قبس من حوارات النبي صلى الله عليه وسلم

قبس من حوارات النبي صلى الله عليه وسلم

 

من الأساليب التي اتبعها الرسول في مخاطبته الناس التحاور والتشاور والمراجعة والسؤال والأخذ والرد .. وقد يبدأهم الرسول ويبدههم قائلا: إلا أخبركم بكذا وكذا، ألا أنبئكم بكذ وكذا، فيقولون بلي يا رسول الله فيقول كذا وكذا،روي الإمام الترمذي قال: قال رسول الله ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الذهب والورق، وخير لكم من تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا بلي يا رسول الله : قال ذكر الله ) وقد تعمد الرسول الكريم استعمال جمل تستدعي الاستفسار من أصحابه، وتحتاج إلى شرح منه صلوات الله وسلامه عليه، كأن يقول لهم في الحديث الذي رواه مسلم ( سبق المفرِّدون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله، قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) وفي حديث ابن عمر قال : قال رسول الله:( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة يا رسول الله قال حِلَق الذكر، وأن لله تعالى سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم)، والقصد إلى التعليم والإرشاد ظاهر بين في هذه الأحاديث وأشباهها، وهي تعتمد علي عنصر التشويق الذي أشرنا إليه في مناسبة سابقة فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكثر شوقا إلى معرفة ما يقربهم إلى الله زلفى، وهم رضي الله عنهم كانوا أكثر شئ حنينا إلى الجنة، وطمعا ورغبة في رياضها الطيبة الفيحاء، وكان صلى الله عليه وسلم في تحاوره مع الناس، شديد الحرص علي الأخذ بأيديهم والرحمة بهم، والرأفة عليهم، فلم يك صلى الله عليه وسلم فظاً غليظ القلب ولم يك جافيا بل كان رحيما مخفوض الدفء والجناح لعباد الله المؤمنين، وكان من شأنه إذا كره شيئا من سلوك الأصحاب، أو أنكر بعض ما يأتون، لجأ إلى التلميح ونأى عن التصريح ووجه توجيها عاما لا يذكر فيه اسماً ولا لقباً ولا كنية، خشية أن يشعر المسمى بشيء من الضيق والحرج إذ ينال نصيب من التشهير والتجريح.
وتكريمه صلى الله عليه وسلم للناس معروف، وأخذه بالتهذيب معلوم وتعاهدهم بالتربية مذكور، قالوا أفحش أحد من الصحابة علي رجل من المشركين أساء الأدب مع الرسول الكريم وقال في وقاحة وصفاقة : إن كنت حقا رسول الله أخبرني ما في بطن هذه الناقة، ولم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي أن يجاري المشرك في الإساءة ، فأمره بالسكوت، وقال له: (مه لقد أفحشت على الرجل)، ثم أعرض عنه فلم يكلمه ثلاثا، ومن يعرف تعظيم الصحابة للرسول والتفافهم من حوله، وتنفيذهم لأوامره، ومسارعتهم في طاعته ومرضاته ومحبتهم لمجالسه وأحاديثه وتوجيهاته يستطيع أن يدرك في سهولة ويسر عقاب ذلكم الصحابي الذي ما قال ما قال إلا غضبا للرسول صلى الله عليه وسلم، ودفعا عنه ولكنه التوجيه النبوي الرفيع الذي لا يبغي عن الخلق العظيم حولا. ولرغبته صلى الله عليه وسلم عن إيذاء أصحابه تجده ينأى عن التجريح والتشهير والتشخيص والإشارة الصريحة، ومن هنا جاءت كثير من أحاديثه صلى الله عليه وسلم مبدوءة بقوله ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) أو ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، من هذا ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.)، ذكر أصحاب السنن أن المعنيين بهذا: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون، الذين سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر، وقال آخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، ولقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا كره شيئاً ذكره، ولم يعيّن فاعله سماحة منه صلى الله عليه وسلم وسجاحة ومروءة وحسن خلق، ولقد كان صلى الله عليه وسلم كيِّساً فطنا وكثيراً ما لجأ إلى المعاريض في محاوراته، ومداولاته؛ قالوا لقيا هو وأبوبكر الصديق شيخاً كبيراً سألاه عن قريش عهد توجهها تلقاء بدر، فقال لهما الرجل: إن أخبرتماني من أنتما أخبرتكما، فوعده الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعلماه، فلما فرغ الرجل من إجابته، وفّى رسول له الرسول الوفِي بما وعد، ولكنه أجاب إجابة ذكيه فضفاضة تحتمل كثيراً من الوجوه، وذلك إذ قال: ( نحن من ماء) وأدخل الرجل في حيرة وتلدّد وتردّد، وتركه يردّد متسائلاً: (ما من ماء، أمن ماء العراق) وهذا ونحوه من ضروب المعاريض التي قيل فيها: ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب).
ومن الأساليب التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم في التوجيه: الأسلوب الذي عُرف عند متأخري البلاغيين بأسلوب الحكيم، وهو أن يجيب المجيب بغير ما يتوقع السائل، والرسول إنما التفت إلى هذا الأسلوب ليلفت السائل إلى ما هو أجل وأهم وأعظم مما سأل عنه، جاءه رجل يسأله عن الساعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟ فالساعة أمر واقع لا محالة (إن الساعة آتيه أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)، وواجب الناس أن يعدوا لها قبل النزول قراها، ويتزودوا لها عملاً صالحاً طيباً، أما السؤال عن ميقاتها فلا طائل وراءه، وخير للناس أن ينشغلوا بما هو أجدى وأنفع وأفيد، ومن التوجيه النبوي الجليل توجيهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للسيدة فاطمة رضي الله عنها إذ جاءته تسأله خادماً وتشكو له جهداً لحقها فقال لها الرسول الذاكر الأواه المنيب: (إذا أويتِ إلى فراشك فسبحي الله ثلاثاً وثلاثين، واحمديه ثلاثاً وثلاثين، وكبريه ثلاثاً وثلاثين فذلك خير لك من خادم)، وهكذا يكون التوجيه، وهكذا تكون النصيحة، وهكذا تكون التربية، والمفلح من اتبع توجيهه، والمفلح من سمع نصيحته، والمفلح من اتخذه معلماً فنال خيري الدنيا والآخرة، فعاش كريماً، ومات كريماً، وبعث كريماً، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

المصدر: http://www.meshkat.net/node/11274

الأكثر مشاركة في الفيس بوك