الاقتصاد في الحضارة الإسلامية
الاقتصاد في الحضارة الإسلامية
يهتم علم الاقتصاد بدراسة السلوك الاقتصادي للأفراد والمجتمعات كالإنتاج والاستهلاك والادخار وتبادل السلع والخدمات، وبالتالي فهو يتصل بكل جوانب الحياة ويتميز بالعمومية والإحاطة.. وينتمي علم الاقتصاد إلى
العلوم الاجتماعية، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم السياسة..
تعريف علم الاقتصاد:
"القصد" في اللغة خلاف الإفراط، وهو ما بين الإسراف والتقتير... وفي الحديث: "ما عال مقتصد ولايعيل" أي ما افتقر من لايسرف في الإنفاق ولا يقتر. (لسان العرب، ج3، ص353).
ويُعرِّف المتخصصون علم الاقتصاد بأنه ذلك الفرع من العلوم الاجتماعية الذي يبحث الاستخدامات المتعددة للموارد الاقتصادية لإنتاج السلع وتوزيعها للاستهلاك في الحاضر والمستقبل بين أفراد المجتمع.
الأمور التي يهتم بها علم الاقتصاد:
يختص علم الاقتصاد بدراسة الأمور الآتية:
1- ماهية السلع والخدمات التي ينتجها المجتمع، أي ماهية السلع والخدمات التي يجب على المجتمع أن ينتجها وفقاً لموارده الاقتصادية المتاحة، والتي تتميز بالندرة النسبية، الأمر الذي يقتضي المفاضلة بين الاستخدامات البديلة من خلال آليات السوق.
2- بأي طريقة يتم الإنتاج، فهناك طرق إنتاجية متعددة مثل:
- طرق إنتاجية كثيفة العمالة
- طرق إنتاجية كثيفة رأس المال
- طرق إنتاجية كثيفة التكنولوجيا
3- كيفية توزيع الإنتاج بين أفراد المجتمع، أي كيفية توزيع الناتج القومي من السلع والخدمات بين عناصر الإنتاج المشاركة في العملية الإنتاجية، كالعمال، ملاك الأراضي، أصحاب رأس المال، التنظيم، وقد شهد العالم العديد من الأنظمة الاقتصادية أهمها:
- النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يوائم بين الملكية الخاصة والملكية العامة.
- النظام الرأسمالي الذي يقوم علي أساس الحرية المطلقة للأفراد في ممارسة النشط الاقتصادي، والحد من الملكية العامة.
- النظام الاقتصادي الاشتراكي والذي يركز علي الملكية الجماعية لعناصر الإنتاج.
4- مدي الكفاءة التي تُستخدم بها الموارد الاقتصادية، أي ما إذا كان الإنتاج يتم بطريقة كفؤة ويوزع أيضاً بكفاءة.
5- هل موارد المجتمع موظفه توظيفاً كاملا؟
6- هل الطاقة الاقتصادية تنمو بصورة مطردة مع الزمن أم أنها تظل ثابتة؟
فروع علم الاقتصاد
ينقسم علم الاقتصاد إلى فرعين:
1- الاقتصاد الجزئي: ويختص بدراسة الظواهر الاقتصادية الجزئية، مثل دراسة سلوك الوحدات الاقتصادية الفردية، كسلوك المستهلك وسلوك المنتج، ونظرية الثمن، وسعر السلعة..
2- الاقتصاد الكلي: ويختص بدراسة الظواهر الاقتصادية الكلية كالناتج القومي والدخل القومي والاستثمار والادخار والطلب الكلي والعرض الكلي..
ويُستخدم الاقتصاد القياسي الذي يُعنَى باستخدام التحليل الرياضي والإحصائي، في كل من دراسات الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي.
المشكلات الاقتصادية:
ينبغي على كل أمة أن تنظم عملية إنتاج السلع وتوزيعها والخدمات التي يطلبها مواطنوها، ولتحقيق ذلك فإِن النظام الاقتصادي للأمة لابد له من طرح الحلول المناسبة للأسئلة الأربعة الأساسية التالية:
1- ما الذي ينبغي إنتاجه من السلع والخدمات؟
2- كيف سيجري إنتاج تلك السلع والخدمات؟
3- من الذي سيتلقى السلع والخدمات المنتجة؟
4- بأي سرعة سينمو الاقتصاد؟
ما الذي ينبغي إنتاجه؟
ليس بإمكان أي أمة أن تنتج كل ما يكفيها من السلع والخدمات اللازمة للوفاء بكامل احتياجات مواطنيها، ولكن أيُّ السلع والخدمات التي يمكن اعتبارها أكثر أهمية من بين مجموعات السلع والخدمات المختلفة؟ هل من الأفضل استخدام الأرض لرعي الماشية أم لزراعة القمح؟ وهل يجب استخدام المصنع لإنتاج الصواريخ، أم لإنتاج الجرارات، أم أجهزة التلفاز؟
كيف سيجري إنتاج السلع والخدمات؟
أينبغي على كل أسرة أن تزرع غذاءها وتنسج كساءها؟ أم ينبغي إنشاء صناعات متخصصة لتوفر تلك السلع؟ أم ينبغي استخدام العديد من العمال في صناعة معينة؟ أم من الأفضل صناعة المزيد من الآلات التي تضطلع بمختلف المهام؟
من الذي سيتلقى السلع والخدمات؟
هل يجب أن ينال الجميع أنصبة وحصصًا متساوية من السلع والخدمات؟ وما السلع والخدمات التي يجب أن تُخصص للقادرين على شرائها؟ ثم ما السلع والخدمات التي يجب توزيعها بطرق أخرى؟
بأي سرعة سينمو الاقتصاد؟
ينمو الاقتصاد حينما يُنتج المزيد من السلع والخدمات، وعلى الأمة أن تُحدد النسبة من مواردها النادرة التي ينبغي أن تُستعمل لبناء المصانع والآلات، ولتقديم المزيد من التعليم لأبنائها بما يكفل زيادة الإنتاج في المستقبل، كذلك يجب معرفة كم من موارد البلاد يلزم تخصيصه لإنتاج السلع والخدمات، مثل الغذاء والكساء للاستهلاك المباشر، إضافة إلى ذلك ينبغي على الأمة أن تُقرر الكيفية التي تتفادى بها البطالة والنكسات الاقتصادية الأخرى التي تبدد موارد البلاد.
تنمية الاقتصاد
لا بد للاقتصاد من النمو حتى يتمكن من توفير مستوى معيشي مرتفع ومتزايد للناس، أي ما يكفل لهم الحصول على المزيد من السلع والخدمات، وأن تكون نوعيتها أفضل، وبصورة عامة فكلما تسارع نمو اقتصاد بلد ما تحسنت مستويات المعيشة فيه وارتفعت، وهنالك أربعة عناصر رئيسية تجعل من الممكن للبلاد أن تنتج السلع والخدمات، وهذه العناصر التي تسمى بـالموارد الإنتاجية هي: 1- الموارد الطبيعية 2- رأس المال 3- اليد العاملة 4- التقنية.
يعرِّف الاقتصاديون الموارد الطبيعية بأنها تشمل الأرض والمواد الخام، مثل: المعادن والمياه وضوء الشمس.. ويضم عنصر رأس المال المصانع والأدوات والمؤن والمعدات، أما اليد العاملة فتعني كل الناس الذين يعملون أو يبحثون عن عمل، كما تعني مستوياتهم التعليمية وخبراتهم العملية، وتشير التقنية إلى البحث العلمي والبحث في مجال الأعمال والمخترعات.
ولتحقيق النمو، فإن اقتصاد أمة معينة لابد أن يزيد من مواردها الإنتاجية، فعلى سبيل المثال ينبغي على الأمة أن تستعمل جزءًا من مواردها لبناء المصانع والمعدات الثقيلة وغيرها من المواد الصناعية، ومن ثم يمكن استعمال هذه المواد الصناعية لإنتاج المزيد من السلع الأخرى في المستقبل، كذلك ينبغي على البلاد أن تبحث عن المزيد من الموارد الطبيعية وأن تنميها، وأن تبتكر تقنيات جديدة، وأن تُدرب العلماء والعمال ومديري الأعمال الذين سيوجهون الإنتاج المستقبلي، وتُسمى المعرفة التي تكتسبها هذه الفئات "رأس المال البشري".
قياس النمو الاقتصادي
إن قيمة كل مايُنتج من سلع وخدمات في سنة معينة تساوي الناتج الوطني الإجمالي، ويُقاس معدل نمو الاقتصاد بالتغير في الناتج الوطني الإجمالي خلال فترة معينة، عادة ماتكون سنة بعد سنة، وفي الفترة من سنة 1970 إلى 1988م نما الناتج الوطني الإجمالي لبلدان مختلفة بمعدلات متوسطة يختلف بعضها عن بعض كثيرًا، وذلك بعد إجراء التصحيحات اللازمة لاستبعاد أثر التضخم، وقد تحققت المعدلات التالية: بريطانيا 2،2%، الولايات المتحدة 2،9%، أيرلندا 3%، أستراليا 3،3%، كندا 4،4%، ماليزيا 6،5%، سنغافورة 8%، هونج كونج 8،8%، جنوب إفريقيا 9،2%.
ويُمكن قياس درجة النمو الاقتصادي للبلاد باتباع طريقة أخرى، وذلك بدراسة المستوى المعيشي لمواطني البلاد، وللحكم على المستوى المعيشي يُقسم الاقتصاديون أحيانًا الناتج الوطني الإجمالي للبلاد على إجمالي عدد السكان، وينتج من ذلك الحصول على مقياس متوسط الناتج الوطني الإجمالي الفردي، ويقيس متوسط الناتج الوطني الإجمالي الفردي قيمة السلع والخدمات التي قد يحصل عليها الفرد في المتوسط، وذلك إذا ماتم تقسيم كل السلع والخدمات المنتجة في البلاد في تلك السنة على السكان بصورة متساوية.
أهداف المجتمع الاقتصادي
تتمثل الأهداف الرئيسية التي تسعى كافة المجتمعات إلى تحقيقها فيما يلي:
1- الكفاءة: وتعني الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية، وعادة يميز الاقتصاديون بين نوعين من الكفاءة:
- الكفاءة الفنية: وتعني إنتاج أكبر كمية من السلع والخدمات بأقل تكلفة ممكنة.
- الكفاءة الاقتصادية (التوزيعية): وتعني إنتاج السلع والخدمات بالكميات التي يريدها المجتمع.
2- النمو الاقتصادي: ويعرف بأنه زيادة كمية السلع والخدمات التي يمكن إنتاجها في المجتمع مع مرور الزمن.
3- الاستقرار الاقتصادي: ويعني ذلك ثبات الأسعار وعدم وجود تقلبات غير طبيعية في المستوى العام للأسعار.
4- العدالة: وتعني توزيع الدخل أو الناتج القومي بين أفراد المجتمع بطريقة عادلة.(1)
النظرية الاقتصادية
يقول علماء الاقتصاد: إن النظرية الاقتصادية مفهوم متكامل يقوم على دعامتين هما: الإنتاج والتوزيع، ولكل منهما نظرية تكمل الأخرى، كما يرون أن للنقود نظرية ثالثة تمد الباحث في الدراسات الاقتصادية بمادة جديرة بالنظر العلمي إلا أنها غير منفصلة عن جوهر الاقتصاد وهو: إنتاج وتوزيع؛ ولذلك يمكن القول بوجود نظريات ثلاث متكاملة: إحداها للإنتاج، والثانية للتوزيع، والثالثة للنقود، ومنها مجتمعة تتألف النظرية الاقتصادية.(2)
علم الاقتصاد الوضعي قبل وبعد الإسلام
لا شك أن الأفكار الاقتصادية قديمة قدم الإنسان نفسه، ومنذ صدور الأمر الإلهي إلى سيدنا آدم بالهبوط من الجنة إلى الأرض وذلك بهدف إعمار الكون والسعي في طلب الرزق، وهذا يعني ببساطة: "العمل والإنتاج"، وهما - كما أشرنا - أساس الاقتصاد؛ قال تعالى: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأعراف: 24].
واعتبارا من هذا التاريخ والإنسان في صراع مع الطبيعة يحاول إخضاعها لسيطرته، وتسخيرها لخدمته، وذلك بأن يستخرج منها كل ما يكفي احتياجاته ويشبع رغباته، وقد ترتب على ذلك أن واجهته العديد من المشكلات الاقتصادية، وفي سعيه المستمر للتغلب عليها وتطوير قواه الإنتاجية والعملية الاقتصادية بأكملها، نشأت العديد من الأفكار الاقتصادية والتي تعد نتاج الممارسة العملية.
ثم انشغل بعض فئات المجتمع بالفكر بصفة عامة في مختلف أنواعه، وفي إطار ذلك كانت لهم بعض الأفكار الاقتصادية المحدودة بسبب محدودية العملية الاقتصادية؛ فالحاجات محدودة جدا وتنحصر في المأكل والمأوى والملبس، وأدوات الإنتاج بسيطة جد، وتعتمد على القوة الجسدية للإنسان بجانب بعض الأدوات المحدودة جدا.
فقد عرفت مصر القديمة الملكية الفردية، بالإضافة إلى ملكية الانتفاع، كما كانت هناك ملكية مقيدة وتتمثل في أراضي توقف على المعابد لكسب تأييد رجال الدين، غير أن كل ذلك في إطار أن الحاكم وهو الفرعون (والإله) هو المالك الأسمى لكل الأراضي، كما عرفت النقود السلعية كالقمح أولا، ومع التطور ووجود فائض زراعي والتوجه إلى المبادلة والتجارة استخدمت النقود المعدنية وخاصة الذهب، وهناك الكثير من البرديات يشير إلى ذلك.
وأما بشأن بلاد بابل أو ما بين النهرين فكان النشاط الاقتصادي أيضا يرتكز على الزراعة والتجارة، ورغم أن المالك الأسمى للأرض هو الملك (وكان له أيضا صفة الإله) فقد كانت هناك أنواع مختلفة من الملكية، ثم أصبحت الملكية الفردية هي الغالبة، ويحتل قانون حمورابي أهمية بالغة في المجالات الاقتصادية، حيث أورد تنظيما دقيقا لأمور الملكية والربا وغيرها، كما كان يتم استخدام النقود المعدنية في المبادلات.
أما النظام العبراني فتشير الدراسات إلى أنه قد عرف في مرحلة متأخرة التجارة الداخلية والخارجية، وارتبط بذلك الاتجاه نحو تجميع الثروات، ووجود طبقة شديدة الثراء، وارتفاع الضرائب، وزيادة أعداد فئات وطبقات الفقراء، وأدى هذا التغير الاقتصادي إلى ثورة أنبياء بني إسرائيل ضد الجشع واستغلال النفوذ من جانب التجار والمرابين، فكان تحريم الربا على القروض خصوصا بين العبرانيين، أما غير العبرانيين فكان بنو إسرائيل يتعاملون بالفائدة (الربا) معهم.
ولقد كان النشاط الاقتصادي عند الإغريق يرتكز على الزراعة البدائية، وكانت الوحدة الإنتاجية في الزراعة ثلاثة أنواع: وحدات كبار الملاك، ووحدات صغار الملاك، ووحدات مملوكة للدولة، وكانت التجارة الداخلية محدودة بسبب محدودية الحاجات، وكان يُعتَمَد على التجارة الخارجية في استيراد العديد من المنتجات الزراعية وغيرها.
وفي إطار هذا الاقتصاد البسيط، وفي ظل نهضة فكرية ملموسة ومشهورة كانت هناك بعض الأفكار الاقتصادية والتي تتميز بالريادة والإحاطة بالكثير من مكونات التحليل الاقتصادي غير المسبوق في هذه المرحلة التاريخية، فقدم أفلاطون في كتابه الجمهورية، وتحليله الشهير للمدينة المثالية العديد من الأفكار الاقتصادية المهمة، وكان من ذلك رأيه بضرورة وضع ضوابط للملكية الفردية أو الخاصة، وأنها يجب ألا تكون مطلقة.
وقد اقتفى أثر أفلاطون تلميذه أرسطو إلا أن آراءه كانت - في الغالب - تحمل وجهات نظر متباينة معه؛ فقد كان أرسطو مناديا ومحبذا للملكية الخاصة بشكل مطلق، ولكل أفراد المجتمع دون استثناء، ولكل فرد حرية تملك المال والتصرف والاستعمال والاستغلال، واعتبر الملكية حقًّا طبيعيًّا للفرد، وكان لذلك أبلغ الأثر في أوربا فيما بعد.
وإذا كان الرومان لم يقدموا فكرا اقتصاديا يستحق الذكر إلا أنهم قد أثروا في الفكر الاقتصادي مؤخرا وذلك عن طريق أفكارهم والتي تتمثل فيما يلي:
1) فكرة القانون الطبيعي، حيث تعني هذه الفكرة بوجود قانون ليس من خلق الإنسان ولكنه من خلق الطبيعة يحكم العلاقات الاقتصادية، وله صفة الدوام والعمومية، وقد ساد هذا الاعتقاد في القرن الثامن عشر لدى مدرسة الطبيعيين وكذلك لدى المدرسة الكلاسيكية.
2) فكرة المذهب الفردي: وتتضمن هذه الفكرة حق كل شخص في أن يعقد ما شاء من العقود، وكذلك الصفة المطلقة لحق الملكية، وأن يترك النشاط الاقتصادي حرا بدون تدخل من الدولة، وتعتبر هذه الفكرة أساس النظام الرأسمالي الذي ظهر واستقر منذ القرن السادس عشر حتى اكتمل بناؤه في القرن التاسع عشر.
هذا وقد كان النظام الطبقي هو السائد قديما كما عند اليونان والرومان، حيث كان المجتمع مقسم إلى الحاكم والنبلاء، وطبقة الزراع والصناع، وطبقة العبيد والأرقاء، مما كان له أثره المباشر في النظام الاقتصادي السائد.(3)
ولقد كان من بين أقدم النظم الاجتماعية - الاقتصادية (النظم التي تتضمن عوامل اجتماعية واقتصادية مشتركة) نظام العزبية ـ نسبة إلى عزْبة، وقد هيأ ذلك النظام الحلول للمسائل المتعلقة بكيفية إنتاج السلع وتوزيعها في مجتمع زراعي، وتحت ذلك النظام يقوم ملاك الأرض بتأجيرها للمستأجرين، أو باستخدام العمال للعمل على الأرض مقابل أجر، ومازال هذا النظام ساريًا في عالم اليوم في بعض البلدان، وقد بدأ نظام العزبية منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية، وانتشر في غرب أوروبا، وبحلول القرن الثاني عشر الميلادي، نمت المعارضة لذلك النظام، وأدى التطور الاقتصادي إلى نمو المدن والدول، حيث كانت لكل واحدة منها نظرتها المختلفة لمبدأ تقسيم السلطة، وقد تلاشى النظام العزبى أولاً في غرب أوروب، ولكنه بقي في بعض الأجزاء الأخرى من أوروبا حتى القرن التاسع عشر.
ولم يتم تطوير النظريات الرئيسية الأولى الخاصة باقتصاديات الأمم إلا في القرن السادس عشر الميلادي، أي ببداية فترة النزعة التجارية، وقد آمن أصحاب النزعة التجارية أن على الحكومة أن تُمارس تنظيم النشاط الاقتصادي لتحويل الميزان التجاري لمصلحتها، وقال هؤلاء: إن الأمم يمكنها زيادة الكمية المعروضة من المال من خلال تصدير المزيد من المنتجات مقارنة بما تستورد، وكان معظم هؤلاء يحبذون الاعتماد على التعرفة الجمركية المرتفعة والموانع الأخرى لتحديد الواردات وتقييدها.
وخلال القرن الثامن عشر، هاجمت مجموعة من الكتاب الفرنسيين، ـ تُسمى الفيزوقراطيين ـ النزعة التجارية، وكان هؤلاء يؤيدون التقليل من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، كما أنهم كانوا أول من استعمل المصطلح "دعه يعمل" من بين الاقتصاديين، ليعني عدم تدخل الحكومة، كما أن الفيزوقراطيين كانوا أول من بدأ الدراسة المنظمة للكيفية التي تعمل بها الأنظمة الاقتصادية.
الاقتصاديون الكلاسيكيون
يَعُدُّ معظم الاقتصاديين الحاليين آدم سميث أبا الاقتصاد الحديث، وقد بنى سميث - وهو أستاذ فلسفة أسكتلندي - مذهبه على بعض المباديء والأفكار الخاصة بالفيزوقراطيين، ولكنه كان يمتلك فهمًا أفضل لكثير من الأنشطة الاقتصادية، ويضم كتاب سميث (ثروة الأمم) (1776م) الكثير من الأفكار التي لايزال الاقتصاديون الحاليون يقبلونها أساسًا للسوق الحر، وقد قال سميث بأن المنافسة الحرة وكذلك التجارة الحرة كفيلتان بمساعدة الاقتصاد على النمو، كما قال بأن المهمة الرئيسية للحكومة في الحياة الاقتصادية يجب أن تكون العمل على تأكيد المنافسة الفعالة.
عاش سميث إبان حقبة الثورتين الأمريكية والفرنسية، وتوافق تشديده على الحرية الاقتصادية مع الاعتقاد المتزايد بالحرية السياسية الذي سرى خلال تلك الفترة، وبدأ الناس يتقبلون أفكار سميث، كما جرى تطوير النظريات الجديدة عن اقتصاد السوق الحر، وقد أُطلق على سميث وأتباعه مصطلح الاقتصاديين الكلاسيكيين.
وقد كتب ثلاثة من الاقتصاديين البريطانيين الذين عاشوا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بعضًا من أكثر الأعمال نفوذًا وتأثيرًا في الفكر الاقتصادي؛ فقد نشر ديفيد ريكاردو حُجَجًا قوية تدعم التجارة الحرة بين الدول، أما توماس روبرت مالتوس فقد تحدى بعضًا من أفكار سميث ولكنه طور بعضها الآخر لمدى أبعد، وقد حذر مالتوس من أنه إذا تُرِك العنان لأعداد السكان لتستمر في النمو فإن الأمم سوف لن تتمكن في يوم من الأيام من إنتاج ما يكفيها من طعام، وقد اقترح جون ستيوارت مِلْ أن توزع الأرباح بصورة أكثر مساواة بين المستخدمين والعمال.
كارل ماركس والشيوعية
عارض بعض الكتاب الفكرة التي تقول إن المنافسة تقود للنماء الاقتصادي، وكان من أكثرهم تأثيرًا كارل ماركس وهو فيلسوف ألماني عاش في القرن التاسع عشر، ففي كتابه رأس المال فسر ماركس التاريخ البشري الحديث بأنه صراع بين الطبقة التي تملك الصناعة والطبقة العاملة، وأعلن أن الاقتصاد الحر سيقود إلى كساد يتزايد بشكل خطير، وفي نهاية المطاف يؤدي إلى وقوع ثورة يقوم بها العمال، وفي البيان الشيوعي حث ماركس وصديقه فريدريك أنجلز العمال على التمرد على أرباب أعمالهم، وبشرا باقتصاد تمتلك فيه الطبقة العاملة كل الممتلكات، وقد وفرت نظريات ماركس الأساس لبناء الشيوعية.
حلول جديدة لمشكلات قديمة
مع أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين الميلاديين بدأ الاقتصاديون في استخدام الطرق العلمية في دراسة المشكلات الاقتصادية؛ ففي فرنسا توصل ليون واراس إلى صيغة رياضية تبين كيف أن أي جزء من الأجزاء المكونة للاقتصاد لابد أن يعتمد في عمله على كل الأجزاء المتبقية، وحث الأمريكي ويسلي كلير ميتشيل من جهته الاقتصاديين على استعمال الإحصاء لاختبار نظرياتهم، ودرس كذلك تعاقب فترات الازدهار والكساد.
وقد أدى الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي إلى أن يشرع الاقتصاديون في البحث عن تفسير جديد لفترات الكساد، وهاجم الاقتصادي البريطاني جون ماينرد كينز الأفكار التي تقول إن الأسواق الحرة تقود دائمًا إلى الرخاء والتوظف الكامل، ففي كتابه (النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال) لمَّح كينز إلى أن الحكومات بوسعها المساعدة في إنهاء الكساد وذلك بزيادة إنفاقها، كما بدأ اقتصاديون آخرون في دراسة الطرق التي تمكِّن من قياس درجة النشاط الاقتصادي، فقد طور سيمون كوزنتز مع بعض اقتصاديي الولايات المتحدة الآخرين طرق قياس الناتج القومي الإجمالي والدخل القومي، وغيرها من العوامل الاقتصادية.
وخلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين الميلادي، رفضت مجموعة من الاقتصاديين تسمى النقديين الكثير من نظريات كينز وأتباعه، وخلافًا لما نادى به كينز حث النقديون الحكومات على زيادة كمية الأموال المعروضة بمعدل ثابت، وذلك من أجل المحافظة على استقرار الأسعار وتشجيع النمو الاقتصادي، وأصبح ميلتون فريدمان ـ وهو اقتصادي أمريكي ـ الرائد الرئيسي للمدرسة النقدية. (4)
أنواع الأنظمة الاقتصادية غير الإسلامية
تطورت في الغرب والشرق نظم اقتصادية متباينة، وذلك لأن الأمم المختلفة لم تتفق يومًا على الكيفية التي يجب أن تحل بها مشكلاتها الاقتصادية الأساسية، وفي عالم اليوم ثلاثة نُظم اقتصادية مهمة هي: 1- الرأسمالية 2- الأنظمة الاقتصادية المختلطة 3- الشيوعية، وتتضمن الأنظمة الاقتصادية لكثير من البلدان عناصر مشتركة من نظم اقتصادية مختلفة.
1- الرأسمالية:
هي النظام الاقتصادي لكثير من البلدان في مختلف أرجاء العالم، وسميت رأسمالية لأن الفرد بوسعه أن يمتلك الأرض ورأس المال مثل المصانع والشقق السكنية والسكك الحديدية، وتشجع الرأسمالية حرية العمل التجاري والاقتصاد الحر؛ لأنها تسمح للناس بأن يباشروا أنشطتهم الاقتصادية بصورة مباشرة ومتحررة إلى حد كبير من التدخل والتحكم الحكوميين.
وكان الاقتصادي الأسكتلندي آدم سميث أول من طرح مباديء النظام الرأسمالي، وذلك في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد آمن سميث بأن الحكومات ينبغي عليها ألا تتدخل في معظم الأعمال، وكان يعتقد أن رغبة رجال الأعمال في تحقيق الأرباح إذا ماتم تنظيمها وتقنينها وتأطيرها بالمنافسة، فستعمل مثل اليد الخفية لإنتاج مايرغبه المستهلكون، وتُعرَف فلسفة سميث بعبارة "دعهُ يعمل" (عدم التدخل).
ولا يزال تركيز آدم سميث على الحرية الفردية الاقتصادية يمثل حجر الزاوية للنظام الاقتصادي الرأسمالي، لكن نمو قطاعات الأعمال الحديثة والمدن والتقنيات المتبعة، وتعقُّد كل هذا، قاد الناس إلى إعطاء الحكومات المزيد من الأعباء الاقتصادية يفوق ما خصها به سميث، وفي حقيقة الأمر، فإن العديد من الاقتصاديين يُعرِّفون النظام الأمريكي بأنه نموذج مُعدَّل من الرأسمالية؛ لأن الحكومة تقوم بدور مهمّ فيه.
2- الأنظمة الاقتصادية المختلطة:
وتدعى أيضًا بالأنظمة الاقتصادية الموجهة، وتشتمل هذه الأنظمة على المزيد من التحكم والتخطيط الحكوميين بالمقارنة مع الأنظمة الرأسمالية، ففي الاقتصاد المختلط، غالبًا ما تمتلك الحكومة صناعات مهمة، مثل النقل والكهرباء والغاز والمياه وتسيرها، أما أغلب الصناعات المتبقية فيمكن أن تكون ذات ملكية خاصة، والاشتراكية هي النوع الرئيسي من أنواع الاقتصاد المختلط.
وبعض البلدان ذات الأنظمة الاقتصادية المختلطة دول ديمقراطية؛ إذ ينتخب أفراد الشعب في تلك البلدان حكوماتهم، ويقترعون على بعض السياسات الاقتصادية، كذلك قد يقترعون لزيادة مقدار التحكّم الذي تمارسه الحكومة على الاقتصاد أو تقليصه، وتُسمى الأنظمة الاقتصادية لتلك البلدان غالبًا الاشتراكية الديمقراطية.
3- الشيوعية:
الشيوعية في صورتها التقليدية مبنية على ملكية الدولة لكل الموارد المنتجة تقريبًا، وعلى هيمنة الحكومة على كل الأنشطة الاقتصادية المهمة، ويتخذ مخططو الحكومة كل القرارات المتعلقة بإنتاج السلع وتسعيرها وتوزيعها، ولكن في كثير من الأقطار التي جرى تطبيق هذا النظام فيها لم يؤد ذلك التطبيق إلى ازدهار الاقتصاد، وبنهاية الثمانينيات من القرن العشرين بدأت الكثير من البلدان الشيوعية ـ خاصة الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان أوروبا الشرقية الأخرى ـ في التنصل من النظام الشيوعي التقليدي والتخلي عنه؛ فقد خففت هذه البلدان من درجة التحكم الحكومي في الاقتصاد، وشرعت في السماح بالملكية الخاصة للمزارع والمصانع. (5)
علم الاقتصاد الإسلامي
بعد هذا العرض السابق نواجه سؤالا يطرح نفسه: هل جاء القرآن الكريم والسنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده بعناصر متكاملة تمد الفكر العلمي بنظرية علمية يقوم عليها النشاط الاقتصادى في كل من الإنتاج والتوزيع، وفي ظل ما يعرف بالاقتصاد النقدى؟ والجواب: نعم، وسنكتفي بإلمامة خفيفة فى هذا الشأن تفصح عن غرضنا.
إن القرآن الكريم قد أرسى القواعد الكلية لتنظيم الاقتصاد، وجاء بعناصر متكاملة تمد الفكر العلمي بحاجته منه، وتشتمل على الأسس التى تكفل للجنس البشري أوضاعا اقتصادية تحقق له مستويات عليا من الرفاهية قبل أن يقوم علم الاقتصاد ويصل إلى ما وصل إليه من التقدم، ومما جاء في القرآن الكريم:
1- مبدأ العمل:
فالعمل هو السبيل الطبيعي لكسب المعاش، وهو الدعامة التي يقوم عليها المجتمع الإنساني؟ فهذا رجل من أفراد المجتمع يزرع، وذاك يصنع، وآخر يتجر، وغيره يعالج المرضى، أو يسهر على حفظ الأمن، أو يدافع عن الوطن إلى غير ذلك من الأعمال التي يقتضيها نظام الجماعة البشرية، ومن أجل ذلك حثَّ الإسلام على العمل وحضَّ على الكسب من طرقه المشروعة؛ فقال تعالى: {هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}، وقال سبحانه: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}، وقال عز وجل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.
وقال صلى الله عليه رسلم: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" (أخرجه البخاري)، وقال أيضا: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه". (أخرجه البخاري).
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا يقعدنَّ أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهمَّ ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة"، إلى كثير من الآيات والأحاديث والآثار التي تدل على عناية الإسلام بالعمل، وتبين مدى أهميته للفرد والجماعة.
2- الزكاة:
وهي من أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإنساني وينتظم بها اقتصاده؛ فهي من العوامل التي تقلل الفوارق بين الناس فى حظوظ الدنيا، وتطهر نفوس الأغنياء من الشُّحِّ والبخل، وفيها تتجلى مواساة الأغنياء لإخوانهم الفقراء، وسدُّ خُلَّتهم، كما أنها تدفع عن الأغنياء عواقب الحقد عليهم من نفوس الفقراء؛ فتسود المحبة وتقوى أواصر الألفة والتعاطف والتراحم بينهما، ومن ثم جعلها الإسلام أحد الأركان التي يقوم عليها بنيانه.
ولقد حث عليها القرآن فى كثير من آياته ورغب فيها وقرنها بالصلاة؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه وفيها إصلاح للنفوس، والزكاة صلة بين الأغنياء والفقراء وفيها إصلاح لشئون المجتمع، قال تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا}، وقال عز من قائل: {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}، وقال عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، وقال سبحانه: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان"، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تكشف عن كثير من نواحي الاقتصاد التى يسعد بها المجتمع.
وإذا استمع الأغنياء إلى مثل هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة أدى ذلك إلى صيانة المجتمع من الآلام والشرور التي يقاسيها، وإلى البعد عن الشيوعية، وعن الفتن والثورات التي تنشأ من احتكار الأغنياء للثروة وحرمان الفقراء منها.
وإن الناظر إلى الزكاة وأثرها فى المجتمع يدرك الحكمة من فرضيته، وجعلها ركنا من أركان الدين، وفي المرتبة الثالثة بعد التوحيد والصلاة. وإذا اطمأنت نفس المسلم إلى هذا الحق، وأنه واجب عليه لأخيه المسلم دعاه ذلك لأن يعرف أن عليه أنواعا أخرى من التعاون ليست دون المال.
3- تحريم الربا:
الربا فيه من المفاسد والإضرار بالمجتمع الإنساني من نواحيه الاقتصادية والاجتماعية ما لسنا في حاجة هنا إلى الإسهاب فيها؛ فهو يتنافى مع الأخلاق الكريمة التي يجب أن تسود كل مجتمع فاضل، من المروءة والتعاون والتعاطف والتراحم، ويورث أفراد المجتمع الحقد والبغضاء، ويؤدي إلى حصول أصحاب الأموال على كسب دون عمل؛ فإنهم يستغلون حاجة المحتاج، وينصرفون عن الأعمال المشروعة للكسب الحلال، ويخلُدون إلى الراحة والكسل، ويؤثرون التعامل بالربا مع الراحة الجسمية عن الاشتغال بالزراعة أو الصناعة أو التجارة أو غيرها مما يحتاج إلى تعب وعناء؛ فتتعطل أيدٍ كثيرة من الأيدي التي يجب أن تعمل، كما أنه يوجِد هُوَّةً عميقةً بين طبقات الأمة بتحويل مجرى الثروة إلى جهة واحدة، هي جهة أصحاب الأموال ومحاباة رأس المال أو الانحياز معه على حساب العاملين الكادحين، وفى هذا يقول القرآن الكريم: {كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم}.
وفى ذلك كما رأينا ما فيه من مفاسد اجتماعية واقتصادية، واختلال في توازن المجتمع، فتحريمه والنهي عنه تشريع حكيم له أثره البالغ فى اقتصاد الأمة ومعاشها، يقول الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة}، ويقول سبحانه: {يمحق الله الربا ويُربي الصدقات}، ويقول عز وجل: {فإن لم تفعلوا فَأْذَنُوا بحرب من الله ورسوله}، وعن جابر رضي الله عنه قال: "لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء".
وإن المجتمع الذي يدين بالإسلام؛ فيتذكر دائما قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة}، وقوله عز وجل: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقةا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون} إلى أمثال هذه الآيات التي تحث على الإنفاق، وعلى فعل الخير لوجه الله تعالى لهو المجتمع الفاضل الذي تنشده الإنسانية، والذي أرسى قواعده محمد صلوات الله عليه وسلامه.
4- الميراث:
شرع الإسلام للميراث نظاما حكيما يقضي بتقسيم تركة المتوفى بين عدد من أفراد أسرته؛ ليحول بذلك دون تضخم الثروات وتجمعها في أيدٍ قليلة، فأين من هذا النظام الإسلامي الحكيم تلك النظم التي يقضي بعضها بانتقال جميع ثروة المتوفى إلى ابنه الأكبر، أو يدع بعضُها المالكَ حرا في أن يوصي بتركته لمن يشاء؛ فتجتمع من جرَّاء ذلك ثرواتٌ ضخمة في أيدي نفر قليل من الناس، مما يثير حفيظة الفقراء في المجتمعات التي تخضع لهذه النظم، ويسبب انتشار المذاهب المتطرفة.
5- قانون من أين لك هذا:
وهو قانون اقتصادي عظيم، ومبدأ خلقي جليل، وأصل إسلامي صميم طبقه النبي صلى الله عليه وسلم على بعض عماله على الصدقات حين رأى أنه استغل عمله لجمع مال لنفسه فأخذه منه، فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن اللتبية على صدقات بني سليم، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحاسبه قال: هذا الذي لكم وهذه هدية أهديت لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي؛ فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا، فوالله لا يأخذ أحدكم منها شيئا بغير حقه إلا جاء اللهَ يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه إلى السماء حتى رُؤِيَ بياض إبطيه وهو يقول: ألا هل بلغت؟". (رواه البخاري ومسلم).
وقد مضى على تطبيقه في حزم وصرامة عمر بن الخطاب، فكان يراقب عماله وولاته؛ فلا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى لا ينحرفوا فيستغلوا مناصبهم في الاستكثار من الثروات الشخصية، وله في ذلك التصرفات الحازمة الحكيمة التي ازدانت بها سيرته.
6- الأراضي التي فتحت عنوة:
كان لعمر رضي الله عنه رأي سديد في شأن الأراضي التى فتحت على المسلمين، وكان لرأيه هذا أثر عظيم في اقتصاد الدولة الإسلامية، من حيث الإنتاج والتوزيع - وهما جوهر الاقتصاد كما هو معروف - ذلك أنه حينما فتح الله على المسلمين العراق والشام، وغيرهما من الأقاليم الواسعة رأى عمر رضوان الله عليه ألا تقسم هذه الأراضي المفتوحة بين الغانمين، ولكن تترك لأهلها مع وضع الخراج عليها لينفق منه على مصالح المسلمين على الدوام، ووافقه على رأيه هذا بعض الصحابة، وعلى رأسهم عثمان وعليّ وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم، وعارضه بعضهم، وكان أشدهم عليه فى ذلك الزيير بن العوام وبلال بن رباح وسلمان الفارسي، فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا فيما بينهم، فعمد إلى تحكيم عشرة من الأنصار: خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج؛ رغبة منه في أن يشتركوا معه في الأمانة التي حملها، فأعطى المحكمون رأيهم لعمر بعد أن استمعوا إلى رأي كل فريق من الطرفين، وكل ذلك إلهاما من الله وتوفيقا لعمر، وفيه كانت الخيرة والمصلحة الراجحة للمسلمين، وعموم النفع لجماعتهم.
7- النقود:
كذلك لم يفت الإسلام أن يُعنَى بأمر النقود؛ لأثرها المهم في معاملات الناس بعضهم مع بعض، فنرى أنه قد عني بضبطها وتحديد قيمتها حتى لايكون هناك سبيل إلى التلاعب بها، والفوضى في تداولها.
روى البلاذُرِي أن دراهم الأعاجم كانت ما العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وما العشرة منها وزن ستة مثاقيل، وما العشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فجمع ذلك فَوُجِدَ واحدا وعشرين مثقالا، فأخذ ثلثه وهو سبعة مثاقيل فضربوا دراهم وزن سبعة مثاقيل. (6).
ومن خلال هذا كله كان هناك ما يعرف بـ (النظام المالي) وعرضه كما يلي:
النظام المالي الإسلامي
راعت الدولة الإسلامية أن يكون لها نظام مالي تسير عليه؛ فأنشأت بيتا للمال يقوم على رعاية مصالحها، وهو يشبه وزارة المالية في وقتنا الحاضر، والقائم عليه يشبه وزير المالية. ولبيت المال حقوق وعليه واجبات، فكل ما يستحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو حق من حقوق بيت المال، وكل ما وَجَبَ صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال، ولبيت المال موارد هي الصدقة والغنيمة والفيء، وهذه الموارد قسمان: موارد دورية تجبى في أوقات معينة من كل عام كالزكاة والجزية، وموارد غير دورية كخمس الغنائم والركاز.
1- الصدقة:
الصدقة أو الزكاة هي ما يؤخذ من أغنياء المسلمين ليرد على فقرائهم،وقد بينا فيما سبق بعض مالها من آثار جليلة للمجتمع، وأنها من مظاهر التكافل الاجتماعي والأخوة الإنسانية، ومصادرها: السوائم (الإبل والبقر والغنم) والفضة والذهب، وعروض التجارة، والزروع والثمار، وقد بينت الشريعة لكل ذلك نصابا معينا لا تجب الزكاة فيما دونه، ومصرفها ما ذكر في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.
ولعل في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن جماع القول لخصائص الزكاة، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم..".
ويؤخذ من هذه الوصية أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، وأنها تؤخذ في إنصاف؛ فلا تؤخذ كرائمُ الأموال وخيارها.
2- الغنيمة:
وهي ما يغنمه المسلمون ويأخذونه من أموال الكفار بالقتال والجهاد في سبيل الله، وهي أنواع: أسرى وسبي وأموال منقولة وأرضين على خلاف فيها، فالأسرى هم المقاتلون الذين يقعون في الأسر، والسبي هم النساء والأطفال الذين يقعون في أيدي المسلمين، ولا يجوز أن يقتلوا، ويكونون سبيا مسترقا يقسمون مع الغنائم، ويجوز قبول الفدية منهم، والأموال المنقولة هي ما يمكن نقله كالنقود والماشية.
والواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكرهم الله تعالى بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)، وقسمة الأربعة الأخماس الباقية بين الغانمين.
3- الفيء
وهو كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال، ولا بإيجاف ولا خيل ولا ركاب، ويدخل فيه الجزية والخراج والأعشار وغيرها.
4- الجزية:
وهي ما كان يُوضَعُ على رءوس أهل الذمة، وتؤخذ من الرجال القادرين لا ممن يُتصدق عليهم، ولا ممن لا قدرة له على العمل، وكانوا يقدرونها حسب أحوال أهل الذمة غنى وفقرا، لكن لا تزيد على ثمانية وأربعين درهما، ولا تنقص عن اثني عشر درهما في السنة، وكانت تؤدى منجمة، وتسقط بالإسلام.
وتقبل من غير المسلمين أيا كانوا إلا إذا كانوا من العرب عبدة الأوثان أو من المرتدين، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، أما غيرهم من النصارى واليهود والمجوس وعباد الأوثان من العجم فيقبل منهم الإسلام أو الجزية أو السيف، والجزية بدل عن القتل أو القتال، فدافعها لا يقتل ولا يدعى إلى قتال، وهو آمن على نفسه وماله.
5- الخراج:
وهو ما كان يوضع على الأراضي التي فُتِحَتْ عنوة ثم تركت بأيدي أصحابها على أن يؤدوا عنها الخراج، ومما يدخل تحت الخراج ويعتبر من موارد بيت المال في الإسلام: أعشار التجارة، وأخماس المعادن، والمراعي والضياع، وأثمان المياه، وما يوضع على الملاحات والآجام وغيرها مما يعد من قبيل الخراج. (7)
المِلْكِية في النظام الاقتصادي الإسلامي
تتقسم الملكية في نظام الإسلام الاقتصادي إلى أربعة أقسام:
أ ـ الملكية الفردية (الخاصة) ب ـ الملكية العامة
ج ـ الملكية المزدوجة أو الاقتصاد المختلط د ـ ملكية الدولة.
الملكية الفردية (الخاصة)
أباح الإسلام للمسلم حق التملك بحكم الاستخلاف في الأرض؛ فهو مستخلف في الأرض لاستعمارها واستغلال خيراتها لمصلحة نوعه، لكن أصل الاستخلاف في الإسلام ليس للفرد إنما للأمة والجماعة قال تعالى: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7]، وقال تعالى: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} [النساء: 32]، وهذا تقرير لحق الفرد في تملك ما كسبه بعرقه وجهده، وقال صلى الله عليه وسلم: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد" أخرجه الشيخان.
والملكية الفردية تكافيء ما يبذله الإنسان في تعمير الأرض واستغلالها، وبقدر بذله وجهده يكون حظه من هذه الملكية، وهو وكيل في هذه الملكية يتصرف فيها بأمر موكله وهو الله سبحانه وتعالى، وحق هذه الوكالة هو القيام بواجبات الإنفاق الخاص على نفسه وأهله وخاصته ثم القيام بواجبات الإنفاق العام كالزكاة والصدقة والنذور والكفارات وما إلى ذلك، وكذلك ينفق على أنواع البر المختلفة، قال تعالى في حق الأنصار: {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويُؤْثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9].
فصفة الإيثار هي التي تميز المسلم، وتجعله ينفق على أوجه الخير ليطهر نفسه بهذا الإحسان، وينفي عنها البخل والشح لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103] ويحق للملكية الفردية الإسهام الفعال في أنواع الاستثمار المختلفة، وجميع ألوان التجارة، وكذلك يحق للملكية الفردية المساهمة في العمل الحر المنتج الصناعي والزراعي، والاستثناء الوحيد من الملكية الفردية في الإسلام هو أن جزءًا من الملكية العامة لا يحق للفرد أن يمتلكه ولا حتى ملك وظيفة، ويتمثل ذلك في المرافق العامة الضرورية لحياة المجتمع التي ورد ذكرها في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ والماء والنار "، وما صارت هذه شركة للناس إلا لأنها من المرافق الحيوية التي لا تصلح للملكية الفردية، والحكمة من ذلك أن لا يُترَك موردٌ عامٌّ وضروري لحياة كل الناس، تحت تصرف فردي يخضع لرغبات أحد من الناس إن شاء أمسك وإن شاء أرسل.
وللملكية الفردية ضوابط أخرى تقع جُلُّها في دائرة ما أمر به الله وما نهى عنه أي أن لا يخرج المسلم عن هذه الدائرة، وضابط آخر بعد ذلك هو الالتزام بقاعدة: "لاَضَرر ولا ضِرار" أي ألا تسبب الملكية الفردية ضررًا للملكيات الأخرى، وإذا أصابها ضرر من الملكيات الأخرى ألا ترد الضرر بضرر مثله بل ترده إلى ولي الأمر، وتخضع الملكية الفردية لضوابط الإنفاق الإسلامية لكي لا يكون هناك ضرر أو ضِرار.
الملكية العامة
المالك فيها هو الأمة بصفتها الاستخلافية {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7] والأمة تملك الرقبة والعين، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء: 5] فجعل الضمير في المال يعود للجماعة (الأمة) وليس للسفهاء، والذي يتولى أمر هذه الملكية هو الحاكم بصفته الاعتبارية، أي باعتباره حاكمًا وليس بصفته الشخصية كفرد من أفراد المجتمع، وتتمثل الملكية العامة في المعادن والوقود، وهذه أيضًا تخضع للملكية العامة إلا إذا عجزت الدولة عن استخراج المعادن أو الوقود، فإنها حينئذ تكلف القطاع الخاص (الملكية الخاصة) باستخراج المعادن أو الوقود بالشروط التي يتفقان عليها.
وكذلك الغابات جزء أساسي من الملكية العامة، ويجوز للدولة أن تستقطع منها شيئًا للملكية الخاصة بنفس شروط انتقال الملكية في الأراضي الزراعية على أن تكون ملك وظيفة فقط؛ فالملكية العامة على هذا تشمل القطاعات الأساسية في الاقتصاد القومي، والقاعدة العامة: كل ما لا يستغني عنه المسلمون فهو عام، هذا بالإضافة إلى القطاع الحديث الذي يسمى القطاع الخدمي الذي يُعنى بالخدمات العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين، وهذا القطاع يقع تحت الإشراف المباشر للدولة، وللملكية العامة -وهي ملك الأمة- أن تساعد في ترقية وتحسين أدائه.
أما وظائف الملكية العامة فهي:
1- إيجاد مصدر عام لتمويل النفقات العامة، والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جعل الأراضي المفتوحة (أراضي السَّواد) ملكية عامة، وفرض على استغلالها الخراج الذي تُمَوَّل به الخزانة العامة وتُغطَّى به النفقات العامة.
2- التوازن الاجتماعي؛ وهو إجراء توزيعي يهدف إلى إشباع حاجات الفئات الفقيرة، وهذا له مصدر معروف وهو الزكاة التي تقوم الدولة بتوزيعها لإغناء الفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وطبيعة الملكية العامة أنها ملك عام لكل فرد فيه حق كما قال عمر بن الخطاب: "ما من أحد إلا وله في هذا المال حق، أُعْطِيَهُ أو مُنِعَهُ" لكن المالك الحقيقي فيه هو الأمة مجتمعة، أي أنها تملك الرقبة والعين ويملك الفرد فيها الوظيفة والمنفعة دون الرقبة والعين، أما الدولة فهي التي تقوم بتنمية هذه الملكية وتثميرها بالوكالة عن الأمة.
الملكية المزدوجة، أوالاقتصاد المختلط
هي في الأصل مزيج من الملكية الخاصة والعامة، تعمل جنبًا إلى جنب في استثمار الأموال العامة بحيث تُقسَّم الأرباح بينهما بنسبة إسهام كلٍ منهما في الاستثمار، وتسمّى هذه بالشركات، وقد أجازها الإسلام وجعل لها شروطًا تتحقق بها المصلحة الخاصة والعامة وينتفع بها المجتمع وتحفظ حقوق الشركاء في ذات الوقت.
ويمكن أن تأخذ الملكية المختلطة شكلاً آخر هو اشتراك القطاع العام أو الدولة مع القطاع الخاص (الملكية الفردية) في نشاط اقتصادي بالمشاركة مع احتفاظ كل منهما بنسبة أرباحه حسب الاتفاق، ويعرف هذا في كثير من دول العالم اليوم بالاقتصاد المختلط، وهو الذي يميز الاقتصاد الحر عن الاقتصاد المركزي الذي يعتمد على التخطيط الحكومي أولاً وأخيرًا.
ملكية الدولة
المالك الفعلي فيها هو الدولة بشخصيتها الاعتبارية، وسلطة الدولة في هذه الملكية هي أن ترعى هذه الملكية وتُنميها وتطورها لمصلحة الأمة، باعتبار أن الدولة موظفة لدى الأمة وخادمة لها ووكيلة عنها في إدارة الاقتصاد القومي ورعاية الملكيات الخاصة، وتشجيعها على الاستثمار والاتجار والمشاركة الفعلية في النشاط الاقتصادي، وتسمّى هذه الوظيفة ملكية الدولة، والدولة تقوم بدور الإشراف الكلي على الاقتصاد نيابة عن الأمة، والفرق بين ملكية الدولة والملكية العامة هو أن المالك في ملكية الدولة هو الحاكم بصفته الاعتبارية، والملكية العامة المالك فيها هو الأمة، والأمة تملك الرقبة والعين لكن الحاكم هو الذي ينوب عنها في تصريف هذه الملكية حسب مقتضيات المصلحة العامة.
وهناك وظائف حددها الشارع الحكيم للحاكم كجمع الزكاة وتوزيعها حسب المصارف التي حددها الشارع، وهذه من أهم وظائف الدولة لأن القصد من الزكاة هو خلق توازن اجتماعي يضمن للمحتاجين حق العيش الكريم في ظل الدولة الإسلامية بأخذ شيء من فضول أموال الأغنياء ورده على الفقراء، فالمال في الإسلام مال الله والإنسان مستخلف على هذا المال بالوكالة؛ ولذلك فإن الغني عندما يخرج شيئًا من ماله للفقير فهو يعطيه من مال الله وليس من ماله الخاص لقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33] وإنما آلت إليه الخصوصية بحق العمل والملكية التي هي أيضًا ملك مؤقت ومحدود بحدود العمل والجهد الذي يبذله في المال.
والروح التي يبثها الإسلام في أصحاب الأموال هي روح الإنسانية المؤمنة التي تجاوزت حدود النفس الضيقة إلى حدود الإيثار والتعاون على البر والتقوى، والتآخي في الإسلام الذي يرتفع فوق التآخي في الأرحام والأنساب، وفوق الأنانية الضيقة التي لا ترعى إلا المصلحة الشخصية، تجاوزت حدود كل ذلك إلى رحاب الإنسانية العريضة التي تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والحكمة في ذلك هي تحقيق الضمان الاجتماعي لأفراد المجتمع العاجزين عن الكسب والمعوزين الذين لا يكسبون ما يضمن حياة كريمة لهم ولمن يعولون، ومسؤولية الدولة المباشرة هي أن تكفل لهولاء حياة حرة كريمة.
والملكية العامة هي التي تحفظ حق الجماعة كلها في الثروة لقوله تعالى: {كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم} [الحشر: 7] وهذا تأكيد على وجوب رعاية القطاع العام لمصلحة المساكين والمحتاجين وحمايتهم ليظفر كل أفراد الجماعة بحقهم في الانتفاع بمال الله الذي جعله للأغنياء ولغيرهم أيضًا وليس لهم وحدهم، ولا يكتفي الإسلام بضمان الدولة للمسلمين بل يتجاوز ذلك إلى غير المسلمين، فالذميِّ الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبر وعجز عن الكسب، كفلته الدولة الإسلامية وأصبحت نفقته من بيت المال.
وللدولة مهمات أخرى في نظام الاقتصاد الإسلامي فهي التي تشرف إشرافآً مباشرًا على قطاع الخدمات، وإشرافها يضمن للفقراء والمساكين العلاج والتعليم وما يتصل بذلك، والدولة هي التي تقوم بالإشراف على نظام الحسبة، وهي مراقبة الأسواق لكي لا يلجأ التجار إلى الغش والاحتكار والتغرير والتطفيف في المكاييل والموازين، ويقوم بهذه الوظيفة المحتسب الذي تُعيِّنه الدولة.
وموجز ما تقدم أن نظام الاقتصاد الإسلامي يقبل آلية جهاز الأثمان وقوانين العرض والطلب ما دامت الأسواق تلتزم الأحكام الشرعية في التبادل، لكن الشريعة مع ذلك أقامت مؤسسات أخرى لمعونة من لايوفر لهم نشاط السوق حدًا مناسبًا من المعيشة؛ لأن الحياة ليست مادة فقط ولا روحًا فقط بل هي مزيج من المادة والروح، فالآلية تصلح لحياة مادية ليس فيها شيء غير المادة، أما الحياة الإنسانية فهي حياة تتصل فيها المادة بالروح ولا تنفصل عنها، فالناس يُشبِعون حاجاتهم المادية لكنهم لا يتجاهلون نداءات الأرواح الأخرى التي لا تجد ما يشبع حاجاتها المادية، ولا تجد ما تنفق ولا ما تستهلك، فالنظام الإسلامي يسعى لسد الاحتياجات الدنيا للفقراء من الطعام والكساء والتعليم والإسكان والنقل والتسهيلات الطبية ليؤمِّن كفايتهم ويحقق كرامتهم باعتبارهم خلفاء الله في الأرض، ولا يترك الغالبية العظمى من المجتمع تنفق ساعات طويلة في العمل لاستيفاء ضرورياتها، فلا يبقى لديها فسحة من الوقت ولا قليل من الفائض من الموارد يمكنها من الاستجمام، أي الارتقاء الفكري والأخلاقي، بينما يثري البعض دون جهد يذكر. (8)
الحرية الاقتصادية
الحرية الاقتصادية في الإسلام تقوم على أساس من الحرية الإنسانية؛ لأن الإنسان إذا لم يملك حريته ـ حرية القول والفعل ـ فهو لا يستطيع أن يملك حرية التصرف الاقتصادي، والحرية بهذه الصفة حق يكتسبه الإنسان بدخوله في الإسلام ونطقه بالشهادة، فشهادة أن لا إله إلا الله فيها تحرير للإنسان من العبودية لغير الله، وهي أعلى درجات الحرية؛ إذ أن الإنسان قد تحرر من الاستعباد وعبَّد نفسه للعلي الكبير الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، ولا إله غيره، ولا معبود بحق سواه، فالحرية الحقة المطلقة له وحده، وقد ورد شاهد في القرآن على الحرية الاقتصادية يدل على أنها فرع من الحرية الإنسانية، قال تعالى: {ضرب الله مثلاً عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [النحل: 75].
إن الحرية الاقتصادية لا تتبلور في التطبيق والممارسة ما لم توافق الحرية الإنسانية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالذي لا يملك حرية التصرف أي الحرية الإنسانية لا يستطيع أن يمارس النشاط الاقتصادي الحر، لكن الحرية الإنسانية ليست مطلقة لأنها إنسانية محدودة بوجود الإنسان الجسمي المادي وتركيبه العقلي النفسي وبيئته المادية، وهذا ببساطة يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يمارس وجوده وحريته إلا في هذا الإطار المحدود لوجوده الإنساني، وداخل هذه الحدود يقوم النشاط الاقتصادي الإسلامي بالوفاء بحاجات الإنسان المختلفة من الطيبات المباحة والمتاحة، الضرورية منها والكمالية.
وبالنسبة للنظام الاقتصادي الإسلامي يقع هذا الإطار في دائرة ما أباح الله وأحَلَّ من الطيبات، ولا يقوم النشاط الاقتصادي في غيرها من الخبائث والمحرمات، وهذا هو أحد ضوابط الحرية الاقتصادية في النظام الإسلامي، وهناك ضوابط للحرية الاقتصادية كثيرة تتمثل في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضِرار" فهذا الحديث يضع شرطًا لحماية التملك والاتجار هو عدم إلحاق الضرر بالآخرين، وألا يُردَّ الضرر بضرر مثله، وهذا هو الضِّرار، ومن ضوابط الحرية تدخُّل الدولة في النشاط الاقتصادي.
فالحرية الاقتصادية هي أساس النظام الإسلامي، وهي التي تميز نظام الإسلام الاقتصادي عن النظام الرأسمالي الذي يتقيد فقط بقوانين العرض والطلب والقوانين الوضعية التي تمنع السرقة والنهب المُسلَّح والقتل وما إلى ذلك، وكذلك تميز الحرية النشاط الاقتصادي الإسلامي عن النظام الشيوعي الذي يمنع الحرية أولاً وأخيرًا، ولذلك يعتمد النظام على تخطيط الحكومة المركزية؛ إذ أنه اقتصاد أوامر وليس اقتصادًا حرًا، فالنظام الاقتصادي الإسلامي على هذا نسيج وحده لأنه يحمل مقومات الاقتصاد الإنساني التكافلي التعاوني الذي تفتقر إليها النظم الاقتصادية المعاصرة. (9).
الإنتاج والتنمية الاقتصادية في الإسلام
تعني التنمية الاقتصادية عند كثير من الاقتصاديين تحقيق معدلات عالية من الدخل القومي لزيادة دخل الفرد من الناتج القومي بحيث يهدف ذلك إلى تحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للجميع، وفي نظام الاقتصاد الإسلامي، لابد أن يتقيد ذلك بشريعة الحرام والحلال وبضوابط الحرية الاقتصادية التي يخضع لها نظام الإسلام الاقتصادي، والوصول إلى هذا الهدف الاقتصادي لا يمكن تحقيقه دون العمل على زيادة الإنتاج القومي.
لم يترك النظام الاقتصادي في الإسلام الإنتاج لجهاز الأثمان فحسب، بل أخضعه للقيم العقائدية الأخلاقية التي يقوم عليها النظام الإسلامي نفسه، فلابد أولاً أن تقوم المؤسسات الإنتاجية على أساس أخلاقي، فتبتغي الكسب الحلال نوعًا وكمًا، فلا يكون الإنتاج في المحرمات من المطعم والملبس والمركوب، ويتقيد أيضًا بكيفية مباحة مشروعة كأن يكون مرابحة أو مضاربة أي مشاركة أو أية صيغة من صيغ الشركات الإسلامية المباحة، وأن لا يمارس المنتجون أنواع الربا المختلفة وأن يتوخوا الربح الحلال والتنافس الشريف، خلافًا لما يقوم به المرابون الرأسماليون الذي يسعون إلى الربح فقط والمزيد من الربح للمؤسسة الخاصة، ولا يضعون اعتبارًا لأية مواضعات أخرى اجتماعية كانت أو اقتصادية.
وعناصر الإنتاج هي الطبيعة والعمل ورأس المال والتنظيم، ويرى بعض علماء الاقتصاد الإسلامي أن عائد الإنتاج يعود على العمل بالأجور وعلى رأس المال بالربح؛ لأن الطبيعة عندهم تقع ملكيتها في توزيع ما قبل الإنتاج وللمنتج منهما المنفعة غير العين والرقبة، فهو يملك منها الوظيفة فقط، أمّا التنظيم فهو عمل وعائده هو الأجر إلا إذا كان المنظِّم مسهمًا في رأس المال فإن له نصيبًا من الربح، ولا يخضع الإنتاج في الإسلام للمعدلات المادية كما هو الحال في النظام الرأسمالي بل يراعي المصلحة الاجتماعية، وقد يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا دعت الظروف لذلك.
التوزيع والتبادل
التوزيع العادل يقوم على أساس احترام الجهد البشري، فيشحذ الهمم ويؤدي إلى إنتاج أفضل كمًا ونوعًا، والإنتاج الأكبر يؤدي إلى نصيب أكبر من الرفاهية، أما التوزيع غير العادل فيؤدي إلى تراكم الفروق بين الطلب الكلي الاستهلاكي والاستثماري، وبين إنتاج السلع والخدمات المختلفة الاستهلاكية والاستثمارية؛ ممّا يؤدي إلى تقلبات النشاط الاقتصادي والأمراض الاجتماعية التي تنجم عن ذلك، وهذا النمط من التوزيع يثبط همم المشتغلين بالإنتاج ويجعلهم لا يُقبلون على أعمالهم بالقدر الضروري الذي يزيد في الناتج القومي ويؤدي إلى استغلال الموارد المتاحة الاستغلال الأمثل.
وأساس التوزيع العادل في الإسلام يقوم على التوفيق بين المصالح الفردية والمصالح العامة الاجتماعية، ويقوم على الدعامة الأخلاقية للنظام الإسلامي وهي الدعوة إلى التعاون والتكافل.
إن الزكاة هي أداة الإسلام التي ترمي إلى إعادة توزيع الثروة، ولا يتم التوزيع التلقائي حسب أولويات السوق كما هو الحال في النظام الرأسمالي، أو حسب العمل فقط، كما هو الحال في النظام الاشتراكي، والملاحظ أن آلية نظام السوق لا تعتد بالفروق الاجتماعية ولا تهتم بإعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي، كذلك جعلت مادية علاقات الإنتاج في النظام الاشتراكي الفرد الحر كمًّا مهملاً وسط إيقاع علاقات الإنتاج المادية، أما التبادل في نظام الاقتصاد الإسلامي فقد اهتم به الإسلام ووضع له الرقباء في نظام الحسبة، وهو نظام مراقبة الأسواق، وقنَّن قواعد التبادل، وجعله منفعة متبادلة بين البائع والمشتري يحقق كل منهما أقصى منفعة بقيمة مجزية للطرفين، وجعل الإسلام للتبادل قواعد يراعيها البائع والمشتري، ومن هذه القواعد:
1- أن الإسلام منع تداول السلع الضارة أو التي لا منفعة فيها، وقد ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه".
2- منع الإسلام الغش، فقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس من، ومن غشنا فليس منا".
3- منع الإسلام الغَرَر وما شابهه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر، (صحيح مسلم)، وبيع الغرر هو كما يقول الفقهاء: "التردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر" مثال ذلك:
أ- أن يُجَهِّل البائع الثمن والمُثمَّن؛ لأن جهلهما غرر.
ب- أن يحدد زمن البيع كبعتك إذا جاء رأس السنة.
ج- أن يعلق البيع على رضا شخص، كبعتك إذا رضي زيد.
د- وبيع المجهول غرر كبيع السمك في الماء والطير في الهواء وهكذا.
4- ألغى الإسلام التدخل غير المشروع بين البائع والمشتري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسم المسلم على سوم أخيه" (صحيح مسلم)، وقال: "لايتلقى الركبان لبيع، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تُصَرُّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر". (رواه مسلم).
ومعنى لا يتلقى الركبان لبيع هو استقبال البضاعة خارج السوق؛ لأن هذا فيه تضييع لمصلحة البائع والمشتري الذي ينتظر البضاعة في مكان البيع، أما النجش فهو المزايدة في السعر بدون نية الشراء لرفع سعر السلعة، أما النهي عن البيع للبادي أي القادم من البادية من الحاضر أي الحضري لجهل الأول بالسوق، وتصرية الإبل والغنم أي يمسك عن الحلب فلا يحلبها حتى يكبر ضرعها، فمن اشتراها وهي مُصَرَّاة جاز له أن يحلبها، وهو بالخيار بعد ذلك، فإن رضي بها أمسكها وإن لم يرضَ ردها إلى صاحبها ومعها صاعٌ من تمر عوضًا عما أتلفه من لبنه، وهذا فيه إغلاق لباب الظلم وإظهار لعدل الإسلام.
5- وأوصى الإسلام بتيسير سبل التبادل، وذلك بضبط المقاييس والمكاييل قال تعالى: {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1-3].
6- ضمان حقوق أطراف التعامل، قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ (المائدة: 1)، وفي الحديث: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرَّم حلالاً أو أحل حرامًا". رواه الدارقطني والحاكم.
7- والقاعدة الكبرى هي أن الدولة تقوم بمراقبة التبادل وتقيم نظام الحسبة وتُعيّن المحتسب بحيث لا يختل التبادل في الأسواق ولا يظلم أحدٌ أحدًا؛ فتحفظ بذلك توازن السوق وتحفظ أخلاق الإسلام. (9)
وإضافة إلى هذا كله فقد أتى الإسلام بمباديء اقتصادية عامة لها أثرها في الاقتصاد كقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)، وقوله: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، وفي الحديث: "القصد القصد تبلغوا" أي عليكم بالقصد من الأمور، إلى أمثال ذلك من الآثار التي تحث على التوسط والاعتدال كما هو شأن الإسلام في تشريعاته.
وبعد هذا العرض نستطيع أن نقول: إن الإسلام حقق هدف الاقتصاد من العمل على رفاهية بني الإنسان جميعا، وحقق نظريته التي تتألف من الإنتاج والتوزيع والنقود على نحو عادل لا اضطراب فيه، ولا غبن على أحد.
وعلم الاقتصاد - كما يقول أهله - قد تقدم كثيرا في وضع نظرية الإنتاج، ولكنه اضطرب واشتد اضطرابه في وضع نظرية عادلة للتوزيع.
أما الإسلام فإنه - كما يقول المنصفون من علماء الاقتصاد - قد وضع أسسا وتشريعات ثابتة حكيمة عادلة كل العدل في التوزيع، وبذلك يكون قد انفرد بنظرية فريدة من نوعها في عنصر مهم من عناصر الاقتصاد. (10)
علم الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث
بالرغم من الأسس الشرعية والفكرية القديمة للاقتصاد في الفكر الإسلامي إلا أن مصطلح الاقتصاد الإسلامي في حد ذاته لم يظهر إلا في أواخر القرن الرابع عشر الهجري أو في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا بد من القول أن ظهور المصطلح لم يكن مجرد عثور على اسم لشيء موجود، بل كان يعني أكثر من هذا على سبيل التأكيد، لقد كان المصطلح مرتبطاً بعدة أمور، بالرغبة في إقامة نظام اقتصادي عصري في إطار الشريعة الإسلامية، وصياغة نظريات وسياسات اقتصادية تلائم الاحتياجات الواقعية للأقطار الإسلامية وتساعدها على تحقيق التقدم.
لقد ظهرت الرغبة في إقامة نظام اقتصادي عصري يحفظ هوية الأقطار الإسلامية ويحقق مصالحها وقوتها إثر انهيار الدولة العثمانية (التي اعتبرت آخر حلقات الخلافة في الدولة الإسلامية الكبرى) وظهور النزعات الاستقلالية في الأقطار الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة الدول الغربية الاستعمارية، ولم تكن السلطات الاستعمارية تُخفي نزعتها الفكرية المسيحية في التأثير على الثقافة والتعليم وتوجهاتها في إعادة صياغة التشريعات ووضع القوانين التي تتفق مع توجهاتها العلمانية، وذلك على المستويين المدني والتجاري، وكل هذا مما أثار حفيظة الصفوة من المثقفين الوطنيين وجعلهم أكثر رغبة واستعداداً لخوض معركة الاستقلال الفكري للحفاظ على الهوية الإسلامية.
وكان من الشائع في خضم هذه المعركة الفكرية أن الاستقلال السياسي ضرورة لتصفية التبعية الفكرية، وأن الاستقلال الاقتصادي في الإطار الإسلامي هو القاعدة الأساسية للاستقلال السياسي، ومما قوّى حافز الصفوة من المثقفين والوطنيين الإسلاميين ورغبتهم في تحقيق الهوية الاقتصادية الإسلامية ظهور حركات ومذاهب اقتصادية جديدة مضادة للنظام الرأسمالي مثل الاشتراكية التعاونية والماركسية؛ فقد كان ثمة اعتقاد شائع بأن الرأسمالية هي سر سيطرة الغرب وأنها الطريق الوحيد إلى القوة.
وفي إطار مناخ التحدي للرأسمالية العالمية تزايدت الدعوة لإحياء الشريعة والقيم والنظم الإسلامية بآليات مناسبة حتى تتم مواجهة الرأسمالية وتحدياتها الاستعمارية، ويمكن للأقطار الإسلامية التخلص من سيطرة الحركات والأفكار الجديدة التي لا تتفق أيضاً مع الشريعة الإسلامية وتحقق التقدم في المجال الاقتصادي، وقد صار من الجلي ما للقوة الاقتصادية من أهمية عظمى في البناء السياسي والاجتماعي، وهكذا ظهر الاهتمام بإقامة الاقتصاد الإسلامي فكراً وتطبيقاً منذ أوائل القرن العشرين في غمرة أحداث وتطورات عديدة داخل الأقطار الإسلامية وخارجها.
وفي الفترة التالية للحرب العالمية الثانية نالت الأقطار الإسلامية الواحدة تلو الأخرى استقلالها السياسي من الدول الاستعمارية الغربية وبدأت مسيرتها لتحقيق التنمية الاقتصادية، وفي ذلك الإطار الجديد ظهرت عدة توجهات فكرية وسياسية تستهدف العمل على إقامة أو إعادة تشكيل النظام الاقتصادي والتأثير في السياسات الاقتصادية الكلية، ومن أبرز هذه التوجهات:
1- التوجه إلى إقامة نظام اقتصادي وطني مستقل ينخفض فيه الاعتماد على الخارج، وتُعطى فيه أولوية للسياسات التي تهتم بتلبية احتياجات السكان الأساسية، وتعمل على تحقيق التنمية اعتماداً على الموارد الذاتية بصفة أساسية.
2- الحفاظ على النظام الاقتصادي السابق للاستقلال من حيث هويته الرأسمالية، واستمرار اعتماد السياسات التي تؤكد الصلة بالعالم الخارجي وبالدول الاستعمارية السابقة، ولكن على أسس جديدة تسعى لتحقيق المصلحة الوطنية.
3- العمل على إقامة نظام اقتصادي ذي نزعة اشتراكية (أو اجتماعية) يتعاظم فيه دور القطاع العام، والارتباط مع الكتلة الشرقية على المستوى العالمي بدلاً من الكتلة الغربية الرأسمالية.
4- المناداة بإقامة نظام اقتصادي إسلامي يسعى لتحقيق المصالح الاقتصادية في إطار وطني مستقل، والحفاظ على علاقات متوازنة مع العالم الخارجي مع السعي إلى تحقيق التكامل مع بقية الأقطار الإسلامية.
ولقد لقي التوجه الأول تأييداً عريضاً، وكان أكثر التوجهات بروزاً من الناحية الواقعية خلال الخمسينات والستينات، خاصة على مستوى الكثير من الأقطار الإسلامية، وبقي التوجه الثاني محدوداً إلا أنه كان قوياً من حيث التأكيد على العلاقات الاقتصادية بالعالم الخارجي، وقد عملت الدول الاستعمارية السابقة من جهتها على دعم هذا التوجه من خلال تنظيمات، مثل الكومنولث البريطانيBritish Commonwealth والكتلة الفرانكفونية (فرنسا)، وذلك لأجل استمرار مصالحها الاقتصادية.
أما التوجه الاشتراكي فقد لقي رواجاً في عدد من الأقطار الإسلامية خلال الستينات والسبعينات والثمانينات، وقد لقي هذا التوجه تأييداً ودعماً من الاتحاد السوفيتي السابق إلى أن انـهار هذا في بداية التسعينات، وانـهارت معه التجربة الاشتراكية على المستوى العالمي.
وبالنسبة للتوجه الإسلامي فقد وجد طريقه إلى الواقع في حالات معدودات وهي باكستان والمملكة العربية السعودية والسودان وإيران، ولكنه ما يزال في طور التجريب إلى الآن، أما في بقية الأقطار الإسلامية فإنه بالرغم من أن التوجه الإسلامي لقي تأييداً شعبياً كبيراً منذ حصولها على الاستقلال السياسي إلا أنه لقي أيضاً تحديات ومعارضات سياسية هائلة من الداخل ومن الخارج على حدٍّ سواء، وقد استهدفت المعارضة أحياناً القضاء على التوجه الإسلامي، وأحياناً أخرى دمجه، أو مزجه مع التوجه الوطني الرأسمالي أو مع التوجه الاشتراكي.
وخلال نصف قرن مضى الآن على حصول معظم الأقطار الإسلامية على استقلالها السياسي لم تنجح الأنظمة الاقتصادية البديلة للنظام الإسلامي في تحقيق الاستقلال السياسي لهذه الأقطار، أو دفع عجلة التنمية فيها على نحو يقلل من الفجوة الاقتصادية بينها وبين الدول المتقدمة، على العكس من ذلك فقد عانى العديد من الأقطار الإسلامية من ازدياد حدّة المشكلات الاقتصادية في شكل عجز مستمر في موازين المدفوعات وارتفاع غير عادي في الدين العام الخارجي وكذلك الدين العام الداخلي واشتداد حدّة التضخم وزيادة حالة الفقراء سوءًا.
ولقد تسببت هذه التطورات في نقد الأنظمة الاقتصادية القائمة وإثارة التساؤلات عن ملائمتها وجدوى استمرارها، وقد أتاح هذا لأصحاب التوجهات الإسلامية سواء من المفكرين أو من العاملين في المجالات السياسية والاجتماعية أن يطرحوا بقوة قضية الاقتصاد الإسلامي، والذي من خلاله يمكن تقديم علاج شامل ويتلاءم مع البيئة العقدية والاجتماعية لعامة الناس، وفي هذا المناخ لم تنقطع اجتهادات المفكرين الإسلاميين في تحليل مشكلات مجتمعاتهم وعرض أنواع العلاج الملائمة لها في إطار إسلامي.
وهكذا تطور الفكر الاقتصادي الإسلامي الحديث وظهرت إسهامات عديدة عن خصائص النظام الاقتصادي الإسلامي، وفي مجالات النقود والربا والبنوك الإسلامية والزكاة والضرائب والتنمية الاقتصادية والتضخم وكيفية تحقيق الاستقرار النقدي، وكذلك في مجال التعاون والتكامل الاقتصادي بين الأقطار الإسلامية.
وبطبيعة الأمر فإن بعض هذه الإسهامات يقل من جهة الإتقان العلمي، أو القابلية للتطبيق العلمي عن البعض الآخر، ولكنها جميعاً اتجهت إلى محاولة إرساء معالم نظام اقتصادي إسلامي ووضع قواعد لعلم اقتصادي إسلامي حديث، وكان للمؤتمرات والندوات العلمية العالمية في الاقتصاد الإسلامي دور كبير في تنظيم الإسهامات الفكرية وتمحيصها.
وكان لجامعة الملك عبد العزيز في جدة فضل في المبادرة بأول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي أُقيم في مكة المكرمة عام 1976م، كما كان للمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية دور كبير في إقامة وإنجاح معظم الندوات والمؤتمرات التي أُقيمت، ولقد عُقدت هذه المؤتمرات والندوات على نحو شبه مستمر منذ أن عُقد الأول منها في مكة المكرمة، وتم نشر أعمالها أيضاً على مستوى عالمي باللغتين العربية والإنجليزية وأحياناً الفرنسية أو بلغات أخرى.
التجديد في الجوانب المؤسسية للاقتصاد الإسلامي
لقي الاقتصاد الإسلامي أيضاً دفعة كبيرة في الجانب المؤسسي في ربع القرن الأخير على جبهتين أساسيتين: التعليم والمصرفية، فعلى مستوى التعليم الجامعي الأول والعالي في الأقطار الإسلامية تم إنشاء أقسام علمية أو شعب متخصصة في الاقتصاد الإسلامي في جامعة أم القرى وجامعات أخرى بالمملكة العربية السعودية، وفي جامعة أم درمان الإسلامية وخمس جامعات أخرى بالسودان وفي إيران، وتم إنشاء المعهد العالي للاقتصاد الإسلامي في إسلام أباد بباكستان، وكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا والتي تمنح درجات جامعية في الاقتصاد مع إعطاء الأهمية الكبرى لمقررات الاقتصاد الإسلامي، وغير ذلك هناك عدد من الجامعات في العالم الإسلامي تعرض مقررات ودبلومات متخصصة في الاقتصاد الإسلامي ضمن مقرراتها الأكاديمية منها جامعة الإسكندرية بمصر، وجامعة اليرموك في الأردن، وجامعة الأوزاعي في لبنان، وفي هذا الإطار تخرجت أعداد كبيرة من الشباب الجامعي الذين يحملون فكراً اقتصادياً إسلامياً قابلاً للتطبيق والتطوير، كما تم إنجاز عشرات من الرسائل العلمية في الاقتصاد الإسلامي على مستوى الماجستير والدكتوراه.
أما خارج العالم الإسلامي فقد وجد علم الاقتصاد الإسلامي طريقه أيضاً إلى عدد من الجامعات والمعاهد العليا، كما لقي احتراماً من بعض المنظمات الدولية (كصندوق النقد الدولي IMF) وعلى سبيل المثال فإن جامعة Loughborough وجامعة Durham في وسط وشمال انجلترا تقدم مقررات متخصصة في الاقتصاد الإسلامي ولدى الأخيرة برنامج على مستوى الماجستير يتيح التخصص في التمويل الإسلامي.. وهناك أيضاً المعهد الدولي للاقتصاد الإسلامي والتأمين بجامعة لندن، والمعهد العالي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة.
وبالرغم من هذه التطورات المهمة فإن دراسة الاقتصاد الإسلامي سواء من خلال أقسام متخصصة أو مقررات أو غير ذلك ما زالت تحتل مكانة نسبية بسيطة جداً أو لا تذكر على مستوى جامعات العالم الإسلامي، فما زال معظم هذه الجامعات أو جميعها في بعض الأقطار الإسلامية لا يعرض سوى المقررات الاقتصادية الوضعية، ويُعزى هذا الوضع إلى ثلاثة أسباب رئيسة: أوله:ا تلقي معظم أساتذة الاقتصاد في جامعات العالم الإسلامي تعليمهم الجامعي في جامعات غربية، أو جامعات وطنية تعمل بمناهج علمانية وضعية في إطار الفلسفات الغربية، وثانيها: مقاومة كبار المسئولين في الأقطار الإسلامية للاتجاهات التعليمية الإسلامية تحت ضغوط من الدول الغربية، ومخاوف من هذه الاتجاهات وانعكاساتها السياسية، وثالثها: غياب أو ضعف أو عدم اكتمال الإعداد لمقررات الاقتصاد الإسلامي والمادة العلمية المناسبة فيها، وبينما يرجع السببين الأول والثاني إلى عوامل خارجة عن نطاق سيطرة الاقتصاديين الإسلاميين فإن المسئولية تقع عليهم فيما يخص السبب الثالث.
أما المسئولية المصرفية الإسلامية فقد تنامت من حيث العدد من بنكين اثنين (أحدهما في مصر والثاني في باكستان) في الستينات إلى نحو سبعين في بداية القرن الحادي والعشرين، بالإضافة إلى عدد آخر ليس قليلا من البنوك التجارية التي عملت على تنويع نشاطها بفتح نوافذ مصرفية إسلامية، أو التي اتخذت خطوات فعلية للتحول إلى العمل المصرفي الإسلامي. وأكدت الأبحاث والدراسات نمو النشاط المصرفي الإسلامي بقوة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
وكان لتميز البنوك الإسلامية بالمعاملات الخالية من الربا أثر كبير في إقبال أصحاب المدخرات الحريصين على دينهم في الاستثمار من خلالها، لكن الحقبة الأخيرة شهدت تراجعاً نسبياً في المصارف الإسلامية لأسباب عديدة منها الهجوم عليها بحجة أن الأساس الذي تقوم عليه وهو ربوية نظام الفائدة غير صحيح (الأمر الذي استند إلى فتاوى دينية رسمية للأسف)، ومنها عدم ملائمة التشريعات المصرفية الوضعية لها وتطبيق لوائح البنوك المركزية بحذافيرها عليها رغم اختلاف نوعية نشاطها الاستثماري عن النشاط الإقراضي للبنوك التجارية.
إلا أننا نرى أن من أخطر ما يوجه للمصارف الإسلامية هو عدم قدرتها على تمييز نشاطها المصرفي عن النشاط المصرفي التجاري بشكل واضح، فقد اعتمدت هذه المصارف الإسلامية في توظيف معظم مواردها على صيغة المرابحة للآمر بالشراء والتي لاقت انتقاداً من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين كما لاقت تشهيراً من غيرهم، ويرجع هذا إلى عدم فهم جوهر التمويل المصرفي الإسلامي من قبل الأجهزة الإدارية والعديد من العاملين في هذه المصارف، كما يرجع أيضاً إلى عدم القدرة على تجديد وسائل التمويل الإسلامية التقليدية، أو ابتكار الجديد منها في إطار الشريعة الإسلامية، والمسئولية هنا تقع - ولا شك - على رجال الاقتصاد الإسلامي، وهذا ما سوف يُشار إليه فيما بعد عند استعراض وتقويم أعمال البحث في هذا المجال.
وثمة ارتباط لا بد أن يُشار إليه هنا بين نمو المؤسسة المصرفية الإسلامية ونمو المؤسسة التعليمية في مجال الاقتصاد الإسلامي، ذلك لأن نمو الأولى بشكل صحي ومطرد كان يمكن أن يُهيئ فُرصاً متزايدة للعمل بالنسبة للجامعيين المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي، فلقد كان منتظراً في السبعينيات أن يستمر توسع المصارف الإسلامية وتوسع الاستثمارات والأعمال الإسلامية الممولة من خلالها؛ فيستمر نمو فرص العمل والوظائف في الإطار الاقتصادي الإسلامي؛ لذلك فإن ثمة ملاحظة يمكن تسجيلها عن اقتران قلة إقبال الطلاب على التخصص في الاقتصاد الإسلامي (في الجامعات الرائدة في هذا المجال) وقلة فرص العمل الجديدة سواء في المصارف الإسلامية أو في المشروعات الممولة من خلالها، هذه العلاقة يجب بحثها بدقة للتعرف على مدى خطورتها وكيفية معالجتها.
وما زال الجانب المؤسسي في الاقتصاد الإسلامي في حاجة إلى التحديد، فهذا الجانب يمثل العمود الفقري للنظام الاقتصادي الإسلامي، ولا نستطيع أن نفترض قيام هذا النظام دفعة واحدة ولا نتصور أيضاً قيامه دون التنظير للمؤسسات التي يعتمد عليها.
وهناك مؤسسات كانت قائمة قبل انتشار الدعوة إلى الاقتصاد الإسلامي المعاصر وما تزال كمؤسسة الزكاة، فكيف يمكن تنمية مؤسسة الزكاة في الإطار الرسمي؟ ومن جهة أخرى كيف يمكن إحياء مؤسسات إسلامية مهمة كالوقف أو الحسبة؟ والأمر هنا يحتاج إلى أبحاث مستفيضة لا تكتفي ببيان الجوانب النظرية لهذه المؤسسات، وإنما أيضاً بالآليات الضرورية لنجاحها عملياً في القضايا الإسلامية المعاصرة. (11)
الاقتصاد بين الإسلام والنظم الوضعية
إذا قارنا نظام الإسلام الاقتصادي بالنظام الرأسمالي مثلاً نجد أن الفلسفة التي تحرك النظام الرأسمالي هي الحرية الفردية التي تتيح لكل إنسان أن يسعى إلى تحقيق مصلحته الشخصية أولاً، وفي سعيه لتحقيق مصلحته الشخصية تتحقق المصلحة العامة المشتركة بينه وبين المجتمع، ولأن الصالح المشترك الأكبر يتكون من مجموع أجزائه، فإن إعاقة المصالح الشخصية فيه تقليل من مجموع المصالح المشتركة الكبرى.
يقول العالم الاقتصادي آدم سميث: "إننا لا نتوقع أن يتكرم علينا الجزار أو الخباز بطعام العشاء، لكننا نتوقعه من اعتبارهما لمصلحتهما الشخصية، ونحن لا نخاطب إنسانيتهما لكن نخاطب حبهما لنفسيهما، ولانتحدث عن ضروراتنا، لكن عن مكاسبهما".
فالنظام الرأسمالي علَّق النشاط الاقتصادي على المصلحة الشخصية وعلى المنفعة المتبادلة بين الفرد والمجتمع، وآلية جهاز الثمن كالعرض والطلب هي التي تجعل هذا الهدف سهلاً ميسورًا للجميع. والفرق بين هذه النظرة المنفعية والنظرة الإسلامية هو أن نظام الإسلام يعتبر النشاط الاقتصادي نفسه عبادة، والعمل والاستثمار والاتجار تقربًا لله سبحانه، ويضع في الحسبان مصلحة الآخرين ومصلحة المجتمع قبل المصلحة الشخصية، فعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فالاقتصاد الرأسمالي اتجه وجهة ذاتية نفعية، واتجه الاقتصاد الإسلامي وجهة غيرية إيثارية لاختلاف التصور المذهبي للحياة وما بعد الحياة.
أما المذهب الشيوعي فيختلف اختلافًا جذريًا عن المذهب الإسلامي في أنه ينكر أساسيات الحياة الإنسانية كنكرانه للملكية الفردية، ونكرانه للحرية الاقتصادية، واعتماده على التخطيط المركزي أساسًا للنشاط الاقتصادي، كل هذه العوامل تجعل الاقتصاد المركزي الشيوعي اقتصادًا مركزيًا جامدً، وقد يتفق مع النظام الإسلامي في دعم الملكية العامة لكن ليس باعتبارها ملكية مركزية لاحَظَّ للمجتمع فيها إلا بإذن الدولة بل العكس في الإسلام هو الصحيح؛ إذ أن المالك الحقيقي في الملكية العامة هو الأمة، والدولة خادمة للأمة ووكيلة عنها في المال العام، وليس لها حق التصرف إلا من خلال التفويض الإلهي المنصوص عليه في التشريعات الاقتصادية الإسلامية.
وطبيعة النظام في الدولة الإسلامية طبيعة شورية وليست دكتاتورية تسلطية، لذلك فإن المذهب الشيوعي بالإضافة إلى أنه ينافي الإيمان بالله واليوم الآخر الذي هو أساس المذهب الإسلامي، فإنه ينافي أيضًا أسس العدالة الإسلامية التي تقوم على البر والإحسان والتكافل الاجتماعي ولا تقوم على التناحر والتقاتل والصراع الطبقي، والتي من شأنها أيضًا ألا تجعل العلاقات الإنتاجية محورًا للعلاقات الإنسانية الاجتماعية، وإنما تجعل علاقات الإنتاج خاضعة للعلاقات الإيمانية الإنسانية بين المسلم وأخيه المسلم، كما جاء في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى". رواهما مسلم.
وبهذا يكون الإنتاج وعلاقاته تابعة لمشاعر الإنسان وأحاسيسه، مسخرة له ولوعيه وعقله، يغيِّر فيها كما يشاء، ولا يكون وعي الإنسان وعقله وإحساسه ومشاعره وعلاقاته الاجتماعية معلقة بحبل علاقات الإنتاج، تسوء إذا ساءت وتتحسن إذا تحسنت؛ لأن هذه الآلية ليست من شيم الإنسان العاقل الحر، بل هي من طباع العجماوات، ومن صفة الجمادات التي لا تحس ولا تشعر. (موقع: "الموسوعة العربية العالمية").
الإيمان .. العنصر المفقود في علم الاقتصاد الحديث
الحديث عن العالم الإسلامي اليوم واقتصادياته يُثِيرُ تساؤلاً أساسيًّا في ذهن المرء ويستوقفه حين يفكر بالأمر: لماذا هذا التخلف الاقتصادي لدول يدعو دينها إلى التقدم والحضارة واحترام قيم العمل، ويعتبر عمارة الأرض جزءاً أساسيًّا من عبادتها ومشروعها الحضاري؟!!
والإجابة لا تحتاج إلى كثير من التفكير، فهذه الدول منذ استقلالها "الرسمي" من الاستعمار الغربي فقدت الذاتية في اختيار نماذج التنمية التي تتبعها، فضلاً عن ممارسات خاطئة من قبل الإدارات الاقتصادية لكثير من هذه الدول جنحت إلى المصالح الشخصية، وعلى رأس الأمر: عدم وجود رؤية تعكس المصالح القومية والوطنية لهذه البلدان.
في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد"، رصد المفكِّر الإسلامي المتميز "مالك بن نبي" - رحمه الله - حقيقة مهمة وهي أن المعادلة الاجتماعية في البلاد الإسلامية تختلف عنها في المجتمعات الغربية، ودلَّل على ذلك بتجربة إندونيسيا بعد استقلالها في مطلع الستينيات، عندما استعانت بالعالِم الاقتصادي الألماني "شخت" ليضع لها خطة التنمية الاقتصادية، وكانت نتيجتها الفشل، بينما الرجل هو واضع خطة النهوض بالاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، والتي خرجت منها ألمانيا بهزيمة أتت على الأخضر واليابس.
الاقتصاد يعكس العقيدة
من المباديء الأساسية التي تدرس في النظرية الاقتصادية، أن علم الاقتصاد علم اجتماعي يؤثر ويتأثر بالكثير من العلوم، ومن هذه العلوم، العلوم السلوكية، والإيمان بالله - كما تُقِرُّه الرسالة الإسلامية - دافع إلى العديد من السلوكيات الإيجابية على مستوى الفرد والمجتمع، وتأتي التصرفات الاقتصادية سواء على مستوى الفرد أو المنشأة أو القطاع أو الدولة انعكاسًا لعقيدتها وتصوُّرها لرسالة الإنسان بصفة عامة والمال بصفة خاصة.
والملاحظ أن تجارب الدول الإسلامية في المجال الاقتصادي أخذت من الحضارة الغربية الكثير في اعتبار أن المادة هي كل شيء، ولا مانع من بقاء بعض الشعائر الدينية المنفصلة تمامًا عن السلوك الاقتصادي القويم، وهو لُبّ المفهوم العلماني الغربي للكون والحياة، وحتى نكون مُنْصفين، فإن عملية النقل عن الغرب كانت طريقتها خاطئة؛ فقد تم الأخذ بسلبيات النظام الغربي دون النظر إلى جوانبه الإيجابية، وهو ما جعلنا نقع في خسارة للدنيا والآخرة.
فمن الصعب تحليل الأوضاع الاقتصادية في البلدان الإسلامية بعيدًا عن عنصر "الإيمان بالله"، وإن كان من العناصر غير المادية التي لا يمكن قياسها، إلا أن انعكاساته المادية يمكن الاستدلال عليها في حالة نقصه وزيادته، حيث يصاحب الإيمان بالله العمل وفقًا لمنهجه الذي يفرض المحافظة على موارد الدولة وتنميتها، والسعي لتحقيق الربح الحلال، وتحريم الاحتكار، وعدم الغش والتدليس، والسعي لتوفير العمل للغير، وأن مقياس جمع المال هو "الحلال والحرام" الذي يحفظ على الناس أموالهم وأعراضهم.
من أسباب التردي الاقتصادي في البلدان الإسلامية
إن معظم - إن لم يكن كل - البلدان الإسلامية هي من البلدان النامية، بل والمحزن أن هناك نحو 21 دولة إسلامية من الدول الأقل نموًّا على مستوى العالم والبالغ عددها 48 دولة، وهذا الوضع المأساوي له أسباب خارجية وأخرى داخلية، وهي ما سنركز عليها باعتبار أنها من صنع أيدينا، والتي نرى أن السبب الرئيسي لوقوعها نقص أو غياب الإيمان بالله عز وجل:
1- تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة في تولِّي الأمور الخاصة بمجال الاقتصاد، وهو ما أوجد مؤسسات اقتصادية هشَّة وضعيفة، وقد ساعد هذا الوضع على هجرة الكفاءات الوطنية إلى الخارج، وقتل روح الابتكار والإبداع بين من ارتضوا البقاء في هذه المؤسسات، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. [المائدة: 8].
2- عدم الاهتمام برفع كفاءات العاملين بالمؤسسات العامة، وإهمال الجانب العلمي والبحث والتطوير، يقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
3- انتشار الفساد بين القائمين على الأمور الاقتصادية العامة، خاصة التي تتعلق بإعطاء تراخيص أو ممارسة نشاط اقتصادي معين، ولا يخفى على أحد صور الفساد المنتشرة في بلدان العالم الإسلامي؛ فزوج رئيسة الوزراء في أحد البلدان الإسلامية لُقِّب بـ"مِستر 10%"؛ نظرًا للعمولات التي كان يتقاضاها من المستثمرين لقضاء مصالحهم، وفي بلد آخر تصل ثروة رئيسه المخلوع إلى 40 مليار دولار، بينما أبناء شعبه يتضورون جوعًا ويقعون فريسة للمؤسسات التنصيرية من أجل كسرة خبز أو حفنة أرز، وآخر عقدت حكوماته اتفاقات مع عصابات المافيا، ولم يكتشف الأمر إلا بعد أن وقع حادث سير أفضى إلى وفاة زعيم عصابة كان بصحبة وزير داخلية هذا البلد الإسلامي الذي تربطه علاقات وطيدة مع دولة الكيان الصهيوني، بينما حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
4- عدم الحرص على خصوصيات الأمة ومقدرات الحلال والحرام، وقد أوجد هذا الأمر أضرارًا بالغة، من أهمها: توجُّه الكثير من المسلمين لعادات استهلاكية ترفيهية لا تتفق ومقدرتهم الدَّخْلية، بل كان ذلك سلوك الدولة نفسه، حيث تعاني معظم الدول الإسلامية من عجز في موازناتها العامة، ويصنّف السبب الرئيسي لهذا العجز: الإنفاق غير الرشيد للأجهزة الحكومية، حتى أن بعض الاقتصاديين يصف إنفاق هذه الحكومات بـ"الإنفاق السفيه".
ونظرًا لعدم اعتبار البلدان الإسلامية قيم الحلال والحرام في المجال الاقتصادي، وُجِدَ أن المؤسسات الدولية التي تقدم استشاراتها لهذه الدول لا تقيم هي الأخرى وزنًا لمباديء الدين، ففي عام 1988 صدر تقريرًا عن عجز الموازنات العامة لدول جنوب آسيا، واقترح التقرير أن تقوم حكومات هذه الدول بتحصيل ضرائب على ممارسة البغاء باعتباره عملاً لا تُحصَّل عليه ضرائب، وكان من بين الدول المعنية في هذا التقرير ماليزيا وإندونيسيا، فمتى كان البغاء عملاً بالمعايير الاقتصادية والشرعية؟ ولكن كانت الطامة الكبرى أن يصدر عن المحكمة الدستورية في بنجلاديش اعتبار ممارسة البغاء من الأعمال التي يعتبرها القانون عملاً اقتصاديًّا!!!
وعن باقي الدول فحدِّث ولا حرج عن غلبة التعامل بالربا أفرادًا وحكومات، وشيوع الخمر والقمار بحجة السياحة، ونسينا أن الله عز وجل قد توعَّدنا بحرب منه لمخالفة أوامره، وأنه رُويَ عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديثه الشريف: "إن الرجل ليُحْرم الرزق بالذنب يصيبه".
5- اعتماد حكومات هذه الدول على تراكم المشاكل، وأن كثرتها يُنْسِي بعضُها بعضًا، مما أوجد حالة من اليأس لدى الشعوب من الإصلاح، وجعل ذهن المعني بهموم العالم الإسلامي يقبل التصرفات غير المقبولة لهذه الحكومات في إطار القاعدة الفقهية: "تحمُّل أقل الضررين".
6- تفاعل النظم الاقتصادية مع دعوة العولمة والنظام الاقتصادي العالمي الجديد كانت شكلية؛ فلم تطوِّر نظمها الاقتصادية، وهو ما كان سيدخلها حلقة المنافسة العالمية التي تُعتبر لُبَّ هذا النظام، فأصبحت هذه المشاركة مجرد حضور "للفرجة"، فعلى سبيل المثال: ما الرابط بين اقتصاديات السوق وأن يسعى من سمُّوا برجال الأعمال إلى تهريب أموال الأمة إلى الخارج؟!! أو أن يكونوا مجرد وكلاء للمنتجين الأجانب، فلا يقيمون صناعة، ولا يطوِّرون علمًا؟!! أو أن ينفقوا على حفلاتهم الخاصة ببذخ يثير العامة والخاصة؟!!
لقد قوبلت دعوات الإصلاح لتجاوزات المتعولمين، المتجهين بـ"التنمية" إلى نماذج لا تتفق ومقدرات وإمكانات الأمة، بمخاوف "التهميش الدولي" وأن اعتبار ما يسمونه "التنمية" مقدم على كل الاعتبارات، وكأن أمر عقيدة الأمة ودينها لا يعنيهم في شيء، وكأنه لا يهدف إلى ذلك بحقه، فكانت النتيجة مزيدًا من التخلف.
ولا يحفظ ماء وجه بعض الدول الإسلامية في المحافل الدولية سوى بعض صور التكافل الاجتماعي التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية والأفراد بعيدًا عن الدولة، وقد دعا هذا الأمر البنك الدولي مؤخرًا لدراسة الزكاة كأداة مالية لمعالجة مشكلة الفقر، وكأن البلدان الإسلامية لا ترى أو تعرف شيئًا عن تلك الفريضة التي تُعَدّ ثالث شعائر الإسلام، والتي أعدت فيها الجامعات والمعاهد المختلفة عشرات الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراة لمختلف التطبيقات الاقتصادية والمالية، باعتبارها مخرج للمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها تلك الدول.
الإله والكون والحياة
الحديث عن الاقتصاد الإسلامي والقيم باعتبارها مكونه الأساسي مثير للجدل، سواء على الصعيد الأكاديمي أو العملي، فعلى الصعيد الأكاديمي لا يزال البعض يرفض أن يُوصَف علم الاقتصاد بأنه إسلامي بحجة أن علم الاقتصاد علم مجرد، وإلا جاز لنا أن نسمي: اقتصاد مسيحي أو يهودي أو بوذي وهكذا…
وجاءت مشكلة توظيف الأموال الشهيرة في مصر ليستدلوا بها على خطأ التسمية بالاقتصاد الإسلامي، فمن وجهة نظرهم أن الإسلام دين ويجب أن يُرفع عن المناهج الوضعية حتى لا يُنَالَ من كرامته، بينما الحق أننا نزداد يقينًا بأن الإسلام دين شامل ينظم كافة مناحي الحياة، مقدمًا منهجًا قويمًا يُمكِّن من ذلك، والاجتهاد إنما يكون في تطبيقه، وأن حاضرًا عاشته الأمة قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمن على هدي من الشريعة السمحاء لا بد أن يكون لها فيه اقتصادها المميز، وعلينا أن ننقِّب في حضارتنا لنستخرج منها منهج أمتنا الاقتصادي، وأن ما وقع من أخطاء في تجربة توظيف الأموال في مصر كان بسبب غياب المنهج الإسلامي، وبالتحديد غياب الأخلاق، التي يرى هؤلاء البعض استبعادها من التحليل الاقتصادي.
وعَوْدٌ على بدء لا بد من إيقاظ الإيمان في نفوس أفراد الأمة، حيث يكون الحافز لإقامة تنمية حقيقية تتسم بالذاتية، ومن جانب آخر يكون السياج المانع من الاجتراء على مواردها وإهدارها فيما لا ينفع، أو في تحقيق مصالح شخصية تضرُّ بالصالح العام، فالإيمان لا تحرِّكه إلا العقيدة، والعقيدة في تفسيرها البسيط هي: "تصور الإنسان عن الإله والكون والحياة وطبيعة العلاقة بينهم"، وقد تميز الإسلام بالربط بين مكونات العقيدة الثلاث الواردة في هذا التعريف.
ولا يخرج النشاط الاقتصادي عن هذا الإطار العقيدي، فالرغبة أو الحاجة تترجم إلى سلوك، ولهذا السلوك نتيجة إما إيجابية أو سلبية، فإذا ما كان الإيمان متوفرًا فإن النتيجة لا شك معروفة ويكون مردودها إيجابيًّا، وأما إذا غاب هذا الإيمان فإن النتيجة محكومة بالهوى الذي لا يفرِّق بين الحلال والحرام، ولا يُعِير حقوق الآخرين كثيرًا من الاهتمام، وهو ما يستدعي أن تتبنى الدول وجماعات الإصلاح دعوة إيقاظ الإيمان في نفوس الأمة، فكما يقولون: "الناس على دين ملوكهم".(موقع: "إسلام أون لاين" بتصرف).
ومن هنا فإذا كان الاقتصاد الإسلامي يستمد مرتكزاته وأصوله من أربعة آلاف موضع في القرآن الكريم والسنة النبوية تنظم المعاملات الاقتصادية، حيث إن هناك أكثر من 1000 آية قرآنية تتحدث عن الإنفاق في سبيل الله ،والحث على الصدقات، وضرورة إعطاء المال لذوي الحاجات، فإذا كان الأمر كذلك وأردنا علاج الأزمات الاقتصادية المعاصرة التي تعاني منها البلدان الإسلامية فليس هناك علاج سوى العودة للشريعة الإسلامية وتطبيق الاقتصاد الإسلامي المنبثق عنها، وقد عاشت الشعوب الإسلامية في رخاء اقتصادي طوال قرون عديدة حينما كانت تطبق تعاليم الإسلام المعلقة بالنشاط الاقتصادي. (12)
أثر علم الاقتصاد الإسلامي في الحضارة الغربية الحدي
كان من أهم آثار علم الاقتصاد الإسلامي في الحضارة الغربية ما كان من علماء الاقتصاد في الغرب حين طالبوا بضرورة ربط الاقتصاد بالأخلاق والقضاء على الفائدة الربوية التي تعتبر من أهم أسس الاقتصاد الرأسمالي، وكان الإسلام قد سبق كل هؤلاء العلماء بأن جعل الشريعة الإسلامية هي الحاكمة للنشاط الاقتصادي، وطالب منذ 1500 عام بإلغاء الربا التي اكتشف علماء الغرب مؤخرا أنه السبب في الكساد والتضخم وارتفاع الأسعار.
فقد ظهر من علماء الاقتصاد الغربيين من هاجم بشدة الفائدة الربوية التي تتعامل بها البنوك وحمَّل تلك الفائدة الربوية كل حالات الركود والكساد والتضخم التي تصيب النظام الرأسمالي بصفة مستمرة دورية، وطالب بجعل تلك الفائدة صفرا أي إلغاءها حتى يتجنب الاقتصاد الرأسمالي كل هذه السلبيات، وهذا ما قال به الإسلام منذ خمسة عشر قرنا حين حرم الرب، وتوعد المتعامل به بحرب من الله ورسوله.
ولم يقتصر الأمر على مجرد الهجوم أوالمطالبة بإلغاء الفائدة الربوية، بل إنه قد أخذت بعض البنوك الغربية الكبرى في تطبيق الصيغ الإسلامية في محاولة لمنافسة البنوك الإسلامية على جذب أموال المودعين سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه. (13)
وقد أصبحت بريطانيا عاصمة البنوك الإسلامية، سواء في "لندن" أو "برمنجهام"، حيث توجد جالية إسلامية كبيرة، وهناك خطط لفتح 12 فرعا لبنوك إسلامية في المدن البريطانية المختلفة خلال العامين المقبلين،
وقامت بورصة لندن بإنشاء مؤشر "داو جونز الإسلامي"، لقياس حجم التعاملات على الأوراق المالية الإسلامية "الصكوك"، وهو ما يشير إلى زيادة الإقبال على التعامل المالي وفقا للشريعة الإسلامية في أوروبا.
كما أصبحت البنوك الإسلامية مطلبا متزايدا للمسلمين في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يوجد بنكان إسلاميان، وأشار وزير الخزانة الأميركي إلى النمو المتسارع الذي يشهده القطاع المالي الإسلامي في أمريكا، معبرا عن اهتمامه بالتجاوب السريع الذي تبديه الدول الأوروبية إزاء متطلبات الصناعة المالية الإسلامية، من خلال توفير بيئة العمل المناسبة للمؤسسات المالية الإسلامية في إطار القوانين والتشريعات الأوروبية، ووعد بتسريع وتيرة انتشار البنوك الإسلامية في الولايات المتحدة، عن طريق إزالة جميع المعوقات أمامها. (14)
وقد أكد الدكتور حسين شحاته أن الدول الغربية أخذت من الإسلام نظام الوقف وبدأت في تطبيقه تطبيقاً رائعاً، حتى إن هناك اعترافاً من المؤسسات الأمريكية بأن نظام الوقف هو أفضل نظام للفقراء والمساكين، وهناك جامعات في أمريكا وإنجلترا يُنفَق عليها من ريع الأوقاف، وذكر أيضا أن الدول الأوروبية تعلم جيداً أن المستقبل للمصارف الإسلامية، وأن أكبر بنك في أمريكا "سيتي بنك" أنشأ مصرفاً إسلامياً في البحرين. (15)
تعليق بعض المنصفين من الغربيين
وهنا يكفي أن نورد وصف فريق من الأكاديميين الاقتصاديين من جامعة هارفارد الأمريكية للبنوك الإسلامية بأنها أهم إسهام للمسلمين في الحضارة المعاصرة. (16)
علماء الاقتصاد المسلمون في العصر الحديث
1) يوسف كمال .. الاقتصادي الفقيه
على الرغم من الزخم الإعلامي الذي حظيت به الحركة الإسلامية، خاصة في الربع قرن الأخير من القرن العشرين، فإنه انحسر تقريبا عن الأستاذ يوسف كمال محمد حيًّا وميتا، رغم كونه واحدا من أهم أعمدة الاقتصاد الإسلامي.
فلم يكن الرجل جامعا للنصوص ومصنفا ومبوبا لها كما فعل آخرون ممن كتبوا في هذه المساحة، ولكنه امتلك رؤية واضحة، وأعمل عقله وعلمه في إطار منهج آمَنَ به لحدود العقل ومعطيات الوحي. فكان مشروعه الفكري الذي ضم نحو أربعة عشر كتابا في الاقتصاد الإسلامي، وثلاثة كتب في الأعمال الفكرية، وواحد وعشرين كتابا في تفسيره الحضاري للقرآن الكريم الذي اختتم به أعماله العلمية.
ولم يعرف قيمة الرجل إلا مَن هم في مجال البحث والدراسة، فكان أساتذة الجامعات يدلون عليه ليكون عونا للطلاب في توجيههم وإعدادهم لرسائل الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي.
المولد والنشأة
ولد يوسف كمال بن محمد بن يوسف بمدينة الشهداء في محافظة المنوفية بمصر، في التاسع من شهر يوليو عام 1932، وكان أول الأبناء الثلاثة لأسرة متوسطة حرصت شأنها شأن الأسر المصرية الريفية على تعليم أبنائها القيم والأخلاق والمحافظة على الصلاة. وقد اعتنى والده المزارع بتعليمه؛ إذ التحق -بعد أن نال الشهادة الثانوية عام 1951- بجامعة القاهرة وتخرج فيها حاصلا على بكالوريوس التجارة في عام 1955 ليكون ترتيبه الأول على دفعته في شعبة الاقتصاد. وقد حصل على جائزتين في نفس العام، رشحته لهما الكلية: الأولى تكريما له لحصوله على أكبر مجموع في مادة الاقتصاد، أما الثانية فكانت لأنبغ طالب في مادة الاقتصاد، كما رُشِّحَ من قبل الكلية لبعثة إلى الخارج، ولكن حال دونها اعتقاله بعد تخرجه بقليل.
محنة الاعتقال
كان يوسف كمال من المعجبين بشخصية مرشد الإخوان الأستاذ حسن البنا فانضم لإخوان كلية التجارة في 1951 وهو العام الذي شهد ما يشبه الثورة والحركة الدائبة للحركة الطلابية ضد الاحتلال الإنجليزي، فأقيمت معسكرات الجهاد في كل جامعات مصر، حيث انتظم هو كواحد من هؤلاء الشباب الذين التحقوا في صفوف التدريب استعدادا للجهاد. وأذن الله عز وجل أن يرحل الاحتلال الإنجليزي في عام 1952، ولكن تعلُّق يوسف كمال بالجهاد كان شديدا، فشارك في معسكرات الجهاد على ضفاف القناة عام 1953، وحين وقع العدوان الثلاثي 1956 كتب من خلف القضبان إلى والده وأسرته يستحثهم على الجهاد وعن أمنيته أن يكون هو وإخوانه خارج السجن للمشاركة في الجهاد.
لم يكن دور يوسف كمال فقط في الجامعة هو الانخراط في صفوف الجماعة والمشاركة في معسكرات الجهاد، ولكنه كان أشبه بمُنظِّر طلاب الإخوان المسلمين بالجامعة لمواجهة الفكر الشيوعي الذي بدأ في التسرب إلى الجامعة، وقد أخذت هذه المواجهة صور المناقشات والمناظرات، وكشف العيوب ونقاط الضعف في الفكر الشيوعي.
في عام 1954 شهدت جماعة الإخوان المسلمين حملة من الاعتقالات والمحاكمات من قِبَل ضباط ثورة يوليو، وشهدت العديد من أسر المعتقلين ارتباكا في حياتها المعيشية، فأخذت مجموعة من الإخوان على عاتقها جمع التبرعات وتقديم العون لهذه الأسر، وكان يوسف كمال واحدا من هؤلاء الذين جندوا أنفسهم لهذا الأمر؛ فاعتقل في 1955/8/15فيما سمي بقضية "تنظيم التمويل" فمكث في السجن منذ ذلك التاريخ حتى 14من نوفمبر 1964، أي ما يزيد عن 9 سنوات بشهرين، وحين خرج لم ينعم بنسيم الحرية أكثر من 9 أشهر فدخل السجن ثانية مع شهر أغسطس من عام 1965 ليمكث به حتى أكتوبر 1968، ثم عاد إليه ثالثة في عام 1981 ليمضي فيه 4 أشهر.
الدكتوراه في السجن
تميز يوسف كمال بالمحافظة على الوقت واستثماره في القراءة، في الأوقات التي كان يسمح له فيها بذلك في فترة الاعتقال، فكان يمضي معظم الوقت المسموح به في المكتبة، ويعرف عنه أنه كان يجمع الورق الملقى على الأرض في ساحة المعتقل، فإذا ما كانت الأوراق فارغة استغلها في الكتابة وإن كانت مطبوعة كانت فرصة للقراءة والاطلاع، وقد كتب أنه اطلع من أجل مناقشته في بحث لنيل درجة الدكتوراة في مطلع الستينيات على نحو 500 كتاب بين العربية والإنجليزية في مجال الاقتصاد والفلسفة والتاريخ والفقه والتفسير والحديث، وكان رحمه الله قد وُفِّقَ لإنجاز أول أعماله البحثية بعنوان "الأمة الإسلامية.. أصولها الفلسفية والاقتصادية"، وقد وقع هذا البحث في 1000 صفحة مكتوبة بخط اليد. وفي عام 1963 خاطب الجامعات المصرية لمناقشة بحثه هذا لنيل درجة الدكتوراه، أسوة بمنح بعض خريجي كلية العلوم وقتها درجة الدكتوراه دون حصولهم على درجة الماجستير؛ فرفضت كل الجامعات حينها.
وكان قد حرص قبل إقدامه على هذه الخطوة على أن يمر بالخطوات الإجرائية بالجامعات للانتظام في سلك الدراسات العليا؛ فكتب إلى كلية التجارة جامعة القاهرة في أكتوبر من عام 1958 للالتحاق بالدراسات العليا وهو خلف القضبان، فأرسلت إليه الكلية بعدم قبوله بسبب استحالة المشاركة في التدريبات العملية التي تتطلبها الدراسة في هذه المرحلة.
ولكن بعد أن قرأ في إحدى الجرائد عن منح بعض طلاب كلية العلوم درجة الدكتوراه شجعه ذلك على تقديم بحثه الذي أنجزه داخل السجن للمساواة بأمثاله؛ فردت كلية المعاملات والإدارة بجامعة الأزهر -كلية التجارة حاليا- بما نصه: "والكلية مع تقديرها الكامل للمجهود الذي بذل في إعداد البحث لا تستطيع أن تقوم بأعمال مخالفة للقوانين واللوائح؛ إذ لا يجوز مناقشة بحث بمرحلة الماجستير أو الدكتوراه إلا بعد إجراءات معينة"، وأيضا كان رد كلية التجارة جامعة عين شمس بأن لوائح الكلية لا تسمح بذلك. وقد أضاف إلى إنجاز هذا البحث وقراءاته المتعددة حفظه للقرآن الكريم داخل السجن.
الوظائف التي عمل بها
بعد الإفراج الأول له في عام 1964، عمل في شركة المقاولون العرب كمحاسب، إلى أن أحيل للمعاش في عام 1992، إلا أن ذلك لم يمنعه من العمل في وظائف أخرى بعد حصوله منها على إجازة بدون أجر، فعمل لست سنوات محاضرا بقسم الاقتصاد الإسلامي بكلية الشريعة، جامعة أم القرى خلال الفترة من عام 1980م – 1986م، أشرف خلالها على العديد من الرسائل العلمية لطلاب الماجستير والدكتوراه. كما سافر كأستاذ زائر بالأكاديمية الإسلامية للعلوم والتقنية ببيشاور في باكستان عام 1990 لمدة عام واحد. وعمل أستاذا للاقتصاد الإسلامي بالدراسات العليا في جامعة عين شمس خلال الفترة من 1987 – 1997، وعمل بنفس الوظيفة بجامعة الإسكندرية خلال الفترة 1995 – 1999، وقد شارك في مناقشة العديد من الرسائل العلمية الخاصة بالماجستير والدكتوراه بجامعتي الإسكندرية وعين شمس فيما يتعلق بجانب الاقتصاد الإسلامي، كما عُيِّنَ خبيرا اقتصاديا بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي.
رؤيته الفكرية
القاريء لمؤلفات الأستاذ يوسف كمال يجد وضوح الرؤية التي عمل في إطارها، ويظهر هذا في مقدمات كتبه، شأنه في ذلك شأن الأعمال العلمية الجادة التي توضح منهج الباحث أو المؤلف في تناوله للموضوعات التي تحتويها كتبه ومؤلفاته، ويمكن أن نبلور تلك الرؤية فيما يلي:
أولا- الإيمان بالغيب مصدر المعرفة:
فالمنهج الإسلامي له منهج للمعرفة لا يعرفه العصر وهو التسليم بالغيب، فالله أرسل الرسل رحمة منه لهدايتنا إلى ما نعجز عن معرفته من حقائق الكون وحركة الحياة... فإذا أنذر الله بمحق الربا كان ذلك يقينا لا تغيره ضغوط الواقع، وإذا حذر الرسول الكريم من أن يكون بأسنا بيننا شديدا إذا عطل الحكام شريعة الله، كان متغيرا معتدا به في تحليل أسباب الحروب والخلافات مع عدم إغفال غيرها من العوامل.
ثانيا- التحرر من التعميم والإغراق في التفاصيل معا:
فلا بد للكشف عن هدي الله في تنظيم حياتنا الاجتماعية من التحرر من العموميات ذات الصبغة الأدبية والحماسية والانتقال إلى الدراسات العلمية الجادة، كما أن الحديث في المرحلة الأولى يكون عن قواعد كلية ورؤية عامة وتأتي التفاصيل في مرحلة لاحقة بعد بلورة الرؤية العامة، وكان يرى أن صناعة الرؤية الكلية ليست ضد البحث الدقيق ولكن نرتب الأولويات فنحن نحتاج إلى معلومة عريضة في هذه المرحلة في كل مجال أكثر من حاجتنا إلى معلومة متخصصة تخصصا دقيقا.
ثالثا- العصر والنص معا:
فالتعرض للأنظمة الاجتماعية في الرؤية الإسلامية يحتاج- في رأيه- إلى عدة أمور:
1) إدراك لحقائق المعلومة والتحليل الاجتماعي في مجالاته المختلفة وهو ما يتطلب دراسة الحاضر لغرض المستقبل.
2- إدراك الضوابط الشرعية التي تحكم الموقف الإسلامي في قضايا كل مجال من المجالات.
والظاهرة بذلك تشمل واقعا عصريا من جهة ونصا شرعيا من جهة أخرى، وهذا يتطلب من الباحث أن يكون مستوعبا لأحدث ما انتهى إليه العصر في تحليل الظواهر الاجتماعية في مجاله، وأن يكون قادرا على أن يأخذ من الفقه ما يناسب ما جد من تغيرات حتى نصل العصر بالنص، وحتى نواصل ما انقطع من مسيرة نهضتنا.
رابعا- التمسك بالثوابت وعدم الانسياق وراء التبرير:
كان يوسف يرى أن هناك محاولات ماكرة لتحريك ثوابت الإسلام ليقترب أكثر ما يمكن من النموذج الغربي للحياة وقوانينها، وهي محاولات تتميز بالتخطيط الطويل الذي قد يستغرق أجيالا متعاقبة، وعليه يجب الحذر من المنطق التبريري؛ فلا نجهد العقل والنص لإضفاء الشرعية على أدوات الغرب أو فلسفته دون أن نترك الإسلام يعبر صراحة عما يريد.
خامسا- توفير الوفرة والتزكية معا:
الهدف من المشروع الإسلامي ليس هو تحقيق الوفرة العادية فقط، وإنما تزكية النفس وإسعادها أيضا، فلا بد ليتحقق التوازن والاستقرار ورغد العيش أن ينمو الإبداع المادي في حضن القيم الإيمانية {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
سادسا- العلاج الجذري:
إن علاج الخلل في حياتنا لا يكمن في إجراءات سطحية قصيرة الأجل بل في إصلاحات أساسية تذهب إلى جذور علل المجتمع، والعلاج بالطرق الروتينية المعهودة قد يواجه أعراض الخلل ولكن لا يقضي على أسبابه.
سابعا- التسليم والاجتهاد معا:
ليس من المقبول أن نتهرب من عناء البحث بدعوى أن مطلق التسليم لحكم الله يكفي، وأن المقارنات والتأمل في أحوال غير المسلمين وتفهم إنجازاتهم أمر يدل على ضعف الإيمان؛ فنحن أمام واقع فيه السلبيات والإيجابيات، وأمام عالم سبقنا في الكشف عن السنن وحقق كثيرا من الإنجازات ونحن أحق بهذه الإنجازات، فلا بد من كشف السلبيات وتحديد علاجها من وحي هدي الله وطاعته، وهذا يتطلب بذل الجهد والبحث، أما الاعتزال والمفاصلة وترك فهم ما الذي يريده الإسلام حتى تقوم دولته فإنه عجز يجعل الباطل يزداد قوة والحق يزداد تراجعا.
ثامنا- وضوح المشروع الإسلامي وأصالته:
حيث نبه على ضرورة وضوح المشروع الإسلامي بأبعاده النهائية حتى يسترشد بها في التطبيق، فإذا كانت هناك ظروف صعبة تمر بها الأمة ونقدر ذلك، فإنه من الخطورة بمكان مع قبول مرحلة التطبيق عدم وضوح المشروع الإسلامي منذ البداية حتى لا يتلون الإسلام نفسه فيصبح الحرام يوما حلال، وتصبح الدعوة الإسلامية معرضة للسخرية من قبل الأعداء، وحماقات المعطلين، ونحن بهذا الإدراك والوعي لا نصادر التيسير ولكن نصادر التحريف.
تاسعا- إذا لم تتحقق الاستجابة فلماذا الجهد؟:
وكان يقول: قد يحاجج البعض أن برامج الإصلاح المطلوبة لا يستجاب لها ونحن نرفض هذا المنطق لأن واجب الدعوة والبلاغ قائمان ولكن على علم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. ثم إنه بدون هذا الجهد سوف نواجه مأزقا إذا قامت دولة الإسلام، وتؤدي الضغوط إلى معايشة الواقع لا تغييره كما حدث في تجارب معاصرة، وعندئذ يفقد الإسلام فاعليته في إحداث التغيير وينطفئ نور إعجازه بعجز أهله، خصوصا إذا استدرجنا التطبيق دون توافر الخبرات والمناهج فيفقد الناس حماسهم للمشروع الإسلامي.
مشروعه الفكري
يمكن أن نقسم مؤلفات الأستاذ يوسف كمال إلى ثلاثة أقسام حسب مجالات اهتمامها، وهي:
أولا- الاقتصاد الإسلامي: وقد ضمت مؤلفاته في هذا المجال نحو أربعة عشر كتابا، اتسمت بوجود مشروع متكامل للجوانب الاقتصادية، حيث تناول مباديء الاقتصاد الإسلامي من خلال مؤلفَيْه "أضواء على الفكر الإسلامي" و"أصول الاقتصاد الإسلامي"، ثم تناول اقتصاديات المشروع والأفراد في فقه الاقتصاد الخاص، وأفرد للاقتصاد العام أو ما يسمى الاقتصاد الكلي مؤلفا خاصا به، وأكمل الدائرة بفقه الاقتصاد النقدي ليكون بذلك قد وفَّى وجود مشروع متكامل للنظرية الاقتصادية في المشروع الإسلامي.
كان بجوار ذلك له مؤلفات في قضايا أخرى تشغل المختصين بالاقتصاد الإسلامي واحتياجات المجتمع، إذ أصدر (الزكاة وترشيد التأمين المعاصر)، و(المصرفية الإسلامية) لينظِّرَ ويقوِّم تجربة البنوك الإسلامية التي شهدتها الساحة الإسلامية منذ منتصف السبعينيات، كما ألف كتاب (الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه السنة).
ثانيا- الأعمال الفكرية: واهتمام وقراءات يوسف كمال في الفلسفة جعلته معنيا بالجانب الحضاري للإسلام ومقارنته بالحضارات والفلسفات الأخرى، وقد أصدر في عام 1986 كتابه مستقبل الحضارة، ثم منهج المعرفة من القرآن الكريم في عام 1987. وواجه ظاهرة تغليب العصر على النص، ومحاولة إعمال العقل في النصوص القاطعة من قبل بعض المفتونين بالغرب فألَّف "العصريون معتزلة اليوم" ليوجه السائرين إلى الطريق الصحيح، ويبين مجالات الاجتهاد، وحدود العقل ونطاق إعماله.
ثالثا: التفسير الحضاري من القرآن الكريم: كان القرآن الكريم ذا نصيب وافر من اهتمام يوسف كمال من حيث حفظه ومدارسته، فقد كتب من سجن قنا إلى والده في عام 1957 في أحد خطاباته، بعد أن سلم عليه، ودعا له، وسأله الرضا:
"أعلم يا والدي العزيز ما تفكر فيه الآن، وأنك كنت تتمنى أن أكتب إليك من بعثتي التي رُشِّحتُ لها، وأن أزفَّ إليك بشرى حصولي على الدكتوراه في الاقتصاد السياسي، ولكن اعلم أيها الرجل المسلم أنني حصلت على حياة تفيض فيها رحمة الله، وأشعر فيها بالقرب من الله، إن الدرجة العلمية التي حصلت عليها هنا هي نصف القرآن حفظا وتجويدا، فقهًا وتفسيرًا، والدي العزيز، إنك قلت: إنك استودعتني الله؛ فالجأ إليهظو وارض بقضائه يمدك بما تريد ولو بعد حين".
واستكمل يوسف كمال مسيرته مع القرآن فأتم حفظه وأطال النظر والدراسة فيه، وانشغل في السنوات الخمس الأخيرة من عمره في تفسيره الحضاري للقرآن الكريم؛ فأنتج واحدا وعشرين كتابا تناولت هذه الكتب موضوعات مختلفة، منها: النظام الاجتماعي والاقتصادي للأمة (من سورة البقرة)، والأساس الأخلاقي للأمة (من سورة آل عمران)، حقوق الأمة وواجباتها (من سورة المائدة)، حقوق الإنسان وواجباته (من سورة النساء)، سنن الحضارات (من سورة الأنعام)، العلاقات الدولية (من سورتي الأنفال والتوبة).
وفيما يتعلق بنهج الرجل في معالجة القضايا العامة كان يقول: هناك باب في الفقه يسمى فقه البلوى، وهو ما يحتاجه المصلح في علاج مشكلاتنا العامة، وهو فقه يختلف عن فقه العافية، فما لا يُدرك كله لا يُترك كله، ولا بأس بالتدرج في معالجة المشكلات العامة ولكن الأهم أن نبدأ بالعلاج، أما فيما يخص الفتاوى الخاصة التي كان الناس يحملونها إليه فقد كان يميل للتيسير على الناس.
هكذا كانت حياته إلى أن توفي صباح السبت 21 من شهر جمادى الآخرة 1425هـ الموافق 7 من أغسطس من عام 2004م. رحمه الله. (موقع: "إسلام أون لاين"، و "إخوان أون لاين).
2) الدكتور حسين شحاته
الاسم: حسين حسين شحاته، من مواليد 1939 - مدينة سمنود - محافظة الغربية - مصر، المؤهلات العلمية: بكالوريوس تجارة جامعة الإسكندرية 1962، ماجستير من جامعة القاهرة 1969، دكتوراة من إنجلترا عام 1976.
التدرج الوظيفي: بدأ العمل بوظيفة محاسب بوزارة الخارجية سنة 1962 ،ثم معيدًا بقسم المحاسبة بكلية التجارة جامعة الأزهر سنة 1964 ،وتدرج حتى وصل إلى منصب أستاذ ورئيس قسم المحاسبة بالكلية.
الخبرات المهنية: عمل محاسبًا قانونيًا ومستشارًا ماليًا وشرعيًا للعديد من المؤسسات المالية والاقتصادية الإسلامية، وصناديق الزكاة في البلاد الإسلامية.
العضوية: عضوً في العديد من الجمعيات والمراكز العلمية والاجتماعية والاقتصادية والدعوية.
مؤلفاته: خمسة عشر كتابًا في الفكر المحاسبي الإسلامي، وخمسة عشر كتابًا في الفكر الاقتصادي الإسلامي، وعشرة كتب في الفكر الإسلامي.
أشرف د. حسين شحاته على رسالة دكتوراه لابنة الشهيد/ حسن البنا - رحمه الله، وكان موضوعها (كيف أن لباس المرأة والحجاب أكثر الألبسة المناسبة للمرأة جمالاً وأناقة؟) وكذلك أفضل من الناحية الصحية والمالية.
ترجمت له العديد من الكتب إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإندونيسية والماليزية.
من أقواله حول المقاطعة الاقتصادية لسلع الأعداء
المقاطعة الاقتصادية تعني الامتناع عن دعم اقتصاد الأعداء أي إضعاف هذا الاقتصاد وتقوية اقتصاد الأمة الإسلامية.. وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج المقاطعة عندما أرسل علياً إلى أبي بكر الصديق ليخبره بأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه بأن المشركين نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وقد حزن تجار المسلمين من هذا الأمر الإلهي خشية الفقر والعوز والخسارة، فرد الله عليهم بقوله: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله} وكان هذا نموذجاً قرآنيا لوجوب مقاطعة المشركين والكافرين والمعتدين والظالمين، فالمقاطعة ليست بدعة، وليست أمراً مستحدث، ولكن هي سنة من سنن الله عز وجل، وسلاح يوجه ضد الأعداء.
وأكد على أنه على المسلم أن يدرس السلع والخدمات التي ينتجها العدو.. وتعرض في الأسواق ويمتنع عن شرائها.. وأكد على ضرورة أن تكون هذه المقاطعة غير عشوائية حتي لا نصيبَ قوما بجهالة، بل يجب أن تكون هادفة ومخططة ومنظمة وموجهة، حتى تكون أكثر فاعلية، فتحقق أكبر خسارة ممكنة لاقتصاد العدو، وتخفف الخسائر من على الوطن سواء أكان عربيا أو إسلاميًّا. (16)
(1) انظر: موقع: "الموسوعة العربية العالمية"، وموقع: جامعة العلوم والتكنولوجيا.
(2)أبو زيد شلبي، تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ص46.
(3)انظر: عزت عبد الحميد البرعي، تاريخ وتطور الفكر الاقتصادي، ص213 - 232.
(4)موقع: الموسوعة العربية العالمية.
(5)موقع: الموسوعة العربية العالمية.
(6)أبو زيد شلبي، تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ص47 - 53 بتصرف.
(7)أبو زيد شلبي، تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ص313 - 316 بتصرف.
(8) موقع: الموسوعة العربية العالمية.
(9)موقع: الموسوعة العربية العالمية.
(10)انظر: أبو زيد شلبي، تاريخ الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ص54 بتصرف.
(11)ا.د. عبد الرحمن يسري أحمد،تقويم مسيرة الاقتصاد الإسلامي {1396- 1422هـ/1976- 2003م}.
(12)د.محمد عبد الحليم عمر، موقع الشبكة الإسلامية.
(13)د.محمد عبد الحليم عمر، موقع الشبكة الإسلامية بتصرف.
(14)موقع: الجسر.
(15)موقع: نسيج.
(16)موقع: "إسلام أون لاين"، وموقع: جاسم المطوع بتصرف.