وما جاء فى أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس والعجم، فعمَّم البخاري القول، وهذا هو الصواب، ورجَّحه الإمام مالك والأوزاعي، وهو ما انتصر له ابن القيم الجوزية في أحكام أهل الذمة، وأتى له بأدلة كثيرة.
فإن أهل الوثنية الذين هم ليسوا من أهل الكتاب تؤخذ الجزية من جميعهم إذا لم يرضوا الدخول فى الإسلام، ولا يقال كما قال هؤلاء الجهلة: "إن الجزية كانت بدلا من الخدمة العسكرية" .. أى خدمة عسكرية هؤلاء المساكين الفقراء في العلم وصحة المنهج!!!
هل الله عز وجل قال هذا فى كتابه؟ هل قاله رسوله صلى الله عليه وسلم؟
هل يشرع هؤلاء من عند أنفسهم؟!
هذا تشريع من دون الله عز وجل، يسقطون حكمًا شرعيًّا من عند أنفسهم هكذا!
يسقطون إجماع المسلمين مداهنةً وتملقًا للنصارى!!
والمصيبة أن يُكرر هذا الهراء، ويُقرَر إلى هذه اللحظة –دون أدنى حياء- في مجلة الأزهر، وينقل على أنه مما يفتخر به، ومما ينبغى أن ينشر وأن يذاع.
هذا هو الأزهر –أكبر مؤسسة إسلامية رسمية في مصر- والذي يعتبرونه منبر الإسلام على مستوى العالم، ويخدعون الناس بهذه الدعوى، وهي دعوى باطلة، فإنما هو منبر لنشر البدع والمحدثات، وللطعن فى بعض أصول الإسلام، وهذا مما لا يتسع المقام لبيانه...ولعل الله سبحانه ييسر مقامًا آخر نفنِّد فيه بعض الطوام المتوالية المنشورة في مجلة الأزهر.
والشاهد أن ابن قيم الجوزية نقل الخلاف فى الحكمة من حكم الجزية:
هل هى وضعت عاصمة للدم؟ أى كانت سببًا لعصمة دم اليهود والنصارى أو لدم المشركين عموما؟
أم وُضعت مظهرًا لصغار الكفر وإذلال أهله.. فهى عقوبة؟
فذكر من راعى المعنى الأول، ومن راعى المعنى الثاني، ومن خلال هذا استدل على أن الجزية تعم المشركين جميعًا.
وبلا شك هى وضعت لكلا الأمرين، فبها يعصم دم المشرك ويُقر على عيشه فى بلاد الإسلام بالتزامه بأحكام الإسلام، ليس كما يقول هؤلاء، وإن كان يترك لأداء شعائره الوثنية فى داخل كنيسته دون أن يظهرها على الملأ، ودون أن يعلن بها، أو يدعو إليها، وهذا الترك ليس إقرارًا لوثنيته، كما فى الشروط العمرية التى قمت بشرحها بالتفصيل فى عدة خطب جمعة.
وكذلك شُرعت الجزية من باب الإذلال والصغار على هؤلاء المشركين، وهذا بنص الآية (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) أى أذلاء، فالله عز وجل فرض عليهم هذه الذلة حتى ينفروا من الكفر الذى هم عليه، فإذا شعر هذا الكافر بهذه الذلة فى وسط المسلمين، فهذا يعد حافزًا له للدخول فى الإسلام، لما يشعر بعزة الإسلام وبعزة المسلمين، وهو يعطى الجزية وهو ذليل صاغر، هذا يدفعه مع الوقت للدخول فى الإسلام، ولهذا شرعت الجزية من أجل هذا، وليس كما يقول هؤلاء المتهوكون بأن الجزية كانت بدلاً عن الخدمة العسكرية.
نعوذ بالله من الجهل ونسأل الله أن يثبتنا على دينه.
قال ابن القيم (1/105): "وَالْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حَرْفٍ وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ هَلْ وُضِعَتْ عَاصِمَةً لِلدَّمِ، أَوْ مَظْهَرًا لِصَغَارِ الْكُفْرِ وَإِذْلَالِ أَهْلِهِ فَهِيَ عُقُوبَةٌ؟
فَمَنْ رَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ قَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عِصْمَتِهَا لِدَمِ مَنْ خَفَّ كُفْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ - أَنْ تَكُونَ عَاصِمَةً لِدَمِ مَنْ يَغْلُظُ كُفْرُهُ.
وَمَنْ رَاعَى فِيهَا الْمَعْنَى الثَّانِيَ قَالَ: الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ صَغَارِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَقَهْرِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَلْ يَعُمُّ كُلَّ كَافِرٍ.
قَالُوا: وَقَدْ أَشَارَ النَّصُّ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فَالْجِزْيَةُ صَغَارٌ وَإِذْلَالٌ، وَلِهَذَا كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبِ الرِّقِّ.
قَالُوا: وَإِذَا جَازَ إِقْرَارُهُمْ بِالرِّقِّ عَلَى كُفْرِهِمْ جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ بِالْأَوْلَى ; لِأَنَّ عُقُوبَةَ الْجِزْيَةِ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الرِّقِّ؛ وَلِهَذَا يُسْتَرَقُّ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يُسْتَرَقُّ عَيْنُ الْكِتَابِيِّ - كَمَا هِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - كُنْتُمْ مَحْجُوجِينَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَرِقُّ سَبَايَا عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَجُوزُ لِسَادَاتِهِنَّ وَطْؤُهُنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ سَبَايَا " أَوْطَاسٍ "، وَكَانَتْ فِي آخِرِ غَزَوَاتِ الْعَرَبِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» ".
فَجَوَّزَ وَطْأَهُنَّ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْإِسْلَامَ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَتْ سَبَايَا الصَّحَابَةِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّهُمْ عَلَى تَمَلُّكِ السَّبْيِ.
قَالُوا: وَإِذَا جَازَ الْمَنُّ عَلَى الْأَسِيرِ وَإِطْلَاقُهُ بِغَيْرِ مَالٍ وَلَا اسْتِرْقَاقٍ فَلَأَنْ يَجُوزَ إِطْلَاقُهُ بِجِزْيَةٍ تُوضَعُ عَلَى رَقَبَتِهِ تَكُونُ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْلَى وَأَحْرَى، فَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ عُقُوبَةً فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ عُقُوبَةِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ عِصْمَةً فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ عِصْمَتِهِ بِالْمَنِّ عَلَيْهِ مَجَّانًا، فَإِذَا جَازَ إِقَامَتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَإِقَامَتُهُ بَيْنَهُمْ بِالْجِزْيَةِ أَجْوَزُ وَأَحْوَزُ، وَإِلَّا فَيَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْكِتَابِيِّ الَّذِي لَا يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: إِذَا مَنَنَّا عَلَيْهِ أَلْحَقْنَاهُ بِمَأْمَنِهِ، وَلَمْ نُمَكِّنْهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قِيلَ: إِذَا جَازَ إِلْحَاقُهُ بِمَأْمَنِهِ حَيْثُ يَكُونُ قُوَّةً لِلْكُفَّارِ وَعَوْنًا لَهُمْ وَبِصَدَدِ الْمُحَارَبَةِ لَنَا مَجَّانًا، فَلَأَنْ يَجُوزَ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ يَكُونُ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ وَإِذْلَالًا وَصَغَارًا لِلْكُفْرِ أَوْلَى وَأَوْلَى.
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إِذَا جَازَتْ مُهَادَنَتُهُمْ لِلْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ مَالٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ إِذَا كَانُوا أُمَّةً كَبِيرَةً لَا تُحْصَى كَأَهْلِ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ اسْتِئْصَالُهُمْ بِالسَّيْفِ، فَإِذْلَالُهُمْ وَقَهْرُهُمْ بِالْجِزْيَةِ أَقْرَبُ إِلَى عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَقُوَّتِهِ مِنْ إِبْقَائِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَيَكُونُونَ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَاتِ لَا أَنَّهَا كَرَامَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا سِوَاهُمْ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ - كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - فَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ....".
وقال ابن الجوزي في زاد المسير (2/249): "فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال. فأما الزَّمِنُ، والأعمى، والمفلوج، والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم".
وقال ابن عبدالبر في التمهيد (2/32): "وأجمع العلماء على أن الجزية إنما تضرب على البالغين من الرجال دون النساء والصبيان".
قلت: وأما قول الغزالي: " فلم يشأ الإسلام أن يفرض على المسيحيين أن يقاتلوا ضمن جيشه، بينما كان هذا القتال يجرى أحيانًا ضد إخوانهم فى الدين، وذلك حرصًا على مشاعرهم ..".
فهذا من أسمج ما يكون، وهي مداهنة مكشوفة للنصارى وتملق لهم.
وتقريره في هذا الموضع مع كلامه في مواضع أخرى يشعر أن الرجل لا يفرق بين الإسلام والنصرانية، ويعتبر كليهما من الأديان السماوية المعتبرة، فلا غضاضة عنده في الانتساب إلى النصرانية من باب حرية الأديان.
واعلم أن رموز الإخوان المسلمين منذ نشأتهم إلى وقتنا هذا قد اتفقوا على ممالئة النصارى واليهود، ومداهنتهم والتملق لهم، وقد باحت أقلامهم وأصواتهم بما في صدورهم من الدعوة الفجَّة إلى وحدة وأخوة وحرية ومساواة الأديان، وإليك أخر تصريحات عبدالمنعم أبي الفتوح –المرشح لرئاسة مصر- التي تقرر هذه الدعوة الفاجرة:
"من أُولَى مبادئ (الحرية): (حرية الاعتقاد)!!.. ربنا بيقول في القرآن: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29].
يعني فـ (حرية الاعتقاد)!! أُولَى مبادئ (الحرية): أنْ يكونَ الإنسانُ مسلمًا، أو مسيحيًا!!، أو يكون المسيحي يترك المسيحية ليُسلِم، أو مسلم يترك الإسلام ليكونَ مسيحيًا!!! لا دخلَ لأحدٍ في هذا!!
والدولة مسئولة عن حمايتي كمواطن في عقيدتي التي أختارها بمحض إرادتي!! ولا دخلَ لأي طرفٍ، لا إسلاميّ.. لا دخلَ للأزهر، ولا دخلَ للكنيسة، حينما يكون المسلم مسلمًا، أو المسلم مسيحي!!، أو المسيحي مسلم.. حق الاعتقاد)!! حق الاعتقاد) مكفولٌ، والزَّج بمصطلح (الرِّدة) هنا، أو حد (الرِّدة) لا مكانَ له!! الرِّدة ليس حدًا للخروج للانتقال من الإسلام لغير .. للمسيحية، أو العكس.
(الرِّدة) تُساوي الآن جريمة الخيانة العظمي: الذي انقلب على مجتمعه!! ".اهـ
قلت: كما أسقط هذا الرجل مع صنوه الغزالي حكم الجزية، يسقط في كلامه هذا حدَّ الردة.
وقد أسقط كلا الحكمين بالمواطنة، فصارت المواطنة عند هؤلاء ناسخة لحكم الجزية وحد الردة، وهذا من أسوأ التحريف لأحكام الله سبحانه، وإلى الله المشتكى.
وهذا الكلام فيه تقرير ظاهر لعقيدة مساواة الأديان؛ حيث لم يفرق بين الإسلام والنصرانية، واعتبر كليهما من الأديان الجائز الانتساب إليها، وهذه ظلمات بعضها فوق بعض.
ومن طوام هذا الرجل قوله: " قال: "لو يوافق الشعب على إلغاء المادة الثانية من الدستور (يبقى خلاص)، والمادة الثانية -هي الحكم بالشريعة- ليست فرضًا على الناس، فإنّ المدخلَ الحقيقي للديمقراطية هو الاحتكام للشعب، وتداول السلطة، ... ، وبالمناسبة: الإسلاميين المتطرفين (بيقولوا: ربنا)، وإحنا (بنقول: الاحتكام للشعب!!!). اهـ
قلت: وهذه مقالة كفرية يجب أن يُستتاب عليها هذا الرجل، فإن تاب وإلا طُبق عليه حد الردَّة الذي ينكره ويعتبر المواطنة ناسخة له.
وهذه الضلالات المتوالية من رموز حزب الإخوان تؤكد مدى انحرافهم عن الإسلام، وتظهر مدى خطورتهم على عقائد المسلمين، فنسأل الله سبحانه أن لا يمكن لهم في بلاد الإسلام، وأن لا يجعل لهم سلطانًا علينا، وأن يولي أمورنا خيارنا من أهل السنة –أهل الحديث والأثر-.
والله المستعان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم؟
أبو عبد الأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
عصر الأثنين 16/جمادى الآخرة/1433 هـ
الموافق لــ07/مايو/2012
الهامش:
([1]) أخرجه مالك في الموطأ (42)، ومن طريقه: الشافعي في مسنده (430/ترتيب عابد السندي)، وأخرجه ابن زنجويه في الأموال (122)، وعبدالرزاق في مصنفه (6/68) (10/325)، وابن أبي شيبة (2/435) (6/430)، وابن الأعرابي في معجمه (2069) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر، وهذا منقطع.
ولذا ضعفه الإمام الألباني في الإرواء (5/88). ([2]) أخرجه البخاري في صحيحه (3159) (كتاب الجزية والموادعة) (باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب).