من النموذج التفسيري إلى نموذج “تفسير الرشد”،البوصلة القرآنية مثالاً

د. محمد موسى باباعمي

“النموذج التفسيري” مصطلح من إبداع عبد الوهاب المسيري، ولقد استطاع من خلاله اختراق الثنائية الكلاسيكية: “الموضوعية والذاتية”، أو بالأحرى “إمَّا موضوعي وإمَّا ذاتي”؛ يقول المسيري ناقدا الفكر العربي المعاصر: “وفي تصوري، إنَّ إحدى مشاكل الفكر العربي أنه لا يزال فكرا مضمونيا، أي يتعامل مع المضامين المباشرة، ولا يصل إلى العلاقات المجرَّدة الكامنة، أو إلى النماذج المعرفية كما عرَّفتها”.

ولا ينبغي أن نفهم أنَّ المسيري يقف إلى صفِّ “البنيوية” في مرحلتها المتأخرة، والتي تجرِّد النص من أيِّ مضمون، وتحوِّله إلى بنية لغوية مجرَّدة، يلوكها القارئ كما يلوك العلك، ويعطي لها المدلول الذي يريد، حسب مزاجه، وهواه، ومستواه… غير أنَّ المسيري كذلك لا يدافع عن التحليل المضموني الكلاسيكي، الذي يعنى بالمضمون المباشر، ضاربا عرض الحائط كلَّ إطار من أيِّ نوع كان، وكلَّ سياق مهما بدا بريئا أو غير بريء، وكلَّ علاقة مهما كانت متينة أو هشَّة.

هنا يدخل الواقع معطًى أساسيا في عملية التحليل، حيث تلتصق المدرسة المضمونية بالواقع – اللفظي، أو التاريخي، أو حتى الآني – ولا تحاول تجاوزه، فتختزل المعنى في ملاحظات جزئية آنية ظرفية محضة، ولا تتجاوزها إلى الكل، ولا إلى العلاقات الشمولية، ولا إلى الرؤى الكونية، إلا لماما وعرَضا…

وفي سياق التعامل مع النص النبوي الشريف، قدَّم المسيري مثالا توضيحيا بليغا، فقال: “ولنتخيل عالما إسلاميا يتعامل مع الأحاديث الشريفة من منظور المضمون وحسب، لا شكَّ أنه سيفشل في ربطها مع المفاهيم الكلية الإسلامية الأخرى”، ولنقل مثل ذلك عن تفسير القرآن الكريم، من منطلق المضمون، وهو الغالب – للأسف – ونكاد نقول: “إنَّنا لا نعرف تفسيرا واحدا لكلام الله تعالى يتجاوز المضمون اللغوي إلى المضمون الفكري، بله أن يتجاوز المضمون الفكري إلى الكليات والعلاقات والنماذج…”

من هنا جاءت ضرورة الاجتهاد في صياغة نموذج “تفسير الرشد“، الذي يدافع عن إمكانية العمل “متعدِّد التخصصات” في الوصول بفهم كلام الله تعالى إلى مرحلة المعرفة، والاجتهاد بعد ذلك في تحويل المعرفة إلى سلوك…

ولا بدَّ من التنبُّه إلى أنَّ العلاقة بين الفكر والواقع، وبين النصِّ والواقع، وبين النموذج والواقع… ليست علاقة بسيطة اختزالية؛ لكنَّها متشابكة معقَّدة لا نهائية، لا تلغي منظور الإنسان ولا ماقبلياته ولا معتقاداته، وإنما تستحضرها وتعتبرها، ولا تخضع كلية لها.

ولسائل أن يسأل: وماذا عن العلاقة بين “النموذج التفسيري” و”الواقع”؟

يذكر المسيري أنَّ العلاقة علاقة حلزونية – ويذكِّرنا هنا بمدرسة بحوث الفعل، التي تجعل العلاقة بين البحث والفعل علاقة حلزونية-، فيقول: “إذ أننا ننحت النموذج الافتراضي عن طريق معايشتنا لواقع ما، وعن طريق تأمُّلنا فيه، وعن طريق قراءتنا وتمحيصنا. وبعد نحت النموذج نُعمل فيه الذهن والفكر لنولِّد علاقات افتراضية، تكثِّفه وتصقله. ثم نعود إلى الواقع فيُنيره لنا. ولكنَّ الواقع، في كثير من الأحيان، يتحدَّى النموذج فيعدِّله ويزيد كثافته وصقله” باختصار، يستنتج المسيري أنَّ: “الحركة إذن: من الواقع إلى العقل، ومن العقل إلى الواقع”.

 ونحن نحاول بناء “نموذج الرشد” ولد ما أطلقنا عليه مصطلح “تفسير الرشد“، للتعامل مع كلام الله تعالى وفق هذا المسار المعرفي النماذجي الكلِّي التركيبي، عوض التفسير المعلوماتي الجزئي الاختزالي المحدود، ونعني بـ”نموذج تفسير الرشد” المراحلَ الآتية في مقاربة النص القرآني:

*نقرأ الآية على ضوء الواقع، وأحيانا نقرأ الواقع تحت إطار الآية.

*نبني نموذجا معرفيا، على إثر هذه القراءة، ثم نمحِّصه، ليس باختزال العلاقات، لكن بالغوص في تشعُّبها وتجذُّرها وشموليتها.

*بعد ذلك، نُعمل الذهن في النموذج، بغرض توليد علاقات افتراضية جديدة، تعمل على صقل النموذج، صقلا محكما لا نهائيا.

*ونعود إلى الواقع مرة أخرى، لننير به النموذجَ ونختبره.

*بهذه الحركية الحلزونية بين النص والواقع، أو بين النموذج والواقع في مرحلة متطورة، نصل بالواقع إلى مستوى الرشد، وتصل بنا الآية إلى “إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، فآمنا به“.

وإننا واعون أنَّ هذا الإجراء النماذجي في مقاربة كلام الله تعالى قد يزعج البعض، فيصنفه ضمن محاولات أنسنة القرآن الكريم، وقد يدفع آخرين إلى اعتباره نوعا من التفكيك البنيوي، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، ووعيُنا أكبر أنَّ “نموذج تفسير الرشد” سوف لن ينضج إلاَّ بعمل تراكمي، تشاركي، يسهم فيه ثلة من خيرة المفكرين عبر العالم، وبخاصَّة من مارس منهم الواقع والنص معا، السياسةَ والتفسير في آن واحد؛ حتى وإن لم يُسمَّ نتاجُه المعرفي “تفسيرا”، لتقيدنا أحيانا بحرفية دلالة “التفسير والتأويل”…

وقد يكون من بين هؤلاء من ترك فكره وأفضى إلى ربه، غير أننا سنعتمد على ميراثه الفكري الحضاري الفعَّال، وحتما سيكون من بين هؤلاء من هو اليوم في حلبة الصراع الحضاري، لا أمام مكاتب الشرح الروتيني التقليدي، وتكرار ما قاله القدامى لفظا لفظا، وجملة جملة… أي جملة وتفصيلا.

ونحن لا نلغي من التراث التفسيري الإسلاميِّ أنوارا ومساحات قوية نعتمدها ونثمنها، فليس الإقصاء المنهجي وسيلتنا ولا هو هدفنا، بل البناء المعرفي الشمولي هو المقصد والغرض.

مثال من “البوصلة القرآنية”:

من أبرز الأمثلة على الفرق بين التفسير الاختزالي والتفسير التركيبي، ما نقرأه في كتاب “البوصلة القرآنية” لأحمد خيري العمري، وبخاصَّة ما ورد تحت عنوان : “اسأل عدوك تعرف نفسك“، وفيه حلَّل الكاتب آيةَ سورة البقرة، في قوله تعالى آمرا نبيه الكريم محمَّدا عليه السلام: “سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة“.

ولقد وضعَنا المؤلِّفُ وجها لوجه مع ثلاثة أنماط من التفسير، ووظَّف مصطلحات غير التي نحن بصددها، ولعلَّه في ذلك راعى مستوى القارئ، لكنَّ المؤدَّى واحد، وهذه الأنماط هي:

القراءة الأولى: القراءة التقليدية المسطَّحة، ولنسمِّها نحن القراءة المضمونية غير الرشيدة، التي تُعنى بالجدل والمحاجَّة، وتخلو من العمق، فتصرف الآية الكريمة عن حقيقتها بنيَّة الدفاع عنها.

القراءة الثانية: وهي كذلك قراءة مغرضة، ذات بعدٍ مضموني جزئي اختزالي متعصِّب، من خلاله حاول المستشرقون بيان: “تبعية محمَّد وكتابه لمنظومة أهل الكتاب”.

أمَّا القراءة الثالثة: فقد سماها الكاتب “القراءة العلمية”، ولا شكَّ أنَّ مدلول العلم هنا ليس وضعيا، وقد عرَّفها بأنَّها “لا تجتزئ الآية من سياقها” بل “وتُعاملها جزءا من كلٍّ متكامل”.

ولقد توصَّل العمري من خلال تفسيره هذا، الذي يحمل سمة الرشد، والشمولية، والتركيبية، إلى نموذج استخرجه بدراسة العلاقات في تشابكها، بين الآية والآيات الأخرى، وبينها وبين السنة والسيرة النبوية، وبين جميع ذلك والواقع (سواء في ذلك واقع نزول الآية، أي سبب النزول وظروفه؛ أم واقع تفسير الآية، وهو عصرنا اليوم الذي يفتقد فيه المسلم إلى إعمال العقل حرا غير مقيَّد، بغية اكتشاف الحق لا غير)

هذا النموذج هو: “أنَّ الله تعالى دفع نبيَّه للسؤال قصد تحريك العقل بالسؤال وللسؤال“، وبهذا “تدفَّقت الأسئلةُ في المجتمع الناشئ الذي يواجه شتى الصعوبات والتحديات، على بعد آيات من الأمر الإلهي للرسول بسؤال بني إسرائيل، يبدأ تدفق الأسئلة داخل المجتمع المدني”

بوضوحٍ وصراحة، “لقد كُسر الحاجز، وانطلق مارد السؤال من القمقم”.

ويجتهد العمري في بقية فصل “التساؤل” في تتبع نماذج من هذا التدفق الذي حوَّل المجتمع العربي البسيط إلى كيان حضاريٍّ عالميّ المنظور، تحويله من مجتمع “العاطفة” إلى مجتمع “العقل والعاطفة والفكر والفعل…”

المهمُّ أنَّ الكاتب لم يحنِّط عقله، ولم يستسلم للموروث كما هو، ولم يلفَظه كليَّة، كما أنه لم يقبله كليَّة… لكنَّه أعمل عقله في تحليل مركَّبٍ، وانتهى إلى نموذج معرفيٍّ عميق، ليس هذا المقال محلا لبسطه، كما انتهى في الفصول التالية من “البوصلة” إلى نماذج أخرى: “البحث عن الأسباب”، و”الإيجابية” و”الشمول”… الخ.

وسنجتهد – بإذن الله تعالى – ضمنَ نموذج “تفسير الرشد” إلى تتبع مثل هذا المسار النماذجي العميق، ولن يكون ثمرة عقل واحد واحديٍّ، وإنَّما هو ثمرة عقول توليديَّة عميقة مفكَّرة، فليس التفسيرُ حكرا على اللغويِّ أو الكلاميِّ أو الفقهيِّ وحده، بل هو كذلك من اختصاص الحضاريِّ، والفكريِّ، والاقتصاديِّ، والسياسيِّ… بل هو من اختصاص هؤلاء جميعا مجتمعين، بصورة شمولية كلية معرفية.

المصدر: http://www.quran4nahda.com/?p=1251

الأكثر مشاركة في الفيس بوك