تحديات العنف للحرِّية والإبداع

تحديات العنف للحرِّية والإبداع

 ماجد الغرباوي*

 

إن تداعيات العنف قد تكون أخطر من العنف ذاته، وان خسائر البشرية والأديان والحضارات تصل حدا يصعب تقدير حجمها. غير أنّ المؤسف أن الممارس للعنف لا يعي حجم ما يترتب على فعله أو أنّه يقصد ذلك مما يكشف عن دواعي نفسية خطيرة.

 

 

تبقى الحرِّية أمل الشعوب المكبلة، وحلما يراود أجيالها المضطهدة، تطمح لرؤيتها يوماً ما إلى أرض الواقع، كي تنتشي بمذاقها وتتمتع بممارستها، وتسترجع كرامتها الممتهنة. لقد ولد الإنسان حرا لولا التسلط والاستبداد والظلم والعنف الذي سرق حرِّيته، حتى كاد يخشى التحدث مع نفسه، فضلا عن البوح بقناعاته ووجهة نظره. ومن تحدى الممنوع وخاطر بإعلان معارضته وبيان وجهة نظره كان مصيره التشريد والسجن والتعذيب والحرمان والقتل في ظل أنظمة استبدادية متسلطة. لكن رغم كل ذلك ظلت الشعوب تطالب بحرِّيتها وتتوق إلى أجواء التحرر من عذاب الاستبداد والعنف لتطرح رأيها وتفصح عن آمالها وتطلعاتها، وتعبر صراحة عن قناعتها، ويكون لها وجود حقيقي يفرض نفسه في المعادلات السياسية.

 

ولا يكتب للمجتمع المدني النجاح ما لم تتوافر أجواء حرة تسمح بالتعدد والاختلاف الذي يتجلى عبر الأحزاب والجمعيات والصحف والمجلات، سيما المعارضة منها. وحينما تتوفر الحرِّية تصبح القرارات، خصوصاً القرارات المصيرية، أكثر متانة وقوة. لأنّها لا تتبلور وتكون قوية إلا بتعدد وجهات النظر، وممارسة النقد بعيداً عن أجواء الخوف والاضطهاد. وهذا بدوره يتوقف على حرِّية الرأي والتعبير. كما أن تقويم تجربة الحكم ونقد الممارسة اليومية للسلطة والمعارضة معا لا تتحقق إلا من خلال أجواء حرة تسمح بذلك.

 

إذن فالحرِّية، التي هي الركن الأساس لقيام المجتمع المدني، تحقق مكاسب عظيمة للفرد والمجتمع معاً. وأوّل تلك المكاسب أنها تشخص نقاط الضعف من خلال النقد البناء وتساعد على صدور قرارات محكمة ومتبناة من قبل الشعب الذي ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في بلورتها. وثانياً، أنّ الأجواء الحرة تساعد على نمو القابليات والإبداع، وتساهم في إثراء التجارب عبر النقد والتقويم الحر والشجاع. ثالثاً، إن الحرِّية توفر أجواء آمنة نقية لا تشوبها شائبة العنف، حتى يتمكن الرأي المعارض من التعبير عن وجهة نظره علنا وأمام الجميع بعيداً عن العنف. وبهذا يتضح أنّ العنف أقوى تحد يواجه الحرِّية، لأنّه يقمع الآخر ويصادر حرِّيته.

 

ثمّ إن قمع الرأي الآخر وإحصاء الأنفاس يتحول بمرور الأيام إلى تمرد، ورفض، وثورة وعصيان، والبحث عن متنفس لتفجير المكبوت وفري الأورام المتخزنة، لينقلب كل شيء ضده، فيسود العنف ويتزعزع الأمن والاستقرار. وهذا ما نشاهده في الدول التي يسودها نظام بوليسي مخابراتي صارم يكمم الأفواه، ويضطهد كل لون من ألوان المعارضة حتى بيان وجهات النظر أو إبداء ملاحظات تقويمية. ويطالب الناس دوماً بالعبودية والطاعة للسلطان. فهذا اللون من نظام الحكم لابدّ أن يواجه تحديات مخزونة تفاجئ الأجهزة الأمنية وتربك الوضع. لذا ليس أمام الأنظمة سوى المزيد من الحرِّية كي يتنفس الفرد ويلقي همومه على صفحات الإعلام ولا يتحول إلى قنابل موقوتة تنتظر الفرصة لتتفجر وتفجر الوضع معها.

 

إذن لا تتحقق مصداقية المجتمع المدني ما لم تكن السلطة مراقبة من قبل برلمان منتخب بشكل شرعي، وصحافة حرّة تعبر بكامل حرِّيتها عن وجهة نظرها، وتلاحق المسؤولين الحكوميين في قراراتهم للتأكد من حماية حقوق الفرد والمجتمع طبقاً للقوانين المعتمدة. وسيِّئة العنف انّه يقمع الرأي الآخر ويحرّم النقد ويتستر على الجريمة والتلاعب والانتهاكات، فيخسر الفرد كرامته بعد ضياع حقوقه. ولا يختص الأمر بالحرِّيات السياسية وإنّما هو شامل لكل الحرِّيات. أي كما أن الأداء السياسي يتطلب هامشاً كبيراً من الحرِّية لتفادي العنف، كذلك الأمر بالنسبة إلى العقيدة والفكر والدين، التي يتوقف أداؤهما على نفس المستوى من هامش الحرِّية السياسية أو أكثر، كي لا يصنع العنف من الاختلافات الفكرية والعقدية والدينية والمذهبية، عقدة نفسية، شعر معها الفرد بالحرمان والاضطهاد، فينقلب أكثر تعنداً وتصلباً لرأيه وعقيدته. بل ويبرر لنفسه ممارسة العنف لتحقيق شيئاً من حقوقه.

 

إنّ الحرِّية داخل المجتمع المدني ستضع العقائد والأفكار في مواجهة تحديات مثيلة تختلف عن تحديات العنف. فيفترض في كل عقيدة آنئذ إثبات جدارتها وعقلانيتها. أي أن الساحة في ظل المجتمع المدني ستتحول إلى ميدان اختبار للأفكار الناجحة والعقائد السليمة، وسينكشف الزيف والتزوير وتسقط الأقنعة والممارسات الخاطئة باسم الدين والعقيدة والفكر، ويصبح البقاء للأصلح منها.

 

ولا شك أن بعض القيمين على الفكر والدين، أيّاً كانوا، يرون في هذا اللون من الحرِّية خطراً حقيقياً عليهم، فيضطرون للدفاع عن مصالحهم باسم الدفاع عن الدين. ولا بأس في ذلك إذ طالما دافع فرعون مصر عن مصالحه الشخصية، التي تعرضت للخطر بسبب دعوة موسى (ع)، باسم الدفاع عن الدين. وكان يحذر قومه من خطر الدعوة الجديدة، مبينا لهم الهدف الحقيقي لموسى، من وجهة نظره، فيقول متهما اياه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر/ 26-27). غير أن بعض قطاعات المجتمع سرعان ما اكتشف خديعة فرعون والتحقت بالحق المتمثل بموسى (ع). إذا هامش الحرِّية الكبير الذي يوفره المجتمع المدني سيفضح الوجوه المقنعة بقناع الدين أو الفكر أو السياسة أو الوطنية وما شابه ذلك، بعد تلقى المواطن ثقافة حرّة مباشرة تنمّي فيه قدرة كبيرة على النقد وترقى به إلى مستوى المسؤولية السياسية تجاه الحكم، فيختار من له مصداقية تؤهله لتسنم السلطة كأداة لخدمة الوطن والمواطن معاً دون الاستئثار بها أو تكريسها لمصالحه الشخصية أو الحزبية.

 

إذا نخلص من إستعراض التحديات أن تداعيات العنف قد تكون أخطر من العنف ذاته، وان خسائر البشرية والأديان والحضارات تصل حدا يصعب تقدير حجمها. غير أنّ المؤسف أن الممارس للعنف لا يعي حجم ما يترتب على فعله أو أنّه يقصد ذلك مما يكشف عن دواعي نفسية خطيرة.

 

 

المصدر: الموسوعة الاسلامية

الأكثر مشاركة في الفيس بوك