قرآن.. أم ماء؟!.

قرآن.. أم ماء؟!.

 

صلاح الدين ابراهيم أبو عرفة

 

هذا الكتاب القرآن, يحتفظ لنفسه بالقوامة والهداية, والإحاطة والتبيان, في المجمل والمفصل, في الحاضر والمقبل, وما انقضى من قبل.

 

ثم هو من الحُكم والهيمنة بمكان عزيز {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}, وعلى سعة المكان وتطاول الزمان وتكاثر المحدثات, يتكفّل هذا الكتاب, بعزة الله وقدرته, بالإحاطة والتبيان, {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. والآية بهذا النص, من المطلق الذي لا تقييد له بغير بينة, فلا يحلّ لأحد بعدُ أن يخصّها بمخصوص.

 

وسيسأل سائل بعدها, كيف يبين القرآن الأشياء كلّها, وليس فيه كَيْتَ وكَيْت؟!

فالحق أن تضاؤل مدرِكات الإنسان من السمع والبصر والفؤاد, لا ترقى به لتدارك سعة الكتاب التي لا يعلمها إلا صاحب الكتاب نفسه, تقدّس اسمه المجيد, فالأوْلى أدباً وقسطاً أن نقول: كيف يبيّن الكتاب كل الأشياء, و"نحن" لا نرى فيه كيت وكيت؟.

إذ العلّة ابتداءً في المتلقّى لا في المُلقى من التنزيل من كلام الرب العظيم. فكم من بيّنة نغفل عنها ويراها الأخرون, بما يشهد له المقالة عن نوح {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}!.

على هذا كله, يجد المشتغل بالكتاب, المحكم والمتشابه في الأحكام, ويجد فيه العبرة في القصص والأمثال, وفي القصص ما فيه من الهدى والتفصيل {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْء}.

 

إذاً أين يحتفظ القرآن بهذا التبيان وهذا التفصيل؟.

بظاهر النص الصريح, يحتفظ هذا الكتاب المجيد لنفسه بالقوامة والتثبيت, والتعريف والتحديد, والتيسير والتقريب, إن لم يكن بالصريح المحكم, فبالمثل المقرّب لعلهم يتذكرون, {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. فبالأمثال المضروبة والمصرّفة يتفكر الناس ويتذكرون, إذ جعل الله لكل شيء مثلاً, ثم يوسع الله ما يشاء ويفصّل, إنه لطيف خبير!.

فإذا كان في هذا القرآن من كل مثل, فما مثل القرآن نفسه؟!.

بالتدبر والتذكر, نستطيع بإذن الله أن نهتدي إلى مَثل القرآن في القرآن, لتراها جليّة منيرة, أن القرآن ماء, أن القرآن ماء!.

نبدأ بآية سورة النحل من قوله تقدس اسمه {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *‏ وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 65. والتماثل جلي بيّنٌ؛ أولاً, في تتابع الآيتين وارتباطهما, ثم بدلالة الإحياء بعد الموت, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُم}, والقرآن على رأس الدعوة, ثم بخاتمة الآية السابقة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}, فإنزال الماء وإحياء الأرض بعد موتها, آيات مشاهدات معلومات لقوم يبصرون, فلمَ ختمت الآية بـ {يَسْمَعُونَ}؟, إلا أن يكون تنزيل القرآن وتمثيله بننزيل الماء, هو المقصود المراد آية لقوم يسمعون, ممّا في كليهما من الإنزال الطاهر الظاهر.

 

والثانية، آية سورة الحديد, {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الحديد 17

 

فالإنزال المماثل المتمثّل في القرآن والماء شاهد حاضر في الآية, ثم مقابلة المتأخرين القاسية قلوبهم من ذكر الله, بالأرض التي تقسو وتيبس إذا طال عليها أمد الماء, ثم هي تحيى بعد موتها حال نزوله واشترابه, قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون!.

 

ثم آيات سورة الفرقان, {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} الفرقان 52 فما هو الذي "صرفناه", القرآن أم الماء؟, "وجاهدهم به", بالقرآن أم بالماء؟, ثم ليأتنا أمضى الناس بصراً وبصيرة, ليرينا أين الحد الفاصل في هذه الآيات بين الماء والقرآن, فما نقرأه في الآية للماء, نقرأه كذلك للقرآن!.

 

وللعلم, فإن البشارة أكثر ما ذكرت في القرآن للماء وللقرآن نفسه, بما يصعب أحصاؤه لكثرته, ولكن لنقرأ آيات المرسلات, {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً}, ولننظر كيف تبدأ الآيات بالرياح, وتنتهي بالذكر, علما أن كل الآيات التي تذكر بشارة الرياح, من مثل {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه} تُقرأ بقراءة أُخرى {نَشْراً} , كالناشرات نشراً, إذ تجوز للملائكة الحاملة للكتاب, كما تجوز للرياح الحاملة للسحاب.

فالرياح هي المرسلات بالماء, والنبيون هم المرسلون بالكتاب, وفي كليهما بشارة, وفي كليهما حياة!.

 

ثم نختم الأدلة بشاهد من إمام هذا العلم, نبينا المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم, من قوله فيما ثبت عنه, قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ». فالمثل عند صاحب الوحي عليه الصلاة والسلام صراحة, هو الماء والغيث الكثير, والقرآن على رأس هذا العلم والهدى.

 

فالمثل بات واضحاً, القرآن مَثله مَثل الماء, مما له من سبب في الحياة, ونسب من علوّ التنزيل, وحاجة العالمين له, وتنزيله مرة بعد مرة, كلما يبست الأرض أو كادت, غير أن القرآن ينزل مرة, ويذاكر مرة بعد مرة, ليصبح عند المستذكر الموقن كأنه تنزّل لتوه, فتقشعر منه جلودهم, ثم تلين, كحالها في الماء والرياح!.

 

ولا بدّ لنا من سائل عن الفرق بين المثل المضروب والمثل المصرّف؟.

فالحق أن التدبر في هذا الباب يفتح لنا برحمة الله أبواباً كثيرة, ويبني لنا قواعداً وأسساً ممتدة للتذكر والاستجماع والتوليف.

فعلى سعة دلالات مادة "ضرب" في اللغة, إلا أنها في جانب الأمثال التي في القرآن, محصورة متداركة, يكاد سياق النصوص فيها ينطق بدلالاتها ومراميها, فتجد المثل المضروب, حيث يُذكر المثل صراحة بوجهه, أو بالمِثلين, من مثل {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الزمر29 , و {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْن}. فالمثل الصريح هو المثل المضروب, والمثل المضروب هو ما تصرّح وجهه وذكره!.

 

إذا فما هو المثل المصرّف؟.

التصريف: من صرف, وهو من النقل والتحريك, ومثلها تصريف أُمور الناس, من نقل هذه لتلك, ومن أخذ هذه لهذا, وتدويرها وتدويلها, الى حيث يحسن مستقرها ويلزم انتقالها.

ومثل هذا ظاهر في القرآن, ‏ {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ}, {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}, وأجلاها مثلاً آية الكهف {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً *‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}!.

والأمثال المصرّفة على خلاف الأمثال المضروبة, لا تراها تُذكر صراحة, إنما تَذكر الآيات تصريف الأمثال وحسب, فلا تكاد تجد مثلاً صريحاً بعينه بجنب الآية التي يرد فيها "تصريف الأمثال, ومثلها في القرآن قليل معدود.

وكما أشرنا إلى العلاقة اللازمة بين القرآن والماء تمثيلاً وتعريفاً, فإنما صرّف الله في القرآن, الآيات والأمثال –والامثال من الآيات-, وصرّف الرياح لينزل بعدها الماء, فالعلاقة المثلية ظاهرة مرة أخرى, فماذا نقرأ من هذا؟..

 

فتصريف الرياح أول التحريك في سبيل إنزال الماء, فتبدأ بالرياح المصرّفة, ثم بالسحاب المزجى, أي المجموع المدفوع برفق, ثم التوليف بينه, ثم ركامه بعضه إلى بعض, فترى الودق الماء يخرج من خلاله.

ولعل هذا تماماً ما يجري في الآيات والأمثال المصرّفة, حيث تنتشر الآيات والأمثال والإشارات في القرآن, كما تنتشر السحب المستثارة بالرياح التي تشبه بهبّتها هبّة بصيرة المتذكّر المتدبّر, فيبدأ بإزجائها ولملمتها, ثم يؤلف بينها ثم يجعلها ركاماً منجمعاً, فترى البصائر والسنا يخرج من خلالها, وليقرأ من شاء أن يقرأ آية النور {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِه}, ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

ثم, أليس أحسن الماء, وأنفعه وأطهره الذي نزل من السماء؟, إذاً, أليس أحسن العلم والهدى ما نزل من السماء, قبل أن يختلط به نبات الرأي والقول, فتنعكر صفوته وتذهب عذوبته!؟.

{وسقاهم ربهم شراباً طهورا ... إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}!.

فنريد قرآناً كالماء, نتشربه خالصاً سائغاً لا يد لعطّار فيه, نريده كالذي استقى منه أصحاب نبي الله, ليس بينهم وبين حوضه ومائه, إلا ذلك الراعي الصالح محمد صلى الله عليه وسلم!.

المصدر: http://www.ahlulquran.net/new/study_details.asp?field=studies&id=106

الأكثر مشاركة في الفيس بوك