حوار في المدينة

حوار في المدينة

 

نحن المسلمين أصدقُ أصدقاء الحوار النَّزيه السليم، وأعدى أعداء الجدال المغشوش العقيم، نحن المسلمين أهل لغة الحوار الرَّاقية، وأصحاب أهدافه السامية، نجمع بين لفظه السليم، وفكره المستقيم ولا نرضى أن يتحوَّل إلى شِبَاكٍ سوداء الخيوط تُلقى في مياهٍ ضَحْلةٍ عكرةٍ لاصطياد أسماكِ نافقة فاسدة؛ متى يكون ذلك؟؟.
متى نكون أصحاب هذا الرُّقيَّ الذي نعتزُّ به؟، حينما نرقى إلى مستوى قوله تعالى: {فّلا وّرّبٌَكّ لا يٍؤًمٌنٍونّ حّتَّى" يٍحّكٌَمٍوكّ فٌيمّا شّجّرّ بّيًنّهٍمً ثٍمَّ لا يّجٌدٍوا فٌي أّنفٍسٌهٌمً حّرّجْا مٌَمَّا قّضّيًتّ وّيٍسّلٌَمٍوا تّسًلٌيمْا}. حينما نضع أمام أعيننا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما ضلَّ قومٌ بعد هدىً إلا أوتوا الجدل»، هنا نرقى بالحوار، ويرقى الحوار بنا.
في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حدث موقف حوارٍ يدلُّ على ما أشرت إليه من أننا نحن المسلمين أهل الحوار الذي يوصِّل الناس إلى الحق، ويُرضيهم به.
تقول الرواية: أُتي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بجماعة، فيهم أبو محجن الثقفي، وقد شربوا الخمر، فقال: أشربتم الخمر وقد حرَّمها الله، وأقام الحدَّ على شاربها رسوله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما حرَّمها الله ولا رسوله، واستدلُّوا على قولهم هذا بقوله تعالى: {لّيًسّ عّلّى الّذٌينّ آمّنٍوا وّعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ جٍنّاحِ فٌيمّا طّعٌمٍوا إذّا مّا اتَّقّوًا وَّآمّنٍوا وّعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ} فبيَّن لهم عمر أنَّهم قد فهموا الآية على غير وجهها الصحيح الذي يعرفه المسلمون، ثم قال لأصحابه الحاضرين؛ ما ترون في هؤلاء القوم، وقد سمعتم منهم ما قالوا عن شربهم الخمر وفهمهم لمعنى الآية الكريمة؟، فاختلفوا فيهم، فبعث عمر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما حضر عليٌّ شاوره عمر أمام الجميع في شأن هؤلاء، وأخبره بما قالوا عن فهمهم لمعنى الآية الكريمة، فقال عليٌّ رضي الله عنه، مستخدماً الحجة والبرهان إنْ كانت هذه الآية كما يقولون وبحسب ما يفهمون فينبغي أن يستحلُّوا مع الخمر الميتة والدَّم ولحم الخنزير، لأن جملة «فيما طعموا» عامَّة في ذلك كلِّه.
فلما سمعوا ما قال عليٌّ سكتوا مدركين لخطئهم، فقال عمر لعليٍّ: ما ترى فيهم يا أبا الحسن، قال علي: أرى إنْ كانوا شربوها مستحلِّين لها أنْ يُقْتلوا، وإنْ كانوا شربوها، وهم يؤمنون أنها حرام أن يُقام عليهم الحدُّ فسألهم عمر، فقالوا: والله ما شككنا أنَّها حرام، ولكنَّا قدَّرنا أنَّ ما قلناه في معنى الآية سوف يُنجينا من العقاب، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يُقام عليهم الحدُّ، وهو الجلد الواجب شرعاً في عقاب شارب الخمر، فلما وصل الجلد إلى أبي محجن، أنشأ يقول:


ألم تر أنَّ الدَّهر يعثُر بالفتى
ولا يستطيع المرءُ صَرْفَ المقادر
رماها أمير المؤمنين بحتفها
فخلاَّنها يبكون حول المعاصر
وإني لذو صبرٍ وقد مات إخوتي
ولست عن الصَّهباء يوماً بصابر

قال عمر: لقد أبديت بشعرك ما في نفسك، ولأزيدنَّك عقوبةً بإصرارك على شرب الخمر، قال عليٌّ: ما ذلك لك يا أمير المؤمنين، وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال: لأفعلنَّ، ولم يفعل، وقد قال الله عز وجل: {وّأّنَّهٍمً يّقٍولٍونّ مّا لا يّفًعّلٍونّ} فقال عمر: قد استثنى الله منهم فقال سبحانه وتعالى: {إلاَّ الّذٌينّ آمّنٍوا وّعّمٌلٍوا الصَّالٌحّاتٌ} ، قال علي: أفهؤلاء الذين شربوا الخمر من المؤمنين؟، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يشرب العبدُ الخمر حين يشربها وهو مؤمن»، فكفَّ عمر رضي الله عنه عن زيادة العقاب على أبي محجن. نموذج من نماذج الحوار الذي يدور بما فيه من الصدق والوضوح في فلك القرآن والسنَّة لا يعدوهما لأنهما كاملان بإكمال الله لدينه وإتمامه لنعمته. وهذا هو الحوار الهادف الذي يسعد به الجميع.
إشارة


ما كلُّ خالٍ فوق خدِّ مليحةٍ
يحلو، ولا كل القلوب تُهَاجُ

 

المصدر: http://www.meshkat.net/node/11474

الأكثر مشاركة في الفيس بوك