هل ينبغي إحراق علماء السلاطين؟
هل ينبغي إحراق علماء السلاطين؟
البوطي نموذجا…
د.أحمد خيري العمري
ليست الثورة عملا محددا موجها ضد نظام ما فحسب ..بل هي قبل ذلك وبعد ذلك أيضا ثورة ضد الثقافة –البيئة الفكرية التي سهلت “نشوء” و”استقرار” هذا النظام ..ضد نمط تفكير جعل من وصول المستبد للحكم ممكنا، ومن بقاءه على سدة الحكم ممكنا..
الأنظمة الاستبدادية عندنا لم تتحصن فقط خلف القمع والبطش والآلة الأمنية، بل تحصنت أيضا خلف ثقافة تنكرت خلف نصوص دينية مجتزءة وفتاوى سلطانية وفقهاء قدموا فقههم ليكون جزءا من حرس السلطان. لقد كان في تاريخنا عدد لا يستهان به (حجما ومكانة) من “علماء الدين” الذين لعبوا دورا داعما للاستبداد عبر فرضهم لقراءة تجزيئية لنصوص معينة انتهت إلى ترسيخ “طاعة ولي الأمر” دون أن تميز في نوعيته أو تحدد معايير ولي الأمر هذا.. كما أنها ترسخ الدعاء للسلطان المتغلب – أيا كان- وهو أمر يرسخ السلبية عند الجمهور حيث يرى أن الحكم والسلطة مباراة تحدث بين طرفين ولا يشارك فيها هو بغير الدعاء للمنتصر منهما.. ثقافة حتى لو لم تكن صريحة في طاعة ولي الأمر دوما..إلا إنها روجت وكرست السلبية في التعامل معه والاستسلام لكل ما يحدث سواء كان عبره أو عبر سواه..
التخلص من الاستبداد وعزل هذه المنظومة الفكرية-الثقافية عن تأثيرات الثورة، باستثنائها أو غض النظر عنها أو حتى تقديم نوع من الحماية لها ، يشبه القيام بنصف ثورة، سرعان ما سيتسلل مستبد آخر، ربما بثوب جديد، أو شعار جديد، من نفس الثقب الذي ترك دون ردم.. سيتم التخلص من المستبد.. لكن ليس من الاستبداد نفسه.. كل من يعتقد إنه يمكن أن يزيل نظاما قمعيا على الأرض دون أن يزيل البنية التحتية (الفكرية) له واهم تماما.. .سيزول مستبد ليأتي آخر. سيذهب الديكتاتور وتبقى الديكتاتورية…
ثورات اليوم ضد أنظمة الحكم الجمهورية التي استعبدت الجماهير يجب أن تصاحبها أيضا ثورة ثقافية ضد كل ما كرس الاستعباد، ضد هذا الفقه الذي استغل ديننا ليقتل فينا أعظم ما زرعه وشكّله هذا الدين.. ضد منطق التصالح مع الأمر الواقع القائم على التهلكة البطيئة بدلا من مواجهة الواقع الخاطئ وأسبابه مواجهة جذرية…
لدينا اليوم فرصة سانحة لتحقيق “قطيعة” مع هذه الثقافة التي أودت بنا إلى هذا الدرك الذي انتهت إليه أمتنا. ليس الحديث عن الاستبداد السياسي فقط. .فهذا هو الجزء البارز الواضح من جبل الثلج الغاطس تحت الماء، لكن جوهر السلبية أمام المستبد يبقى واحدا. إن استسلمت للطاغية فأنت تروض نفسك على الاستسلام. تستسلم للمحتل وللمستعمر وللثقافة الوافدة الغازية ولكوارث الطبيعة ولعوادي الزمان.. الاستسلام واحد… أعراضه مختلفة، ولن نستطيع أن نكسر قيد هذا الاستسلام لنحقق ما خلقنا لأجله دون أن نزيح هذه الثقافة الجاثمة كالموت على عقولنا…
*****************
لماذا البوطي نموذجا؟..
لقد اختار البوطي ومنذ اندلاع الثورة السورية أن يقف موقفا شديد الوضوح ودون أي مواربة في الوقوف إلى جانب الطغاة.. كان يمكنه السكوت كما فعل سواه، كان يمكنه أن يقول ما يحتمل الوجهين كما فعل آخرون .. لكن موقفه شديد الوضوح.. لقد كان الناطق الرسمي للجناح الداعم للاستبداد من المؤسسة الدينية.. واستخدم كل شعبيته وكل ما يملكه من “معلومات”-يسميها البعض “علما” – وكل ما يمكنه من أساليب التهويل والتضليل وحتى التحقير والسب في تثبيط وإجهاض الثورة. بل إنه تورط خلال هذا في سلسلة من الأكاذيب التي لم يكن هناك داع حقيقي للتورط فيها.. وهي أكاذيب تعكس حقيقة إنه –مثل النظام الذي يدافع عنه- يعيش عصرا آخرا يجدي فيه التعتيم والمغالطات الإعلامية.. البوطي مثلا قال بوضوح في خطابه المتلفز الشهير إن من خرج في مظاهرة من المسجد الأموي لم يكن قد صلى في المسجد.. ولم يكن قد دخل “الحرم” أصلا بل كانوا ينتظر في الباحة الخارجية.. والحقيقة التي نقلت على الملأ معاكسة تماما، وقد أثبتت “هروب البوطي” محاطا بمريديه بينما الهتافات تصدح في داخل الحرم الأموي، و لا يمكن معرفة سبب الخوف البادي على وجهه.. هل هو شعار الله اكبر.. أم شعار حرية.. أم الخوف من أن شعار التوحيد قد فهم أخيرا على حقيقته.. أي بمعنى الحرية..
كان موقف البوطي مثبطا للبعض حتما، أو على الأقل مانحا لهم “الحجة” للتثبيط.. فهاهو علّامة عصره وزمانه يدعم دعوة الرئيس الشاب إلى إصلاح متدرج هادئ.. ولا بأس إن انتظرنا عقودا قبل أن تبدأ هذه الإصلاحات..
لكن الكثيرين، من الشباب خاصة، صدمهم موقف البوطي بشدة.. وانهالوا عليه بعد صدمتهم لوما وتقريعا.. لم يتزحزح موقفهم من الثورة.. لكنهم غيروا موقفهم منه..
هذا بالذات يستحق الصدمة، لأنه يكشف عن أن أولئك الذين تأثروا بالبوطي ذات يوم.. لم يعرفوه حقا على حقيقته، بل ولم يقرءوه حقا.. بل تأثروا بالصورة الإعلامية المزينة المزيفة،.. والبوطي يمتلك علم “معلومات مدرسية” بلا شك.. أي علم مراجع وهوامش ومتون.. لكنه لا يمتلك المقومات التي تجعل منه علما للأمة.. أي انه لا يمتلك القراءة اللازمة لجعل ما يعرفه من متون ونصوص أداة للارتقاء بالأمة..
رغم ذلك، وفي زمن الخراب الذي نعيشه، ولأن منطق التدهور طغى على معايير تطويب العلماء كما على كل شيء.. فقد تم تطويب الرجل ليكون بالنسبة للكثيرين علّامة الأمة..
عدة ملاحظات يجب تثبيتها قبل الدخول في صلب الموضوع:
1.إن شخص البوطي لا يعنيني هنا في أي شيء، ولا يجب أن يعني هنا أي أحد على الإطلاق وأقصد بشخص البوطي حياته الشخصية تحديدا، حياته التي لا نعرفها ولا ينبغى أن نتلصص عليها، لا يعنينا معاملته لزوجته أو تربيته لأبنائه أو تقصيره أو إحسانه في ذلك. ما يعنينا هو نتاجه ومواقفه المعلنة.. لذا ففرط الحساسية الذي يمتلكه البعض تجاه ذكر أسماء بعينها لا معنى له ما دمنا نلتزم بنقد ما هو معلن من مواقفه. سيقول البعض إن الهدي النبوي مخالف لذلك ويحتجون بأنه عليه الصلاة والسلام كان “إذا بلغه عن الرجل شيء لا يقول ما بال فلان يقول كذا بل كان يقول ما بال أقوام يقولون كذا وكذا”.. وهذا صحيح فيما لو كان الرجل المشار إليه شخصا عاديا من عامة الناس.. وسيكون ذكره فيه فضح له ولما يفعله، أما والرجل “رمز” تبع وله طلابه ومريدوه فضلا عن متأثرين بكلامه عموما دون أن يكونوا من المريدين.. فهذا الحديث ليس موضع استخدامه هنا على الإطلاق.. كما أن الرجل لم يستتر ولم يخجل مم يقول بل هو يكرره في كل مناسبة.
2. إن المساس برمزية شخص ما، وليس بأموره الشخصية، هو أمر حتمي في المرحلة التي نعيش فيها الآن.. لو عرضنا لأراء وفتاوى سلطانية دون أن نذكر أسماء العلماء الذين تورطوا فيها، لمرت مرور الكرام دون أن تثير صدمة ما، وبالتالي دون أن يحدث الأثر الذي يجب أن يحدث، مجرد ذكر اسم الشيخ أو عالم الدين الذي ذكر هذا الرأي فإن الموقف سيختلف تماما..من كان لا مباليا سيتحول إلى الدفاع عن الرأي.. من كان ضد الرأي قد ينقلب إلى التأييد المتطرف له.. (عندما نشرت مقالا ينتقد جزئية المنامات التي رآها الشيخ نفسه، تداعي الكثيرون لتأييد النقد والتنديد بمنام الشيخ لمجرد إنهم لم يعرفوا من هو،وعندما تبين لهم من سياق التعليقات، سحبوا تأييدهم وأعلنوا تراجعهم عن ذلك..)
ما هي الفائدة إذن من ذكر اسم الشيخ المعني إذا كان سيؤدي إلى تأييد الفكرة الفاسدة التي نريد محاربتها ؟.. على العكس.. ما هي الفائدة إذا حاربنا الفكرة دون أن نحارب جناحها القوي.. ما هي الفائدة من محاربة الفكرة دون أن نقتحم حصنها الحصين.. دون أن نستكشف مداها وتأثيرها، حينما يكف الناس عن التفكير ويسلمون رؤوسهم لرجال دين يفكرون بالنيابة عنهم..
3.الفصل المفترض بين الفكرة والشخص الذي يروج لها، والدعوة المستمرة إلى عدم الخلط بين هذا وذاك هو فصل شاعري افتراضي و لا يمكن أن يطبق في واقع الأرض- إلا بقدر ما قلنا عن عدم الخوض في تفاصيل شخصية لا تعني الفكرة.. الخطاب القرآني عندما حذرنا من الاستبداد لم يتحدث عن فكرة الاستبداد بمعزل عن شخوصها ورموزها.. بل حدثنا عن فرعون وقارون وهامان.. عندما حدثنا عن المصلحين لم يذكر الإصلاح بوصفه فكرة مجردة عن الدعاة و الأنبياء الذين حملوها في دمهم وفوق أكتافهم ودفعوا ثمنا باهظا من أجلها.. حدثنا عن نوح وموسى وهود وصالح.. عندما قام الخطاب القرآني بنسف علاقات القربى التي لا تنسجم مع العقيدة الصواب.. لم يحدثنا عن ذلك نظريا.. بل قال “تبت يدا أبي لهب وتب”.
لأجل كل ما سبق، ولأن الشيخ البوطي تطوع ليكون رأس حربة في الدفاع المباشر والصريح عن الاستبداد، ولأن مكانته الشعبية لا تشبه مكانة سواه من بقية علماء السلاطين الذين لا شعبية لهم ولا مصداقية (مثل المفتي الذي لم يكترث أحد لموقفه).. كان لا بد من فتح الملف بكل تفاصيله رغم كل ما سيتسبب به من ردود أفعال تجاه من يفتح هذا الملف.. لكن أحيانا، ما نتجنبه هو ما بالذات ما يجب أن يقال..
************************
ينتمي البوطي إلى التيار الديني التقليدي الذي يعد امتدادا للتيار الأشعري والذي ساد لفترة طويلة في الفكر الإسلامي، على الأقل منذ الغزالي أي تزامنا مع عصور التدهور التي دخلتها الحضارة الإسلامية.
لست بصدد الدخول في قضايا الأسماء والصفات التي شكلت –ولو على نحو ظاهري- الأساس الذي بني عليه المذهب الأشعري، ولكني أنبه إلى أن الخصومة التاريخية بين المعتزلة والحنابلة والتوسط المفترض للأشاعرة بين التيارين –وخصومته معهما أيضا لم يعد له أي معنى فاعل اليوم.
ما يعنيني هو اختلاط هذا التيار الأشعري بالتصوف من ناحية وبالتمذهب الضيق (الشافعي غالبا) من ناحية أخرى..
يلقى التصوف الكثير من محاولات “التزويق” و”التمرير” وحتى “العصرنة” أي بإلباسه ثوب عصري مزيف، لكن هذه المحاولات لن تستطيع أن تصمد أمام بعض الحقائق التطبيقية –ذات الأثر السلبي المروع من وجهة نظري طبعا: ألا وهي مسألة الاستغاثة والتوسل والتبرك وباقي سلسلة الخرافات…
لا يجب النظر لهذه الأمور من نفس الزاوية التي نظر لها تقليديا فحسب ( أي بزاوية الشرك والبدع التي أشبعت بالبحث) و لكن هناك جوانب أخرى لا تقل أهمية: الاستغاثة والتوسل تقتلان أهم عنصر من عناصر الإيمان “العملي” الذي نحتاجه فعلا في كل خطوة من خطوات حياتنا.. تقتلان إيمانك بالسنن والقوانين التي وضعها الله في الكون، تقتلان فيك روح الاقتداء بمن يجب أن يكون قدوة، لأنك عندما تؤمن إنه يمتلك قوى خارقة بما يكفى لتستغيث به، فأنك لا يمكن أن تقتدي به.. حياته لن تكون موضع اقتداء بل موضوع إبهار فقط..- ،سيؤثر هذا على إيمانك بنفسك، إيمانك بالسنن، على رؤيتك لدورك في هذا العالم.. سيكون هذا خللا كبيرا في كل شيء.. (حتى لو كان لا يحدث إلا بشكل موسمي عابر…)
ولقد كان البوطي من هذا التيار بلا شك. فعل كل ما يمكن من ترقيع للنصوص وتلاعب بالألفاظ من أجل تمرير وتبرير هذه (العقائد) التي تنخر في جسد الأمة.. ويمكن لمن يشكك في ذلك أن يدخل على موقعه ويستخدم محرك البحث الداخلي ليبحث عن كلمات مثل الاستغاثة والتوسل وكتاب كرامات الأولياء للنبهاني (وفيه خرافات محزنة والشيخ يصفه بالجيد وينصح به).. فخلف قناع “العقلانية” المزعومة الذي يرتديه الشيخ.. هناك وجه غارق في الخرافة والبعد عن كل ما جاء به الإسلام..
*************
لا يمكن فهم ما وصل له البوطي من مكانة في بلده وفي عموم الوطن العربي- بتفاوت- دون فهم الظروف السياسية في سوريا، والتغيرات التي طرأت لاحقا على المشهد الدولي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
اتخذ البوطي في نتاجه ومؤلفاته موقف الوريث للتيار الأشعري في الخصومة ضد التيارات الأساسية التي “نافست” تيار التدين التقليدي-الأشعري الصوفي..
كان هناك تيار الإصلاح والتنوير –تيار الأفغاني ومحمد عبده- وقد عده البعض وريثا لتيار الاعتزال..
وكان هناك أيضا التيار السلفي.. ويمتلك الكثير من المقومات التي تجمعه مع “الحنابلة”..
-أي أنه ورث موقف الأشاعرة في الخصومة ضد هذين التيارين..
وأضافت الظروف المختلفة تيار الإسلام السياسي الذي واجهه البوطي بعداء مماثل.
كان لا بد لتقارب ما أن يحدث بين الشيخ البوطي و بين حكم البعث الذي استلم السلطة في مطلع السبعينات. ليس ذلك لأن الشيخ كان مؤمنا بمبادئ حزب البعث مثلا، بل لأنه كان هناك كان هناك عدو مشترك واضح جمع بينهما منذ البداية: ألا وهو تيار الإسلام السياسي.
لم يكن البوطي منافقا لسلطة أو لحكم عندما أعلن عداءه المبكر لهذا التيار( أول مقال نشر له في هذا الصدد مقال هجومي عنيف جدا ضد حزب التحرير عام 1967 ينتهي فيه إلى اعتبار إن الحركة مندسة وخائنة لصالح الأعداء).. ، بل لعله كان أشد وأكثر إخلاصا من السلطة نفسها.. لكن البوطي كان ينطلق في معاداته للحركة الجديدة من منطلق مختلف تماما.. لقد كانت الحركة الجديدة بمثابة صفعة للتيار التقليدي (المذهبي- الصوفي – الأشعري ) الذي ينتمي له الشيخ البوطي.. صحيح أن تيار الأخوان المسلمين لم يصطدم مباشرة بالعقيدة الصوفية أو الأشعرية وكان هناك من أعضائهم البارزين من يدين فعلا بهذه العقيدة مبدئيا..لكن رؤية الأخوان للدين ، ورؤيتهم لدورهم في الحياة هو ما يجعل البوطي يقف منهم موقف المضاد المهاجم ،المدافع حقيقة عن نمطية دوره الموروث ..
لم يمتلك البوطي بيانا ساحرا أو قلما مؤثرا مثل مشايخ دمشق الذي فاقوه علما وتأثيرا ولم يفرضوا من قبل سلطة ( مثل الشيخ علي طنطاوي أو مصطفى السباعي) لكنه امتلك إصرارا نادرا على فتح ملفات الخصومات الفكرية (مع هذه التيارات الثلاثة التي خاصمها) بمناسبة وبلا مناسبة.. وهو أمر أوحى للمتلقين أنه قوي الحجة قادر على إفحام خصومه.. والحق أن الساحة خلت له تدريجيا إما بموت خصومه أو بطردهم والتضييق عليهم في الساحة.. وللرجل طريقة لا يمكن القول إلا إنها ماكرة في التعريض بأفكار خصومه، فهو يقدم لهم بمدح وثناء عام ، ثم يمرر جملا لا يمكن أن تفهم إلا إنها تنسف كل ما قدمه هذا الخصم (حديثه عن الدكتور مصطفى السباعي – في كتابه “شخصيات استوقفتني ص 193-206 ” مليء مثلا بالغمز واللمز على إن كل ما يثني عليه حدث بعد حل حركة الأخوان المسلمين، فهو يقول بالحرف “إن لا شيء قبل ذلك استوقفه “!! ويعلل ذلك باحتمال أن يكون ما يمدحه يعود لحالة من الصفاء -!- التي طهرت قلب السباعي بعد تركه لحركة الإخوان والصراع على المغانم الدنيوية باسم الدين وتحت أستاره !!)..
كيف يمكن أن تحذف من حياة المرشد الأول للإخوان المسلمين في سوريا حياة حافلة بالإنتاج والنضال قضاها وهو مرشد للحركة ؟.. كيف يمكن أن تحذف منها حرصه على الجهاد ودعوته في القرى والمدن للجهاد في فلسطين ؟.. هذا غير نتاجه العلمي والفقهي الذي لم يتعطل قط أثناء كونه مرشدا للإخوان ..
لكن من الواضح إن ما يزعج البوطي هو أن يخرج الفقيه عن دوره التقليدي في فقه الحيض والنفاس والحساب العددي لزكاة الأموال ويتحرك باتجاه تحريك الجماهير.. على الفقيه أن يعود أدراجه و يعيش بين الأدراج لكي ينال ثناء البوطي..
التيار الثاني الذي كان البوطي خصما مخلصا له هو تيار السلفية العلمية، وقد اختلطت الآن الأمور في التسميات فلم يعد هناك تفريق بين هذا التيار و بين ما يعرف بتيار السلفية الجهادية، ورغم أن تيار السلفية العلمية لا يختلف كثيرا عن تيار البوطي في الموقف من الحكام وولاة الأمر المزعومين، إلا إن هناك أمورا أخرى لا تقل أهمية تعكس جوانب من الاختلاف الكبير بين التيارين الذي خاض معه البوطي معارك مريرة (خصوصا مع الشيخ الألباني ) وكانت هذه المعارك تدور حول عناوين( التوسل والتبرك والقبور) تعني بوضوح موقف البوطي وعقيدته الواضحة بلا لبس.
كما أنه اعتبر أن اللامذهبية – أو عدم التمذهب بمذهب معين من المذاهب الأربعة المعروفة- وهو ركن أساسي من أركان الدعوة السلفية هي أكبر بدعة تواجهها الأمة الإسلامية ! (ويعني هذا أن على الأمة البقاء على هذا التقسيم الرباعي إلى أبد الآبدين.. وإلا ابتليت ببدعة!)..
.
موقفه من أهم رموز الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده) لا يقل سوءا، بل يزيد، فهو يقدم( في كتابه ذاته “شخصيات استوقفتني ص 177-187) للأفغاني بمدح عام فضفاض ثم يكيل له كل ما يمكن اتهامات: فهو يتجاوز الاتهام التقليدي بكونه عضوا في “المحفل الماسوني” ليصل إلى حد التلميح بكفره، فمحمد عبده نطق بالكفر البواح –على حد زعم البوطي- ووافقه الأفغاني سكوتا ..!! (والنص الذي يزعم فيه حدوث الكفر البواح هذا هو كله نص مفقود-!!- من رسائل بين الرجلين، أوردها ابن شقيق الأفغاني –الذي كان عدوا شخصيا للأفغاني !!- بل يتجاوز البوطي ذلك أيضا إلى اتهامه بكونه يشرب الخمر.. وهو اتهام يحتاج إلى شاهدي عدل.. وإلا يقام على البوطي الحد!!. ومن الصعب العثور على شاهدي العدل هؤلاء بعد وفاة الأفغاني بمائة سنة ).
ليس غريبا أبدا أن نجد البوطي نفسه، مع رموز تراثية أخرى ثبت عليها أقوال تشي بل وتصرخ بالكفر البواح، يحاول التأول والتبرير بل وحتى الادعاء بأن هذه الأقوال “مدسوسة” على كتب هؤلاء.. (بالذات مع ابن عربي)..ما الذي يدعوه هنا إلى “التورع عن الاتهام ” والتوقف في الحكم بالكفر؟.. إنه الانتماء الفكري لهذه الرموز.. عندما يكون الرمز منتميا لتيار الإصلاح والتنوير فإن البوطي يترك توقفه وتردده وتأوله.. وعندما ينتمي الرمز لتيار النوم والشخير التاريخي والتعايش مع الواقع الفاسد الظالم فإن البوطي يبذل جهده للدفاع والتأويل..
مشكلة البوطي مع الأفغاني أنه كان يلقب ب”موقظ الشرق”.. وهذا بحد ذاته أقرب للكفر البواح حسب المنظومة الفكرية التقليدية التي انتمى لها “البوطي”.. فالشرق بالنسبة للبوطي ليس بحاجة لليقظة.. بل هو بحاجة للمزيد من النوم على أمجاد الماضي وعلى كرامات الأولياء وعلى التمذهب البغيض، وكل من تسول له نفسه إيقاظ الشرق فإن عالما مثل البوطي سيكون له بالمرصاد، سواء كان هذا الإيقاظ (عبر دعوة إصلاح وتنوير مثل دعوة الأفغاني وعبده، أو دعوة التغيير السياسي مثل دعوة الأخوان المسلمين، أو دعوة العودة إلى الكتاب و صحيح السنة مثل الدعوة السلفية، وكل هذه التيارات ليست فوق النقد وتملك أخطاء نظرية أو عملية “طبيعية” لكنه على الأقل لا تزوق البقاء في الواقع الآثم..)..
يحسب للبوطي أنه كان مخلصا في ذلك، لقد حارب هؤلاء بإخلاص بغض النظر عن حروب السلطة معهم (أو مع تيار الأخوان والسلفي تحديدا)… لقد تصادف إن السلطة لاحقتهم وحاربتهم أيضا فكان هذا مدعاة أكثر للتحالف معها.. لكن محاربته لهم لم تكن بإملاءات من السلطة القمعية كما قد يتخيل البعض، وكما حدث فعلا من قبل البعض الأخر من علماء السلاطين. كان البوطي منذ أن كان لا يزال مدرسا في كلية الشريعة، وقبل أن يصبح وكيلا ومن ثم عميدا لها، قد اختار مواجهة تيار الإسلام السياسي كما أشرنا إلى مقاله المبكر.
لذلك كان من المنطقي جدا أن تتحالف السلطة معه وتستثمر موقفه هذا خاصة مع تصاعد مواجهاتها مع تيار الإخوان المسلمين منذ أواسط السبعينات، وصولا إلى المواجهة الكبرى في مجزرة حماه التي أفرغت الساحة ليس من خصوم البوطي بل حتى من ثقلهم الاجتماعي الذي تحول ليكون أرقاما في المعتقلات وسجلات المفقودين. لم يصلنا هنا موقف شامت من قبل البوطي، لكن لم يصلنا أيضا موقف متعاطف لا مع أعضاء التيار ولا مع عشرات الآلاف من أسرهم وأقاربهم من الذين نكل بهم النظام وأودعهم السجون والمعتقلات وسلمهم لزبانيته ليسومونهم أشد أنواع العذاب البهيمي.. لم يقل شيئا لا ضد ولا مع. لكنه بعد أقل من عام ظهر على شاشة التلفاز السوري ليقرض رئيس النظام الذي ارتكب كل هذه الجرائم، فيقول عنه بالحرف (ما أعرفه عنه إنه شخص ملتزم لا يدخن ولا يشرب الخمر!!!).. (وللأسف لم يكن يومها هناك يوتيوب ليوثق ما قاله وينشره ليفضحه أكثر وأكثر).. لكن هذا الموقف الذي يقيس البوطي فيه صلاح “رأس نظام” بمسلك شخصي جزئي جدا –عدم التدخين !!!- يعبر عن رؤيته للحياة ككل ولدور الإنسان في هذا الكون.. ولدوره كعالم دين( أود هنا أن أقول رجل دين أو كاهن أو سادن معبد أو أي شيء آخر!!).. فالرجل تحدث في لقاء مصور حديث و بث على حلقات (وموجود على اليوتيوب) إنه أهدى رأس النظام السابق كتاب أدعية صغير مستل من أذكار النووي !!.. وإن رأس النظام كان مسرورا جدا ووضعه في جيبه وأبلغه إنه علّم بعضا من هذه الأدعية لأهل بيته !!!.. البوطي يؤمن إن دوره هو توزيع كتب الأدعية على من تلطخت يديه بدماء حرام وأعراض حرام.. رأس النظام هنا كان يحتاج إلى من يعرفه بالإسلام.. بحقوق العباد.. برد المظالم.. بمحاسبة الزبانية.. بالتنحي.. بالقبول بالمحاكمة والعدالة تكفيرا عما اقترفت يداه واستعدادا لمحاكمة أخروية.. بل بمعنى الشهادة هو الذي كتب جنوده على الجدران في حماه المنتهكة إمعانا في انتهاكهم : لا إله إلا الوطن و لا رسول إلا البعث !!…
لكن كل هذا لا داع له.. فكتاب الأذكار الصغير الذي أهداه إليه فضيلته كفيل بأن يحط عنه من خطاياه.. فلم إذن نحاول أن نضخم الأمور ونهولها؟..( تذكرني أذكار النووي في جيب الطاغية بمقولة عبد الله بن عمر: انظروا إلى هذا.. يسألني عن دم البعوض -هل يفسد الوضوء- وقد قتل ابن بنت رسول الله).. ويذكرني موقف “عدم الشرب” الذي أثنى عليه البوطي بموقفه الآخر في واحد من أشهر كتبه (كبرى اليقينيات الكونية-الفصل الأخير-ص 253).. فعندما تحدث عن “الحاكمية لله” التي يجب أن تسود مجتمع مسلم، لم يجد من مثال تطبيقي غير “عدم التعامل بالربا” و”عدم تناول الخمور” !!!..لا شيء عن العدالة الاجتماعية مثلا.. أو كرامة الإنسان أو حريته في التعبير عن رأيه أو حقوقه التي يجب أن تكون مضمونة في مجتمع كهذا.. بل لم يتحدث حتى عن واجبات الفرد في مجتمع كهذا..لا شيء سوى “عدم تناول الخمور”.. وهو هنا يقلص الشريعة إلى جانب واحد فقط مقتصر على جانب النواهي فقط.. لكن لا شيء عن الواجبات الشرعية التي يجب القيام بها.. لا شيء عما يجب أن يفعله المرء.. فقط هناك حديث عما لا يجب أن يفعله… (هل تريد أي سلطة قمعية أكثر من دين كهذا؟. وما ضرها إن لم يزن البشر أو لم يدخنوا أو يشربوا الخمر.. ما داموا في الوقت نفسه لا يطالبون بحقوقهم ولا يعترضون على شيء.. ربما باستثناء وجود من يشرب الخمر!!!).
هذا الخلط بين سلوكيات جزئية و بين مهام رأس الدولة يعكس بالمقابل خلطا أكبر بين سلوكيات جزئية أخرى ومهام الدولة.. فبالنسبة لما يمثله البوطي.. يكفي أن يكون هناك مساجد تفتح في أوقات الصلاة، ويكون هناك من يعتلي المنبر ليقول ما يعتبره البوطي صوابا.. ليكون كل شيء على ما يرام و”شو بدنا أكثر من هيك”.. يكفي أن يكون هناك المناخ الملائم للبوطي ليوزع أفيون التعايش مع الأمر الواقع.. ويصول ويجول في جبهاته المفضلة الثلاث (ضد الإصلاح والتنوير- ضد اللامذهبية- ضد الحراك الإسلامي السياسي).
كان من الطبيعي للإعلام الرسمي أن يتبني البوطي وخطبه ودروسه بشكل مستديم ومزمن، وهكذا فرض الرجل على عقول ونفوس أجيال تلو أجيال في وقت لم يكن هناك غير قناة رسمية واحدة و رجل دين واحد يظهر بشكل متكرر.. ولأن المجتمع السوري –الدمشقي خصوصا- يكن تقديرا خاصا لعلماء الدين، بل يعتبر إن مكانتهم هي من مكانة “الشام” نفسها، فقد تحصن البوطي خلف هذه المكانة التقليدية (التقديسية).. وهذا جعل الناس تتعرض لغسيل دماغ لصالح مكانة البوطي.. لا يعني هذا إن السلطة قادرة على فرض أيا كان ليكون ضمن هذه المكانة، لكن عاملين اثنين لعبا دورا مهما هنا..
الأول: أن البوطي لم يحصل على أي مكسب دنيوي من السلطات.. لا منصبا ولا جاها ولا أي شيء مادي (عدا المساحة الإعلامية الواسعة التي تم منحها إياه والتي ساهمت في مكانته المعنوية بكل تأكيد).. لكن لا شيء مادي مما تعود وعاظ السلاطين على أخذه والانتفاع منه، الأمر الذي يفقد مصداقيتهم أمام الجمهور.. بينما البوطي كان زاهدا في ذلك، فهو لم يدعم النظام تقربا أو تزلفا أو طمعا.. بل إيمانا منه بأن دور عالم الدين من صنفه يجب أن يكون في دعم السلطة (السلطان المتغلب) والاستقرار على الوضع القائم مهما كان هذا الوضع سيئا.. هذا الأمر لا يدعم “موقف البوطي” و لا يجعله صوابا.. لكنه يجعل البعض من الناس (خاصة من عموم البسطاء منهم) يخدعون بزهده في المناصب ويتخيلونه دليلا على صوابه.. والأمران مستقلان تماما، ولو كان ذلك دليلا على شيء لكان رهبان التبت أولى بالصواب منه.
الثاني- إن البوطي –وإن أسبغ صفات المدح والثناء على الطاغية الأب وولده من بعده (سواء ما نشر في كتابه “كلمات أمام الرؤساء والملوك” أو ما تناثر هنا وهناك كما في كلمته المخزية في تأبين الرئيس أو تأبين ابنه باسل، وبعض هذه الكلمات تتجاوز ما هو معهود من كلمات ثناء إلى جرأة وتألي على الله عز وجل ومعرفة مزعومة للسرائر وللمصير الأخروي للطاغية أو لولده) فإن ذلك لم يكن “روتينا”.. أي أن البوطي لم يطل كل أسبوع ليمتدح الرئيس أو يثني عليه.. بل ظل مقتصرا على “المناسبات” خاصة عندما يحتاج النظام فيها إلى دعم.. ولم يتنافى ذلك من نصائح يقدمها البوطي بين الحين والأخر للنظام أو لرئيسه حول هذه الجزئية أو تلك.. أمور بسيطة جدا يقدمها البوطي طالبا “الرأفة”أو”الرحمة”..-وليس العدل.. والفرق كبير جدا بين الاثنين.. فرأس النظام عندما يطالب بالترحم أو بالعفو، فإن ذلك يبقى يدمغ من عفي عنه بالجرم.. ولا يعدو الأمر أن يكون “مكرمة” من رأس النظام..أما “العدل” فهو أمر آخر تماما.. وهو ما لم يطلبه البوطي قط من النظام، لأنك عندما تطلب العدل فإنك تثبت وجود الظلم.. أما عندما تطلب الرأفة والرحمة والتخفيف فهذا يعني إنك تقر إن النظام على حق.. ولكن تطلب منه الصفح ليس إلا.. وهذا يوحي للبسطاء أن للرجل موقفا وأنه لا يخاف في الحق لومة لائم.. لكنه في الحقيقة لم يختر سوى قضايا جزئية تهم هامشا صغيرا من المجتمع، كما في إثارته لقضية “موظفات النقاب”.. بينما سكت الشيخ عن قرار منع الحجاب في المدارس الرسمية للفترة بين 1983-2000، بل ظل ينكر وجود مثل هذا المنع ويصر إنها مجرد اجتهادات شخصية من قبل إدارات المدارس !..كما إنه عبر عن تحالفات السلطة وتقلباتها بطريقة مهينة أحيانا : مثل قوله إنه يتمنى لو كان إصبعا في يد حسن نصر الله !!
عموما، زهد البوطي في المناصب وعدم تكراره المدح في كل إطلالة ساهم في جعل الناس -في دمشق خاصة و بسبب من المكانة التي توليها لعلماء الدين – يمنحون مكانة خاصة للبوطي في زمن انحسار علماء الدين الحقيقيين.. وخاصة بعد أن صفيت الساحة من خصومه في التيارات الأخرى الأكثر تأهلا للمساهمة في الإصلاح والتغيير.
لكن إذا كانت “الحرب الباردة” قد جعلت النظام الرسمي يهرب بجرائمه دون عقاب، فإن نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينات، قد أفرزت وضعا جديدا ساهم في تعزيز موقع البوطي على نحو غير مسبوق.
كيف ؟.. بنهاية الحرب الباردة قرر الغرب أن يجد عدوا آخرا بدلا عن العدو الذي لحقت به الهزيمة، وقرر بعض الإسلاميين أيضا أن يكونوا هذا العدو في توقيت لم يكن هناك ما هو أسوأ منه. وانتهى الأمر بالقاعدة وأخواتها في مواجهة مع أمريكا وحلفائها..
ولأن القاعدة تجمع بين جذور تنتمي لتيار الإسلام السياسي و التيار السلفي ( الذي سبق وأن أشرنا إلى الخلط بين جزئه السلفي الجهادي و جزئه السلفي العلمي).. لذلك فقد وجد من يعنيه الأمر، من مؤسسات غربية لصنع القرار و حكومات عربية تأتمر بأمرها، وتنفذ لا ما تطلبه هذه المؤسسات فقط، بل ما تفكر به مجرد تفكير وجدت هذه المؤسسات والحكومات إنه من المهم دعم التيارات الدينية المناوئة لهذا التيار، بالذات تيار التدين التقليدي والتصوف، وتيار أدعياء التجديد الديني –مهما كان الخلاف بينهما كبيرا..
هكذا وجد البوطي مكانا له في عالم ما بعد الحرب الباردة.. عالم الحرب على الإرهاب، وجاء كتابه “الجهاد في الاسلام” عام 1993 ليعبر عن ذلك تماما، ولينسجم أيضا مع الوضع المحلي الجديد ، حيث بدأ بعض معتقلي أحداث حماه بالخروج من السجن بعد ما يزيد عن العشر سنوات في غياهب المعتقلات وأقبية التعذيب.. وكان لا بد إن هؤلاء سيحكون عما جرى…
كتاب البوطي، تضمن، ضمن أشياء كثيرة، تصنيف فقهي جديد للمعارضين للحاكم أو ولي الأمر.. فبينما كان الرأي الفقهي السائد مستقر على توصيفهم بوصف البغاة، فإن البوطي تفتق اجتهاده الفقهي عن توصيف جديد غير مسبوق.. فالبوطي يقرر أن هؤلاء المعارضين، الخارجين عن “الحاكم” ليسوا بغاة ، بل هم “محاربين”.. والفرق بينهما دقيق، فالبغاة-فقهيا- لا يجوز قتلهم بعد أسرهم، و لا يجوز الإجهاز على الجريح منهم، و لا يجوز تعقب المنهزمين منهم، بل لا يقام عليهم القصاص بقتل الأنفس..
أما المحاربون (أي المعارضون!!) فهم لا يتمتعون بكل ذلك.. بل يجب – يجب !!- أن يطبق عليهم حد الحرابة.. (يجب، وليس يجوز) على الحاكم أن يطبق عليهم هذا الحد.. أي أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.. و أن يصلبوا.. وبالعربي الفصيح أن يعدموا أشنع إعدام.. ويمكن للحاكم أن يقتلهم بعد أن استأمنهم، وأن يجهز على جريحهم، و أن يصادر أموالهم… الخ.. (التفاصيل الواردة في كتب الفقه عن طرق الصلب تعني بعبارة واحدة أن هذه هي طرق تعذيب مروعة.. وإن استخدامها كان لغرض إرهاب قطاع الطرق في العصور الماضية أي كان جزءا من حماية المواطنين من مخاطر قطع الطرق- لا يبرر هذا ذلك بل يفسره فقط- والخدمة الجليلة التي قدمها البوطي هي جعل المعارضين “قطاع طرق” يجوز صلبهم !!..)
هكذا تم تقديم “غطاء فقهي”- سيبدو متقنا للبعض- لكل ما يريده الطغاة.. صحيح أنه من المستبعد أن يشعر الطغاة بتأنيب الضمير على عمليات التعذيب التي يأمرون بها، لكن سيكون من المناسب جيدا أن ينالوا “صك مغفرة” لما يفعلون.. فهم قد نالوا “الشرعية الدولية” – أو على الأقل غض النظر عن قصص حقوق الإنسان وما إلى ذلك- وسيكون مناسبا جدا أن ينالوا فتوى شرعية تبيح لهم ذلك أيضا.. (ذرا للرماد على العيون على الأقل).. ولأن كتب الفقه تعتبر إن من آوى محاربا قد يعامل معاملة المحارب، فإن الحدود بين المعارض السياسي- السلمي، أو معتقل الرأي.. والحدود بين المعارض المسلح غير موجودة فعليا بالنسبة للأنظمة وكهنوتها “المرن” مع متطلبات التعايش مع الأمر الواقع..
من أراد أن يتاكد فليراجع الكتاب المذكور 168-172) (
هكذا شهدت هذه الفترة رواجا للبوطي ولمكانته ولبرامجه ، خاصة مع ظهور فضائيات دينية تريد أن تملئ ساعات البث بأي مادة مرئية من أي نوع وبغض النظر عن طلة المتحدث وقدرته على شد أو جذب المشاهد (عدا عن توعيته أو إيقاظه من النوم).. وما زاد من هذا كله أن “الدعاة الجدد”- وبعضهم لا يمكن أن يكون في خانة قريبة من تصنيف البوطي ولتياره الحريص على النوم- كانوا بالغي التهذيب، ولعلهم لم ينتبهوا لخطورة الرجل على مشروعهم – النهضوي-.. فكانوا ينصحون بقراءة كتبه ربما ليس حرصا على محتواها بقدر حرصهم على “القراءة” بحد ذاتها.. خاصة مع توافر الكتب ووجودها بلغة “مدرسية” تقريرية مفهومة بالنسبة للجيل الذي توجه له “الدعاة الجدد”.. و لا ريب إن المواجهة اليوم بين ما أيده هؤلاء الدعاة من ثورات، ومن تأييد البوطي الصريح للطغاة، ستفرز إعادة للنظر على نحو شامل، ونأمل أن لا يتم اعتبار الموضوع “خلافا جزئيا” لأنه ليس كذلك على الإطلاق.. بل هو مواجهة حاسمة آن لنا أن ننجزها.. آن لنا أن نواجه هذا التيار الذي كان سببا في تخلف أمتنا وقعودها عن أداء دورها..
لكن ماذا عن نتاج البوطي..؟.. ماذا عن كتبه العديدة التي قدمها خلال أربع عقود؟
هذا السؤال هو الأهم في رأيي.بعد سنوات لن يعود هناك حديث عن البوطي كشخص وعن مواقفه مع هذا النظام البائد. بل عن عالم ترك نتاجا علميا.
هل يمكن حقا فصل مواقف البوطي عن نتاجه العلمي؟.. ألم يعبر في نتاجه عن فكره.. وعبر في مواقفه “الشخصية” عن ذات الفكر؟.. ألم يكن فكره ممثلا معاصرا –مع كثير من اللف والدوران- للتيار الذي كانت سيادته سببا في غروب شمس الحضارة عن أمتنا؟.. تيار التصوف الخرافي السلبي المتواكل الذي احتكر تماما للتعايش والتأقلم مع الوضع الراهن.
نتاج البوطي-على غزارته- يمكن تلخيصه بثلاث مؤلفات مركزية ، ” كبرى اليقينيات الكونية”، و”فقه السيرة النبوية”، و”نقض أوهام المادية الجدلية”.. لن يكون هناك مجال واسع للتفصيل في أي من هذه الكتاب، ولا يمكن إنكار وجود إيجابيات متناثرة في هذه الكتب، وهي إيجابيات لا تخص البوطي بالضرورة (أي إنها ليست من نتاجه الشخصي حتما بل هي جزء من المتفق عليه عامة في الموروث الإسلامي).. وهذا أمر طبيعي، فلا يمكن لأي مؤلف –مهما كان انتماؤه الفكري مغايرا لبقية الفرق- إلا أن يقدم في نتاجه ما يوافق كل هذه الفرق، لكن المسألة هي في تمريره لأفكاره المغايرة وبنجاح يتفاوت من مؤلف لآخر..
سيقول البعض أنه “موفق” في الكثير من الجوانب ويمكن الغض عن “سلبيات ” ما نتج… ورغم إني أرى أن توفيقه لا يعود لقوة بيان أو منطق أو تماسك حجة ، إلا إني أرى إن الحديث عن التركيز على ايجابياته وترك سلبياته يشبه أن نقول عن “طبخة” وضع فيها سم قاتل إنها شهية رغم ذلك وإن علينا أن نتمتع بها أولا ونحاول ألا نموت من سمها.. (نعم..لهذه الدرجة).
هذا أولا.
ثانيا، مؤلفات البوطي تعرضت للنفخ لعدة أسباب، منها شيوع ثقافة المدح والثناء على كل مكرس بغض النظر عن القيمة الحقيقية لما ينتجه، ومنها أن الكثير من المادحين لا يقرأ حقا ولا يدقق فيما يقول الرجل..
والحقيقة أن التدقيق في نتاج الرجل سيجعلنا أمام بعض الحقائق، منها أنه قدم نسخة منقولة بالمسطرة من كتب الأشاعرة في العقيدة مع القليل من التبسيط اللغوي-المدرسي- والقليل من الأمثلة التوضيحية المعاصرة (أمثلة تبدو في غاية السطحية لأي شخص من غير المريدين).. ( مثال ذلك الفصل الأول عن وجود الله والذي يعد الأكثر أهمية- في كتابه: كبرى اليقينيات الكونية..).
كما يمكن ملاحظة تسخيره لكل ما يمكن من حوادث السيرة لصالح مذهبه العقائدي، حتى لو كانت هذه الحوادث لا تصح نسبتها له عليه الصلاة والسلام، بل بالذات لو لم تكن ذلك، لكن صيغة الجزم والتأكيد بأن الحادثة صحيحة ومستقاة من “الصحاح” توحي للقارئ غير المتخصص بصحة ما يقول ( ولو ..هاد البوطي!!).. (مثال على ذلك كتاب فقه السيرة النبوية، فمن ضمن ما ساقه على إنه حديث “مشهور” ومعروف ليبرر موضوع التوسل، أثر نقله ابن كثير عن بلال بن الحارث حيث ذهب إلى قبر الرسول في عام الرمادة ليطلب منه الغوث.. والأثر ضعيف تماما، وهو ليس برتبة الحديث المشهور، كما إنه يستغل إن المتلقي قد يتوهم إن الحديث المشهور صحيح بالضرورة، وهو ليس كذلك، بل هو ليس مشهورا أصلا !)..كما إنه يبذل جهدا استثنائيا لينقل موضوع عادي جدا وهو محاولة الصحابة الوضوء بنفس الماء الذي توضأ به الرسول عليه الصلاة والسلام- والذي لا يمكن فهمه إلا بدافع المحبة التي يمكن أن تحدث دون تصعيدات عقائدية، يحول هذا الأثر، الذي يسميه يجد الجرأة ليسميه “تبركا بآثار وفضلات-هكذا- الرسول”.. ليحوله إلى مشروعية التوسل به و بالصالحين عموما.. ويجيش خلال ذلك المشاعر ضد كل من لا يقول بذلك على أساس إن هؤلاء قوم “لم تشعر أفئدتهم بحب النبي عليه الصلاة والسلام..
كما يمكن مراجعة ردود الألباني عليه ليتبين عدم صحة الكثير من الأحاديث التي ساقها على إنها صحيحة فقط لدعم ما يذهب إليه.. علما إن منهج الاجتزاء من السياق المنقول وعدم دقة المصدر تعتبر قاعدة عامة في منهج البوطي كما بين لذلك تفصيلا عبد القادر حامد في دراسات متخصصة نشرها في مجلة البيان).
يعمد البوطي أيضا في مواجهته للأفكار الغربية المادية التي يصفه مريدوه بأنه متخصص في نقدها، إلى اعتماد نفس المنهج: نقولات مطولة مملة تعرض الفكرة بطريقة مشوهة ومختصرة – من مصادر غير واضحة المعالم (مثال ذلك يكتب بعد نقل طويل وأساسي: انظر المادية التاريخية، ص 253.. أي طبعة وأي لغة يا شيخ؟.. وهل النقل بتصرف أم حرفي أم “على حسب” ؟).. ومن ثم نقدها ( نقضها بحسب ما يقول) بطريقة يصر ويكرر هو إنها ليست عاطفية أو تهويلية ولكن يفوته أن يقول أنها سطحية، وأن أصحاب المذاهب الأخرى ممن يريد نقض عقائدهم لا يأخذون ما يقول بشكل جدي أبدا.. بل إنهم يتهكمون عليه، و لا يعني ذلك إن تهكمهم بالضرورة هو منقصة له.. لكن سياق كلامه واستشهاداته يوضح إن كتبه ليست موجهة لهم.. بل هي بمثابة تحصين مدرسي لجيل تم إفقاره فكريا بهذا النوع من المقررات.. ( مثل كتاب: نقض أوهام المادية الجدلية! )..
ربما الحرق “الحرفي” لنتاج علماء السلاطين و رموزهم ليس مهما بقدر ما هو من الضروري أن نعيد تقييمهم وتقييم نتاجهم بناء على ما سبق.. أي بناء على رؤية شاملة لكونهم امتدادا لتيار لعب دورا في جعل الفقه والعقيدة في خدمة الأمر الواقع والتأقلم معه.. ساهم هذا التيار في وصولنا إلى هذا الدرك الذي يبدو أننا معجبون به ما دمنا ندافع عن رموز هذا التيار.. أو ربما غير مدركين لمسئولية هذا التيار عن ما وصلنا إليه..
سيكون هناك من يقول أن هذا التيار ضم – في بدايته خصوصا وفي عصور ازدهار الأمة-أعلاما لا يمكن أن نتجاوز أثرهم…
هذا صحيح مبدئيا. لكن لا يمكن تحنيط هؤلاء و تحويلهم إلى أوثان. لقد كانوا رجالا صالحين وبذلوا أفضل ما عندهم حسب الظروف المحيطة بهم وحسب فهمهم للنصوص.. لكننا وصلنا إلى النقطة التي يجب أن نختار فيها: ديننا وحقيقته أم ما تراكم عليه من أفهام البشر؟..
ديننا وحقيقته التي تجعلنا ننهض ونفتح العالم.. أم تراكم عليه وجعلنا نكبو و نصغر؟..
آن لنا أن ننجز انفصالنا عن كل ما هو سلبي في موورثنا الديني.. أن لنا أن نحقق “قطيعتنا” و”فصامنا غير النكد”.. بدون هذه القطيعة لن نستطيع أن نتحرك حقا.. دون فك هذه الأغلال التي تقيد رؤوسنا سنبقى ندور في ساقية ..
لن يكون ذلك يسيرا.. ليس يسيرا تحطيم الأوثان التي تربيت على حبها. لكن في لحظة الحقيقة المرة الحادة المدببة لا بد من الخيار. إما أن تكون ما أرادك الله.. أو أن تخضع لأوثان البشر..
سيكون هناك ثمن باهظ يدفعه كل من يحمل الفأس ويهوي به على أوثان الفكر والخرافة.. خاصة من يبدأ ذلك.. سيهدد بالويل والثبور والقطيعة والعزلة والتكفير والتخوين والتصغير..الخ..
لكن الأمر يستحق ذلك.. وأكثر..!
المصدر: http://www.quran4nahda.com/?p=2570