مقدماتٌ في نظرية “الوعاء الحضاري”!

مقدماتٌ في نظرية “الوعاء الحضاري”!
د.محمد موسى باباعمي
حين يولد المرء تكون جملة من المحدِّدات قد رسمت معالم شخصيته، غير أنه في هذه السن المبكِّرة يتميَّز باستقلالية عالية وتحرُّر فريد؛ ثم يكبر الولد وتكبر معه “النمطية”، و”المألوف”، و”العادة”، و”التقليد”؛ وكلَّما توغَّل في “الدرس الرسمي” من خلال مدارس حكومية، وبرامج إعلامية وطنية، وخطابات محلية، ترسّخت تلك الصفات أكثر فأكثر، ولا ينجو من قيدها في الأخير إلاَّ النزر القليل.
لكنَّ النجاة لا تعني التحرُّر بالضرورة، بل قد تعني تبنِّي الرأي والموقف النقيض، فإذا كان النمط هو “أ” مثلا، كان النقيض ” ـ أ ” (ناقص أ)؛ ومن ثمَّ فحتى من كانت هذه حاله كان كالسمك، لم يغادر مسبحه البتة، ذلك أنَّ يسبح ضدَّ التيار وفقط.
وتحتد النمطية في المجتمعات المحلية التقليدية، بينما تخفُّ في المدن والتجمعات الكبرى، لكنها مع ذلك لا تذوب كلية، ذلك أنَّ لها طرقا مختلفة ووسائل متكاثرة تثبتها، منها: السياسة، والحزبية، والإعلام، والعلم، والاقتصاد، والسوق، والمصلحة… الخ. حتى إنَّ كثيرا من المجتمعات التي يبدو – ظاهريا – أنها متحرِّرة، هي في الحقيقة “قوالب جاهزة”، و”شخصيات اصطناعية”، و”أفراد على المقاس”؛ وليس أدلَّ على ذلك من المجتمع الأمريكي المفبرَك ثقافيا مِن قِبل جماعات الضغط المتحكِّمة، ومجموعات المصالح المسيِّرة للدواليب.
إذا كان الفكر هو “فصل الأشياء، ومحنة الفصل”، أي أنه “قلق العلاقة” عند هيغل، فإنَّ الإنسان حين تفكُّره في العلاقات التي بينه وبين ذاته، وبينه وبين غيره، وبينه وبين موجِده، ومحيطه، وبيئته… يتحوَّل – من خلال هذا التفكُّر في العلاقات بمنهج وجدِّية – إلى مرحلة “القلق المعرفي”، التي لا يبلغها إلا القلَّة من الناس، والذين يلِجونها قلًَّ منهم من ينجو منها بسلام.
في هذا المستوى الرفيع من التفكير، غالبا ما يحدث الخلط بين “المعتقَد” و”العقيدة”، وكذا بين “العلم” و”شبه العلم”؛ فالمرء إذا وقَف على أرض صلبة من العقيدة، يقلق معرفيا ولا يتخلَّى عن عقيدته، وهو مع ذلك حريص على أن لا يقع في “المعتقد” (dogm) ، وهو كذلك يجتهد أن يكون علميا، ويحذر من الوقوف في هشاشة اللاَّعلم، أو فيما يشبه العلم.
بناء على هذه الحيثيات – وغيرِها – وُلدت “نظرية الوعاء الحضاري“، باعتبار أنَّ العلم في حقيقته يبدأ من المسائل وليس من المشاهدات، وأنَّ المسائل محمَّلة بالنظرية سلفا، وقد وفِّق كارل بوبر في قوله: “إنَّ عمل رجل العلم هو اقتراح النظريات، واختبارها”.
فها أنذا أقترح نظرية، وأسعى لاختبارها، مستعينا بجملة من المعطيات، ضمن نموذج الرشد، وبخاصة منها ما كان من علاقة حلزونية بين الفكر والفعل، وبين العلم والعمل.
فما هي نظرية الوعاء الحضاري؟
تجيبنا العديد من الأحداث والوقائع، حين نلاحظها، من ذلك:
*أنني التقيت بشاب في تركيا، وقد ألَّف كتابا في السيرة النبوية العطرة، مكوَّن من جزأين، وطَبع منه في السنَة الأولى مائة ألف نسخة، وفي السنة الثانية أربعمائة ألف نسخة. فسألت مَن حولي: هل لو طُبع نفسُ الكتاب، بنفس المحتوى، من عالِم ذائع الصيت، وبنفس المواصفات… في بيئة أخرى، وفي محيط آخر، وليكن هو “العالم العربي، مثلا”… هل سيلقى نفس الإقبال، وهل سيطبع بنفس الكميات؟
وهل يكمن الفرق فقط في جودة العمل – ولا ننكرها – أم في اعتبارات أخرى، فنية وحضارية؟
هنا أجد الجواب في “الوعاء الحضاري“.
*باحث نشأ وترعرع في تخصُّص علميٍّ إنساني، غير أنه عوض أن ينصبَّ جهدُه في النتاج المعرفي، وفي “العلم العام”، وفي المسار البشري، ضمن خطِّه المكاني والزمني، أي “الآنَ” و”اليومَ”… عوض ذلك كلِّه، راح يعالج قضايا ومسائل علمية أملاها عليه محيطُه المحنَّط الضاغط… ذلك أنَّ هذه القضايا والمسائل مِن زمن غابر، غير زمانه؛ ومن بيئة أخرى، غير بيئته… ومِن سياق، وفي سياق آخر، غير السياق الذي خُلق فيه، وخلق له.
ما الجواب إلاَّ في نظرية “الوعاء الحضاري“.
*قطبُ الأيمة الشيخ اطفيش(1) – رحمه الله – عالِم وُجِد ضمن بيئة جغرافية مغربية، داخل ساحة سياسية هي الجزائر المتسعمَرة مِن فرنسا، وتحت إطار عرقي سابق هو انتماؤه البربري، ومذهب، وبلدة، وعشيرة، وعائلة… ليست في الحقيقة من اختياره.
لو حلَّلنا القدرات العلمية لهذا العالِم لصنَّفناه في رتبة مرموقة بين عقول العالَم الإسلامي في القرن العشرين، غير أننا لو بحثنا عنه اليومَ في الدوائر العالمية، وقارناه بمحمد عبده – مثلا –، لوجدناه غائبا كلية عن الذكر، وعن الاعتبار… ولو طالعنا مؤلفاته لبهرنا بسعتها، لكنها ليست كلها في خطِّ الزمن الذي خلق فيه، وخلق له. أي أنها لم تعالج قضايا وإشكالات القرن العشرين، بروح ولغة ذلك العصر.
نقول إذن، إنَّ مجالات اهتمامات الرجل، ومبلغ أثره، ونسبة قرَّائه… كلُّ ذلك كان رهينة “وعائه الحضاري“، فلو كان من وعاء حضاري آخرَ لكان له شأن أكبر من هذا الشأن الذي نعرفه له اليوم.
مِن هنا نقول إنَّ الوعاء الحضاري هو كلُّ ما يؤثِّر في مسير الإنسان ومصيره – الدنيوي – أكيدا، والأخروي غالبا؛ فهو: جغرافيتُه، وتاريخُه، ومحيطُه، وبيئتُه، وخصائصُه الموروثة، وأحداثُ عصره، والمؤثرات في فكره، والمحرّكات لمشاعره… وهو – بلغة فن الرسم – الخلفيةُ التي يضع عليها الرسام لوحته، حجمُها، ونوعُها، وشكلها… وهو الحال النفسية التي يكون عليها ذلك الرسام، والطبيعة التي تحيط به، والأفكار التي تعتلج في خاطره… كلُّ ذلك ليس هو الرسم نفسه، ولكنه محدِّد ومؤثِّر فيما سيصدر من أشكال وألوان ورسوم.
فهل نقول إنَّ الوعاء الحضاري قدَر مقدور، أم هو من قبيل الاختيار؟
حسبُنا أن نعرف أنَّ المرء محاسَب – عند الله تعالى – عن الجانب الاختياري لا عن الجانب الاضطراري؛ فلا يَضير سيِّدَنا نوحا عليه السلام أنه بعدَ ألفِ سنة إلا خمسين عاما، “ما آمن معه إلا قليلٌ“؛ ذلك أنَّ ما يملكه هو الجهد، والفكر، والفعل… أمّا ما لا يملكه فهو “الوعاء الحضاري” المحيط به، والضاغط عليه… ومِن ثمَّ كان عند الله تعالى ناج، ومجازًى، ومبلِّغا لما أُمر به.
أمَّا مِن حيث الثمار الحضارية الزمنية فلا شكَّ أنَّ الوعاء الحضاري لسيدنا سليمان عليه السلام مثلا، قد مكَّنه من تسخير الجن والإنس والطير… ومِن بسط نبوته على الآفاق… وهو ما لم يتسنَّى لنوح عليه السلام، بسبب وعائه الحضاري المثبط. حتى إنَّه أعلنها أخيرا: “رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلاَّ فاجرا كفارا!”.
فنوح وسليمان عند الله تعالى سواء، كلاهما قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح لله، فنال رضوانه؛ أمَّا “الوعاء الحضاري” لنوح -عليه السلام- فهو دون الوعاء الحضاري لسليمان -عليه السلام- بأشواط؛ ولا يمكن أن نعزو ذلك للمواهب، أو للجهد، أو لأيّ أمر آخر.
الموضوع للنقاش، والنظرية للتطوير والصقل… ولقد كتبتُ فيها مقالاتٍ، جنبا إلى جنب مع نظرية “النسيج الحضاري“، أدعو الله أن ييسِّر إخراجهما في صورة لائقة مقبولة، تحت إطار نظري واسع هو “نموذج الرشد“؛ واللهَ نسأل أن ينفع بكل ذلك البلادَ والعبادَ، وأن يسخِّر لنا “وعاء حضاريا” محرِّكا لا مسكِّنا، ميسِّرا لا معسِّرا.
د. محمد باباعمي
28 محرم 1432هـ- 3 جانفي 2011م
—————-
(1) للتذكير، نحن نعيش ذكرى المائة لوفاة القطب اطفيش، سنة 1332هـ، ويجب أن تكون الذكرى لإعادة الإحياء، والبحث في أسباب الحضارة؛ لا على شاكلة مهرجانات قاتلة، لا طعم لها ولا لون.
المصدر: http://www.quran4nahda.com/?p=2216