بين فقه الجندية وفن الأدوار
بين فقه الجندية وفن الأدوار
كتبه: أحمد خليل خير الله
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان هذا السؤال دائما ما يطرُق باب كل خلية في رأسي حين أُبحر نحو هذه القصة وأعايش مشاهدها وأستشعر نفسيات أبطالها , أسمع أصواتهم , وأتأمل وجوههم متفحصاً وباحثأً عن مزيد من المعاني من خلال لغة جسدهم وانفعالاتهم ولكن السؤال يظل يطرق ويطرق
لماذا لم يتكلم ؟؟ لماذا لم يكن بطلاً لكل مشهد (رغم أنه الأحق بذلك من وجهة نظري) ؟؟
لماذا لم يشارك بالرأي والتوجيه ؟؟
بل والتنظير ووضع الإستراتيجيات والمنهجيات وضبط البوصلة التي يفتقدها بنوإسرائيل ؟
كل هذه الأسئلة كان محور إثارتها شخص واحد هو نبي الله داوود عليه السلام …..
بنو إسرائيل يطلبون القتال بل يبحثون عن قائد عسكري يُحسن إستثمار هذه الملكات والمهارات والطاقات والحماسات { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
فكرى يطاردني يعكر على صفو متعتي بالقصة يقول لي بصوت متسارع :- ( أُخرج عليهم يا داوود وقل لهم :- أُقدر حماستكم ومهارتكم وأسأل الله أن يبارك في هذه الطاقات ولكن عالم الأفكار لم يكتمل بعد رغم سماعي لقولكم )
{وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}ولكنه لم يتكلم عليه السلام .
وحدث الحادث {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}
المشاهد تتوالى والأحداث تتسارع
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} ترى بماذا سيجيبون ؟!
فتأتي الإجابة :- {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}
فكرى يطاردني مرة أخرى بنفس السؤال المتسارع ؟ لماذا لم يخرج عليهم داوود عليه السلام حتى ولو
لم يُنبأ ويقوم بحل هذه المحنة المفاهيمية , ما هذا الذي يقوله بنو إسرائيل !؟ ما علاقة الحرب بالمال ؟!
أخرج يا داوود وتكلم قم بدورك .
إصبر يا عقلي واترك الآيات تتوالى … إنتظر قليلا !!
والحمد لله جاءت الإجابة من داوود عليه السلام :- {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
تحرك الجيش واقتربت المعركة ويالها من موجات نفسية تحتاج إلى ربان يبحر بسفينته فوقها {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}
جاء دور داوود الخطيب عابد بنى إسرائيل الكفاءة الدعوية المنتظرة التي يتنبأ لها الجميع بالقيادة والسؤدد والمستقبل الدعوى البراق ليقول لهم :- جاء دور الإختبار اثبتوا, تهيئوا, أحسنوا تفلحوا,
ولكنه لم يتكلم {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} الله المستعان ….. تساقط البعض.
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}
محنة مفاهيمية أخرى ولكني لن أتكلم انتم تعرفون ماذا سأقول
ثم……………….
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
قطعا كان داوود مع من قال هذا القول المنجى بإذن الله .
المشهد الأخير…………..
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ, فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
الله أكبر ها هو داوود عليه السلام قد ظهر بعد اثنتين وعشرين سطراً من كتاب الله.
القصة عن بنى إسرائيل والعبرة تكون لنا
فقه الجندية وفن الأدوار
نصف سطر أزعم أنه يهدم جدار كل سؤال بناه عقلي في عدم ظهور داوود عليه السلام طوال هذه القصة, لأنه يعلم فقه الجندية فمن لم يحسن الجندية لن يحسن القيادة ومن لم يفهم دوره فقد جنى على أدوار آخرين.
داوود عليه السلام كان يعمل ويتربى ويؤدى ويعمل, كان قائدا ولكن في مكانه في دوره ولكن القشرة الخارجية لعمله جندية, ما أسهل إطلاق الصيحات بل والتشغيب بل يتفنن البعض في أن يتحول إلى “مشروع فتنة “
فيحرق الأخضر واليابس رغم وجود طالوت في كل موقف وأدائه العالي المجرب.
*لو فكرنا بتفكيرك هذا لما خرجت كفاءة دعوية واحدة ولصنعنا من القادة طواغيت في أبراج عاجية لا نفهم لغة الجماهير ولا تحسنها . (لعل هذا ما تفكر به الآن)
أجيبك وأتفق معك تماما فيما تقول ولكن لو تدخلنا في كل شئ مع إهمال ما تحت أيدينا من أعمال كلفنا بها من قبل القادة لأضعنا كل ثغرة ولصرنا كترس الساعة الصغير الذي قرر أن يكون في خدمة عقرب وحقر دوره لأنه لا يراه أحد فترك مكانه فتوقف العقرب وخربت الساعة.
إذاً وضح لي ماذا تقصد ؟
أقول لك :- * لا نجعل التفكير في الأمل المنشود يضيع منا الواقع الموجود (بل نفكر ونعمل بجد )
*(لا نجعل أحلام الغد وأمنياته تضيع منا الحاضر وإنجازاته)
* (بل نحلم ونتمنى ونعمل في الحاضر وننجز ونستعين بالله ولا نعجز)
* نشارك طالوت ونفكر معه وندعوا له وفى نفس الوقت نهيئ أنفسنا لقتل جالوت الغاشم……
* من لقتل جالوت إن لم يكن نحن حتى لو لم نظهر في المشهد طوال القصة ؟
فقه الجندية وفن الأدوار
فقه الجندية : يعنى أنه إن لم أجد لنفسي دورا أقوم به ساسعى لأصنع لنفسي دورا كنعيم بن مسعود رضي الله عنه في الأحزاب فأخذل ما استطعت , أو كأبي بصير في الحديبية فأرجح كفة أهل الإسلام
فقه الجندية : يعنى أن أكون على أتم الاستعداد على تلبية أعذب نداء (يا خيل الله اركبي)
حتى لو كنت مع عروس في أحلى اللحظات كحنظلة رضي الله عنه .
فقه الجندية : أن أثق في القيادة لا أقدسها وأن أدعوا لها بالسداد والتوفيق لا بالعصمة وأطيع في المعروف كالصحابة مع عمرو بن العاص رضي الله عنه في ذات السلاسل .
فقه الجندية : أن أتقن عملي وأؤدي من غير تشغيب أو سفسطة لعدم وجود المعطيات التي يمتلكها القيادة وليس مطلوبا من القيادة)على الدوام) أن تفصح لى عن كل صغيرة وكبيرة مثل موقف الصحابة يوم الحديبية (بالطبع مع وجود الوحي الأمر يختلف ولكن قصدي في المنهجية) .
فقه الجندية : أن أقدر عملي ولا أحقره حتى ولو كان صغيرا لأني لا أنظر إلى صغير العمل ولكن أنظر إلى العظيم ربى الذي أعمل له جل وعلا .
فقه الجندية : كلمة قالها نابليون جيش من الأرانب يقوده أسد خير من جيش من الأسود يقوده أرنب, نقول لنابليون شكرا على كلمتك ولكن عندنا في الإسلام جيش من الأسود يقوده أسد خير عندنا من كل جيش والأمثلة من المعارك الإسلامية كثير وتكفى حروب الردة في الإستدلال.
فقه الجندية : يتلخص في هذا الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم”طوبى لعبد آخذٌ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة (مؤخرة الجيش) كان في الساقة “رواه البخاري
أما فن الأدوار:
فيعنى جيش كبير يقوده قائد عظيم كخالد بن الوليد رضي الله عنه ربما كان فيه جندي عظيم اسمه معاذ بن جبل أو حلقة علم فيها عالم عظيم كمعاذ بن جبل فيها طالب عظيم اسمه خالد بن الوليد رضي الله عنه
فن الأدوار:
يعنى أبو هريرة رضي الله عنه يحفظ وأبو بكر رضي الله عنه يقود وزيد بن ثابت رضي الله عنه يتعلم اللغات وعبد الله بن مسعود يقرأ القران ويعلمه وأبى بن كعب رضي الله عنه يعلم العلم
والأدوار واضحة, والكل رضي الله عنهم ورضوا عنه
داوود جندي وطالوت قائد والنتيجة جيش ناجح {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ}
فقه الأدوار يعنى أن يجيد الكل دوره إما :
1- مفكر: يجيد التفكير والتحليل وعرض الرؤى .
2- مخطط : يأخذ وينتقي من هذه الأفكار ما يخدم الأهداف .
3- قائد : يجيد التعامل مع البشر والتواصل معهم والتأثير فيهم .
4- مروج : يحسن عرض الفكرة والدعاية لها .
5- منفذ : جندي مقاتل يؤدى ما عليه وينفذ بإتقان .
6- مراقب فقيه : يحفظ اللوائح والقوانين ويعدل الخلل ويوجه .
7- محب متربي : على هذه الأدوار الست يفهمها ويراها مجسمة في قدوات ليتيقن أحداها أو بعضها أو كلها بقدر توفيق الله وعونه واجتهاده هو .
سلمان رضي الله عنه رغم أنه حديث عهد بإسلام يقترح فكرة إستراتيجية يسخر لها الجيش .
والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت لها بل وينفذها ويصبح الخندق (خندق سلمان) .
جنود مؤدون مبدعون وقائد ينصت ويحتوى ويحترم من تحته .
فقه الجندية وفن الأدوار
أن يقترح الخباب بن المنذر رضي الله عنه في بدر تغيير موقع الجيش والقيادة توافق دون تردد لوجاهة الإقتراح
(القيادة الشورية هي السبيل الأمثل لتعليم فقه الجندية وفقه الجندية هو السبيل الأمثل للقيادة الشورية)
الأمة تحتاج إلى طالوت وإلى داوود .
داوود الجندي من أحسن الجندية وقام بالدور .
وتحتاج إلى طالوت القائد الذي يسمع وينصت ويكون قويا أمينا لقيادة أمة .
لذا لابد من التنبه المستمر من فيروسات التدمير لمنظومة (داوود طالوت) في القيادة والجندية فهي أخطاء يقع فيها كل طرف
أولاً :- من جهة الجنود :-
1- سوء الادب في التعبير عن الراي مع التحدث من غير علم او معطيات .
2- التسرع المتهور والحماس العشوائي .
3- النفاق المقنع بداعي الأدب أو أن القيادة تعرف كل شيء عن أي شيء فينتج عنه السكوت عن الحق . 4- روتينية المهام حين تؤدى من غير روح .
ثانياً :- أما من جهة القيادة :-
1- عدم الإنصات او الإنصات الإنتقائي .
2- إحتكار الرأي .
3-الحرص على تربية النسخ لا القادة وأزعم أن القائد الذي لا يخرج قادة ليس بقائد .
4- مرض (الشخصنة) وهي ان يبنى النظام على مزاجية القائد لا فاعلية النظام وحلها أن يبنى النظام على المنهجية لا على المزاجية وما يحدث في غياب القائد مؤشر لاستمرار المرض او الشفاء منه .
أخي طالوت … “ القيادة ليست هي تأثيرك وأنت موجود بين أفراد فريقك . بل هي ما يفعلهأافراد فريقك في غيابك “ ولعلنا نطلق على هذه القاعدة ( أم القواعد القيادية )
أما المشترك فهو :-
1- عدم التجرد واتباع حظ النفس ( الاجندة الخاصة ) .
2- الخلافات الشخصية التي إن لم تحتوى تتحول بطول العهد إلى خلافات منهجية فكرية
ولعل قاعدة “وامرهم شورى بينهم ” هي العلاج الأنجع لهذه الامراض
أدعوا نفسي بمثل ما أدعوا به شباب أمتي
(مضى زمن الأقوال ولا صوت يعلوا على صوت الأفعال)
أخى داوود كفى كلاماً فالعامل متكلم ولو سكت
أخي داوود كن مشروعاً أو فكر في مشروع أو شارك في مشروع أو كن بعضها
أحسن جنديتك وقم بدورك
أخى داوود لا تخذل طالوت ( لو خضت البحر لخضناه معك) سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم بدر
أخي طالوت أفهم داوود واغتنم كل ذرة من طاقته
والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد (أبو بكر الصديق رضي الله عنه)
أخي داوود كن أنت الإنجاز الذي تريد أن تراه في دعوتك
أخي طالوت كلنا ثقة بك فاعمل بإذن الله
(واعلم أن القائد لا يستحق لقب قائد ما لم يكن مستعداً لأن يكون وحده أحيانا )
ولكننا لن نتركك بإذن الله ………..
قال تعالى على لسان عيسى {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
نحن أنصار الله بإذن الله .
داوود……. هل تراك تقتل جالوت وتكون عوناً لطالوت؟؟
وكم من جالوت قادم
طالوت……. هل تراك تؤهلنا وتصبر علينا وتنصت لنا ؟!
وكم من طالوت عالم
فنحن بين قادم…. وعالم والله المستعان