القوة الناعمة للحضارة الإسلامية
القوة الناعمة للحضارة الإسلامية
حضارة وثقافة ويتعايشون بسلام مع الجانب الأوروبي بدون تهديد هويتهم الحضارية.
العالم الإسلامي مقبل حتمًا على مواجهة قريبة مع الغرب..إن لم تكن مواجهة عسكرية فهي مواجهة حضارية وثقافية، وهذا ما تؤكده العديد من الكتابات التي ترصد المد الإسلامي في أوروبا وزيادة عدد المهاجرين إليها من المسلمين، بل وكذلك التزايد الديموجرافي لعدد سكان جنوب وشرق المتوسط بنسب تفوق أربعة أضعاف نظيرتها في الشمال الأوروبي، وهذا يشير إلى أن تلك المواجهة الحضارية بين الجانبين أصبحت حتمية، لذلك بدأت كتابات غربية كثيرة تحضّر لمثل تلك المواجهة.. بعضهم كان يحضر بقصف مدفعي إعلامي وسياسي كثيف يهدف إلى طرد المسلمين من أوروبا بالكلية ومنع الهجرة إليها، والبعض الآخر أراد أن يقوم بعملية الفوز بالعقول والقلوب واحتواء ذلك المد الإسلامي، عن طريق استيعاب المسلمين في أوروبا بـ "تطويع" ثقافتهم وحضارتهم وبالتالي ضمنًا دينهم، ليتم صهرهم في البوتقة الأوروبية لتلافي ذلك الصدام، بأن يتحول المسلمون إلى أوروبيين
وهنا تكمن أهمية وخطورة الدراسات التي تتحدث عن الإسلام الأوروبي والإسلام الحضاري، والذي يجمع ما بين الإسلام والديموقراطية والتعايش السلمي، وتبرز أهمية القضية برمتها في حقبة ما اصطلح على تسميته بـ "صراع الحضارات"، فتلك المقولة التي أطلقها صمويل هنتنجتون في التسعينيات بعد زوال الاتحاد السوفيتي تفتش في أصول الحضارات وتقول أن العالم سينقسم من جديد على الخطوط الفاصلة ما بين تلك الحضارات، وسيتمركز ويتمحور حول سبع حضارات كبرى، وأن المواجهة حتمية مع الإسلام في السنوات القادمة، وهذا يتطلب من المسلمين أن يستعدوا لتلك المواجهة، التي قد تبدأ مواجهة ثقافية، ولكنها قد تنتهي دموية.
ومن أجل ألا تتحول تلك المواجهات والنقاشات الكلامية والفكرية إلى مواجهات دموية، يجب على المسلمين أن يعوا حقيقة هامة ومحورية في تلك القضية، وهي أن الحضارة الإسلامية تظل هي الحضارة الأعلى بمكوناتها الدينية والثقافية والإنسانية، بالرغم من الاضمحلال الذي يشهده العالم الإسلامي اليوم الذي هو في ذيل القائمة وفي التبعية في كل شيء، إلا شيء واحد وهو حضارتهم الإسلامية، والتي هي مكمن "قوتهم الناعمة" التي لا يقف أمامها شيء بالرغم من التخلف المادي للمسلمين، الذين باتوا يستوردون كل شيء من الشمال والغرب والشرق، وباتوا عالة على المجتمع الدولي في القضايا السياسية، والشيء الوحيد الذي يصدرونه للعالم هو المهاجرين والإرهاب والجريمة.
والقوة الناعمة هو مصطلح كان أول من أطلقه هو المفكر والعالم السياسي الأمريكي جوزيف ناي، الذي ألف كتابًا بهذا الاسم، والقوة الناعمة تعني قوة الإقناع والحجة وكل شيء معنوي وليس ماديًا، فباختصار القوة الناعمة تعني أن "تجبر" الآخر على أن تحب ما يحبه وتفعل ما يحبك أن تفعله، وذلك بدون استخدام القوة، ولكن بالانقياد ثقافيًا وحضاريًا، بإقناع الآخر بثقافتك وحضارتك وبقوتك المعنوية التي تؤثر في الآخر وتجعله يسير خلفك بلا هدى، وهو المعنى ذاته الذي حدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأننا سوف نتبع اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلنا وراءهم، وهو ما قاله المفكر الإسلامي ابن خلدون في مقدمته بأن المغلوب يتبع الغالب دائمًا في حركاته وأخلاقه وطريقة لبسه وسائر أموره، وكل ذلك هو القوة الناعمة لأي حضارة وقوة تأثيرها على الآخر.
وبنظرة فاحصة لمكامن قوة الحضارة الإسلامية سنجد أن المكون الديني لتلك الحضارة استطاع أن يعلو على الحضارات الأخرى حتى اليوم؛ بالرغم من كل تلك الانتكاسات المادية الظاهرة والواضحة، والمتمثلة في أننا أصبحنا في ذيل الأمم وتكالبت علينا تكالب الأكلة على قصعتها، فإن عدد المسلمين في ازدياد، وبخاصة في الغرب، وهذا شيء يدعو للدهشة وللإعجاب في آن؛ حيث إن المنطق يقول أن التخلف المادي والتخلف المعنوي يؤديان بالضرورة إلى اضمحلال بريق النموذج، وإلى لفظ ورفض الكيان بكامله، لكننا اليوم نجد أن الآلاف من الغربيين يدخلون في دين الله أفواجًا من الشرق والغرب، لذا فإن تلك التجربة تدعو إلى التأمل والدراسة من أجل الحفاظ عليها ومن أجل تفادي المواجهة العسكرية التي قد تؤدي إلى انعكاس ذلك المد وإلى حدوث انتكاسة يرغب فيها المفكرون المتطرفون من الغرب، والذين يرون بأعينهم القادم، ويؤمنون بأنه ليس في صالح حضارتهم الغربية.
لذلك فإن مصطلح "التعايش" يظل هو كلمة السر لتلك المواجهة الإسلامية الغربية، فالمواجهة العسكرية ليست في صالح المسلمين بحال من الأحوال، وذلك لتأخرنا في جميع النواحي المادية والمعنوية، وتأخرنا في تصنيع السلاح وإعداد بلاد المسلمين لمواجهات مع الغرب، وتثبت الأيام أنهم يتقدمون علينا بسنوات طوال، ولا نستطيع أن نجسر تلك الهوة العسكرية والمادية في الأمد المنظور، ولكننا نستطيع أن نجسر الهوة الثقافية، وذلك عن طريق ذلك التعايش الذي يحفظ هويتنا ويمنحنا جسورًا في الوقت ذاته من التواصل مع الآخر، وذلك في النهاية يصب في مصلحة الحضارة الإسلامية والمنظومة القيمية التي تمتلكها، بل والمنظومة العقدية النقية الفطرية التي تجنح إليها النفوس السليمة، في ظل ضعف نظيرتها لدى الحضارة الغربية، والتي لفظتها بالكلية منذ عصر النهضة، وسجنت الدين داخل الكنائس، وظلت محتفظة بعناوينه الرمزية مثل الصلبان على الإعلام، والحكايات والقصص الدينية، والأعياد والأكلات التي تقدم فيها، بخواء روحي ملحوظ لدى الغربيين، وهنا تكمن القوة الناعمة الحضارة الإسلامية.
ومع عصر الثورات العربية فإن المسلمين اليوم انتقلوا خطوة إلى الأمام من أجل جسر تلك الهوة مع الغرب؛ فكان النموذج الأكثر تخلفًا في المنظومة الإسلامية هو الحكم، وهو الذي حدثنا عنه المعصوم صلى الله عليه وسلم وقال أنه أولى عرى الإسلام نقضًا، في حين أن آخرها نقضًا هو الصلاة، فقد ظلت أنظمة الحكم في طوال التاريخ الإسلامي تشهد تراجعًا وتخبطًا منذ انتهاء الخلافة الراشدة، ودخول المسلمين في عصر الملك العضوض، وبالرغم من أن المسلمين حققوا نجاحات وفتوحات وإنجازات ثقافية وحضارية وعسكرية في ظل تلك المنظومة، إلا أن الحكم الرشيد ظل غائبًا عن المسلمين طوال تاريخهم، وكانت مراحل الخلافة الراشدة هي الاستثناء طوال التاريخ الإسلامي، فكان يأتي خليفة بين كل مائة يصلحون أمور المسلمين ويجددون أمر الدين، بالرغم من أن المسلمين ظلوا فيما بينهم يحتفظون بقيم الدين الأصيلة مثل العدل والبر والإحسان والصلة والتكافل، بعيدًا عن إصلاح الحكم، وهو ما كان يحتفظ بنقاء المجتمع الإسلامي في كثير من العصور.
ولكن ظل الحكم الرشيد هو الاستثناء، بالرغم من تفوق المسلمين طوال تاريخهم على نظرائهم من الغرب في ذلك المجال أيضًا، حتى بدأ الغرب يأخذون منا أسس حضارتنا الإسلامية مثل الفصل بين السلطات والعدل والمساواة وغيرها، ووضعوها أهدافًا لثوراتهم مثل الثورة الفرنسية وغيرها، وبدأ مفكرو الغرب في صياغة تلك الأفكار قبلها بعقود، ليصلوا إلى صيغ مستقاة بالأساس من الإسلام، ليتفوقوا على المسلمين في ذلك المضمار ويبدأون في التقدم ونتأخر نحن، ثم قاموا باحتلال بلداننا الإسلامية بعد ذلك مع بداية الثورة الصناعية ومع وصولها إلى ذروتها في نهاية القرن الثامن عشر.
ولكن ذلك بدأ في التغير اليوم، حيث بدأ المسلمون في النهوض والتفتيش في مكامن قوتهم والبناء عليها مما توصل إليه عقلاء العالم من وضع أسس للحكم الرشيد، وتلك الصحوة في نظام الحكم يعد خطوة أخرى إلى الأمام نحو تقوية وتمكين الحضارة الإسلامية وترسيخ تفوقها في قوتها الناعمة.
والحديث عن القوة الناعمة للإسلام يعني الحديث عن أنه منظومة متكاملة من العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات التي تقف حائطًا منيعًا وعاليًا أمام منتقديه، وأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأنه ينتصر دائمًا أمام الحضارات الأخرى إذا ما أحسن طرح حجته ونموذجه ناصع البياض، فإذا ما استطاع المسلمون شرقًا وغربًا تحقيق الحكم الرشيد، الذي يُستقى من أحكام الشريعة الإسلامية، فإننا بذلك نكون قد أكملنا ترسانة الحضارة الإسلامية، ويكون الإسلام حينئذ فقط قادرًا على غزو الآخر حضاريًا، وحينئذ فقط يستطيع المسلمون أن يقضوا على التشوهات التي حدثت في منظومتهم الأخلاقية والسياسية، وأن يقضوا على كافة أشكال المخدرات السياسية والفنية والخلاعية التي قوضت حضارتهم عقودًا من الزمان، وأن ينتج العرب والمسلمون منظومة حضارية جديدة تستطيع أن تقدم مخترعات ومنتجات جديدة للإنسانية، ثقافية وصناعية وحضارية، بعد أن ظللنا عقودًا لا نخترع فيها شيئًا سوى النرجيلة والحشيش والقات وكافة أشكال المخدرات التي تذهب العقل وتؤدي إلى الهروب من واقعنا الأليم.
· معالم القوة الناعمة للحضارة الإسلامية:
إن أهم معالم الحضارة الإسلامية هي تلك المأخوذة من الإسلام، فالمسلمون أول من اخترعوا قواعد الحكم الرشيد والفصل بين السلطات، عندما جلس الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام قاض مسلم يفصل بينه وبين يهودي، فيحكم القاضي لليهودي بعد أن أجلس الاثنان أمامه في مساواة، وقال للإمام قدم حجتك مثلما قال لليهودي، وهذا ما أدى إلى تلك الصدمة الحضارية لدى اليهودي الذي أعلن إسلامه على الفور وقال أن هذه هي أخلاق الأنبياء.
ومساءلة الحاكم هي من أولى ما أرساه الخليفة الراشد الأول أبو