التسامح في الفقه الإسلامي وتطبيقاته

التسامح في الفقه الإسلامي وتطبيقاته

 

 برانون ويلر

 

يورد ابن حجر في كتابه بلوغ المرام من أدلة الأحكام، حديثا ملفتا للنظر يتعلق بقبور أنبياء اليهود: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(1). من الصعوبة معرفة السياق العام لهذا الحديث وأهميته في تاريخ التفسير والفقه عند المسلمين، إلا أن هذا الحديث قد فهم على جانبين، الأول أنه تبرير للنهي عن الصلاة في الأماكن التي توجد فيها قبور، والثاني النهي عن مصادرة الأماكن الدينية لغير المسلمين بدعوى توفير مساحات إضافية للمسلمين للممارسة شعائرهم الدينية. وبالرغم من أن السياق التاريخي والتفسيري للحديث يوحي بروح التسامح وربما حتى بروح التعددية، إلا أنه نادرا ما يستشهد بهذه العبارة لمثل المقاصد.

سنحاول في هذه المقالة دراسة هذا الحديث وعلاقته بموضوع التسامح في القانون والممارسة الإسلامية ونخلص في خاتمة هذه المقالة إلى تأكيد كيف أن القانون الإسلامي وتطبيقاته يمكن أن ينظر لهما من منظور يتسم بالتعددية من حيث نطاق نظرته البعيدة وكذلك من حيث اتساع أغراضه ومقاصده.

1

هناك أحاديث أخرى يوردها ابن حجر وأحاديث أخرى برواية الصحابي أبو هريرة، وعلى سبيل المثال يذكر ابن حجر الحديث التالي والذي ترويه السيدة عائشة: (أنه إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا. أولئك هم شرار الخلق)(2).

يورد ابن حجر هذه الأحاديث كجزء من باب كبير خصصه للمساجد كأماكن للعبادة ويتضمن هذا الباب إشارات حول زخرفة المساجد والسلوكيات غير اللائقة في المساجد (كالبصق واللعب والغناء) وربط الخيول على دعامات المسجد ونصب الخيام في المساجد، بالإضافة إلى عدد من الأحاديث التي توضح المبدأ العام للمساجد كأماكن عامة لا يجوز تحويلها إلى ممتلكات خاصة أو أي منفعة تجارية(3).

في كتابه صحيح البخاري يورد البخاري حديث اتخاذ قبور الأنبياء مساجد في باب عام، تناول فيه الأحاديث التي تشير إلى النهي عن بناء المساجد فوق القبور، ويبدأ بحديث آخر ترويه السيدة عائشة أيضا يربط النهي عن بناء المسجد على القبور بممارسة كان لها صلة بأهل البيت، حيث روي أن زوجة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بنت قبة على قبره لمدة سنة قبل أن يتم إزالتها فيما يبدو بتدخل إلهي. وفي كتابه إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري يذكر القصعري أن التدخل الإلهي تضمن وحيا ولكنه لا يمكن أن يكون مصدرا من مصادر القانون الإسلامي بعد وفاة الرسول محمد(4).

ولإضافة مزيد من السياق للحديث عن اليهود والنصارى، فإن البخاري يضيف أن النبي محمد –صلى الله عليه وسلم-  كان قد قال هذا الحديث عندما كان مريضا بالمرض الذي توفي على إثره، وأن ملاحظة السيدة عائشة هي أنها كانت تتخوف من أن يتخذ الناس قبر النبي محمد مسجدا(5). وفي معرض تعليقه على الحديث يذكر ابن حجر بشكل واضح أن الحديث يعتبر نهياً عن بناء المساجد على المقابر. وبالنسبة لابن حجر فإن الخطر هو أن تكون القبلة باتجاه القبر وبهذا يحصل الخلط بين مكة والقبر كاتجاهين للقبلة(6). وفي تعليقه على صحيح مسلم، يذكر النووي أن النبي محمد نهى بشكل واضح عن اتخاذ المساجد قبورا، وهذا التعليق ورد في معرض الحديث عن حديث مطول روي عن جندب قبل خمسة أيام من وفاة الرسول محمد.

 يقول جندب: سمعت النبي قبل أن يتوفاه الله بخمسة أيام يقول:

 إني أبرأ إلى الله أن يكون لي خليل منكم، وأن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك(7).

لا يوجد ذكر لليهود والنصارى في هذا الحديث ولكنه ورد في فصل ضمن روايات أخرى للحديث الذي يشير لليهود والنصارى وقبور أنبيائهم(8). أما الشوكاني في كتابه نيل الأوطار فيذكر الحديث الذي يرويه أبو هريرة بالإضافة إلى حديث آخر يرويه ابن عباس في فصل عن النهي عن اتخاذ القبور مساجد، (يقول ابن عباس: نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن زيارة القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج)(9).

ويرى الشوكاني أن سبب لعن الله ومقاتلته لليهود والنصارى هو أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ويذكر الشوكاني أحاديث أخرى عن مسلم تنهى عن الجلوس على القبور والصلاة باتجاهها أو عليها بما في ذلك حديث جندب)(10).

ويمكن عزو هذا أيضا إلى النهي بشكل عام عن الصلاة في المقابر والحمامات. ويورد ابن قدامة في المغني الحديث الذي يذكره ابن داوود في سننه والذي يقول فيه الرسول  (جعلت لي الأرض مسجدا إلا الحمام والمقبرة)(11). ويورد ابن قدامة أيضا حديث ابن عباس الذي ذكره الشوكاني ولكنه يضيف رواية أخرى عن قتادة أن أنس بن مالك أجاز ولكن مع الكراهية اتخاذ المساحات بين القبور كأماكن للصلاة(12). إلا أن الشافعية يجيزون الصلاة على القبر في حال لم تؤدى الصلاة على الميت قبل الجنازة(13). كما تكره الصلاة على الحشيش وعلى مرابط الإبل وعلى السطح وكذلك على الخسف لأن هذه الأماكن يغلب عليها تواجد النجاسة فيها(14).

 ويتضح من مجموع الأحاديث عند البخاري ومسلم والشروحات التي قام بها العلماء على هذه الأحاديث أن حديث قبور أنبياء اليهود والنصارى قد فهم على أنه نهي عام عن بناء المساجد والصلاة في أماكن القبور. وهذا ليس بمستغرب إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التأكيد الوارد في النصوص الفقهية الأخرى عند المسلمين أيضا حول النهي عن الربط بين أي ممارسات دينية معينة وبين زيارة القبور(15). بل إن هناك قواعد صارمة وضعت فيما يتعلق بتزيين وزخرفة القبور كتلك القواعد المتعلقة بزخرفة المساجد وأماكن الصلاة الأخرى. فعلماء الحنبليين من أمثال ابن عقيل المتوفى سنة (513 – 1119) يذكرون أحاديث تنكر زيارة القبور وينتقدون بشدة المقابر التي تتخذ كمساجد. نهى أبو حامد الغزالي المتوفى سنة (505- 1111) حتى عن تلاوة القرآن على القبور. وينهى ابن تيمية وابن قيم الجوزية عن زيارة القبور في حال توقع الزائرين استجابة دعائهم نظراً لقربهم من صاحب الضريح المقبور في ذلك المكان.

 يقول أبو جعفر الطوسي: أيصح أن يصلى بين القبور؟ قلت له صلي فيما بين القبور ولا تتخذ أي منها قبلة لك لأن رسول الله نهى عن ذلك عندما قال: لا تتخذوا أي قبر قبلة ولا تبنوا عليها المساجد. فإن الله لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

 وعليه فإنه يتوجب علينا أن نسأل عما يدور بخلد العلماء المسلمين عندما ينسبون إلى اليهود والنصارى بناء (المساجد) على قبور أنبياءهم. إن مصطلح (مسجد)  وجمعها (مساجد) تستخدم في القرآن للإشارة إلى أماكن ليست بالضرورة مرتبطة بأماكن العبادة عند المسلمين، كما هو الحال في المسجد الذي اقترح بناؤه على قبور أهل الكهف كما جاء في سورة الكهف. وتذكر الآية الأولى من سورة الإسراء (المسجد الأقصى) والذي يجمع كثير من المفسرين على أنه إشارة إلى موضع ما في القدس. وكما يرى ابن كثير فإن المسجد الأقصى يشير إلى المعبد المقدس المسمى بيت المقدس في إيليا مهبط الأنبياء منذ عهد إبراهيم). ويستخدم مصطلح مسجد كذلك عند جمهور المفسرين وفي أدبيات سير الأنبياء للإشارة إلى أماكن العبادة التي استخدمها الأنبياء وآخرون في الفترة التي سبقت بعثة النبي محمد. إلا أن الآية (40 من سورة الحج) تفرق بين المساجد وبين البيع والصوامع، ويحدد الزمخشري في تفسيره الكشَّاف المساجد كأماكن عبادة للمسلمين والأماكن الأخرى المذكورة في الآية كأماكن عبادة للديانات الأخرى.

 ويجوز حمل الإشارة إلى اليهود والنصارى الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد كإشارة إلى جماعة من الناس أو أفرادا بعينهم، لأن في هذا سابقة أخرى حيث يذكر الطبري في تفسيره للآية (30 من سورة التوبة) عدداً من الروايات التي تحدد جماعة معينة من اليهود في المدينة بل شخصا واحد ذكره الطبري بالاسم كتفسير لما تعنيه الآية التي تتحدث عن اليهود الذين يقولون أن عزير ابن الله. إن القانون اليهودي يؤكد وبشكل محدد أن جثث الموتى من الأسباب الرئيسية للنجاسة، كما أنه لا يوجد أي دليل مادي أو أدبي يثبت أن القبور كانت معلما من معالم المعبد في بيت المقدس، أو في الإلفانتين أو المعابد في العصور الرومانية المتأخرة.

  إن انشغال العلماء المسلمين المتأخرين بموضوع النهي عن الصلاة في أماكن الأضرحة يبدو أنه مرتبط بالرد على اعتقاد الشفاعة للموتى، أو أن الصلاة في رحاب قبر ولي صالح أو نبي قد تكون لها أثر وفاعلية خاصة. وتشير الدلائل إلى أن هذه المعتقدات كانت منتشرة بين النصارى ولكنها كانت أيضا منتشرة على طول وعرض الحضارة الإسلامية وهناك العديد من الأمثلة على استخدام الآثار التي تعود إلى عصر النبي محمد وحياته في بناء المساجد فهناك العديد من المساجد تحتفظ بشعر النبي وآثار قدمه وآثار أخرى مثل بعض من ملابسه وكذلك عصاه ومكحلته ومخطوطات قديمة للقرآن الكريم.

2

ومن الممكن أن نذهب بعيدا خارج السياق التاريخي للمعرفة عند المسلمين في التعامل مع رواية هذا الحديث ومحاولة فهم رواية هذا الحديث في سياقه التاريخي المحدود، حيث يتضمن القرآن الكريم مثال موازي لهذا الحديث في سورة البقرة (الآية 125)، حيث يستخدم النص القرآني عبارة شديدة الشبه بالعبارة المستخدمة في حديث أبو هريرة، وهذه العبارة هي (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، أما الآية (97 من سورة آل عمران) ففيها إشارة إلى (مقام إبراهيم) كمكان آمن وهو الذي فهمه ابن الجوزي المتوفى (سنة 597 هجرية على أنه كل مساحة الحرم لأن العلامات بما في ذلك الحجر الذي طبعت عليه آثار قدم إبراهيم كل ذلك داخل ضمن حرم مكة. ويذكر فخر الدين الرازي المتوفى سنة (604 هجرية) في تفسيره للآية (125من سورة البقرة) أن مقام إبراهيم كموضع للصلاة يشير إلى الحج ويشمل ذلك كافة الحرم في مكة واعتبار الكعبة هي المركز. يرى أبو السعود العماري الحنفي المتوفى (سنة 982 هجرية) بأن مقام إبراهيم كان مكانا للصلاة لأنه كان المكان الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام يؤذن بالناس ليأتوا لأداء الحج في مكة وهو المكان الذي وقف عليه إبراهيم حينما كان يرفع القواعد من البيت، وكموضع للصلاة فإن مقام إبراهيم يمكن أن يستخدم لشعائر الصلاة والدعاء. يذكر ابن حجر ملاحظة في هذا الباب وهي أن استخدام مقام إبراهيم كمكان للصلاة كان له ارتباط وثيق بعمر ابن الخطاب.

 ترى بعض الروايات عن ابن عباس أن مقام إبراهيم يشمل كل الأماكن التي تقام فيه مناسك الحج أو يشمل كافة المساحة المسماة بالحرم، وعليه فإن موقع الحرم الذي حدده إبراهيم عليه السلام هو مجموع المشاعر التي يؤدي فيها الحاج المناسك. يروي سفر التكوين (الجزء 21، المقاطع 22-34) ما يقوله إبراهيم عن بئر حفرها في بئر السبع بالاشتراك مع الفلسطيني أبي ملخ الذي يبلَّغ كما جاء في سفر التكوين (الجزء 20 المقطع 7) أن إبراهيم نبي. ويذكر المفسرون اليهود أن الإيشيل الذي زرعه إبراهيم كما جاء في سفر التكوين الجزء (21 المقطع 33) هو حرم أو ضريح أقامه إبراهيم في بئر السبع يمكن أن يأخذ على أنه مضاهاة بالأضرحة الأخرى التي أقامها إبراهيم حيث بني المعابد ومذابح القرابين ودعا الرب يهوه عند شجرة البلوط في موريه وفي سيشم كما جاء في سفر التكوين (612-7)، وعند شجرة البلوط في مامره في الخليل كما جاء في سفر التكوين (1813)، وبين بيتل وآي كما جاء في سفر التكوين (812). ويحتفظ الطبري في تاريخه بتعليق عن الحلقة التاريخية التي تذكر إبراهيم والبئر في بئر السبع والذي يذكر فيه الطبري أن الحرم الذي أقامه إبراهيم كان مسجدا، وبهذا يربط بين المواقع الدينية ذات الصلة بأعمال إبراهيم النبوية وبين المسجد في القرآن. إن إقامة إبراهيم لهذه المواقع الدينية وبنائه للمعابد وأماكن ذبح النسك كما جاء في سفر التكوين يتفق مع ذكر أفعال إبراهيم كما وصفت في نقوش أخرى كتلك النقوش التي وجدت بالقرب من ضريح في حاترا والتي تذكر بناء مذبح ومقام. ويستخدم نقش مينايان مصطلح (مقم) في إشارة إلى أماكن الآلهة ود وعثتار وقبد، كما يشير نقش ثمودي إلى الغرض الذي من أجله أقيمت الأماكن بلفظة (مقمت).

إن الصلة الوثيقة بين مقام إبراهيم في الكعبة أو المعبد ﴿البيت﴾ في الحرم المكي يشير إلى تماثل كبير بالتراث اليهودي المسيحي والذي يحدد المكان ﴿في العبرية مقام﴾ حيث يؤمر إبراهيم بذبح ابنه وبالموقع المستقبلي لهيكل سليمان في بيت المقدس. ويشير سفر اليوبيلي (2422) إلى الهيكل في بيت المقدس على أنه بيت إبراهيم. لقد بنيت هذا البيت لنفسي لكي يكتب لاسمي الخلود في هذه الأرض. وقد منح لك ولذريتك من بعدك وسيسمى بيت إبراهيم وسيمنح لك ولذريتك من بعدك لأنكم ستبنون بيتي وسترفعون اسمي أمام الله للأبد، وستبقى ذريتك وسيبقى اسمك مخلدا على مدى الأزمان والأحقاب.

يحدد تفسير الربانيين والأحبار للمقطع (422) من سفر التكوين مقام إبراهيم على أنه يقع في جبل موريه الموقع المستقبلي لمعبد القدس. وحسب ما يقوله راشي أن إبراهيم عرف الموقع عن طريق سحابة ظلت ملازمة للجبل. ويذكر ميدراش رباح حول المقطع (422)(156) من سفر التكوين أن الجبل حدد لإبراهيم عن طريق سحابة أحاطت بالمكان. وتورد المصادر الإسلامية كيف أن سكينة التي كانت تشبه السحابة قادت إبراهيم إلى المكان في مكة حيث كان من المقرر أن يرفع قواعد البيت أو الكعبة. لقد تم بناء الكعبة من مواد تم جمعها من خمسة جبال لها صلة بأنبياء آخرين وهذه الجبال هي جبل سيناء وجبل لبنان وجبل الجودي وجبل حراء وجبل الزيتون في القدس.

 وفي هذا السياق يجدر بنا إن نذكر أن الكعبة كانت تستخدم كمعبد تضم أصنام وصور آلهة أخرى وذلك في الفترة التي سبقت بعثة النبي محمد وحتى في الفترة المبكرة من بعثته، فكما يقول ابن إسحاق أن جد النبي محمد لأبيه عبد المطلب استشار كاهن هبل وصلى للإله في الكعبة في مكة. أما ابن الكلبي في كتابه (كتاب الأصنام) فيقول أن مكة كانت مركز المعتقدات الدينية الوثنية التي كانت تمارس في مكة وما جاورها. ويذكر ابن قدامة أن النبي محمد صلى في الكعبة حين كان لا يزال فيها أصناما. وفي روايات أخرى تصف صلاة الرسول محمد في الكعبة في يوم فتح مكة وتشير هذه الروايات إلى أنه كانت هناك عدد من الدعامات داخل الكعبة وكانت ذات طابع ديني. وفي رواية يوردها ابن إسحاق، يقول الأزرقي أن أهل مكة كان لهم صورتان في الكعبة بما في ذلك صورة للمسيح وأمه مريم. أما ابن كثير في كتابه الفصول في سيرة الرسول فيروي كيف دخل محمد الكعبة وأمر بإزالة وتحطيم الأصنام فيها. إن استخدام الكعبة كمكان للتعبد المسيحي يعود إلى ما ذكر في سورة الإسراء في (الآية81) من انتصار النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- وإزالة وتحطيم الأصنام التي كانت تمثل المعتقدات التي كانت منتشرة في حرم مكة.

يذكر ابن الكلبي أن هناك كعبات أخرى في الجزيرة العربية من مثل ما أقامه النبطيون وكثير من المباني التي تشبه الكعبة تم إقامتها كمقابر منتشرة في أرجاء مختلفة من البتراء ومدائن صالح. ومن الملاحظ أن عددا من علماء المسلمين يحفظون أحاديث تزعم أن قبور الأنبياء موجودة في حرم مكة حيث يروي مقاتل بن سليمان أن هناك قبور سبعين نبي بما فيهم هود وصالح وإسماعيل كلها في الحرم. وفي الموطأ يذكر مالك بن أنس أن هناك شجرة بالقرب من مكة مدفون تحتها سبعون نبيا. وكما يرى السيوطي فإن كلا من هود وصالح وإسماعيل ونوح وشعيب دفنوا في مكة. ويذكر الحلبي؟ أن هناك ما يقرب من 300 نبي يقال أنهم مقبورون حول الكعبة. وهناك العديد من الروايات التي تذكر أن أجساد وأشياء أخرى كانت تدفن داخل الكعبة نفسها وحولها في إشارة إلى أن الكعبة كانت ترمز إلى الحرم المكي كما ترمز الدعامات وركام الأحجار للمواقع المقدسة غير الإسلامية. كما أن هناك ارتباطا وثيقا بين النقوش والآثار الدينية ومعالم القبور وهذا الارتباط ملحوظ في كافة النقوش العربية الشمالية والنقوش العربية الآرامية، وهذا بدوره يشير إلى الصلة بين الكعبة في مكة والمقابر التي يقال أنها موجودة في الحرم.

  وحسب المصادر الإسلامية فإن المسيحيين واليهود وبقية الديانات الأخرى قد أدوا مناسك الحج وقاموا بتأدية الصلوات في الكعبة في حرم مكة. (والآية 25 من سورة الحج) تشير إلى أن هذا ربما قد سمح له أن يستمر حتى بعد الفتح الإسلامي. ﴿إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم﴾.

يذكر ابن العربي (468- 543) في كتابه أحكام القرآن أن الجزء الأول من الآية مرتبط بالآية 25 من سورة الفتح والتي تشير إلى كفار قريش الذين منعوا محمدا وأصحابه من دخول مكة والكعبة في السنة السادسة للهجرة في عام الحديبية. ويأتي التعليق الفقهي الحريصي المتوفى سنة (504)  ليربط الآية تحديدا بالقيود الفقهية لملكية البيت وامتيازات الأرض في مكة، حيث يذكر ابن كثير أيضا صلح الحديبية وقضية الملكية إلا أنه لا يعلق على التطبيق الأشمل للآية. إن الآية 25 من سورة الحج لا تنص على تحديد دخول المسجد الحرام أو الكعبة على جماعات معينة، بل إن الآيتان 17 و 18 من سورة التوبة تبدوا أكثر حصرية: ﴿ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون. إنما يعمر مسجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين﴾.

 إلا أنه ليس من المؤكد أن هذه الآية تهدف إلى إرساء قاعدة عامة لكل المساجد، حيث يذكر السيوطي المتوفى سنة (911) رواية عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت لتوبيخ أولئك الذين يقومون بأداء الصلاة دون أن يلزموا بذلك. يورد بعض المفسرين من أمثال الطبري رواية من طريق السدي والتي تذكر النصارى واليهود والصابئين. يقول السدي أن ﴿شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾ حين يقال للنصراني: من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، ويقال لليهودي: من أنت؟ فيقول: يهودي، ويقول للصابئي: من أنت؟ فيقول: صابئي.

إن معنى هذه الرواية أن تسمية الشخص نفسه بأنه نصراني أو يهودي أو صابئي يعتبر شهادة على الكفر، إلا أن ملاحظات السدي لا تشير بشكل واضح إلى زيارة المساجد أو حرم مكة. بينما يرى علماء تفسير آخرون أن هذه الآية تشير تحديدا إلى المسجد الحرام و الغاية منها هو وضع حد لما كان تمارسه الجماعات الوثنية والعائلات الوثنية من القيام ببعض أمور الكعبة. وفي أحاديث أخرى يوردها السيوطي تفسر الآية على أنها تشجيع على زيارة المساجد عندما تكون هذه الزيارات قائمة على الاعتراف بالإله الواحد.

عمر بن ميمون الأودي: قال أصحاب رسول الله (إن المساجد بيوت الله في الأرض وحق على الله أن يكرم ضيوفه فيها) وبالرغم من هذه التفسيرات الأكثر احتوائية، فإن علماء مسلمين متأخرين يمنعون غير المسلمين من زيارة المسجد الحرام والمساجد الأخرى على أساس هذه الآيات وعلى أساس إطلاق لفظ المشركين عموما على كل من كان غير مسلم. على أن الفقه الإسلامي لا زال يقدم كل الحماية لأماكن العبادة لغير المسلمين داخل وخارج دار الإسلام. وحسب رؤية الفقه الإسلامي فإن المسئولية تقع على المجتمع المسلم حماية وصيانة الكنائس والمعابد القديمة ولكن لا يسمح ببناء الجديد منها. علي بن أبو بكر المرغنى المتوفى سنة (593) يبين أن هذا مبني على الحديث الذي يرويه عمر بن الخطاب وفيه أن النبي محمد يقول (لا كنائس في الإسلام) وهذا يفسر على أنه لا يجوز للمجتمع المسلم بناء كنائس جديدة. ابن الحميم المتوفى سنة (681)  يستشهد بعدد من العلماء الذين يقولون بأن القيود المفروضة على بناء كنائس جديدة ينطبق فقط على تلك المجمعات الجديدة التي تبنى لتستوعب المسلمين المشاركين في الفتوح الإسلامية في تلك البقاع، وكذلك العواصم الكبيرة في الدولة الإسلامية مثل القاهرة والكوفة والبصرة وبغداد والواصل. إلا أن آخرين يقولون أن هذا الحصر يشمل فقط ثلاث مدن رئيسية وهي الكوفة والبصرة والفسطاط، وأن هذا الحصر في النهي عن بناء كنائس جديدة ينطبق فقط في هذه المدن الثلاث على ما داخل أسوار المدينة وهذا قائم على أساس مبدأ أن المساحات الأسبار مخصصة لممارسة المسلمين شعائر الصلاة ولا يوجد في هذه الأماكن عادة سكان غير مسلمين. وهناك آخرون ممن يرون أن المنع المقصود لليهود والنصارى هو منعهم من أن يقربوا جزيرة العرب والتي يعرفها محمد بن محمد البابرتى المتوفى سنة (786) بأنها المنطقة بين الخليج الفارسي والبحر الأحمر وهي كذلك المنطقة الممتدة إلى نهري دجلة والفرات.

 إن حماية الكنائس والمعابد القائمة الوارد في الفقه الإسلامي يمتد ليشمل أماكن أخرى يستخدمها غير المسلمين للعبادة، حيث يذكر ابن الحميم والمرغنى أن هذه الحماية تشمل كذلك الصوامع والبيع ومعابد النار وغير هذه الأماكن مما يتخذها غير المسلمين أماكن للعبادة والتي تدخل تحت مسمى الكيانات القائمة التي يجب على المجتمع المسلم حمايتها. باميان بوداس وبوردابور في إندونيسيا، بالإضافة إلى المعابد القديمة المنتشرة على طول نهر النيل وكذلك المعابد التي وجدت في العراق القديمة. وكما يذكر ابن رشد المتوفى سنة (595) أن ابن عباس قال أن النبي محمد أمر جيوشه أن لا يقتلوا العباد والنساك في صوامعهم وبيعهم، ويروي ابن رشد كذلك أنه رغم أن هناك عدم اتفاق بين الفقهاء إلا أنه يجوز للمسلمين أداء الصلاة في كنيسة أو معبد وبعض الفقهاء يجوِّز صراحة الصلاة في هذه الأماكن إلا أن فقهاء آخرين يؤكدون أنه لا تجوز الصلاة إذا كان في الكنائس أو المعابد صور وأصنام.

الخلاصة

يتضح لنا مما سبق أن العلماء المسلمين فهموا الحديث المتعلق بقبور أنبياء اليهود على أنه نهي عن الصلاة في القبور وإنكار لممارسة شعيرة الصلاة للشخص الميت في القبر. وأن هذا الفهم هو جزء من محاولة مستمرة لتحريم طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين الميتين، وهذا عمل يبدو أنه كان ولا يزال منتشرا بين المسلمين والنصارى واليهود. وهؤلاء العلماء الذين يجوزون الصلاة في المقابر يؤكدون على أن لا يكون اتجاه القبر هو اتجاه القبلة وأن المساجد يجب أن لا تبنى على القبور لتجنب الخلط الحاصل من أن الصلاة تؤدى للقبر. وهذا التخوف هو السبب الذي جعل هذا التفسير يغلب على التفسيرات الأخرى للحديث وهو الذي أدى إلى تهميش الأهمية الأكبر لقبور الأنبياء في التصور الإسلامي.

  وفي الحالات التي يتوافر فيها الدليل المادي والأدبي يتبين لنا أن المسلمين بالفعل اتخذوا قبور الأنبياء الذين سبقوا بعثة محمد مساجد وأماكن للصلاة. لقد صادر الأمويون أبان خلافة الوليد كنيسة القديس يوحنا، وتم تدمير المصلى الذي كان مبنيا على سرداب يوحنا المعمداني، وضم للمسجد القبر الذي كان يعتقد أن فيه رأس النبي فقط. ولقد بني مسجد الإبراهيمي في حرم مدينة الخليل على قبور عدد من الأنبياء بما فيهم إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وتم بذلك  استبدال الأبنية التي كانت موجودة في تلك الأماكن في العهد اليوناني والعصور المتأخرة من العهد الروماني. ولقد بني الموقع الإسلامي الذي يضم قبر النبي هارون على أنقاض صومعة نصرانية تقع في مكان ضريح سابق من أيام عصر النبطيين. ولا يخفى استخدام المسلمين للقبر اليهودي للنبي دانيال والجسد نفسه كما تشير الأدلة في هذا الجانب والتي تشير كذلك إلى ما قام به تيمور من أخذ بقايا الجثة إلى سمرقند وهي الآن مركز رئيسي لمزار إسلامي هناك. وهناك الكثير من قبور الأنبياء بمن فيهم النبي نوح ويوشع وموسى وداوود وكلها تم أخذها من اليهود والنصارى والوثنيين واتخذت فيما بعد مساجد وأماكن للصلاة والزيارة عند المسلمين.

ولعل أشهر المساجد والمزارات التي بنيت على قبور الأنبياء هي تلك الموجودة في بيت المقدس التي تشبه مكة إلى حد بعيد، حيث يروى أنها مرقد كثير من الأنبياء وموضع نشاط هؤلاء الأنبياء أيام عهدهم. إن أماكن الصلاة في القدس تضم أماكن مرتبطة بالأنبياء إدريس ويعقوب والخضر وداوود وسليمان وشعبا وزكريا ويسوع وحوارييه بالإضافة إلى محمد. ويقع قبر النبي داوود على جبل صهيون وكان جزءا من دائرة مزارات المسلمين داخل وخارج بيت المقدس. يورد ابن أبي الخير العمراني المتوفى سنة (558) في كتابه مجموع الفقه الشافعي حديثا يقارن فيه النبي محمد أداء الصلاة وثوابها في ثلاثة مساجد في مكة والمدينة وبيت المقدس. روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الصلاة في المسجد الحرام تساوي 100000 صلاة فيما سواه، والصلاة في مسجدي تساوي 1000 صلاة فيما سواه، والصلاة في المسجد الأقصى تساوي 500 صلاة).

وكما يرى ابن أبي الخير العمراني أن النذر للصلاة في مسجد معين لا يقع إلا في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة والمسجد الأقصى. ويناقش ابن عبد البر (368–463) عددا من الأحاديث والآراء التي تقول أن الصلاة في مسجد النبي محمد أفضل من الصلاة في مكة، ويناقش كذلك أن في مكة واحدا من أبواب الجنة، وأن المكان الذي سيطلب فيه النبي محمد الشفاعة من ربه يوم القيامة هو في المدينة. وتضيف بعض الأحاديث الأخرى أن المسجد الأموي في دمشق والذي يضم قبر يوحنا المعمداني ومسجد الكوفة والذي يضم قبر آدم إلى قائمة المساجد المخصصة بالفضل والتي يمكن أن تؤدى فيها صلوات خاصة.

 إن زيارة مسجد النبي محمد وقبره في المدينة سنة يؤكدها الفقه الإسلامي وهي سنة منتشرة بشكل كبير بين المسلمين كجزء من الحج إلى مكة. يقدم البيهقي (384-458) في كتابه دلائل النبوة أوصاف دقيقة لقبر النبي محمد وقبور كل من أبي بكر وعمر بن الخطاب في المدينة، كما يورد ابن أبي الخير العمراني أحاديث يذم فيها النبي محمد أولئك الذين يحجون إلى مكة ولا يزورون قبره في المدينة: إن زيارة قبر رسول الله أمر مندوب لأنه روي عن النبي أنه قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) وفي أحاديث أخرى مروية عن ابن عمر أن النبي شبه زيارة قبره بالدخول إلى الجنة وربط الزيارة بالفوز بشفاعة النبي. قال النبي (من زار قبري كان حلت له الجنة) (من زار قبري حلت له شفاعتي).

إن الحفاظ على هذه الروايات، رغم معارضة المتأخرين، يدل على تقاليد إسلامية متقدمة تتسم بمشاركتها لمفهوم الصلاة على القبور والتي كانت سائدة قبل الإسلام، بل إن المسلمين قد شاركوا في هذه التقاليد جماعات دينية غير إسلامية.

 إن هناك مصادر عدة تؤكد أن نطاق ومرتكز الاعتقاد الإسلامي والممارسة العملية لهذا الاعتقاد لم يكن متسامحا مع الديانات الأخرى فحسب بل أنه اشتق هويته المستقلة من تراث مشترك للديانات السائدة في العصور الرومانية المتأخرة. لقد كانت نشأة وتطور الإسلام سواء من حيث الحتمية التاريخية أو من حيث التركيبة التاريخية، لها علاقة وطيدة استوعبت الثقافات التي تفاعل معها المسلمون والتي استطاعوا أن يميزوا أنفسهم عنها. من الأمثلة التي تدل على الطبيعة الاحتوائية والتعددية للإسلام هي في الأساس تنبع من وحي التنزيل وشبكة العلائق المتداخلة من الاعتقادات والممارسات التي يشترك فيها الإسلام مع غيره من الديانات الإنجيلية.

 ولذا فإن تطور التفسير الإسلامي للحديث المتعلق بقبور أنبياء اليهود والنصارى يبين كيف عمل المسلمون على تمييز أنفسهم عن الديانات الأخرى التي يشتركون معها في التراث الإنجيلي. وهذا التطور يبين كيف أن القول بالاحتوائية والقائم على الاعتراف بالتعددية يمكن أن يتحول إلى مبدأ ينضح بالتفرقة والإقصاء. وبصرف النظر عن المقصد الأساسي في حيث أبي هريرة، فإن السياق الأكبر الذي من خلاله نفهم كيف يمكن إسقاط الحديث في سياق يشمل معتقدات وممارسات أخرى يبين أن المسلمين كان يمكنهم أن يفهموا هذا الحديث ، بل لقد فهموه بالفعل، على أنه اعتراف بوجود هوية مشتركة بين المجتمعات الدينية المختلفة وتشجيع لمثل هذا التوجه. وإن مثل هذه الرؤى الاستيعابية والاحتوائية ليست فقط من خصائص الإسلام بل يجب أن يتم التركيز عليها وإبرازها كنموذج للتذكير بأننا كبشر نتشارك في عنصر مهم هو إنسانيتنا.

****************************

الهوامش:

*) أكاديمي من أمريكا, الأكاديمية البحرية الأمريكية.

1- ابن حجر، بلوغ المرام من أدلة الأحكام، (دمشق، دار ابن كثير 2002/1423)، 78.

2- ابن حجر، بلوغ المرام من أدلة الأحكام، 78.

3- المرجع السابق.

4- انظر: أحمد بن محمد بن حنبل, المسند.

5- انظر: البخاري, الصحيح 3|255.

6- انظر: ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري (بيروت: دار إحياء التراث العربي 1304) 2|430.

7- مسلم الصحيح 23|532.

8- انظر: مسلم, الصحيح 16|528- 23|532.

9- محمد بن على الشوكاني ، نيل الأوطار من أسرار منتقى الأخبار (بيروت: دار ابن حزم، 2000)، 1585-1486.

10- انظر: الشوكاني نيل الأوطار، 776.

11- انظر: ابن قدامة، المغني (القاهرة: حجر، 1992)،(2|468-469، 223).

12- انظر: ابن قدامة، المغني، 2/475.

13- انظر: ابن أبي الخير العمراني, (بيروت: دار الكتائب العلمية، 2002، 9:/30.

14- انظر: ابن قدامة، المغني، 2/474-475.

15- لمزيد من أمثلة الدراسات حول زيارة القبور انظر: هنري لاوست.

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك