عناية القرآن بالجانب الاقتصادي
عنــايــة القـرآن
بالجانب الاقتصادي
إعـــــــداد
د. زيد بن محمد الرماني
عضو هيئة التدريس
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
مــدخـــــــــــل
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عبده المصطفى، أما بعد:
فيقصد بالجانب الاقتصادي من الحياة: جمع المال وإنفاقه، وكسب الأرزاق والأقوات، والاستمتاع بها وعلاقات الناس، من أغنياء وفقراء، وعمّال وأصحاب أموال.
إنَّ العرب أمة لم تكن تنعم في أرضها – قريش – بمصادر الثروة الميسرة، فأرضهم جدب، وماؤهم غور، لذلك كانت التجارة أصل موردهم الأول، ينتقلون بين الدول الغنية بما تنتجه تلك الدول من نفائس الصناعة، وخيرات الزراعة، وتـجني من وراء هذه الوساطة ما يوفّر لـها الرزق.
ومن هنا كانت سورة قريش من أوائل السور، وكانت جماعاً لما تقوم به وعليه حياة هذه القبيلة - قريش - التي أتقنت التجارة، وأصبحت مكة عاصمتها، ملتقى الطرق التجارية العالمية قبل بعثة رسول الله قال تعالى: • [قريش: 1 – 4].
لقد كانت رحلة الشتاء والصيف التي ألفتها قبيلة قريش قوام حياة العرب التجارية، والزاوية الأساس في شؤونهم الاقتصادية، فقوافل قريش كانت تروح وتغدو بين اليمن في الجنوب في الشتاء، وبين الشام في الشمال في الصيف، تنقل عروض التجارة والمحاصيل والأقوات من الغرب الأوروبي إلى الشرق الآسيوي، فتصل عالمين مختلفين.
والثابت أن غريزة حب البقاء، هي أقوى غرائز الإنسان، فلابد له من لقمة عيش تقيم أوده، وتحميه من خطر الموت، ولذا لم تتوقف السورة عند الطعام وحده ولم تجعل منه الغاية.
فالإنسان في ظل القرآن ليس بدناً فحسب، وليس روحاً مجرّدة، وإنما هو جماع تلك القوتين.
ولقد استعار القرآن الكريم كثيراً من مصطلحات التجارة والمال، ليبين شؤون العقيدة والعبادة، كمــا في قولـه تعـــالى: [الصف: 10، 11]. وقولــه: • • • [التوبة: 11] .
كما أن المعاهدة وتبادل المواثيق، يعبّر عنها في القرآن بالمبايعة، وهو لفظ مشتق من البيع، كما في قولـه تعالى: • [الفتح:10].
إن استعمال مصطلحات التجارة والمال في تقريب الأمور الدينية والقواعد التعبدية، إلى عقل العربي، الذي يعيش حياته في التجارة، ويستمد منها رزقه، ويبذل فيها أقصى الجهد، ليحقق أعظم الربح، لها دلالات كثيرة منها:
(1) أن كتاب الله عزّ وجل، كتاب أُنزل ليخاطب الناس، ليؤثر فيهم، وييسّر عليهم الأخذ بقواعده.
(2) اهتمام القرآن بالجانب المادي من حياة المسلم، الجانب المتصل برزقه وشؤون حياته اليومية.
(3) إذا اجتمع لفظا المال والنفس في القرآن الكريم، سبق المال النفس، كما في قوله تعالى: • • [الأنفال: 72].
لقد تحدث القرآن الكريم عن جوانب متفرقة من أخلاق الإنسان الاقتصادية، كما في قولـه سبحانه: [الإسراء:100]. وقوله : [النساء: 128].
وقوله: • • [العاديات: 6-8].
فالإسلام لا يغفل عن العامل الاقتصادي، ولا يغضّ من قدره، بل يعتدّ به، ويهتمّ بأثره في حياة الناس، وينظّمه ويقوّمه ويجعله حافزاً لحياة كريمة:
(1) فالتكامل القرآني في الجانب الاقتصادي من الحياة الإنسانية، كائن في أنه لا يفصل بين إقامة الدين وأداء العبادات، وبين دنيا الكسب والمال، والاستمتاع بما أحلّ الله للناس من الطيبات.
(2) اهتم القرآن بالعامل الاقتصادي في حياة الناس، وبيّن عظيم تأثر الإنسان بهذا العامل، واستعداد الإنسان للانحراف الخلقي تحت وطأة هذا العامل، فجعل الإسلام العامل الاقتصادي في خدمة نفع الإنسان فرداً وجماعةً، وأورد القرآن أحكاماً عديدة، تضع قواعد ضابطة لهذا الأمر.
والقرآن بآياته وأحكامه شديد الاتصال بالجانب الاقتصادي:
(1) ففي القرآن الكريم، تقرير واضح لخصائص وميول الإنسان فيما يتعلق بالمال والحرص عليه، والطمع فيه، وكراهية الإنفاق منه.
(2) وفي القرآن، دعوة للإيمان بالعقيدة التي تجعل المال في خدمة الإنسان، وتمنع من جعل الإنسان في خدمة المال.
ومن الشواهد القرآنية على اهتمام القرآن الكريم وعنايته بالجانب الاقتصادي، وعلى مكانة العامل الاقتصادي في الإسلام ما يلي:
أولاً : قصة ذي القرنين:
وردت قصة ذي القرنين في سورة الكهف، الآيات 93 – 97. يقول تعالى: .
يلاحظ من تلك الآيات أنه طُلب من ذي القرنين أن يقيم سدًّا، يقي من شرّ العدوان، من جانب يأجوج ومأجوج، وعُرض على ذي القرنين جزاء مادي . ولكنه أبى العرض مكتفياً بأن . أي أن رضا الله أفضل وخير عنده من أيّ جزاء مادي.
وحتى يمكن بناء السدّ، ليقي القوم الأعداء، طلب ذو القرنين من القوم رجالاً ينفّذون تعليماته ويؤدون الأعمال التي يكلفهم بها، ثم طلب بأن يزودوه بكمية لازمة من المواد والموارد على رأسها الحديد، ثم أن يذيبوا النحاس ليستخدمه في العمــل الذي قرّر أن يقــوم به. وكانت النتيجة أنه بُني السدّ [الكهف : 97].
ويستفاد من القصة، أن ذا القرنين رسم في ذهنه الطريقة التي يمكن بها إخراج مشروع السدّ إلى حيز التنفيذ، ثم بعد ذلك طلب توفير الأيدي العاملة والمواد الأولية الضرورية، فربط بين هذين العاملين من عوامل الإنتاج، للوصول إلى الغاية المنشودة.
ثانياً : قصة يوسف عليه السلام:
وردت قصة يوسف عليه السلام في سورة يوسف، الآيات: 46 – 49. يقول تعالى: •
توحي القصة بأكثر من معنى، وفيها أكثر من دلالة، فتفسير يوسف عليه السلام لرؤيا الملك تنمّ عن قدرة على التنبؤ بما ينتظر البلاد وأهلها من القحط والجدب ونقص المياه.
فقد كانت مصر مهدّدة بمجاعة توشك أن تحلّ بها بسبب نقص مياه الفيضان، وكان من واجب أولي الأمر العمل بالسبل كافة على دفع الكارثة المحتملة، ولم يكن في الإمكان تحقيق هذا إلا عن طريق سياسة طويلة الأجل، أو خطة طويلة الأجل، أو تدبير اقتصادي طويل الأجل، وهذا مضمون ما أشار به يوسف عليه السلام حين قال: [يوسف: 47]، أي دعاهم عليه السلام للمواظبة على الزراعة سبع سنين كما هي عادتهم، بحيث أن ما يحصد لا يُدْرس؛ لئلا يفسد ويقع فيه السوس والتلف، وليبقى على طول الزمان، مع بقاء قليل من الحنطة للأكل بقدر الحاجة.
هذه الخطة الوطنية التي أشار إليها يوسف عليه السلام تدل على دراية واسعة بشؤون الزراعة والاستهلاك والتخزين، فهي تتطلب تقييد الاستهلاك لفترة معينة، وتخزين أكبر كمية ممكنة من المحصول، حتى لا تتعرض المحاصيل للتلف والفساد.
ويستفاد من قصة يوسف عليه السلام المحافظة على توازن الإنتاج والاستهلاك، لتجديد الإنتاج.
ثالثاً : قصة سبأ :
وردت قصة سبأ في سورة سبأ، الآيات 15 – 16، يقول تعالى: • .
كان السبئيون يشاهدون مياه السيول المتدفقة تضيع سُدّى في رمال الصحراء. لذا، أقاموا سدًّا يحجزها وراءه، وشقوا العديد من القنوات التي تنقل الماء إلى الحقول، فانتشرت الزراعة في مناطق واسعة، وقامت القرى والمدن بما فيها من مظاهر العمران، وارتفعت مستويات المعيشة.
ولكن ما لبثت يد الإهمال أن امتدت إلى مرافق القوم ومنها السدّ، إذ بسبب الافتقار إلى الصيانة، سرعان ما انهار أمام ضغط المياه المتدفقة بشدة، وراحت تضيع مرة أخرى في رمال الصحراء.
ويستفاد من قصة أهل سبأ، أنهم وجّهوا ما توافر لديهم من مال، نحو إقامة السدود، واستصلاح الأرض، وشقّ القنوات، ومدّ الطرق، وإنشاء القرى. كما توحي القصة بضرورة استثمار المال من أجل العمران.
رابعاً : قصة قارون :
وردت قصة قارون في سورة القصص، الآيات: 76 – 81، يقول تعالى: • .
وقصة قارون بالغة الدلالات على ما يسببه الغنى الفاحش من شرور.
ومن هذه القصة القرآنية "قصة قارون" نعلم:
(1) أن ثروة قارون كانت من الضخامة، بحيث انطبق عليها "الوصف" • [القصص: 76]، أي وآتيناه من الأموال المدخرة ما إن مفاتيح صناديقه أو خزائنه لتنوء بحملها الجماعة الكثيرة العدد ذات القوة.
(2) دفع قـــارون غـــروره إلى التظاهـــر بغنـــاه الفاحش [القصص: 79]، وكان يتصرف على النحو الذي يبرز عنده الناحية من خلقه، وهذا يقرب من معنى "الاستهلاك المظهري" الذي تحدث عنه المفكِّر ثور شتاين فبلن.
(3) تملّك قارون الغرور، بحيث أنه لما راح القوم ينصحونه بالإحسان والامتناع عن الفساد، قال: إنما أوتي المال على فضل وعلم عنده، استوجب على الناس التفوّق بالجاه والمال.
(4) أثار هذا التصرّف غَيرةً في نفوس قوم راحوا يقولون في حسرة: [القصص : 79]. ووصفوه من باب الحسد . وهذا يبيّن أن الثراء الفاحش يولد الغيرة بل والعداوة، ويحدث الفرقة في صفوف الجماعة.
(5) نتيجة لآثامه وأخطــائه، حلّ به الـمصير الـمحتوم، [القصص: 81].
خامساً : قصة قريش:
وردت قصة قريش ورحلة الشتاء والصيف في سورة قريش، الآيات: 1 - 4 . يقول تعالى: • .
كانت لقريش رحلتان للامتياز والاتجار كل عام: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بصرى والشام.
ويقول تعالى: • • [القصص: 57].
ويظهر أن زعماء مكة كانوا يحسبون أن الدين الجديد سوف يقضي على تقاليد الحج والأشهر الحرم وأمن حرم مكة وقدسية الكعبة، وقد احتوت الآيات تطميناً لهم. أي أنهم كانوا يخشون أن يترتب على الدين الجديد أن يفقدوا مصادر رئيسية يعيشون عليها وتقوم عليها قوتهم الاقتصادية.
وعند بعض المجتمعات الإنسانية، يكمن الدافع الاقتصادي وراء بعض التقاليـــد، ومن ذلك: قتل الأطفال في أيام الـجـاهلية، بسبب الفــقـــر، كما تشيـــر إليــــه الآيــــات: [الإسراء:31]. و [الأنعام: 151].
لقد وقف القرآن الكريم طويلاً أمام الجانب الاقتصادي من الحياة، واحتفل به احتفالاً كبيراً، وحذّر الإنسان من إهماله ووضع لـه قواعد ونظماً. ولقد آن الأوان لأن نقدم النظام الاقتصادي القرآني الذي جاء به الإسلام للعالم.
أتدرون ما الاقتصاد؟!!
جاء في تراثنا في بيان معنى الاقتصاد، قول سفيان بن حسين، رحمه الله، لأصحابه وتلاميذه: أتدرون ما الاقتصاد؟! هو الشيء الذي ليس فيه غلو ولا تقصير. أي ليس فيه إسراف ولا بخل.
وليس ذلك إلا تبيين وتفسير للقوام الذي جاء في قوله سبحانه: • [الفرقان: 67].
فالاقتصاد هو المنزلة بين المنزلتين المتطرفتين: منزلة البخل والتقتير، ومنزلة الإسراف والتبذير.
وقد بيّن لنا الرسول قيمة هذا الاقتصاد ومكانته في الإسلام، حين جعله من أجزاء النبوة، وذلك بقوله عليه السلام: "السمت الصالح والهدي الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة".
كذلك، فقد ورد أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقول: "إن من أحب الأمر إلى الله عز وجل القصد في الغنى والعفو في المقدرة...".
ولهذا، فقد كان الاقتصاد وعدم الإسراف من العلامات التي تُميّز المؤمن عن غيره. فعن الحسن البصري رحمه الله قال: إن من علامة المؤمن: "قوة في دين، وحزماً في لين، وإماماً في يقين، وحلماً في علم، وكيساً في مال، وإعطاءً في حق، وقصداً في غنى، وتجمُّلاً في فاقة، وإحساناً في قدرة...".
ولما كان التبذير يؤدي إلى الفقر؛ فقد لزم أن يؤدي الاقتصاد إلى الغنى. لهذا فقد نفى رسول الله الفقر عن المقتصد، فقال عليه الصلاة والسلام : "ما عال مقتصد". وفي رواية أخرى: "السؤال نصف العلم، والرفق نصف العيش، وما عال مَنِ اقتصد".
ولما كان المأكل والمشرب ضروريين لحياة البشر فقد لزم الحفاظ عليهما وعدم الإهمال والتفريط فيهما، إذ لا قوام لهم إلا بهما. وقـــد دعـــانا الله سبحانه لـهــــذا، فقـــال عز وجل: [الأعراف: 31].
وقيّد لنا سبحانه وتعالى هذا المأكل والمشرب بكونه حلالاً خالصاً بعيداً عن شبهة الحرام، فقال جل ذكره: [البقرة: 172].
وذلك بشرط عدم الإسراف أو التبذير؛ لأنه تعالى لا يحب المسرفين، ومن هنا فقد كان القصد طريقاً إلى نيل محبة الله.
وقد أظهر رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بشاعة من يسرف في مأكله وسمّى ذلك شرًّا، بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، حسب ابن آدم أكلات (لُقيمات) يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نَفس".
وقد أدرك الكثير من العلماء المتخصصين في العلوم الطبية في عصرنا الحاضر هذه الحقيقة، وبدأوا بعلاج الكثير من الأمراض انطلاقاً من مبدأ التقليل من الطعام.
وقد ورد عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قولـه: "أيها الناس، إياكم والبطنة، فإنها مكسلة عن الصلاة؛ مفسدة للجسم، مؤثرة للسُّقم، ولكن عليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أدنى من الإصلاح، وأبعد من السرف، وأقوى على عبادة الله عز وجل، فإنه لن يهلك عبدٌ حتى يؤثر شهوته على دينه".
ومن هنا، فقد كانت البطنة مؤدية إلى الفقر، إذ هي في أولها إسراف في الأموال من أجل توفير الكثير من الطعام والشراب، وهي في آخرها إهدار للأموال لمعالجة ما لحق الإنسان المسرف من أمراض ومتاعب.
والأمر بالاقتصاد والاعتدال والتوسط يسري في كل مناحي الحياة: الملبس، والمسكن، والمركب، والخادم، ووسائل الاتصالات والمواصلات، والترفيه.
بَيْدَ أن هناك قضية مهمة، هي أن الاقتصاد في الحاجات الأساسية، لا يعني أن يعيش المسلم بعيداً عن التمتع في هذه الحياة وفق الضوابط الشرعية والقيود الأخلاقية.
ذلك، لأن التمتع بهذه الدنيا ونعيمها لا يتنافى مع نظرة الإسلام الاقتصادية، يقول : "ثلاث من نعيم الدنيا، وإن كانت لا نعيم لها: السكن الواسع، والزوجة الصالحة، والمركب الموافق".
ورحم الله الحسن البصري القائل: "إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدباً حسناً، إذا وسّع عليه وسّع فإذا قتّر عليه قتر.
وصدق الله القائل ... [القصص: 77].
الفكرة الاقتصادية
فـي القــــرآن الكريم
جاء القرآن الكريم ومقصده الأول وغايته الأساسية أن يكون كتاب هداية للنفوس وهداية للأرواح وإصلاحاً للقلب الإنساني، ليعالج النفس الإنسانية حتى تتطهر وتتزكى وتدرك الأمور على حقائقها.
وعلى هذه القاعدة جاء القرآن الكريم، فعُني بالنفس الإنسانية يصلحها، يحببها في الحق والعدل، ويبغض إليها الشرّ والباطل، حتى تكون نفساً فاضلة خيِّرة. [الشمس: 7-10].
وإذا كان القرآن الكريم قد ركز إصلاحه على إصلاح النفس الإنسانية، فإنه لم يهمل الإصلاح العملي. وبما أن الناحية الاقتصادية ناحية من النواحي التي تتغير لدى الناس بتغيّر الظروف، فقد جاء القرآن الكريم يمسّها مسًّا كليًّا ويضع القواعد التي تكفل للناس أن ينتفعوا بخيراتها ويبتعدوا عن مساوئها.
ولقد نظر القرآن الكريم للثروة كعرض من أعراض الحياة الدنيا، ووسيلة من وسائل تيسير الحياة على الناس، فهو لم يذم المال كما ذمته بعض الوضعيات الأخرى التي تضعه في مرتبة المنكرات أو المحرمات، ولم يمدحه المدح الذي يضعه في مرتبة المحمودات، فهو مجرد وسيلة، إن استخدمت في الخير فهي الخير، وإن استخدمت في الشرّ فهي الشرّ.
والإسلام حين دعا إلى الكسب، حثّ عليه واعتبره عبادة من العبادات، بل جعله قريناً لكثير من العبادات. [الجمعة: 10].
[الملك: 15].
ثم تعرض القرآن الكريم لبعض المباديء التي يصحّ أن تتصل بالتشريع الاقتصادي، فقرّر مبدأ الملكية، فللأفراد أن يملكوا، ولهم أن يحوزوا وفي هذا نجد أن القرآن قد نسب الأموال للناس • [التغابن: 15].
• • [المعارج: 24].
ثمّ إن الإسلام بعد هذا ينهى عن الترف والنعيم الباذخ، ويجعل هؤلاء من أكبر المجرمين • [الأنعام: 123].
ويرغب في الإنفاق، حتى إن بعض السلف الصالح كان يخرج عن ماله، وبعضهم كان يخرج عن نصف ماله أو ثلثه.
وأعطى الإسلام الفقراء الزكاة، وأمرهم بالكسب والعمل، وحرّم عليهم السؤال، وجعل لهم في بيت مال المسلمين حقًّا، وجعلهم طبقة محترمة لهم حقهم عند إخوانهم الأغنياء، ذلك لأن الإسلام لا ينظر للفقر على أنه عيب اجتماعي ولا ذلّة للفقير ولا منّة من الغني، ولكنه ينظر إليه على أنه عارض اجتماعي، يقول : "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس". فجعل الغنى غنى النفس حتى لا يشعر الفقراء بأنهم طبقة منبوذة.
هذا هو الفارق بين الإسلام وبين النظم الجافّة التي لا تعتبر إلا لقمة العيش، وقطعة الفحم، وقطرة الزيت، وقطعة الحديد. ولو أن الناس التفتوا إلى أمهات المسائل الاقتصادية في القرآن الكريم؛ لسعدوا وفازوا في الدنيا والآخرة.
السنن القرآنية للظاهرة الاقتصادية
إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحياة والكون والإنسان، تؤكد على وجود علاقات ارتباطية بين الحوادث المختلفة، وفق قانون السبب والمسبب، والعلة والمعلول.
واستقراء الآيات القرآنية يبيِّن أن تلك السنن التي يطرحها القرآن ويعرضها تأخذ صيغاً وأشكالاً وأبعاداً معينة.
ولذا كان المرء مدعوًّا للبحث والاستكشاف والدراسة والتحليل للسنن والأحكام. يقول تعالى: [آل عمران: 137].
وهناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد على وجود سنن، على أساس أنها قواعد وأسس لاستنارة الطريق في وسط الظلمات. يقول تعالى: [النور: 34].
ونذكر فيما يلي بشكل مختصر بعض هذه السنن القرآنية ذات الصلّة بقضايا الاقتصاد.
أولاً : علاقة النبوة بالطبقة المترفة المسرفة:
يقول سبحانه : • [سبأ: 34، 35].
توضِّح لنا هذه الآيات القرآنية سُنة موضوعية، تُترجم العلاقة الارتباطية بين سلوكيات وردود فعل طبقة المترفين والمسرفين وبين الرسل والأنبياء، الذين يحملون الدعوة إلى دين الله سبحانه، وتصحيح الانحرافات العقدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وتؤكد – هذه الآيات – كذلك أن العقبة والحاجز المتمثل في الموقف السلبي العدائي الذي يقف دائماً تجاه البرامج الإصلاحية الاجتماعية والاقتصادية أمام الأنبياء والـمرسلين هم طبقة الـمترفين والـمسرفين في الـمجتمع.
ثانياً : العلاقة بين دمار وهلاك الأمة وموقف الطبقة المترفة والمسرفة:
إن تتبع الآيات القرآنية، يُظهر التأكيد على وجود علاقة موضوعية بين وقوع الظلم والفساد الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع ما، وبين هلاك ودمار واضمحلال الأمم عبر مسيرتها التاريخية. يقول تعالى: • • [الإسراء:16].
إذ تؤكد هذه الآية أن تصرفات وسلوكيات الطبقة المترفة والمسرفة، والتي تتحكم فيها النظرة المادية النفعية،تؤدي إلى تفشي الفساد والظلم، وانتشار الفقر والبؤس، وإهدار الأموال والطاقات، مما يعني انهيار وتدهور الكيان الاقتصادي، وتفكك البنية الاجتماعية والاقتصادية، وانتشار الفساد الخُلقي والانحطاط الروحي، وتدمير وهلاك المجتمع بكامله.
ثالثاً : العلاقة بين استقامة الأمة والوضع الاقتصادي لها:
يقول تعالى: [المائدة: 66].
ويقول سبحانه: • • [الأعراف: 96].
يلاحظ من خلال هذه الآيات وجود علاقات وروابط موضوعية وشرطية بين مستوى ودرجة استقامة الأمة من حيث تطبيق الأحكام والتشريعات الإلهية، وبين درجة وفرة الخيرات وكثرة الإنتاج وازدهار ورخاء الأمة. وبعبارة أخرى تؤكد لنا هذه الآيات العلاقة الطردية بين عدالة التوزيع ووفرة وازدهار الإنتاج والوضع الاقتصادي في المجتمع.
ويقول عزّ وجل: [الطلاق: 2 ،3].
في هذه الآيات إشارة إلى أن التوقي والتوكل على الله، يعقبهما آثار مباشرة وغير مباشرة، تتمثل في العناية الربانية، والحكمة الإلهية، والتأييد والتسديد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
رابعاً : علاقة الفرد بالمجتمع:
يقول تعالى: [الرعد : 11].
تؤكد – هذه الآية – لنا مدى الارتباط الوثيق بين الفرد والمجتمع شكلاً ومحتوى، بين المحتوى الخارجي للفرد والأمة وبين المحتوى الداخلي لهما. • [الأنفال: 53].
إن الآيات السابقة لتؤكد على معانٍ ومضامين حقيقية تُعدُّ ركائز نمو وازدهار أو تدهور واضمحلال أي مجتمع، وأن اجتياز مرحلة الركود والسلبية لا يمكن تجاوزها، إلا بتوفير المقدمات، ومعرفة العلل والأسباب، والتمسك بالأسس والركائز المنبثقة من المحتوى الداخلي للإنسان والأمة.
مما سبق يتضح أن الإسلام كان سبّاقاً في تبيان تلك الأطر والسنن التفصيلية للأحداث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، على أساس خضوعها لسنن وأحكام إلهية.
الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي
يستبعد بعض الاقتصاديين ربط الأخلاق بالاقتصاد، ويصفون الاقتصاد بأنه علم محايد ولا صلة لـه بمباحث الأخلاق.
أما في الاقتصاد الإسلامي؛ الذي يُعدُّ جزءاً من أصل من العقيدة الإسلامية، فلا يمكن فصل المعاملات التجارية والاقتصادية عن الإطار العام للشريعة الإسلامية، إذ الفرد المسلم في تعامله مع الآخرين ينظر إلى رقابة الله سبحانه عليه في هذا التعامل، والضوابط الإسلامية لأخلاقيات الاقتصاد متعددة، يمكن بيان أهمها فيما يلي:
أولاً : الاقتصاد الإسلامي يدعو للإيمان والتقوى:
التقوى ضابط أساسي من ضوابط الاقتصاد الإسلامي بل هو ضابط من ضوابط السلوك جميعه في مضمار الحياة؛ لأن الحياة في حقيقتها مراقبةٌ لله، وحِرْصٌ على مرضاته، وخوفٌ من عذابه، ومن وجوه التقوى:
1- الأمانة: يَقْصر العامّة الأمانة في أضيق معانيها وهو حفظ الودائع. ولكنَّ للأمانة معاني أخرى، منها: أن يحرص الفرد على أداء واجبه كاملاً في عمله (مصنعاً كان أو مزرعة أو متجراً)، وأن يراعي حقوق الناس التي وضعت بين يديه. ومن معاني الأمانة في الاقتصاد الإسلامي، ألاّ يستغل الرجل منصبه لقاء منفعة تعود على شخصه أو قرابته.
ويدلُّ على تلك المعاني للأمانة أحاديث نبوية عديدة نختار منها، قوله : "لكل غادر لواء يُرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة".
وقوله : "مَنِ استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غُلول".
ولقد كانت الصفة المميزة للرسول : قبل بعثته هي الأمانة حتى إنه كان يُلقب بالأمين.
2- الوفـاء :
تحتل العقود والعهود في الاقتصاد الإسلامي مكانة رفيعة، ومن ثم كان وفاء الإنسان بالوعد والعهد أساس كرامته في الدنيا وسعادته في الآخرة. والاقتصاد الإسلامي يقوم على احترام العقود التي تسجّل فيها الالتزامات المالية، ويشترط أن تكون موافقة للكتاب والسُنة، ومحقّقة لمقاصد الشريعة الإسلامية. يقول تعالى: [المائدة : 1].
ويقول سبحانه : • [الإسراء: 34].
وإذا كان الاقتصاد الوضعي يقوم على أساس تحقيق أكبر لذّة وأقصى إشباع وأعلى ربح؛ فإن الاقتصاد الإسلامي لا يقر أن تداس الفضائل في سوق المنفعة العاجلة، ويكره أن تنطوي دخائل الناس على النيّات المغشوشة.
ثانياً : الاقتصاد الإسلامي يدعو إلى عالمية البرِّ:
يقوم الاقتصاد الإسلامي على البذل والإنفاق، ولذا دعى الإسلام المسلمين إلى سخاء النفوس وندى الأكف، وأوصاهم بالمسارعة إلى الإحسان والبِّر.
يقول تعالى: [البقرة: 219].
ويقول تعالى: • [البقرة: 215].
ويقول سبحانه: • [البقرة: 177].
إن مفهوم البرِّ في الاقتصاد الإسلامي يتسع حتى تجد فيه ناحية مقابلة لكل خلق قويم.
ثالثاً : الاقتصاد الإسلامي يدعو للاعتدال والقصد :
ينظّم الاقتصاد الإسلامي شؤون الناس الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، حتى لا يجنح المسلم إلى الرهبانية المغرقة ولا المادية المحرمة، من خلال الدعوة إلى التوسط والاعتدال واتباع سبيل القوام والقصد والتوازن.
يقول تعالى: [القصص: 77].
لذا، تقوم أوليات الاقتصاد الإسلامي على ألاّ يكون المسلم عبد بطنه، ليس لـه من همّ إلا أن يجمع فوق مائدته ألوان الطعام.
ومن ثم جاء النهي عن الترف والإسراف والتبذير، كما في قوله تعالى: [الأعراف: 31].
وقوله سبحانه: • • • [الإسراء: 26، 27].
وقوله عزّ وجلّ : [الإسراء: 16].
كما جاء النهي عن البخل والشح والتقتير، كما في قوله: [الإسراء: 29].
وقوله : "إياكم والشح". وقوله تعالى: • [محمد: 38].
وعليه، كان النهي عن الترف والإسراف، والنهي عن البخل والتقتير، دعوة إلى الاعتدال والقوام، يقول سبحانه: • [الفرقان: 67].
فالاعتدال صفة من صفات عباد الرحمن المتقين.
إن البخل – من الناحية الاقتصادية – يقود إلى نقص ميل الناس إلى الاستهلاك، بينما يؤدي الترف والإسراف إلى تبذير الموارد، وكلا الوضعين غير مرغوب، ومن هنا كانت الدعوة إلى الاعتدال والقصد، لما لذلك من آثار إيجابية على الفرد والمجتمع، اجتماعيًّا وخُلقيًّا واقتصاديًّا.
أخلاقيات التعامل الاقتصادي في الإسلام
إن أحكام الشريعة الإسلامية في مختلف مرافق الحياة البشرية مرتبطة مع بعضها البعض، حيث تشكل وحدة متكاملة، تنبثق عن أصل واحد هو العقيدة الإسلامية.
وبهذا يتبيَّن لنا أن أحكام الاقتصاد الإسلامي متصلة بالأخلاق الإسلامية اتصالاً عضويًّا. وبالمثل فإن الأخلاق لا تنفك عن عقيدة التوحيد.
ومن هنا نلاحظ أن أوجه ارتباط الأخلاق الإسلامية بالاقتصاد تتجلى في ذلك التلاحم ما بينها وبين دعائم الاقتصاد وأهدافه.
ويتضح ذلك من خلال عرض نماذج من التعاملات الاقتصادية في الإسلام، والأخلاقيات التي ينبغي الأخذ بها، مثل:
(1) التسامح والتساهل: من أخلاق الإسلام التسامح بوجه عام، والتسامح في المعاملات الاقتصادية بوجه خاص، ويتمثل هذا التسامح في أمور متعددة منها:
أ- السماحة في البيع والشراء والمطالبة بالدَّين، قال عليه الصلاة والسلام: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى…" [رواه البخاري].
ب – إنظار المدين المُعْسر، عملاً بقوله تعالى: [البقرة : 280].
ج – إقالة العقد، أي الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك لظهور عدم احتياجه إلى المعقود عليه مثلاً، يقول : "من أقال مسلماً أقال الله عثرته" [ رواه البخاري ].
(2) الصدق والأمانة: وهما صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، ومن صفات الذي يعمل في الميدان الاقتصادي بوجه خاص، ولا يخفى ما لهاتين الصفتين من جلب الزبائن على المتحلّي بهما، وغرس الثقة به في نفوس المتعاملين معه، ولذلك امتدح رسول الله الاقتصاديَّ ورجل الأعمال الذي يتصف بهاتين الصفتين، فقال عليه الصلاة والسلام: "التاجر الأمين الصادق مع النبيين والصديقين والشهداء". [ رواه الترمذي ].
(3) عدم الحلف : الأصل أن الأيمان شُرعت لإنهاء الخصومات بتأكيد وقوع تصرّف أو نفيه، ولا يجوز الحلف في غير هذه المواطن. وبناء على ذلك فليس الحلف أداة للكسب وترويج البضائع وإقناع المشتري بها، ولذلك قال : "إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه يُنفق ثم يمحق" [ رواه مسلم ].
(4) إتقان العمل : ربَّى الإسلام أتباعه على إتقان العمل والإخلاص فيه، حتى أصبح الإتقان خُلُقاً من أخلاق المسلم، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحـب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" [ رواه البيهقي ]. ولا يخفى ما في الإتقان للأعمال من تقدُّم اقتصادي.
(5) النصيحة : أفاضت السُّنة النبوية في بيان ضرورة أن ينصح المسلم أخاه، ويبيّن لـه ما يراه عند إتمام الصفقة، وفي كل أمر، من عيْب أو مزّية من كساد أو رواج، حتى تنبني المعاملات والعلاقات على أسس ثابتة سليمة معيارها معرفة الحقيقة وإعمال الفكر وبلوغ الاختيار غايته والوصول إلى حقيقة الرضا، قال : "الدين النصيحة..." [ رواه مسلم ]. النصيحة لله ولكتابه – عزَّ وجلَّ – ولرسوله الكريم، ولأئمة المسلمين وعامتهم، في جميع المعاملات.
(6) النهي عن بَخْس الكيل والميزان : فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : [ المطففين : 1] ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك" [ رواه ابن ماجة ].
(7) ضغط تكاليف الإنتاج : لما كانت السلعة المنتجة يحتاج إليها الغنيّ والفقير والأرملة والمسكين، لذا وجب أن تقدّم إليهم بأرخص الأسعار، ولا يمكن ذلك إلا بخفض تكاليف الإنتاج، ولذلك وجّه الإسلام إلى الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه من النفقات الإنتاجية، والاستغناء عن كل ما يؤدي إلى إغلاء الأسعار على المستهلك ، ولذلك:
أ – حَرَّم الاحتكار؛ لأنه يؤدي إلى إغلاء الأسعار.
ب – كرِه السمسرة، وفضّل أن يتم التبادل من بيع وشراء ونحوهما بين المنتج والمستهلك مباشرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "لا يَبعْ حاضرٌ لباد" [ رواه مسلم ]. أي لا يكون له سمساراً.
ج – كره أن يتخذ المرء نفسه تاجراً وسيطاً دون حاجة لذلك؛ لأن ذلك يُغلي السعر على المستهلك، فقد قال : "لا تلقّوا الرُّكبان" [ رواه البخاري ومسلم ]. أي لا تخرجوا إلى مداخل المدن لتشتروا السلع من جلابها ثم تأتون بها السوق لتبيعوها فيه.
ومن هذا العرض، يتبيَّن لنا مدى ارتباط الاقتصاد بالأخلاق الإسلامية، وهذا عكس ما فعلته الاقتصادات الوضعية، حيث جرّدت الاقتصاد من الأخلاق، بحجة أن التعامل الاقتصادي تعامل مادي محض محكوم بنظم وقواعد تحدِّده وتفرضه على الجميع، فلا علاقة للاقتصاد بالأخلاق، وإنما صلة الأخلاق يجب أن تتوافر بين الأفراد في صلاتهم الاجتماعية.
وهذه الفلسفة الفكرية القائمة على الفصل بين الأخلاق وبين الاقتصاد في الفكر الوضعي، بدت تهتزّ أركانها على أيدي بعض المفكرين الاقتصاديين، حيث بدأت أصواتهم ترتفع مطالبة بوجوب إخضاع الاقتصاد إلى المعايير والأحكام والـمُثُل الأخلاقية.
صفات الاقتصاديّ الـمسلم
يختلف الاقتصادي المسلم عن غيره من الاقتصاديين بأنه ينبغي عليه أن يتحلّى بالصفات الخلُقية عندما يمارس نشاطاً اقتصاديًّا، الأمر الذي يجعل الاقتصاد الإسلامي اقتصاداً أخلاقيًّا.
وفيما يلي بيانٌ لأهم الصفات الخُلُقية التي يجب أن يتصف بها الاقتصادي المسلم عند مزاولته للنشاط الاقتصادي، منها:
1- الأمانـة :
قال تعالى: [ الأنفال : 27].
وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء".
ولذا يذكر علماؤنا أن الأمانة والقوة هما ركنا توظيف العمال والأجراء، أخذاً من قوله تعالى: [ القصص: 26].
وقولــه ســـبحانه على لســــان يوسف عليــــه الســـلام: [ يوسف: 55].
2- الصدق :
قال تعالى: [ الأحزاب : 23].
ويقول : "البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدقا وبيّنا؛ بورك لهما في بيعهما...".
وتاريخنا الإسلامي يحدِّثنا عن نماذج للاقتصادي المسلم الصدوق، فالصدِّيق يوسف عليه السلام: [ يوسف: 46]، أنقذ الله به بلاده مصر من المجاعة، والقحط، والجدب، والأزمات الاقتصادية، حين أرشدهم إلى سياسة وتخطيط اقتصادي رشيد.
والصدِّيق محمد بن عبد الله كان نموذجاً فريداً من نماذج الصدق والأمانة، حتى لقّبه القرشيون بالأمين، وتجارته مع أشراف قريش، وبأموال خديجة رضي الله عنها دلائل واضحة على ذلك.
3- الاعتدال والقوام :
يحرص الاقتصادي المسلم على أن يحصل على المنفعة والربح المعقولين، بحيث لا يترتب على ذلك ضرر أو مفسدة عليه أو على أحد إخوانه من المسلمين، اتباعاً لقاعدة الوسطية، قال تعالى: • [ الفرقان : 67 ].
وقال تعالى : • • [ الإسراء: 29 ].
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله : "الاقتصاد خلقٌ محمود يتولد من خُلتين : عدلٍ وحكمة، فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد", ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله: "التقصير سيئة، والإسراف سيئة، والحسنة ما توسط بين الإسراف والتقصير، وخير الأمور أوسطها".
4- الوفاء بالوعد :
قـال تعالى: • [ الإسراء : 34].
وقـــال تعـــالى: [ المائدة : 1].
كما يذكر الفقهاء قاعدة تنص على أن المسلمين على شروطهم، باستثناء الشرط الذي يُحلِّل حراماً أو يُحرم حلالاً.
ومن ثم جعل الإسلام الذي يُخلف الوعد والعهد، من زمرة المنافقين، كما في حديث رسول الله : "آية المنافق ثلاث، وذكر منها: وإذا وعد أخلف".
5 – السماحة :
يقول : "رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى" وهذه صفة تُرغِّب الناس في التعامل مع مَنْ يتصف بها.
وقد اشتهر عددٌ كبير من سلفنا الصالح بهذه الصفة، منهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، ويونس بن عبيد رحمه الله.
6- المشروعية :
يحرص الاقتصادي المسلم على ممارسة النشاط الاقتصادي المشروع، والبُعد عن كل نشاط اقتصادي يوقعه في المحرمات اتباعاً لقوله تعالى: [ النحل : 114 ].
وبناء على هذا فالاقتصادي المسلم يوجّه نشاطه نحو الحلال، مثل التجارة المشروعة، والصناعة والزراعة، ويبتعد عن كل نشاط اقتصادي حرّمه الإسلام، مثل التعامل بالربا والاحتكار والقمار والتطفيف في الكيل والميزان.
ولذا قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله معرِّفاً الكسب في الشريعة الإسلامية، قال: "الكسب هو تحصيل الأموال بـما يـحل من الأسباب".
7- النيّة الخالصة لله سبحانه :
على الاقتصادي المسلم أن ينوي بعمله – حين يزاول أي نشاط اقتصادي – وجه الله تعالى، وقصد نيل رضاه سبحانه، وكسب ثوابه.
ومن ثم كانت التجارة مع الله رابحة دوماً قــال تعــــالى : • [ الصف: 10، 11].
وكذلك كان الإنفاق تطهيراً للنفس من البُخل والشحّ، ونماءً للـمال وبركة، وتحقيقاً للتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع.
مـما سبق نعلم أن مَنْ يمارس نشاطاً اقتصاديًّا ينبغي عليه أن يتحلى بصفات خُلُقية رفيعة، تكسبه الاستقامة في كل عمل يقوم به مع الآخرين، وتكون سبباً لدخولـه الجنة، ومحبة الآخرين وتقديرهم له في الدنيا.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالـمين.