العمق الحضاري للخطاب الإسلامي
العمق الحضاري للخطاب الإسلامي
أظهر ما يميز الخطاب الإسلامي عن ما سواه، ما فيه من المضامين الحضارية التي تجعل حضارة الإسلام أعمق الحضارات، والخطاب الإسلامي أسمع خطاب، وأوعى خطاب، وليس ذلك دعوة عصبية، أو تقريظ وهمي، أو مزايدة ثقافية، بل هو الحقيقة المدعومة بالحقائق، والموضوعة على أرائك الاختبار، لا يخيب ناظر منصف في رؤيتها، ولا شاهد عدل من الإقرار بها. فهذه بعض الملامح والمعالم الدالة على العمق الحضاري للخطاب الإسلامي. أزلية الخطاب في أصله وواقعيته في فصله: إنْ كانت الحضارات تجد عمقها في تاريخها؛ فإنّ الخطاب الإسلامي يأخذ عمقه من كونه أساساً للتاريخ الإنساني والوجود البشري، إذ هو في أصله أزلي، لم يُقل بعد الوجود البشري، ولم يُنشأ بعد الخلق الإنساني، وإنما هو كلام في الأزل قبل التاريخ حين قال الله كان، وحين تكلم رب العزة كان، وحين خاطب المخلوقات كان، فليس لخطابنا تاريخ معاصر أو قديم حتى يتقدمه خطاب، بل هو خطاب في أصله أزلي، لأنه في الحقيقة كلام الله في الأزل، لا يحيطه زمان أو مكان، ولم يوجده داعٍ أو سبب، وإنما بحكمته تعالى ارتبط قبل الخلق ووجود البشر. ولذلك هو سابق للحضارات الأرضية، فمن جهة التاريخ يكون الخطاب الإسلامي هو الأعمق، ومن جهة الزمان هو الأسبق على الإطلاق. وليس يعني ذلك بحال أنه خطاب لا تعلق له بواقع الناس، بل من عمق حضارتيه، إنه خطاب أزلي في أصله (أصل مصدره) وواقعي في فصله (للقضايا والحوادث والنوازل) فهو معد ليخاطب الناس على أساس الحاجات، وعلاج المشكلات، واستيعاب النوازل بالأحكام المناسبة، والمواقف الرشيدة السديدة. ولذلك كان كثيراً ما تنزلت آيات القرآن الكريم "الخطاب الإسلامي الأصل الأول" على المناسبات، والأسباب، والنوازل، والحوادث، والوقائع، يحكم عليها ويسدّد المواقف عندها. العالمية والعولمة: طبيعة الخطاب الإسلامي أنه خطاب منفتح على العالمين، لا يعرف التقوقع في فئة، أو الانحصار في طائفة، أو الاقتصار على إقليم، أو الاكتفاء بعدد، أو الدَّوْر على جماعة. وإنما هو باق ينفتح على سائر الفئات السامعة، والطوائف العاقلة، والجماعات الواعية، والأقاليم الآهلة، هو خطاب موجّه للناس كافة، ومستهدف لكل العالمين. غير أنه لم يكن يتوجه للعالمين على تسلّط واستيلاء من غير ما استكفاء، ولا على إرغام بالقبول وإكراه لهم عليه من غير ما يحمله في ذاته من عوامل القبول والرضا به، وأسباب القناعة بمضموناته، وأحقيته في الاستيلاء على العقول والقلوب، ولذلك كان سعي المبطلين معه هباءً، والملحدين فيه مراءً، واللاغين عنده عواءً، فقد ذهبوا المذاهب يتقصدون إبطال مفعوله في القلوب، أو إضعاف تمكّنه في العقول، يمشون في الناس لو يجدوا سبيلاً لذلك، طريقتهم المثلى فيه: . فشتّان بين خطابنا وخطابهم!!، خطاب همه ومقصده هداية العالمين على صراط الله المستقيم، وخطاب غايته تحقيق التغلب على الآخرين. من هنا افترقت عالمية الخطاب الإسلامي عن خطاب العولمة المعاصر، عولمة تهدف الإقهار والغلبة السياسية والاقتصادية والثقافية، وعالمية تهدف تكريم إنسانية الإنسان، بلسان الحق، وصوت الدعوة، وحروف الرجاء، ومقالة الإحسان. مع أن العولمة إن كانت من العلم فخطابنا هو رافع العلم ومكرم العلماء ومقالة أنبياء الإسلام (النمل:42). ولو أن العولمة من العالمية فخطابنا هو العالمي بصيغته وأحكامه وأحواله ومستهدفيه وحامليه (التكوير:27). الاستيعاب لا الإلغاء: بينما الخطاب اليهودي يصدر عن عقيدة طبقية تفاضل بين الناس ببنوة إسرائيل وشعبية مختارة "أنهم شعب الله المختار" فيُلغِي -انطلاقاً من ذلك الاعتقاد العنصري الطبقي- سائر الشعوب، يصنّفها في السوام والأنعام، ويرتبها في أدنى البشر، على أساس كونهم خدماً لهم، فيلغون بذلك سائر الحقوق، فلا يحق لهم مطالبة بشيء مهما كان.. حقيقة ذلك قولهم الذي سجّله القرآن {آل عمران/75}. وهذا غاية الإلغاء وأبعده، وهو ما انحرفت إليه النصرانية العليلة حين اخترقتها الصهيونية في أثواب التجديد المستهدف لها بالتبديد، فتحول العالم كله بسوء هذا المعتقد الجاهلي إلى الغابية التي تقوم على إلغاء الآخر أو إبعاده أو إضعافه، إما تربعاً على معطيات ثقافاته الأصيلة فتغيب، وإمّا تشويشاً على مقتضياتها، فينحل الارتباط، ويقل الانتماء، ولا يكتمل الارتواء من معين الحق الذي عندهم. أما خطاب الإسلام فهو مبسوط على وضوح فاخر، إذ من المهمات الأساسية لكل منتمٍ مخلصٍ أن يسارع بخير الدعوة إلى غيره، دون احتكاره بين أفراد الأمة، حتى جُعلت الأمّة أمّة دعوة، ونظرت بشفقة وحبٍّ إلى غيرها، على رجاءٍ وفي وفاءٍ أن يكونوا معهم، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وصدق الخطاب يصف المنتمين للإسلام (آل عمران: 119)، ويطالب القرآن كل مسلم بدعوة غيره إلى الإسلام بكل سبيل حسن يرغب ويبشّر ولا ينفّر، فيقول تعالى (النحل:125). وكل ذلك تأكيد لعمق حضارة الخطاب الإسلامي الذي لا يلغي أحداً، ولا يغيِّب أحداً، ولا يبعد أحداً، بقدر ما يرغب بجد وقناعة ورغبة ورجاء أن يستوعب كل الناس، فانطلق الخطاب إليهم جميعاً، وبُعث الرسول الخاتم r إلى الناس جميعاً على رحمة وحرص وشفقة، فرسالة الإسلام لكافة البشر. ويقول رب العزة لمحمد r (سبأ:28)، وفي مقصود إرساله للناس يمنّ الكريم على العالمين جميعاً -مسلمهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم، محاربهم ومسالمهم، عدو المسلمين وحليفهم- فيقرر أنّ مقصود إرسال محمد r هو: إيساع العالمين بالرحمة، فيقول البرُّ الرحيم: (الأنبياء:107)، ويعبّر أول الأجيال وراثة لمهمة الرسول الكريم محمد r "الصحابة رضي الله عنهم" عن مهمتهم القائمة على استيعاب الناس كافة، فيقول ربعي بن عامر t عنه لقائد الفرس:"جئنا لنحرر الناس من عبادة رب العباد" ليؤكد البعد الحضاري للخطاب الإسلامي الذي يستوعب ولا يلغي، يدعو ولا يهمل، يقرب ولا يبعد، بحسن للآخر ولا يسئ، يعفو ولا ينتقم، ويرحم العالمين، بلا جزاء ولا شكور. إنه الخطاب الإسلامي. المبدئية لا ردود الأفعال: من أظهر المعالم الدالة على حضارية الخطاب الإسلامي، بل على عمق حضاريته، وعلوه السامق بدرجات لا تُدرل ولا تُشرك؛ أنه خطاب يعتمد المبادئ ولا يتعامل بردود الأفعال، فإن كل حضارة تقوم على ردود الأفعال وتبني مواقفها سلباً وإيجاباً، رضاً وسخطاً، تعاوناً وتصادماً، قبولاً ورفضاً؛ هي حضارة قشرية سطحية، لا عمق فيها ولا بُعد لها، بل هي آنية قصيرة الأمد، قليلة الأمل، ضئيلة الأثر، وإنْ جعجعت فلا طحين، وإنْ بهرجت فستزيل، وإنْ ظهرت فستخبو، وإنْ سادت حيناً فلن تطول حتى تبيد. يرى الناس الحضارات القائمة تتبجح بنفسها، يقوم خطابها على ردود الأفعال، يوالون ويعادون، يحاربون ويسالمون على شحنة قمح أو برميل نفط، إذا كرهوا حاكماً، أعلنوا لأجله حرباً. وإنْ مُنعوا صفقة بترول، أو أبغضوا شعباً، أرسلوا في المدائن حاشرين، وإنْ أغاظهم ذو سلطان أبحروا السفن لملاقاته وتأديبه، وهذا التعامل الدال على ضحالة رعاة هذه الحضارات، وضآلة همومهم، وغياب المبدأية في خطابهم، هو ذات ما كانت عليه الحضارات الجاهلية الطاغوتية التي تولى كبرها فرعون ومعاونوه، وموقف التعامل بردود الفعل منهم سجّله القرآن في قوله تعالى {الشعراء/53-56} مما أكّد ضآلة وضحالة هذه الحضارة، التي وإن سادت زماناً فقد بادت إلى الأبد يُقذف بها في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليها (الشعراء/57-59) ولكن هل استفادت حضارات بني إسرائيل من الدرس الذي وقع فيهم؟ لا، وإنما انساق رعاتها – من غير الأنبياء – إلى فرعنة الخطاب والمواقف، فخاضوا ذات المستنقع الآسن الذي خاض فيه فرعون وإدارته، وهو ذات المستنقع الذي يصر فرعون العصر "بوش" أن يتّسخ فيه ويأسن، ولن تبكي عليه السماء ولا الأرض، كما لم تبك على فرعون عهده. أما خطاب الإسلام فهو مَصُوغٌ على المبدأية، قلمه الحق، وورقه الخير، وحبره البر، ومقدمته المبادئ، ونتائجه ما ينفع الناس. وصدق الله (الرعد:17). لذلك يبعد أن يتعامل المسلمون برد فعل مهما كان قوياً، مهما أبغضوا فريقاً من الناس لكفر أو شر أو سوء، فإنهم يقفون منهم موقف الحق، وليسمع من شاء قول الحق سبحانه يصوّب مواقف المسلمين ويبنيه على أسس المبدأية {المائدة/8}. ولقد تزيّن التاريخ بخلق رسول الإسلام r في مواقفه مع من عاداه وآذاه.. فأهل الطائف يلجأ إليهم الرسول r ليحموه فإذا بهم يؤذوه، يسلطون عليه سفهاء القوم وأرذالهم، يرشقونه بالحجارة حتى أدموا رجليه الشريفتين، وردّوه مطروداً محزوناً، فيخيَّر رسول الرحمة في الانتقام أو العفو، فيختار العفو معللاً بالمبدأية الحاكمة لتصرفاته ومواقفه (لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً) ويوم أن صار مكيناً مليكاً في الأرض وقدر أن ينتقم لنفسه، فجاءوه يطلبون جواره ورضاه، قَبِل وما عبس وما تولّى، وحين اشترطوا عليه في الإسلام قَبِل شروطهم رجاء إسلامهم بأدنى درجة، حيث طلبوا أن يجاهدوا فقبل منهم، فطلبوا أن يعشّروا "أي يأتوا الزكاة" فقبل منهم، وشرطوا لأنفسهم أن لا يهدموا الطاغية "إلههم" قَبِل منهم، فأرادوا أن يشرطوا أن لا يصلّوا فلم يقبل معللاً ذلك بقوله: (لا خير في دين لا صلاة فيه). وحين قُتل حمزة عم الرسول r وغضب النبي r لقتله فتوعّد، صوّب القرآن الغضب إلى وجوب الخضوع للمبدأ .. وهكذا .. فأية حضارة تسع قلوب أهلها مثلما وسع قلب نبي الإسلام والمنتمين للإسلام بصدق؟ وأية حضارة أعمق من حضارة تعتمد المبدأ وتجعله ركيزتها، حضارة تجعل الحق والعدل مدارها فتدور مع الحق حيث دار؟؟. .. إنها حضارة الإسلام!!.. التعاون والتعاوض: الحضارات الراسخة هي التي تدعو لنفسها، وتكون غاية في ذاتها، ولا تتخذ من مضموناتها جسراً لمآرب أخرى هي في الحقيقة مما يسيء إليها، لأنها تجعلها بكلياتها وسيلة، والوسائل أدنى من المقاصد، وأقلّ من الغايات، بل يزيدها هواناً، وقلة ما يتقصدها خطاب تلك الحضارات بجميع أشكاله وأحواله تصرفات وسياسات ومواقف السلم والحرب، ليحقق من وراء كل ذلك حصة من نفط، أو زيادة في ريع، أو مطاولة في بنيان، أو بيع سلاح في فتنة، أو بالكثير أن تكون أمة أربى من أمة، فكل ذلك يدلّ على قلة تلك الحضارة وسطحيتها. إن الخطاب الإسلامي يؤسس أمره على التعاون لا التعارض، ليس في أهدافه ولا في مقاصده طلب العلو في الأرض، أو جمع المال أو تكثير الريع والربح ولو على حساب الخير والبر وتضييعهما -كما تأسس خطاب الغير- فاتخاذ المواقف والانطلاق في العالمين؛ لم يكن أبداً لدنيا تصاب، أو لجمع تبر وما تحت التراب، أو ليكون أهله أربى من غيرهم، فذلك في منطقه ونظره محرم محظور، لأنه درج (الردة الحضارية) التي عبّر عنها القرآن، فقال: (التين/5). ويرى ذلك "الربا الحضاري": {النحل/92} فلو كان الربا التجاري محرماً قطعاً؛ فليس أقل منه الربا الحضاري الذي يقيم أمر المجتمعات البشرية على تخبط لا يقوم مجتمع -ذلك سبيله- إلا كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ. لذلك؛ قاعدته الذهبية (المائدة:2). وفيها ما فيها من إيجاب التعاون المطلق من غير ما تقييد بحال، أو تخصيص بفئة، أو تحديد لجنس من يتعاون معه، بل جعل التعاون واجباً لا يجوز تركه ولا التساهل فيه ولا التراخي عنه ما دام كان على برٍّ ونفعٍ وصلاح، ولو كان الذي يتعاون معه عدو معلوم، أو منافق مبغوض، أو ملحد مخبول، أو فاسق أو عاص، كل هذا التصنيف لا يهم ما دام محل التعاون البر والتقوى. وما كان كذلك لا شك هو الأجدر بالسيادة الحضارية، والأقدر على رعاية الآخرين وحمايتهم. المجادلة لا المجالدة: التشاكس يصم الحضارات ويهينها، ومع ذلك نجد أدعياء الحضارة المعاصرة لا يقدرون على مخاطبة الغير إلا بذلك السبيل المشين، سبيل مساكين الفكر والرأي، سبيل المفلسين، يشتم هذا الشعب، ويسب هذا النظام، وينتقص من قدر هذا البلد، ويضرب هذا الجيش، وهكذا.. ولقد صار عقيدة بل مسلّمة عقلية عندهم أنه لابدّ لاستمرار الحياة أن يستمر الصراع بين الشعوب والقبائل، والنزاع بين الأمم والدول والحضارات، فأقاموا أمرهم على المقاتلة والمجالدة لا يجيدون سواها ولا يعرفون عداها، فتراهم إذا تمكّنوا بطشوا جبارين، وإذا ثقفوا بسطوا أيديهم وألسنتهم بالسوء، وأرغموا وأكرهوا وودوا لو يكفرون. تراهم يشرِّقون للبطش الجائر بقومٍ أو شعبٍ أو دولةٍ. في مقابلة هذه الغابية المتوحشة المتسببة لسفك الدماء، يتأسس الخطاب الإسلامي على اعتماد الجدال بالحسني، والإقناع بالأسنى، والإعذار والموافقة. مهما كان العدو معروفاً بعداوته، مستبعداً أن يؤوى إلى ركن الحوار؛ غير أن الخطاب الإسلامي يبدأ بالحوار والجدال، ومهما يكن الجدال بالتي هي أحسن، إلا إذا جاوز الماء الطيبين، وأوقد الآخر للحرب ناراً ترغم على النزال، لا خوفاً أو تردداً، بل أدباً، وبحثاً عن المشترك من أسباب الوفاق والاتفاق. فصدرت الأوامر الصريحة بذلك. فقال تعالى {النحل/125}. وقال تعالى: {العنكبوت/46}. وقال تعالى: {فصلت/34}. وإذا كنا نراهم يشرِّقون يعبرون البحار والقارات للبطش بقوم على دعوى {الشعراء/55}، فإننا نرى عمق الحضارة للخطاب الإسلامي أن يقطع حاملوه ذات البحار والمحيطات والقارات ليجادلوا بالتي هي أحسن، ويكفيني شاهداً سفر الإمام أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى إلى ملك أوربا ليجادلهم بالتي هي أحسن.