الإسلام والحكومة المعاصرة
الإسلام والحكومة المعاصرة
- د بسطامي محمد خير
- أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة بيرمنجهام
فجوات لم تسد بحث كثير من المفكرين المعاصرين في حقيقة الحكومة الإسلامية المعاصرة وبينوا في مؤلفات شائعة ومعروفة نظرياتها وأشكالها ووظائفها وطريقة اختيارها وتسييرها لشئون الحكم. وكل تلك جهود ضخمة مثمرة. لكن نظرة فاحصة للفكر السياسي المعاصر توضح بجلاء أنه لا تزال هنا وهناك فجوات كثيرة في قضايا السياسة الإسلامية تحتاج إلى مزيد من النظر. وأول تلك القضايا التي تستحق التأمل والتدبر مسألة الحكومة المعاصرة، وأعني بذلك طبيعتها ودورها في المجتمع. فمن المعلوم أن الحكومة المعاصرة قد نشأت في الغرب وتحورت وتبلورت في شكلها الحالي وفق ظروف تاريخية خاصة. وحين تحدث الناس عن نظام الحكم في الإسلام افترضوا بداهة أن الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر ستضطلع بنفس الدور الذي تؤديه المؤسسة الحكومية في الغرب ، وتقبلت أذهانهم بعفوية أنها لن تكون غير نسخة منها. ولم ينشأ في مخيلة الكثيرين أية تساؤلات عن صلاحية النموذج الغربي للبيئة الإسلامية وعن مناسبة ذلك القالب الحكومي لمجتمعات تختلف اختلافا بيّنا عن مجتمعات الغرب في قيمها وأعرافها. واعتقد الناس أن من المفروغ منه أن تأخذ الحكومة الإسلامية في العصر الحاضر الشكل الذي يشاهدونه بأم أعينهم للحكومات المعاصرة في كل أنحاء المعمورة، ولم يدر بخلدهم أنه من الممكن أن يكون هناك نموذج مختلف وشكل أفضل.
وإذا أردنا أن نعيد النظر في هذه القضية فيحسن بنا أن نلم في عجالة بأصول التصور الغربي للحكومة وكيف أثر ذلك في صياغة الشكل المعاصر المعروف.
لعل من التعبيرات الصادقة في وصف الدولة المعاصرة وحكومتها ذلك الوصف الذي أسبغه عليها فيلسوف السياسة الإنجليزي توماس هوبز. فهو يرى أن أفراد المجتمع يذوبون في جسم واحد ويتحدون جميعا ليكونوا ماردا جبارا هو الدولة وحكومتها. وقد شبه هوبز هذا المارد - أي الدولة - بوحش أسطوري مذكور في الإنجيل وموصوف بأنه أعظم وأكبر الوحوش سطوة وقوة، ولا يدانيه شئ في قوته على وجه الأرض. ويمضي إلى القول بأن الدولة في الحقيقة ما هي إلا إله في الأرض. والحجة الأساسية عند هوبز لتسليم الناس عن طواعية أنفسهم لهذا المارد الذي يبتلع أفراد المجتمع جميعا، أنه بدونه لن يستتب نظام أو يتحقق أمن أو سلام.
وتحققت خيالات هوبز وصارت الدولة المعاصرة وحكومتها ماردا ضخما يمسك بزمام الأمور كلها صغيرها وكبيرها، حقيرها وجليلها. فكل شئ في حياة البشر في يد الدولة التي تعددت وظائفها وتنوعت حتى فاقت الحصر. وصارت الدولة تملك كل شئ وتتصرف في كل شئ وتضطلع بخدمات جمة، ولك أن تعدد ما تشاء من ذلك، من أمن وصحة وتعليم ومياه وطاقة وطرق ومواصلات وإعلام واتصالات. والقائمة طويلة ومعروفة، إلى أن ناءت الحكومة بهذا الحمل الثقيل وأطت ولات حين مناص. وأحكمت الدولة قبضتها على كل شيء، حتى أصبح الحاكم يتدخل في حياة الناس الشخصية، ولا بد من إذن الحاكم في غالب الأحيان في كثير من الأمور، وفي عدد كبير من بلدان العالم يحصي الحاكم على الناس أنفاسهم و يرصد هواجسهم وهمساتهم حتى في أكثر البلاد حرية. ومع أنه من الناحية النظرية فإن السلطات الثلاث من تشريع و تنفيذ وقضاء مستقلة عن بعضها البعض نظريا، لكن من الناحية العملية تتداخل هذه السلطات وتتمركز في أيدي فئة قليلة تسيطرعليها وتحركها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهكذا أصبحت الدولة في كثير من صورها كما وصفها هوبز ماردا عملاقا ووحشا أسطوريا وإلها على الأرض.
وأصبحت المشكلة الرئيسية في بلاد الغرب فيمن يركب على ظهر هذا الوحش ويمسك بقرونه. وحين زالت سلطة الملوك وصاروا زينة تتزين بهم الدولة، قفزت الرأسمالية وروضت المارد لمصلحتها وأثقلت الناس بالضرائب الباهظة لتتمكن الدولة من القيام بخدماتها المتعددة وطحنت الطبقات الدنيا تحتها. وظهرت الحركات الاشتراكية تبشر الناس بزوال الظلم إذا ركب العمال على ظهر الوحش، ووصل المغامرون بثورات هزت الدنيا إلى كراسي الحكم، فأذاقوها من الويلات أضعاف ما ثاروا من أجل إصلاحه.
وحاولت كثير من الحكومات أن تدخل تعديلات على أشكالها، فوسعت من بعض الحريات الشخصية، وقللت من عبئها الضخم الذي تنوء به الجبال، بأن حولت بعض الخدمات إلى القطاع الخاص. ولكن هذه الخطوات صبت في صالح الرأسماليين وفي صالح فئة قليلة هي التي تمسك بزمام الأمور ف حقيقة الأمر، وهي التي تستأثر به ولا تفرط فيه قيد أنملة. ولها من الأساليب السحرية والماكرة الكثير المعروف، حتى أضحت السياسة مرادفة للمكر والخديعة والمكيدة والكذب والرياء والنفاق.
وقد استوردت هذه الصورة للحكومة المعاصرة إلى حوزة ديار المسلمين، عن طريق البطش الاستعماري أحيانا، أو عن طريق التقليد الأعمى للغرب أحيانا أخرى. وهاهنا وقفة لابد منها مع الفكر السياسي الإسلامي. إذ أن هذا الفكر قد تقمص هذا الشكل للحكومة المعاصرة وألبسها ثوب الإسلام دون روية ودون تفكير في: هل هذا الشكل أمر حتمي لا بد للناس أن يلتزموا به ويأخذوا بقوالبه؟. ولنا عودة لمناقشة هذا الموضوع والبحث عن كيف كان المجتمع الإسلامي في العصور السالفة يحكم نفسه ، ولنرى هل تتلاءم طريقة الحكم هذه مع ما تعارفنا عليه من هذا الشكل الغربي المستورد ، أم أنه من الممكن أن نطور حكوماتنا الإسلامية التي عرفتها العهود الماضية لعلها تكون أفضل مما عهدنا في حاضرنا.