نحن والغرب والهوية

نحن والغرب والهوية
اهتم الغربيون بالأفكار والظواهر والبحوث والعلوم اهتماماً مجرداً من أي رائحة سماوية؛ فلا طعم لوحي فيه، ولا فضل يردونه لمن سبقهم من الباحثين والعلماء وخاصة لو كانوا مسلمين، كما أن أغلب الأفكار والاختراعات الغربية تجد وراءها العسكريين والدوائر الاستخبارية.
أما العلوم التي جاءتهم من المسلمين – بحتة أو غير بحتة – فقد تسببت في تقدمهم المادي، وغيرت في مدنيتهم وسلوكهم الحضاري كثيراً؛ حيث لم تتجل الألفاظ العربية شاهدة على هذا في المصطلحات العلمية فحسب، ولا أسماء علماء المسلمين عندهم؛ بل بداية من التحية Hello، أو هلاً، والاستئذان please، أو بالإذن؛ مروراً بالتعامل مع نظرائهم another's؛ حسب القوانين canons، والعدالة والقسط just؛ حتى تأقلموا aclmise؛ على بيئة المسلمين، وحضارتهم، وكلامهم..
لكن الإعلام يردد وينوع أكذوبة أن الإسلام غير صالح لعصرنا، وتتضافر معه أساليب ووسائل التنشئة المغلوطة، والتاريخ المكذوب، والحقائق المبدلة.. ويردد هذه الأكذوبة حتى بعض أبناء الإسلام بحجة تطويره.. وتجد هذه الدعاوى طريقها بين الناس؛ لأنهم أكثر استعدادا لتصديق كذبة تذكر مائة مرة منهم لقبول حقيقة تسمع مرة؛ كما تقول الحكمة عن طبيعة البشر..
ولأنا فصمنا أنفسنا - إلا من رحم الله - عن وحي السماء؛ وصارت لا قيمة للبحث الموضوعي الجاد عندنا رغم اهتمامنا بالعلوم رسخ في كثير من الأذهان أن المسلمين هم أهل التخلف الحضاري والمدني، وهم في حاجة لحضارة الغرب الفريدة بما فيها ومن فيها.. وزاد المسلمون تخلفاً بانشغالهم بمحاربة المستعمرات الفكرية داخل عقول بعض المسلمين.
فإن كانت الحضارة الإسلامية ليست ذات أثر بالغ، وليست هي أساس حضارة أوروبا ومدنيتها المتغولة colonist فمن أين امتلأت قواميسهم بالألفاظ العربية الواضحة؟!.. علّ هذا ما شهد به جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم؛ حيث أورده على سبيل الدفاع في كتابه (العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية) مع بعض الشهادات التي سأذكرها؛ حيث قال: (كانت اللغة العربية في منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي لغة العلم الارتقائية للجنس البشري؛ حتى إنه كان يستوجب على من أراد أن يلمّ بثقافة عصره، وبأحدث صوره أن يتعلم اللغة العربية).. بل وقال: (كتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية خلال العصور الوسطى)..
إذن فلن أستغرب حين أجد القاموس الإنجليزي مليئا بمثل الكلمات العربية: straight، street، arena، gide، captain، sigar، cave، start، وغيرها، وغيرها؛ ولكن هل يغطون الشمس بالأصابع؟!.. هذا ما ذكره لوسيان سيديو في كتابه (تاريخ العرب) من ذات المصدر: (ولقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب، ولكن الحقيقة ناصعة؛ يشع نورها من جميع الأرجاء؛ وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلاً أو آجلاً.. وقال في كتابه هذا: (خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية تكونت مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة، واختراعات ثمينة؛ تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر؛ وجميع ذلك تأثرت به أوروبا؛ بحيث ينبغي القول بأن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة)..
ومن الشهادات التقديرية التي منحها الغربيون للحضارة الإسلامية كذلك شهادة يرونلت في كتابه (تكوين الإنسانية) حيث قال: (العلم أعظم ما قدمته الحضارة الإسلامية إلى العالم الحديث عامة، والجدير بالذكر أنه لا توجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلا ويظهر للإنسان فيها أثر الحضارة والثقافة العربية، وأن أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي؛ الذي كان المحرك للتطبيق العلمي على الحياة.. وأن الادّعاء بأن أوروبا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادّعاء باطل، وخال من الصحة جملة وتفصيلاً).
مثل هذه الشهادات ينبغي أن يسمعها كل العالم؛ بكل اللغات؛ طالما تعذر سماعها باللغة العربية؛ بعد خصيها، وإقصائها، وغليها، وقليها.
فمن المضحك الذي يبكي أن يصير اللفظ العربي بمعناه عند الأوروبيين، ويتغير عندنا لفظاً؛ ككلمة كحول، وربما لفظاً ومعنى ككلمة تغوَّل colonization؛ مع اختلاف المخارج الحرفية، وصيغ الاشتقاق.. ولأن هذا اللفظ الأخير مرعب حتى إنا لنخيف به الأطفال (غول)، ودول الغرب هي الأنموذج الظاهر لشرح معناه أبدلوه لنا في ألفاظنا بكلمة (استعمار)؛ لطيفة الحروف، جميلة المعنى؛ كدليل واضح على توجيههم لحضارتنا وهويتنا وتاريخنا.. بل عندما استهلكنا اللفظ الجديد؛ لكثرة ما عكس حقيقة التغول الغربي - قدموا لنا كلمة (المستوطنات)؛ كبديل آخر من ألفاظ الاستعمار الحديثة..
وعندما يصنع الغرب لغتنا الجديدة، وديننا الجديد، ويدرسنا تاريخنا من زاوية سوداء، وتاريخه من زاوية ناصعة مكذوبة؛ حتى نمجد هنري الملاح، وفاسكوديجاما (قتلة المسلمين) وتنسب لهم زوراً الفتوح، وعندما يوجه تفكيرنا لا يأمرنا بذلك أمراً؛ وإنما هي أطياف ظريفة؛ تسوق الناس مع خطى الشيطان، ونسمات لطيفة تجري مجرى الدم؛ لنجد بعدها أعناقنا محنية، وعيوننا تنظر تحت الأقدام؛ بحثاً عن الهوية، وأيدينا ماسكة بها أوروبا لتهدينا.. نعم طالما أنهم أغنونا عن البحث في حضارتنا؛ فبحثوها - وما زالوا – وصنفوها، وبوّبوها، وفهرسوها، وأظهروا لنا منها ما أرادوا، ودلسوا ووسوسوا فيما أرادوا؛ فانبهرنا بجهدهم فيها؛ لا بها ولا بمن أسسوها؛ فهل ننكر أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم قام بجمعها وفهرستها مستشرقان فقط في مؤلف ضخم من عدة مجلدات، وأن طوائف المسلمين ونحلهم قاموا بدراستها وتصنيفها مستعينين بكتابات وبحوث المسلمين بل حتى طوائف وأديان غير المسلمين؟، وهل نكذب أنه حتى في أيامنا هذه الآن قاموا باستقراء كل المسلمين وخلصوا إلى تصنيفهم إلى أربعة أكوام، إما أصوليون، أو علمانيون، وإما حداثيون أو تقليديون؟، أم ننكر أننا إذا أردنا أن نتعرف على الأحوال العالمية لكل شيء في أي بلد سنستعين بالدوريات العلمية لهم، أو مراكز المعلومات عندهم؛ كالدورية التي تصدر كل عام من نيويورك World Almanak & book of facts
لن نستطيع الإنكار؛ ولكننا لن نتنكر لحضارتنا؛ وإن آلت لغيرنا.
المصدر: http://www.meshkat.net/node/12060