عظمة السياسة النبوية
عظمة السياسة النبوية
الحمد لله ربِّ العالَمِين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. وبعد، ففي هذا الزمانِ الذي انحطَّتْ فيه السياسةُ في العالَم الإسلامي وبعُدَت عن الأصُولِ الإسلامية والأخلاقِ النبوية ـ إلا مَن رَحِمَ الله ـ تشرَئبُّ الأعناقُ وتتطلعُ الأشواقُ إلى السياسة النبوية الرشيدة؛ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائداً مُوفَّقاًً حكيماً، وزعيماً سياسياًّ عظيماً، وقد شهدَ بذلك الغربيون بمثلِ شهادتِهم بعظمةِ القيادةِ النبوية.
فقد قال كولد تسيهر في كتابه (العقيدة والشريعة في الإسلام): "في هذا العصرِ نرى النبيَّ يستخدمُ حِنْكتَه المفكِّرة ورَوِيَّتَه الدقيقة وتبصُّرَه العالَمي في مُقاومةِ خُصُومِه الذين شَرعُوا في مُعارَضةِ مَقاصِدِه وغاياتِه في داخلِ مَوطنِه وخارجِه".
وقد اختارَ بعضُ الْمُنصِفِين من عُلماءِ الغربِ نبيَّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم ليكونَ أعظمَ السياسيِّين الذين عرفَهم التاريخُ الإنساني: من حيث تربيةُ الآخرين على مكارمِ الأخلاق، وحسنُ التعاملِ معهم، وقوةُ التأثيرِ فيهم، والقدرةُ على إقناعِهم، وزرعُ محبتِه في قلوبهم، ومشاركتُه لهم في أفراحِهم وأتراحِهم، وحسنُ إدارتِه لِدينِهم ودُنياهم، كما قال مايكل هارث في كتابه (الخالدون مائة): "إنَّ اختياري لمحمد ليكون رأس القائمة التي تضمُّ الأشخاصَ الذين كان لهم أعظمُ تأثيرٍ عالَمِيٍّ في مختلَفِ المجالات، ربما أدهش كثيرًا من القراء، ولكنْ في اعتقادي أنَّ محمدًا كان الرجلَ الوحيدَ في التاريخ الذي نجح بشكلٍ أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي".
وقال كذلك: "لقد أسَّسَ محمد ونشرَ أحدَ أعظمِ الأديانِ في العالم، وأصبحَ أحدَ الزعماءِ العالَمِيين السياسيِّين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرورِ ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا على وفاته، فإنَّ تأثيرَه لا يزال قويًا وعارمًا". وقال: "مِن وِجْهةِ النظرِ الدينِية الصِّرفة يبدو أنَّ محمدًا كان له تأثيرٌ على البشريةِ عبرَ التاريخِ كما كان للمسيح". وقال أيضا: "إنَّ محمدًا يختلف عن المسيحِ بأنه كان زعيمًا دُنيويًا فضلاً عن أنه زعيمٌ دينِيٌّ، وفي الحقيقة إذا أخَذْنا بعينِ الاعتبارِ القوى الدافعة وراء الفتوحات الإسلامية؛ فإنَّ محمدًا يُصبِحُ أعظمَ قائدٍ سياسيٍّ على مدى الأجيال"!
وقد فصَّلَ بعضُهم عظمةَ السياسةِ النبوية وعزاها إلى التوفيقِ في رؤيةِ المستقبلِ والحكمةِ السياسية والبراعةِ الإدارية، كما قال (مونتغمري وات) في كتابه (محمد في مكة): "لولا هذا المزيجُ الرائعُ من الصِّفات المختلِفة الذي نَجِدُه عند محمدٍ لكان من غير الممكنِ أن يتمَّ هذا التوسُّع... ونستطيعُ أنْ نُميِّزَ ثلاثَ هِباتٍ مُهِمة أُوتِيَها محمد. وكانت كلُّ واحدةٍ منها ضَرُوريةً لإتمامِ عَملِ محمدٍ بأكملِه؛ لقد أوتِيَ أولاً: مَوهِبةً خاصةً على رؤيةِ المستقبل، فكان للعالَمِ العربي بِفَضلِه أو بِفَضلِ الوحيِ الذي ينزل عليه حسبَ رأيِ المسلمين أساسٌ فكريٌّ إيديولوجي حُلَّت به الصعوباتُ الاجتماعية، وكان تكوينُ هذا الأساسِ الفِكري يتطلبُ في نفسِ الوقتِ حَدَسًا ينظرُ في الأسبابِ الأساسية للاضطِرابِ الاجتماعي في ذلك العصر، والعبقرية الضرورية للتعبيرِ عن هذا الحدَسِ في صورةٍ تستطيعُ إثارةَ العربِ حتى أعمق كيانِها. وكان محمد ثانيًا رجلَ دولةٍ حكيمًا، ولم يكن هَدفُ البناء الأساسي الذي نجدُه في القرآن سوى دعمِ التدابيرِ السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية. ولقد ألْحَحْنا خلالَ هذا الكتابِ غالبًا على استراتيجيةِ محمد السياسية البعيدة النظرِ على إصلاحاته الاجتماعية. ولقد دلَّ على بُعدِ نَظرِه في هذه المسائلِ الانتشارُ السريعُ الذي جعلَ مِن دولتِه الصغيرة إمبراطورية، وتطبيق المؤسسات الاجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلال أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. وكان محمد ثالثًا: رجل إدارة بارعًا، فكان ذا بصيرة رائعة في اختيارِ الرجالِ الذين يندبُهم للمسائلِ الإدارية؛ إذْ لن يكونَ للمؤسسات المتينة والسياسةِ الحكيمة أثرٌ إذا كان التطبيقُ خاطئًا متردِّدًا. وكانت الدولة التي أسَّسها محمد عند وفاته مؤسَّسةً مُزدهِرةً تستطيعُ الصُّمودَ في وجهِ الصدمة التي أحدثَها غيابُ مؤسِّسها، ثم إذا بها بعد فترةٍ تتلاءمُ مع الوَضعِ الجديدِ وتتسعُ بسُرعةٍ خارقةٍ اتساعًا رائعًا".
وذكر بعضُ المفكِّرين بعضَ صفاتِ النجاح الذي حظيت به السياسة النبوية، مثل: قوة التنظيم وشدة الحيوية والورع والقتالية والعفو عند المقدرة، والتوفيق في إدراك مصلحة الدولة المسلمة بين القوة العسكرية والمعاهدات السياسية، كما عبَّر عن ذلك مارسيل بوازار في كتابه (إنسانية الإسلام) بقولِه: "لم يكنْ محمد على الصعيدِ التاريخي مُبشِّرًا بدينٍ وحسبُ، بل كان كذلك مؤسِّسَ سياسةٍ غيَّرَت مجرى التاريخ، وأثَّرَت في تطوُّرِ انتشارِ الإسلامِ فيما بعدُ على أوسَعِ نطاق". وقال كذلك: "منذ استقرَّ النبيُّ محمد في المدينة، غدت حياتُه جزءًا لا ينفصلُ من التاريخ الإسلامي. فقد نقلت إلينا أفعالَه وتصرُّفاته في أدقِّ تفاصيلها. ولما كان مُنظَّمًا شديدَ الحيوية، فقد أثبتَ نِضاليةً في الدفاعِ عن المجتمعِ الإسلامي الجنيني، وفي بثِّ الدعوة. وبالرغم من قِتاليتِه ومُنافحتِه، فقد كان يعفو عند المقدِرة، لكنه لم يكنْ يَلِينُ أو يتسامحُ مع أعداءِ الدين. ويبدو أنَّ مزايا النبيِّ الثلاث: الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمعَ الإسلامي في إبان قيامه وجسَّدت المناخ الروحي للإسلام. وكما يظهر التاريخ الرسولَ قائدًا عظيماً ملء قلبه الرأفة، يُصوِّره كذلك رجلَ دولةٍ صريحًا قويَّ الشكيمة له سِياستُه الحكيمة التي تتعاملُ مع الجميع على قدمِ المساواة وتُعطي كلَّ صاحبِ حقٍّ حقَّه. ولقد استطاع بدبلوماسِيته ونزاهتِه أن ينتزعَ الاعترافَ بالجماعة الإسلامية عن طريقِ المعاهداتِ في الوقتِ الذي كان النصرُ العسكريُّ قد بدأ يُحالِفُه. وإذا تذكَّرْنا أخيرًا على الصعيدِ النفساني هشاشةَ السُّلطان الذي كان يتمتع به زعيمٌ من زعماءِ العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلِّي بها، استطعْنا أنْ نستخلِصَ أنه لابدَّ أن يكون محمد الذي عرفَ كيف ينتزعُ رضا أوسعِ الجماهيرِ به إنسانًا فوق مُستوى البشرِ حقًا، وأنه لابدَّ أن يكونَ نبِيًا حقيقيًا مِن أنبياءِ الله".
وسيأتي بإذنِ الله في ذِكْرِ خواطِرِ السِّيرةِ النبوية من (شم الطيب من شمائل الحبيب) الإشارةُ إلى الجوانبِ العظمة القيادية والسياسية للنبي صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آلِه وصحبِه ومن والاه.