المؤمن يعرف جيداً أين يجد ضالته

المؤمن يعرف جيداً أين يجد ضالته

 

د.أحمد خيري العمري – القدس العربي

بين الحين والآخر، تطفو على السطح ظواهر وصرعات “مستحدثة”، تجد من يروج لها ويسوقها، قد تكون أحيانا مجرد خبرا علميا يروج على أنه نظرية، وقد تكون مذهبا فكريا لا يملك من الفكر إلا قشوره ولا حداثة له إلا في شذوذه، وقد تكون مجرد صرعة عابرة في علم النفس “الشعبي” أو فقاعة لامعة فن التعامل، ولكنها تجد أشخاصا لا ينقصهم الذكاء يروجون لها ويعتاشون عليها، كما تجد أشخاصا لا تنقصهم النية الحسنة يصدقونها ويبتاعونها..

كل ذلك طبيعي، هناك عند البعض ، و لأسباب لا مجال للخوض فيها ،  الحاجة إلى “وجبة ” للمضغ الفكري لا يشترط وجود أية قيمة غذائية فيها.. فقط مادة للاجترار، والشرط الوحيد فيها أن تكون مستوردة وبغلاف براق لأسباب لا تخفى..

ما هو غير طبيعي، أو على الأقل ما لا يمكن السكوت عنه، هو أن يتكئ الترويج على احترامنا للحديث النبوي، ويخلط بين هذه الصرعات وقبولنا أو تقبلنا لها، وبين  طاعتنا  لحديث نبوي نؤمن بقداسة منظومته..

فبعد أن يتم تقديم كل صرعة من هذه الصرعات، بما تضمه من أفكار وأقوال يحاول مروجوها أن تكون مأثورة، يلتفتون لمن يحاول الاعتراض أو التشكيك أو التلميح إلى وجود ما هو مخالف للثوابت فيها، فيقولون  قال عليه الصلاة والسلام :” الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أولى بها..”.. ويحاولون إسكاتنا بهذا.

و الخديعة هنا متعددة الأضلاع، وضلعها الأول يمرر أن ما يقولونه هو الحكمة، وقد يكون أحيانا مجرد  “رأي” رجل أعمال رأسمالي ناجح والنجاح بالنسبة له هو “زيادة ثروته بغض النظر عن أي شئ آخر”، أو قد يكون قولاً لرجل دين وثني ( صار يسمى الآن زعيما روحيا، ونعرف جيدا أين يضع التصنيف القرآني معتقداته وروحانياته، ولكن كما تعلمون، أهم شيء حاليا هو “قبول الآخر” و كل ما يقوله و يؤمن به هذا الآخر، حتى لو كان وثنيا مشركا.. ).. وقد يكون قولا ومذهبا لزعيم سياسي بنى تجربته على موروث وثني “محلي”.

مع ذلك يجد هؤلاء الجرأة للزعم أن خلاصة تجارب هؤلاء تمثل “الحكمة”، وأن البحث عنها – عندهم وعند سواهم -هو جزء من اتباعنا له عليه الصلاة والسلام..

الضلع الثاني في الخديعة يحاول التمويه على حقيقة أن الحكمة بالمعني القرآني لا علاقة لها بالحكمة بمعناها الفضفاض العام الذي يحاولون تمريره،  أي معنى القول المأثور الذي يمثل خلاصة تجربة إنسانية بشرية محدودة في مضمار معين ولهدف معين.. التشابه بين الحكمتين لا يتجاوز التشابه العابر في الأسماء ولا يمتلك قرابة حقيقية.. فالحكمة التي وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع تدل في سياقاتها على معنى محدد لا علاقة له بما يروج حاليا.. جاء في التنزيل العزيز )رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )البقرة129
قال في تأويلها  الطّبري:..( ثم اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـحكمة التـي ذكرها الله فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: هي السنة، وعن قتادة والـحكمة: أي السنة.
وقال بعضهم: الـحكمة هي الـمعرفة بـالدين والفقه فـيه. .. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : “الكتاب والحكمة” الكتاب والسنة.

والصواب من القول عندنا فـي الـحكمة: أنها العلـم بأحكام الله التـي لا يدرك علـمها إلا ببـيان الرسول صلى الله عليه وسلم والـمعرفة بها، وما دلّ علـيه ذلك من نظائره.

فروى ابن وهب قال: قلت لمالك ما الحكمة؟. قال : المعرفة بالدين والفقة فيه.

 وقال قتادة: الحكمة هي السنة، وذلك لأن الله تعالى ذكر تلاوة الكتاب وتعليمه ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد بها شيئاً آخر وليس ذلك إلاّ السنّة. وقيل الحكمة: هي العلم بأحكام الله تعالى التي لا يدرك علمها إلاّ ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم والمعرفة بها منه. وقيل الحكمة: هي الفصل بين الحق والباطل. وقيل: هي معرفة الأحكام والقضاء وقيل:  الحكمة هي فهم القرآن). انتهى كلام الطبري و يماثله كلام سواه من أهل التفسير في الآية.

إذن خلاف أهل التأويل في الأمر لا علاقة به بأخذ الحكمة من بورصة “وول ستريت” أو من هذه التجربة أو تلك شرقا أو غربا ، بل يبقى دائراً حول  ثوابت القرآن الكريم والسنة ، و هي ثوابت نؤمن  بشموليتها و صلاحيتها لكل زمان و مكان ..

هناك بعض الآيات في القرآن الكريم التي قد لا تعطى هذا المعنى للحكمة لو أخذت بشكل منفصل ومستقل عن بعضها البعض، ولكن تضافر الآيات وتكاملها هو ما يمنح للفظ الحكمة معناه القرآني الخاص..

و لا نعني هنا –إطلاقا- نفي وجود “الحكمة” خارج النص الديني المقدس ، لكن نشير فقط الى الى التناقض الكامن في استخدام  لفظ “الحكمة “- المنتمية إلى منظومة قرآنية  لها مفهومها الخاص للكلمة- للترويج لحكمة  بمفهوم آخر و من منظومة أخرى.

 ضلع الخديعة الأكبر هو ثالث الأضلاع، فالحديث الذي يشهره هؤلاء في وجوهنا هو حديث ضعيف أصلا  رغم شهرته  لكن كثرة استعماله حولته من مجرد حديث ضعيف إلى بديهة لا تناقش،  الحديث ضعيف،.. أورده الترمذي وقال حديث غريب، وأورده أيضا ابن ماجة والعسكري والقضاعي في مسند الشهاب  بنفس سند الترمذي عن أبي هريرة، والضعف فيه يعود إلى وجود إبراهيم بن الفضل الذي ضعف من قبل أهل الحديث وقيل عنه ما لا مجال لنقله هنا.. قال الألباني عن الحديث : ضعيف جدا. ولم يصحح الحديث أحد من أهل الحديث ولم ينقل عنهم تقويتهم لإبراهيم بن الفضل.

أدرك جيدا أن نزع “حديث ما” رسخ بقوة في العقل الجمعي أمر صعب ولن يكون بمجرد أن نقول إن الحديث ضعيف، بل الأمر صعب بصعوبة  بتر عضو من أعضائنا، لكن إذا كان الحديث الضعيف يستخدم من قبل البعض لتمرير مفهوم مضاد ومعاكس لكل ما تمثله السنة النبوية، فهل هناك خيار آخر غير أن نتصدى للمفهوم بكل أساليب تمريره؟..

المشكلة أن هذا الحديث الضعيف، وبالذات بالطريقة التي يستخدمه بها هؤلاء، يقدم صورة افتراضية “للمؤمن ” تجعله أشبه بأولئك الهائمين على وجوههم  الباحثين عن حقيقة ما، أولئك الذين هم أقرب لمذهب اللا أدرية منهم لأي إيمان حقيقي، فالحقيقة بالنسبة لهم زئبقية دوما، وهم يضعون لها شروطا مسبقة تجعلها أصلا غير قابلة لأن تقتنص.. هذه الصورة تجعل من المؤمن يبحث  دوما عن شيء ضائع ” والضالة في لسان العرب هي الحيوان أو الدابة الضائعة بالمناسبة”  وهذا مفهوم  ومنطقي عندما يكون يبحث عن إيمانه، يبحث عما يؤمن به، لا بعدما آمن!.. المؤمن بالتعريف، يعرف جيدا أين هي الحكمة، إنها ببساطة في مصدر إيمانه، في تعليمات من آمن به، في منهجه، في أخلاقه..في التزام أوامره و اجتناب نواهيه.

هل يعني هذا أننا يجب أن نكتفي بما لدينا ولا نتفاعل مع التجارب الإنسانية والحضارية بكل سقطاتها وسموها؟ بكل سلبياتها وإيجابياتها؟ إطلاقا، وعلى العكس، التفاعل لا يكون إيجابيا، ولا يكون مثمرا، ولا يكون “نهضويا”، إلا عندما تؤمن بأنك تملك الحكمة ( لكنك لم تستخدمها كما يجب)، وأن في تراثك توجد إمكانات كامنة وكنوز لم تستخدم بعد، إنه التفاعل الذي يمنحك البوصلة التي تمنعك من الانبهار وتمنحك الحصانة، تمنحك القيم والمقاييس، التفاعل الذي يجعلك تدخل معادلة التفاعل وأنت مؤمن بأنهم وإن سبقوك في مجالات معينة فإن ذلك لم يكن إلا لتقصيرك، وأن ما يجب أن تكون عليه، ما يجب أن تكونه، هو أفضل مما هم عليه وأفضل من كل مقاييسهم..

أما التفاعل الذي تدخله وأنت مؤمن بأنهم الأفضل وعقيدة نقصك تجاههم تحكمك، فهو تفاعل مستلب لن ينتج إلا نسخا مشوهة.. تفاعل قد ينتج ناطحات سحاب شاهقة، لكن  قاعدتها ستكون منخورة حتما..

و لا يعني هذا إطلاقا الانتقاص من ثقافات “الامم الأخرى” و تجاربها ، و لكن الايمان بأن أيمانك هو الافضل ، هو جزء من طبيعة الأشياء ،  بل هو من طبيعة “الايمان” نفسه..أي “مؤمن” هذا الذي  يؤمن بأنه قد يجد “حكمة” أفضل عند أيمان آخر ؟

أُدركُ هنا أن وسائل التسويق لن تعدم وسيلة أخرى، وأن قوة التسويق لبعض هذه المذاهب والأفكار يعود أحيانا إلى ضعف أساسي في المتلقي والمسوق له، والذي يجعله عرضة لأي بضاعة مهما كانت متهافتة ( فكيف إذا كانت براقة؟)..

أُدركُ أيضا أن المفهوم الذي يروج عبر هذا الحديث الضعيف، مفهوم البحث عن الحكمة التي لا علاقة لها بثوابت الحكمة القرآنية، سيجد من يدافع عنه بحرارة، وهو دفاع لا معنى له في نهاية الأمر… لماذا أساسا نؤصل مفهوما لا سند حقيقي له إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟..، الحديث ضعيف، يمكن أيضا تهجئة الكلمة للتوضيح: ض.ع.ي.ف..، نقطة انتهى!

 

ملحوظة : لا علاقة لهذا المقال  بأحد شباب الدعاة المميزين، الذين تصادف أن الحديث الضعيف يحتل نشيدا مصاحبا لبرنامجه المميز. الداعية له ثوابته الواضحة وهو بالتأكيد ليس من المشار إليهم في المقال.

المصدر: http://www.quran4nahda.com/?p=1078

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك