التربية السياسية في القرآن الكريم

التربية السياسية في القرآن الكريم

 

 

التربية السياسية في القرآن الكريم تقوم على أسس راسخة , و أصول ثابتة , و قواعد محكمة . و هي تقوم أول ما تقوم على معرفة الله تعالى و خشيته و تقواه , و ردّ الأمر إليه جميعا :( و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) و انظر إلى هذا التنكير العجيب " من شيء " يعني : ما من شيء يقع فيه تنازع و " إختلاف " إلا كان مرده إلى الله يقضي فيه بكلمته و يفصل فيه بحكمه و يقطع فيه بأمره سبحانه ( و إن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا ) , و هكذا تؤسس السياسة و تبنى ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير أمّن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم و الله لا يهدي القوم الظالمين ) . أما من أراد أن يؤسس السياسة و يبين أطرها بعيدا عن نور القرآن و هدى القرآن فإنه إنما يريد أن يقيم بنيانه على أساس شيطاني هش و سيكون بنيانه ريبة في قلبه , و سيأتي الله بنيانه من القواعد و سيخر عليه السقف من فوقه و ذلك لأن هوى الناس مذاهب و مزاجهم متقلب , و علمهم قليل و من أراد أن يحكم بالهوى المستحكم و المزاج المتقلب و العلم القليل فإنه واقع في هاوية سحيقة لا محالة ( و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ) ( ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير) .
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ** سعي الفتى و هو مخبوء له القدر
و من تلك الأسس الراسخات و الأصول الثوابت و القواعد المحكمات التي يقوم عليها بنيان السياسة الشرعية " العدل " , و العدل صفة ملازمة للذات العلية , و اسم من أسمائه سبحانه تبارك اسمه و تعالى جده لا إله غيره و لا رب سواه . و لا سبيل إلى تحقيق العدالة الحقة إلا عن طريق الشرع الإلهي القويم , و ذلك أن الناس كلهم بشرائحهم المختلفة و مناهجهم المتباينة ... بأعراقهم و أصنافهم , بألوانهم و أجناسهم , بألسنتهم و لغاتهم ... كلهم بلا إستثناء خلق لله و عبيد لله , فلا يحل لأحد أن يشمخ على أحد أو أن يفخر عليه ( و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما و إليه المصير ) . الرب واحد و الأصل واحد ( يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) , و هذا ما أكده صلوات الله و سلامه عليه في خطبه و رسائله و أحاديثه و أفعاله ( أيها الناس كلكم لآدم و آدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( لينتهين رجال عن المفاخرة بأقوام هم حطب جهنم أو ليجعلنهم الله اذل من الجعلان ) ( طف الصاع طف الصاع ليس لإبن بيضاء فضل على إبن سوداء إلا بالتقوى إنك امرؤ فيك جاهلية ) ( إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه و أيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها ) إنه العدل الذي تحقق مرة و يمكن ان يتحقق مرات ما استقام الناس على الهدي القرآني ذي النور المتوقد الوهاج ... إنها المدرسة التي تخرج فيها أمثال عمر بن الخطاب الذي قال فيه الشماخ بن ضرار الغطفاني يرثيه :
جزى الله خيرا من إمام و باركت ** يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسح أو يركب جناحي نعامة ** ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ** له الأرض تهتز العضاة بأسوق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ** بوائق في أكمامها لم تفتق

إنه العدل الذي جعله يقف في الناس خطيبا قائلا ( إن لكم علي ألا أحبس عنكم خراجا و لا فيئا و ألا أحتجب عن صاحب حاجة و لو جاءني طارقا بليل و إن غبتم في البعوث فأنا ابو العيال حتى ترجعوا ) ( أيها الناس : أما أني لا أبعث لكم بالعمال ليأخذوا أموالكم و لا ليضربوا أبشاركم , و إنما ابعثهم ليعلموكم دينكم , و أيم الله لأقتصن من المعتدين , فوثب عمرو بن العاص السهمي و قال له : أرايت يا امير المؤمنين إن أدب احدنا أحد رعاياه أوكنت مقتصا منه ؟ قال بلى و الله ما لي لا أفعل و قد رأيت رسول الله يقتص من نفسه صلوات الله و سلامه عليه ) . إنه العدل الذي جعل عمر بن الخطاب يقول لبعض الأقباط و قد ضربه إبن الحاكم عمرو بن العاص و هو يقول أنا إبن الأكرمين : إضرب إبن الأكرمين ... لقد نفخ القرآن في روح تلك الأمة فدبت فيها الحياة و كتب لها الخلود و ضربت من الأمثلة المشرقة المشرفة ما يزين الإنسانية و يطيب الوجود ... لقد احيا القرآن القلوب بما سكب فيها من نور , و ما أفاض عليها من سلسبيل فما عادت تخشى حاكما , و لا ترهب زعيما , و إنما هي المناصحة القلبية
و القولة النافذة ( لو رأينا فيك إعوجاجاٌ لقومناك بحد سيوفنا ) , و القلوب ما لم تكن ملكا لمن خلقها و عدلها و سواها فإنها تطير شعاعا ممن يملك سلطة أو سطوة أو جاها .
أو لم يقل نابغة بني ذبيان للنعمان :
نبئت أن أبا قابوس أوعدني ** و لا قرار على زأر من الأسد
أو لم يقل له :
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ** و تلك التي أهتم منها و أنصب
أو ما قال :
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ** و تلك التي تصطك منها المسامع
أم أنه لم يقل :
و عيرتني بنو ذبيان خشيته** و هل علي بأن أخشاك من عار
بلى , لقد ملأ النعمان أقطار نفسه فامتلأ منها رعبا :
فإنك كالليل الذي هو مدركي** و إن خلت أن المنتأى عنك واسع
و اسمع ما يقوله الفرزدق في زياد و قد تهدده و توعده :
إذا ذكرت نفسي زياداً تكشمت **من الخوف أحشائي و شابت مفارقي
و اسمعه يقول لسعيد في لاميته :
و كوم تنعم الأضياف عنا ** و تصبح في مباركها بقالا
قال :
إليك فررت منك و من زياد** و لم أحسب دمي لكما حلالا
وإن تك في الهجاء تريد قتلي ** فقد قلنا لشاعرهم و قالا
أما لو أن هذه القلوب عرفت طريقها إلى الله تعالى لما تزلزلت من المخلوقين ذلكم الزلزال ... إذن لقالت كما قال السحرة لفرعون ( فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا )
إذن لقالت كما قال شاعرنا العباسي :
لا أكفر الرحمن نعمته فلي** فضل بفضل لساني المفتوق
ما لي اخوف بالعباد و إنما **أمري إلى الخلاق لا المخلوق
ما دمت سباقا فليس بضائري ** أبدا مقال مدفع مسبوق

لقد حرر القرآن بتربيته السياسية القويمة القلوب من اسر الخوف و الرهبة و الخشية إلا من الله رب العالمين ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل ) و لن ينصلح حال أمة يخشى افرادها من كلمة حق تقال ( إذا رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ) و ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) . و القرآن يسعى ليسود الحق و العدل , و ليقوم الناس بالقسط , و ما أنزل القرآن إلا لتحقيق ذلك الهدف و الوصول إلى تلك الغاية . يريد للناس إذا قالوا أن يعدلوا و لو كان ذا قربى , و إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل , إنه فرض لازم و واجب محتوم ما هي بنافلة و لا فضلة ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) و في قوله سبحانه ( إن الله كان سميعا بصيرا ) تحذير شديد من النكوص عن أداء هذا الواجب و الإضطلاع بتلك المسئولية . و العدل واجب مفروض على كل حال ... فلا يجوز للكراهة أن تحول بينك و بينه , و لا يجوز للغضب أن يقف سدا يحجبك عنه ( يا ايها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا الهدي و لا القلائد و لا آمّين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا و إذا حللتم فاصطادوا و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) أي حق , و أي عدل , و اي سماحة ... في عسرك و يسرك , في منشطك و مكرهك , في غضبك و رضاك .. مع الناس جميعا المخالف منهم و الموافق ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم و من يتولهم فأولئك هم الظالمون ) ..

المصدر: http://www.meshkat.net/node/12029

الأكثر مشاركة في الفيس بوك