مقاربة الآية القرآنية: من التفسير القاموسي إلى الرؤية الكونية

مقاربة الآية القرآنية:

من التفسير القاموسي إلى الرؤية الكونية

 

د. محمد موسى باباعمي

 

الخطاب القاموسي الكلاسيكي:  في الخطاب اللغوي القاموسي تكاد المصطلحات تتحوَّل إلى مترادفات، عادة ما تُدخلنا في الدور المنطقيِّ الفاسد.  فمثلا: لو سألنا عن حقيقة الإدراك ومعناه؟ سيجيبنا القاموس بأنَّ “الإدراك، من أدركَ المسألةَ: علمها”، أمَّا المدرِكات فهي “الحواسُّ الخمسة”

وماذا عن “علِم”؟
يجيبنا القاموس مرَّة أخرى، “علِم الشيءَ وبه: شعر به وأدركه”.
ولا نملك أن نواصل البحث بهذا الأسلوب المعهود في أغلب البحوث التقليدية للأسف؛ لأنَّنا لن نخرج من دائرة اللفظ العامِّ القابل لكلِّ دلالة، دون سند معرفيٍّ يمكِّننا من الانطلاق في سماء المعرفة بلا تردد.

المنظومة المعرفية وضبط المفاهيم:
ومن ثمَّ كان لزاما على كلِّ منظومة معرفية أن تضبط مفاهيم المصطلحات الأساسية، التي يُردُّ إليها كلُّ مصطلح بالتبع، وهي لا تردُّ إلى غيرها… أي ما يشبه المسلَّمات في مناهج البحث العلميِّ؛ فهي وإن كانت مما لا يستدل عليه، ولا يطلب الاستدلال عليه، تؤسِّس حجر الزاوية في العلم والتخصص. وهي كذلك شبيه بالأكسيومات في المنطق.

وأعتقد أنَّ من أبرز المصطلحات التي يجب على كلِّ طالب علم أن يكون له –على الأقل– أدنى تصور بها، أو الحدّ الأدنى من فهمها… المصطلحات التي تحوم حول: مصادر المعرفة، ووسائل المعرفة، وأهداف المعرفة، وأنماط المعرفة… الخ.

مفهوم الإدراك:
ولعلنا في هذا المقال الموجز نتعرَّض إلى مفهوم “الإدراك”، الذي حير العلماء في مختلف التخصصات إلى يوم الناس هذا، فقاربوه بعدَّة مداخل، لكنهم –للأسف عجزوا عن إيجاد أدنى تفسير له، أدنى تفسير مقنعٍ ومحكمٍ-.

تتعلَّق بـ”الإدراك” عدَّة مفاهيم محورية، منها: مفهوم “العقل”، و”القلب”، و”الفؤاد”، و”الحواس”… ومفهوم “العلم”، و”المعرفة”، و”الإحساس”، و”الشعور”، و”الوعي”…. ومفهوم “المعنى”، و”الدلالة”، و”الخطاب”، و”اللغة”…

ولا شكَّ أنَّ تاريخ العلم يكشف عن مواقف تجاه هذه الألغاز والمقولات، أكثر مما يكشف عن أدلَّة وتفسيرات محكمة؛ فمن المدرسة العقلية إلى المدرسة المثالية، إلى المدرسة الحسية… ومن اتجاهات المضمون، إلى البنيوية، إلى التفكيكية… وصولا إلى الحداثة وما بعد الحداثة… كلُّها محطاتٌ، الوقوفُ فيها يفترض اتخاذ موقف “مع” أو “ضدَّ” اتجاه معيَّن، موافق أو مخالف لـ”النظرية أو الافتراض الأساسي”…
فالمدرسة المادية مثلا اجتهدت في التقليل من قدر “الإدراك”، بل في إلغائه واعتباره مجرَّد “وهم” أو “خرافة” لا غير، يقول “نيك هربرت”: “كلُّ ما نعرفه عن الإدراك، هو أنه شيء له علاقة بالرأس، أكثر مما له علاقة بالرجل”.

والغريب حقا أنه بعد قرون من التطور العلمي، لا تملك البشرية اليوم أيَّ وسيلة – آلة، أو جهاز، أو حاسوب… – يمكنه أن يكشف عن حضور أو غياب أيِّ نوع من أنواع الإدراك في العقل، أو في أيِّ مكان آخر.
فأين يكمن المشكل إذن؟

المدرِك والمدرَك:
المشكل يكمن في كون “الراصد” هو نفسه “المرصود”، و”الباحث” هو ذاته “المبحوث”؛ أي باختصار يفترض أن يكون “المدرِك” هو ذاته “المدرَك”؛ فكأنك تريد أن ترى عينك بعينك مباشرة، دون واسطة، أو تسمع بأذنك لأذنك بلا واسطة… ولكن، إذا كان بالإمكان رسم العين، ورؤيتها بذات العين في وضع مختلف، أو كان بالإمكان الوقوف أمام مرآة ورؤية العين بالعين…. ونفس الشأن بالنسبة للأذن… فهل بالإمكان تجسيد الإدراك لإمكانية إدراكه بعد أمد، أو تخزينه، أو تصويره، أو حفظه… بأيِّ وسيلة كانت؟

طبعا، كل العلوم عاجزة عن ادعاء ذلك، بل إنها ستصمت حيال مثل هذه الأسئلة إلاَّ ما كان ذا طابع “فلسفي” “عقلي”، أي “إدراكيٍّ”… غير محسوس، يتعامل مع المدرَكات كما هي ولا يفسرها، بل ولا يحاول تعريفها بحدٍّ واضح، وإنَّما يسلم بها، وكفى.
غير أنَّ الاتجاهات الوضعية ترفض مثل هذا الطرح، وتخرجه من دائرة العلم، بل وتعتبره “معتقدا” أو “خرافة” أو “غيبا” ولا تعطينا المزيد.

هنا، يأتي السؤال المحير:
هل يمكن للعلوم التجريبية المادية التطبيقية أن تجيب عن هذا السؤال، أي عن سؤال “الإدراك”؟
- الجواب بإجماع: لا تستطيع ذلك؟
لكن، لماذا ترفض أيَّ محاولة أخرى للإجابة؟
- ذلك أنها انخدعت بمنجزاتها المادية، واعتقدت أنها يمكن أن تقول أكثر مما يُنتظر منها؟
فما الذي جرأ “هاوكينغ” – مثلا – على الحديث عن “الخالق”، وعلى رفضه بأسلوب تهكمي، بل على نفيه بآلة العلم التجريبي؟

- ذلك أنَّه، وهو العالم الكبير في الكوسمولوجيا، اعتقد أنه يعرف أكثر مما يقوله له تخصُّصه، بل وَهَم أنه يمكنه الحكم على جميع التخصصات والمجالات والمقولات التي تخرج من دائرة علمه التجريبي.

وغريب قول “إدوارد ويلسون”: “إنَّ المخ – بغدده – مغلقٌ، بشكل لم يبقَ معه مجال يمكِّن الروح أن تدخل أو توجد ماديا”

فلننظر هنا إلى الجهل الذي آل بصاحبه إلى النفي، عوض العلم الذي يمكِّن صاحبه من الاعتراف بحدود علمه، وعدمِ الادعاء بمعرفة ما لا يعرف.

ما علاقة ذلك بنموذج تفسير الرشد؟
إنَّ “تفسير الرشد” يريد أن ينبِّه الباحث المسلم إلى أنَّ:

*وراء اللفظ معاني تتجاوزه،

*ووراء المعاني الأولى مفاهيم تتجاوزها،

*ووراء المفاهيم “نماذج” و”رؤى كونية” هي التي تستقبل أيَّ “موضوع”، وتوجهه الوجهة التي تريد… فالموقف من الخالق، ومن الإنسان، ومن الطبيعة، ومن الغيب،  ومن الحواس، ومن الوحي، ومن الروح، ومن الإدراك… الخ… هي التي تؤسِّس أرضية صلبة أو هشة لتلقي “توجيه الدلالة” الوجهة التي نريد.

والآية القرآنية عندما تنقدح في عقل إنسان، ثم تلتصق بشكل ما في المخ المادي، لا تبقى هكذا فجة جامدة خاوية؛ لكنها تتفاعل مع “نماذج” و“رؤى كونية” مسبَقة، هي التي ترسم “هندسة المعنى” بعد ذلك؛ فأن تدخُل الآيةُ في “سوق” أو “مصنع” ليس مثل إدخالها في “مسجد”، أو “مقبرة”…

ففي السوق تتحول إلى وسيلة للربح، وأداة للمتاجرة، وفي المصنع تتحول إلى مادة خام وبضاعة، أمَّا في المسجد فتتحول إلى معنى غير مادي ولا مجسد، متعال متجاوز… لا يحده حد، ولا يأويه حيز… أما إدخال الآية في “مقبرة” فيحولها إلى عالم الأشباح والطلاسم…

إذا التففنا حول هذا المدخل، فتعال نبحث عن إدراك الآية من خلفية أو نموذج “يئن بترسبات التخلف، والهوان، والذل، واللامعنى، والفوضى، والخرافة، واللاسببية…” فهل يُنتظر منها (الآية) بعد ذلك أن تولِّد حضارة، أو تصنع مجدا، أو تغير واقعا؟

لو كان المجيب إنسانا بدائيا بعقل إطلاقيٍّ لرفض هذا الطرح وهذا السؤال، ولقال: “الآية تفعل فعل السحر، وتحول التمثال جسما عاقلا مدرِكا… لكننا، فقط لم يكتمل إيماننا بقدرة الله تعالى”.
(وكأنَّ الإيمان – بهذا المعنى البدائي – يساوي خرق السنن، واحتضان العجائب والخوارق عوضا عن الأسباب)؟

لكنَّ المجيب – بحمد الله – هو الخالق للمدرِك وللمدرَك على السواء، فقد قال: “يُضل به (أي بالقرآن) كثيرا، ويهدي به كثيرا… وما يُضل به إلا الفاسقين”

من هم هؤلاء الذين خرجوا عن المألوف، وانحرفوا عن المعروف… ليس فقط في حقل المجتمع… لكن، كذلك في حقل الهداية والضلال بكتاب الله تعالى… أي في حقل المعرفة، التي هي سياق هذه الآية؟
يصفهم تعالى بقوله: “الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر  الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض… أولئك هم الخاسرون”
النقض، والقطع، والإفساد…

إذن الذي “ينقض عهد الله” إذا جاءته آية من آيات الله سبحانه، تحوَّلت عنده، وفي مستوى عقله وقلبه إلى سبب للضلال والإضلال…

وكذا من قطع ما أمر الله أن يوصل، وليس فقط “قطع الأرحام”، بل كذلك “القطع بين الأسباب والمسببات”، و”القطع بين المقدمات والنتائج”… وكلِّ ما أُمرنا بوصله إذا قطعناه، فإنَّ كلام الله تعالى يتحول في عقولنا إلى سبب للضلال والإضلال…

وكذا الإفساد في الأرض، الذي هو ثمرة للفساد في القلب، والعقل… بل هو تجلّ من تجليات فساد الإدراك… يحيل الآية إلى مقدمة للضلال والإضلال…

النتيجة العامَّة والنهائية هي: الخسارة والخسران المبين… “أولئك هم الخاسرون” لا غيرهم.

نتيجة التحليل
أنَّ “تفسير الرشد”، قبل أن يهتمَّ بالمعاني، يصبُّ جهده على ما قبل “المعنى”، وعلى حقيقة “الإدراك”، وعلى “النماذج” التي ترسم خريطة عقل الإنسان، وعلى “الرؤى الكونية” التي تشكل محيطات العقل وشواطئه… إنه تفسير يعنى بـ“البراديم”، و“بالمعرفة” ابتداء وانتهاء… ولا يلغي المداخل الأخرى: مثل اللغة، والتاريخ، والفقه… الخ.

فهل سندرك ميلاد نموذج “تفسير الرشد”؟ أم أنَّه سابق لأوانه؟ أم أنه مرفوض من أساسه؟
أترك الجواب للعلماء، والمفكرين، والنقاد… مجتمعين لا متفرقين… والله ولي التوفيق.

المصدر: http://www.quran4nahda.com/?p=1316

الأكثر مشاركة في الفيس بوك