بحث للتعريف بالنبى صلى الله عليه وسلم
بحث للتعريف بالنبى صلى الله عليه وسلم
دلائل نبوته .
رد شبهات أثيرت حوله () .
شهادات المنصفين من غير المسلمين عن نبوته .
البــــــاحث :
د. صيدلى / جمال محمد المتولى الزكى
المقــدمــة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وندين إليه بالخير كله ، ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمداً رسول الله () خير من شهد لله وشهد على عباد الله ، فصلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه وعلى من جاء بعده يحمل رسالته ويؤدى أمانته ويقف بين الناس موقفه إلى يوم الدين ..... وبعد
فهذا بحث يتحدث عن جوانب من دلائل نبوة رسول الله () ، ومكانته وأثره ، وكشف الشبهات ودحض الافتراءات التى أثيرت حوله () مع توضيح شهادات المنصفين من غير المسلمين عن نبوته ومكانته وأثره () .
وبداية نقول : لقد سبقت بعثة رسول الله () فترة غابت فيها الشرائع السماوية بضوابطها وثوابتها الشرعية ، وساد منطق القوة المفرطة غير المنضبطة فتكالب القوى ليعيش على قوت الضعيف ، والغنى على قوت الفقير فسادت لغة الهمجية وغاب عن الأرض النور الذى يرشد إلى سواء السبيل ، وتفرقت بالناس كل السبل ... فكانت بعثته () فتحاً للأرض وإنقاذاً للبشرية ، ورحمة مهداة من الله تعالى للعالمين ، فانتصر للمبادئ والأخلاق وأخرج الناس من دياجير التخبط والسفه والضلال إلى سواطع اليقين والجلال والحكمة .
وفى هذه السطور لا يكفى حديث خاطف ، ولا عرض سريع لبيان ما يزخر به محمداً () من عبقرية وروحانية ، وعلو قدر ورعة وسمو ، ومنعة وعظمة وعصمة و.......
ولعل دلائل نبوته () تتمثل فى أسمى معانيها فى رسالته () فرسالته خاتمة الرسالات ، ورسول الله () خاتم المرسلين ، وهذا دليل محسوس وملموس على صدق رسالته ويقين نبوته نسوقه إلى أولئك المشككين الضالين المضلين الذين عطلوا العقل وألغوا التفكير – عن قصد وغير قصد – فأنكروا هذه الرسالة وشككوا فى كل ما جاء به محمداً وله ، فضلوا وأضلوا وانحرفوا وتجاهلوا وجهلوا وجحدوا ولذلك يقول الله فيهم عبر كل زمان ومكان قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (1) وهكذا يكشف الوحى عن المكر السىء ، وعمق المؤامرة التى يراد بها – حقداً من عند أنفسهم – إطفاء هذا النور ووقف مده الزاحف يضاهئون أقوال بعضهم بعضاً لأنهم خلفوا خلفاً يحمل راية الخداع والتضليل .... فما أحوجنا فى هذه الأيام قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (2) – أن نتداعى إلى وحدة حقيقية قائمة نتماسك من خلالها ونتآلف بهذا الدين ، ونهتدى بهذه الأخلاق السامية التى علت على كل خلق عظيم حتى لا نصبح ( قصعة ) تتداعى عليه أيدى الأعداء ، وما ذالك إلا لأننا نسينا لقاء الله وكرهنا الموت ، وتعلقت قلوبنا بالدنيا فكان الوهن وكان الضعف .
(1) الأنعام 33 (2) آل عمران 118 .
وما أحرانا فى هذه المرحلة الحاسمة أن نستلهم دائماً سيرته () الحافلة بكل جليل وجميل ما ندعم به مكانتنا ونثبت به عقيدتنا حتى نكون حقاً من أتباع محمد () .
وهذا ما دفعنى إلى اختيار موضوع هذا البحث ، وقد هدفت من كتابته عدة أهداف منها :
1- بيان جانب من دلائل نبوته () من إرهاصات النبوة تلك الخوارق التى صاحبت مولده () – سواء قبل مولده ، أو عند ولادته أو فى طفولته – ثم توضيح جانباً من بعض ما أخبر من غيوب عن ربه تعالى ، ثم إلقاء الضوء على جانب من جوانب عظمته المتمثلة فى صدقه ، وأمانته وعزمه الصادق ، وتمتعه () بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة ، ثم نجاحه المنقطع النظير فى أداء ما جاء به وله ، ثم دليل نبوته فى معجزته الحقيقية الباقية الخالدة أبد الدهر ( القرآن الكريم ) .
2- بيان بعضاً من الشبهات والمفتريات حول شخصية الرسول () – وهى كثيرة – واكتفيت منها بكشف شبهاتهم حول غزواته وحروبه وحمله للسيف لقهر الناس لاعتناق الإسلام ، ثم الرد على هذه الفرية . ثم شبهاتهم حول عصمته () ، وأن القرآن ما هو إلا من تأليفه وليس وحياً يوحى والرد عليها .
3- بيان بعض أقوال المنصفين من غير المسلمين حول شخصيته () ومكانته وأثره وهى أقوال نستأنس بها لنقيم الحجة عليهم وعلى منكرى الرسالة .
- خطة البحث :
تتكون خطة البحث فى الموضوع إلى مقدمة ، وتمهيد ، وفصلين ، وخاتمة .
أما المقدمة قد ضمنتها : سبب اختيار الموضوع ، وأهميته ، وخطة البحث ، ومنهج البحث فيه .
أما التمهيد فيشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : دلائل النبوة .. آيات الأنبياء عن نبوتهم .
المبحث الثانى : دعوة الرسول () حلقة من حلقات الدعوة إلى الله تعالى .
المبحث الثالث : الله تعالى يؤيد الصادق ويمكن له .
أما الفصول فهى :
الفصل الأول : من دلائل نبوة الرسول () .
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الإرهاصات .
المبحث الثانى : إخباره () بغيوب كثيرة وقعت كما أخبر عنها عن الله تعالى .
المبحث الثالث : عظمة محمد () : والتى تتمثل فى :
أولاً : أن الرسول () عند معاصريه ذو عزم صادق .
ثانياً : تمتعه () بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة .
ثالثاً : نجاحه () فيما جاء به وله .
رابعاً : أن محمداً () جاء بمنهج دائم للعالم كافة ( القرآن الكريم ) .
الفصل الثانى : شبهات المشككين وشهادات المنصفين غير المسلمين .
ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : شبهات المشككين حول رسول الله () والرد عليها .
ويشتمل على :
أولاً : شبهاتهم حول غزوات الرسول () والرد عليها .
ثانياً : شبهاتهم حول أن الرسول () هو مؤلف القرآن والرد عليها .
المبحث الثانى : شهادات المنصفين غير المسلمين على شخصية الرسول () .
أما الخاتمة : فتتضمن أهم نتائج البحث ، وقائمة المراجع والمصادر ثم قائمة الفهرست .
- وكان منهجى فى البحث ما يلى .
1- الاعتماد – بعد على عون الله تعالى – على الكثير من المراجع بمصادرها الأصلية للتأكد من صحة الروايات والأحاديث وعزوتها إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة المعتمدة .
2- لم أهمل المصادر الحديثة ففيها من الرؤى والتحليلات ما أتاح لى الاستفادة الكبيرة منها والتزمت عند النقل من أى مصدر إلى الإشارة إليه والى صفحته وطبعات المرجع إن أمكن .
3- بينت مواضع الآيات التى وردت بذكر السورة ورقم الآية .
4- ما عرضته من شبهات وطعون أعداء الإسلام فإنى قرنت ذلك بالرد الذى يبين تلك الشبهات والمطاعن معتمداً على القرآن والسنة المطهرة وكلام أهل العلم والأدلة العقلية وقد استأنست أيضاً بأقوال بعض المنصفين غير المسلمين لنقيم الحجة الكاملة عليهم .
والله تعالى أسأل أن يكون عملاً متقبلاً خالصاً لوجهه الكريم
التمهيد :
ويشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : دلائل النبوة .. آيات الأنبياء عن نبوتهم .
المبحث الثانى : دعوة الرسول () حلقة من حلقات الدعوة إلى الله .
المبحث الثالث : الله تعالى يؤيد الصادق ويُمكن له .
المبحث الأول
دلائل النبوة ... آيات الأنبياء عن نبوتهم
أولاً : تعريف الدلائل :
- لغة : الدليل ما يستدل به (1) ، وما يتوصل به إلى معرفة الشيء (2) .
- وفى الاصطلاح : هو الذى يلزم من العلم به العلم بشيء آخر (3) ، فالشيء الأول هو الدال ، والثانى هو المدلول والدليل هو الآية والبرهان التى يلزم وجودها وجود المدلول عليه فإذا وجدت آية وعلامة تدل على النبوة لزم وجود نبى ، ولزم الإيمان به .
يقول ابن تيمية : " .. ثم إن كان عُرِفَ أن محمداً رسول الله بنصوصه المتواترة ، كفاه ذلك ، وإن كان لم يقر بنبوته احتاج إلى مقدمة ثانية ، وهو الإيمان بأنه رسول الله ، لا يقول على الله إلا الحق ، ويذكر له من دلائل النبوة وأعلامها ما يعرف به ذلك ، فيهتدى إن كان طالب علم ، وتقوم عليه الحجة إن لم يكن كذلك . (4)
وآيات الأنبياء هى أدلة صدقهم ، وبراهين من الله ، تتضمن إعلام الله لعباده وإخباره ، فالدليل وهو الآية ، والعلامة لا تدل إلا إذا كان مختصاً بالمدلول عليه مستلزماً له ، وهى أقوى من القول ، فلا يتصور أن تكون آيات الرسل إلا دالة على صدقهم ، ومدلولها أنهم صادقون .
ودلائل نبوة الرسول () لها آثار مستلزمة لها ، وبدون إخبار النبى بأنه نبى ، بل متى اختصت به ، وهى من خصائصه ، كانت آية له سواء وجدت قبل ولادته ، أو بعد موته ، أو على يد أحد من الشاهدين له بالنبوة . فكل هذه من آيات النبوة . (5)
ولآيات الأنبياء عن نبوتهم طرقاً متعددة ، دلالتها إما تعلم بالضرورة ، أو بالنظر والاستدلال ، يقول ابن تيمية (6) : كلا القولين صحيح ، فإنه يحصل بها علم ضرورى ، والأدلة النظرية تواق ذلك وكذلك كثير من الأدلة والعلامات والآيات من الناس من يعرف استلزامها للوازمها بالضرورة ويكون اللزوم عنده بيناً لا يحتاج فيه إلى وسط ودليل ، ومنهم من يفتقر إلى دليل ووسط يبين له أن هذا الدليل مستلزم لهذا الحكم اللازم له ... فقد يجيء المخبر إليهم بخبر يصرف كثير منهم صدقه أو كذبه بالضرورة لأمور تقترن بخبره ، وآخرون يشكون فى هذا ثم قد يتبين لبعضهم بأدلة ، وقد لا يتبين ، وكثير من الناس يعلم صدق المخبر بلا آية البتة ، بل إذا أخبره وهو خبير بحاله أو بحال ذلك المخبر به أو بهما ، علم بالضرورة : إما صدفة ، وإما كذبه .
فالنبى () كما ذكر حاله لخديجة (رضى الله عنها ) ، وذهبت إلى ورقة بن نوفل وكان عالماً بالكتاب الأول وذكر له النبى () ما يأتيه يحكم بأنه صادق . ويقول : هذا الناموس الذى كان يأتى
(1) مختار الصحاح ص 123 . (2) المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى ص 177
(3) التعريفات للجرجانى ص 107 .
(4) النبوات لابن تيمية ، ص 255 ، مكتبى فياض بالمنصورة – مصر ، ط 2005م .
(5) المرجع السابق ص 298 بتصرف . (6) المرجع السابق ص 311 ، 312 بتصرف .
موسى فالرسول () معلوم عنه أنه أصدق الناس ، وهذه وحدها آية على نبوته ، ثم جاءت آية آخرى وهو جبريل أو " الناموس " علامة ودليل آخر على نبوته أيضاً ، فإذا كان العلم بصدقه () بلا آية قد يكون علماً ضرورياً ، فكيف بالعلم بكون الآية علامة على صدقه ، وجميع الأدلة لابد أن تعرف دلالتها بالضرورة .
ولهذا لا يوجد أحد قدح فى نبوته () إلا أحد رجلين : إما جاهل لا يعرف صدقه وأمانته وإما معاند متبع لهواه وهو عامة من كذبوه فى حياته .
فمن يعرفون النبى () وكذبوه ، وكان تكذيبهم من باب ألا تذول رئاستهم أو مكانتهم ، ولذلك لم يكن التكذيب لقيام حجة منهم تدل على كذبه () ولكن المكذب مفتر بلا علم ولا حجة ولا برهان ولذلك قال عنهم القرآن فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (1)
ودلائل النبوة قسمان : (2)
الأول : الحالات التى سميت بالإرهاصات ، وهى الحوادث الخارقة التى وقعت قبل النبوة ، ووقت الولادة
الثانى : دلائل أخرى تنقسم إلى قسمين :
أحدهما : الخوارق التى ظهرت بعده () تصديقاً لنبوته .
ثانيهما : الخوارق التى ظهرت فى فترة حياته المباركة ، وهذا أيضاً قسمان .
الأول : ما ظهر من دلائل النبوة فى شخصه وسيرته وصورته وأخلاقه وكمال عقله .
الثانى : ما ظهر منها ى أمور خارجة عن ذاته الشريفة ، أى فى الآفاق والكون وهذا أيضاً قسمان : قسم معنوى وقرآنى ، وقسم مادى وكونى .
والقسم المادى والكونى قسمان :
القسم الأول : المعجزات التى ظهرت خلال فترة الدعوة النبوية ، وهى إما لكسر عناد الكفار ، أو لتقوية إيمان المؤمنين كانشقاق القمر ، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة ، وإشباع الكثير بطعام القليل ، وتكلم الحيوان ، والشجر ، والحجر ........
القسم الثانى : الحوادث التى أخبر عنها () قبل وقوعها – بما علمه الله سبحانه – وظهرت تلك الحوادث وتكررت كثيراً . أ . هـ .
إلا أن المعجزات الحية الباقية حتى يومنا هذا هى إنجازات الرسول () ، وما أتى من تشريعات صالحة لكل زمان ومكان ، وكما قال المستشرق الانجليزى يورسورث اسمث ( 1815 – 1892 ) : أن المعجزة الخالدة التى أداها محمد () هى القرآن والحقيقة إنها كذلك ... وإن أعظم ما هو معجزة فى محمد نبى الإسلام أنه لم يّدع القدرة على الإتيان بالمعجزات وما قال شيئاً إلا فعله وشاهد منه فى الحال أتباعه ، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه ، فأى برهان أقطع من ذلك ؟ (3) .
(1) الأنعام 33 .
(2) راجع : مكتوبات سعيد النورسى ، المكتوب التاسع عشر عن موقع saidnur.com .
(3) الأدب فى أسيا : ليورسورث أسمث ( عن محمد فى الدراسات الاستشراقية لمحمد الشيبانى ص 130 ) .
المبحث الثانى
دعوة الرسول () حلقة من حلقات الدعوة إلى الله
إن الأمة الإسلامية لها رسالة تدعو إلى الله على بصيرة ، ومنهج دعوتها لها مبادئ وأصول وقواعد تحدد المنهج الذى جاء به محمد () والذى لم يخرج عن دعوات الأنبياء السابقين بل سائرة قى طريقهم ، متعقبة آثارهم ولذلك يقول سبحانه : قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ وَمَآ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ (1) .
فكان آدم نبياً مرسلاً كما أخبر بذلك الرسول () من حديث أبى ذر قال : قلت يا رسول الله أى الأنبياء كان أول ؟ قال : " آدم . قلت : يا رسول الله ونبى كان قال : " نبى مكلم " (2) .
ثم كانت ذريته من بعده دعوتهم جميعاً – بما فيها دعوة محمد () – هى الإسلام بمفهومه العام ، والاستسلام لله ، وإخلاص العبادة له سبحانه بشقيها الطاعة والنسك ، أو الشرائع والشعائر لم يخالف محمد () الرسل والأنبياء فى أصل الدعوة إلى الله .
ففى القرآن الكريم جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها كتاب واحد :
قال سبحانه : وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ (3)
وقال سبحانه : إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
وقال سبحانه : وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ (5)
فليس هناك تعدد أديان ولكن تعدد رسالات ، ولذلك لما كذب قوم نوح نبيهم قال الله تعالى فى شأنهم : كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (6) فقوم نوح لم يكذبوا إلا نبيهم نوح – عليه السلام – ولكن القرآن اعتبر تكذيبهم لنوح تكذيباً للرسل جميعاً . (7)
وهو دين إبراهيم – عليه السلام - : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَآ أُمّةً مّسْلِمَةً لّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنّكَ أَنتَ التّوّابُ الرّحِيمُ (8)
ودين يعقوب وبنيه من بعده : وَوَصّىَ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيّ إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنّ إَلاّ وَأَنْتُم مّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـَهَكَ وَإِلَـَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (9)
(1) الأحقاف 9 (2) أخرجه أحمد فى " المسند " ح 20566 (3) البقرة 213 (4) آل عمران 19 (5) الحديد 25 (6) الشعراء 105 (7) راجع : مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية لمحمد جلال القصاص ص 15، موقع صيد الفؤاد الالكترونى .
(8) البقرة 127 ، 128 (9) البقرة 132 ، 133
ودين موسى : وَقَالَ مُوسَىَ يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوَاْ إِن كُنتُم مّسْلِمِينَ (1)
ودين عيسى : فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَىَ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (2)
ولذلك يقول الرسول () من منطلق أن الدين واحد والدعوة واحدة وإن تعددت الرسالات : " أنا أولى الناس بابن مريم ، والأنبياء أولاد علات (3) ، ليس بينى وبينه نبى " (4) .
وفى رواية لمسلم : " أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الأولى والآخرة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : الأنبياء إخوة من علات ، وأمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، ليس بيننا نبى " فكانت رسالة الأنبياء جميعاً الإسلام الذى يخاطب الفطرة السليمة بالحجة والبرهان ، دون سلطان يجبر الناس على الإيمان وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لاَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (5) فمن اتبع الهدى كان من المفلحين ، ومن أعرض كان عليه تبعة إعراضه .
ومحمد () لم يكن فى حاجة إلى السنان بل إلى البيان بكلمات هادئة وطيبة ولكنها قذائف حق أشد أثراً وتأثيراً من ضربات السيف تسقط معها حجج المكذبين ، وشبهات المفترين بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ (6) ثم بعد ذلك فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ (7) وهذه إرادة الله الخالق فى خلقه وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (8)
(1) يونس 84 . (2) آل عمران 52 (3) أولاد علات : الإخوة للأب غير الضرائر
(4) أخرجه البخارى ح 3443 ، ومسلم ح 2368 (5) يونس 99 .
(6) الأنبياء 18 (7) الكهف 29 (8) الأنعام 149 .
المبحث الثالث
الله يؤيد الصادق ويمكن له
إن من سنن الله تعالى أنه يملى للظالم فإذا أخذه لم يفلته ، فالله تعالى لا يحب الظالمين ، ولا يحب الكاذبين ، ولا يصلح عمل المفسدين : إِنّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (1)
والقرآن الكريم دل على أنه – سبحانه وتعالى – لا يؤيد الكذاب ، بل لابد أن يظهر كذبه وخاصة إذا كان يكذب على الله ، وينتقم منه ونذكر من ذلك :
أولاً : قوله سبحانه : وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (2) .
فالله تعالى يذكرهم بأن هذا النبى () لو كان كاذباً لم يمكن له فى الأرض ، ولا ينصر على الأعداء ، وهذه أدلة عقلية تخاطب العقول إن كانت تعى ! فكيف يمكن الله لمن كذب عليه ؟ وكيف ينصر الله من زعم أن الله أرسله ؟ أى : لو كان كاذباً على الله لقصمه ولم يمكن له ولم ينصره . (3)
ثانياً : قوله سبحانه : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَىَ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ (4) .
يقول الإمام ابن تيمية فى " النبوات " : قد بين – الله تعالى – أنه لابد أن يمحو الباطل ن ويحق الحق بكلماته ، فإنه إذ أنزل كلماته دل بها على أنه نبى صادق إذا كانت آية له ، وبين بها الحق من الباطل ، وهو أيضاً يحق الحق ويبطل الباطل بكلماته التى تكون بها الأشياء ، فيحق الحق بما يظهره من الآيات ، وما ينصر به أهل الحق كما تقدمت كلمته بذلك . (5)
ثالثاً : قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ (6)
فهذا يقتضى أن كل ما أنزله الله على أوليائه فهو معجز ، لا يقدر عليه إلا الله ، كالتوراة ، والإنجيل ... وهذا حق ، فإن فى ذلك من أنباء الغيب ما لا يعلمه إلا الله ، وفيه أيضاً : من تأييد الرسل بذلك فلا يقدر على أن يرسل بتلك الرسالة إلا الله ، فلا يقدر أحد أن يُنزل مثل ما انزل الله على نبيه ، فيكون به مثل الرسول ولا أن يرسل به غيره . (7)
وهذا دليل قاطع على صدق دعوته () وبرهان واضح على دليل نبوته لأنه إلى الآن لم يوجد أحد أوحى إليه إلا محمد () بعد عيسى عليه السلام ، ولم يوجد أحد أنزل مثل ما أنزل الله . وإذا جاء من يقول ذلك كان من أظلم الناس وأكذبهم .
(1) يونس 81 (2) الحاقة 44 – 47
(3) راجع : محمد () فى القرآن والسنة لعبد الرحمن السحيم ص 8 نقلاً من القواعد الحسان للسعدنى .
(4) الشورى 24 (5) النبوات لابن تيمية ص 318 (6) الأنعام 93 (7 ) النبوات لابن تيمية ص 320 .
الفصـل الأول
من دلائل نبوة رسول الله ()
ويشتمل على تمهيد وثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الإرهاصات .
المبحث الثانى : إخباره () بغيوب كثيرة وقعت كما أخبر عنها عن الله تعالى .
المبحث الثالث : عظمة محمد () .
والتى تتمثل فى :
أولاً : أن الرسول () عند معاصريه ذو عزم صادق .
ثانياً : تمتعه بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة .
ثالثاً : نجاحه () فيما جاء به وله .
رابعاً : أن محمداً () جاء بمنهج دائم للعالم كافة " القرآن الكريم " .
تمهيد :
إن رسالة الرسول () ليست فى حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها بحيث إن لم يوجد الدليل الخارجى بطلت هذه الرسالة – وحاشى لله أن تكون كذلك – لأن هذه الرسالة العظيمة الخالدة دليلها فيها ، فهى حقيقة قائمة بذاتها غنية عما سواها ، خالدة وصالحة ومصلحة لكل زمان ومكان ، وباقية أبد الدهر وهذا دليل صدقها . فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء فى " القرآن الكريم " حيث شهد لهم بالرسالة والصدق والوفاء وأنهم أنبياء الله المكرمون .
فلا يظن ظان أننا حين نتحدث عن دلائل النبوة لمحمد () ، أننا نبحث عن أدلة نحن فى حاجة إليها لإثبات صدقه () وصدق رسالته ولكننا نقيم الحجة على من ينكر رسالته ونضع بين يديه أدلة مما ألفها وعرفها وقرأ عنها بل ويعيش واقعها .
ومن هذه الأدلة : الإرهاصات ، وإخباره () بغيوب كثيرة وقعت كما أخبر بها عن الله تعالى ، ثم عظمته () المتمثلة فى أنه كان ذو عزم صادق عند معاصريه مما دعا أهل العقول الراجحة للإيمان به ، وتمتعه () بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة ، ونجاحه فى تحقيق ما جاء به من رسالة ، وإتيانه بمنهج وشريعة تصلح لكل زمان ومكان دائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهذا المنهج هو " القرآن الكريم " .
المبحث الأول
الإرهــــاصــــــــات
والإرهاصات هى الحوادث الخارقة للرسول () سواء قبل مولده " عهد الفترة " ، أو عند مولده أو فى طفولته () أو ما أخبرت به الكتب القديمة عن مجيئه وأوصافه .
أولاً : إرهاصات " عهد الفترة " :
وتتمثل هذه الفترة بإخبار الكهان عن مجيئه () فقد أعلنوا عنه أمام الملأ ، وتركوا أخبارهم لنا فى أشعارهم وسيرهم . ومن هذه الأخبار : (1)
1- ما رآه الملك تبع – من ملوك اليمن – من أوصاف الرسول () فى الكتب القديمة ، وأعلن به شعراً يقول فيه : شهدت على أحمد أنه رسول الله بارى النسم
فلو مُدّ عمرى إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم
2- ما رآه سيف بن ذى يزن – أحد ملوك اليمن – فى الكتب السابقة من أوصاف الرسول () وآمن به واشتاق إليه ، وعندما ذهب جد النبى () – عبد المطلب – إلى اليمن مع قافلة قريش دعاهم الملك وقال لهم : إذا ولد بتهامة – أى الحجاز – ولد بين كتفيه شامة كانت له الإمامة وإنك عبد المطلب جده .
(1) راجع مكتوب سعيد النورسى – المكتوب التاسع عشر – عن موقع www.saidnur.com .
3- الرؤيا التى رأها كسرى – ملك الفرس – من انشقاق شرفات إيوانه الأربعة عشر وسقوطها فبعث عالماً اسمه " مويزان " ليسأل الكاهن سطيحاً (1) عن حكمة هذه الرؤيا ، فأرسل إلى كسرى كلاماً معناه : سيحكم فيكم أربعة عشر ملكاً ثم ستمحى سلطتكم وتزال دولتكم وسيأتى من يظهر ديناً جديداً ، فيكون سبباً فى زوال دينكم ودولتكم .
ثانياً : الآيات والحوادث التى ظهرت عند مولده وفى طفولته () :
والتى يعد كل منها معجزة من معجزاته () وهى كثيرة نورد منها :
1- ما رأته أمه من النور الذى خرج معه عند ولادته :
عن العرباص بن سارية صاحب رسول الله () أنه قال : سمعت رسول الله () يقول : " إنى عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل فى طينتة وسأخبركم بتأويل ذلك . أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ، ورؤيا أمى التى رأت حين وضعت نوراً أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين " (2)
يقول الإمام البيهقى : وقوله إنى عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل فى طينتة يريد به أنه كان كذلك فى قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأول الأنبياء () .
وقوله : دعوة إبراهيم . يريد به أن إبراهيم لما أخذ فى بناء البيت دعا الله تعالى أن يجعل ذلك البلد آمناً ويجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم ويرزقهم من الثمرات والطيبات ثم قال : رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (3) فاستجاب له الله دعاءه فى نبينا وجعله الرسول الذى سأله إبراهيم ودعاه أن يبعثه فى أهل مكة ولذلك قال الرسول () أنا دعوة إبراهيم .
وأما قوله : " بشارة عيسى عليه السلام " فهو أن الله تعالى أمر عيسى فبشر به قومه بنو إسرائيل قبل أن يخلق وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ (4) .
وأما قوله : " ورؤيا أمى التى رأت " : كانت آمنة بنت وهب أم رسول الله () تحدث أنها أُتيت حين حملت بمحمد فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولى : أعيذه بالواحد الأحد من شر كل حاسد من كل بر عاهد وكل عبد رائد يرود غير رائد فإنه عبد الحميد الماجد حتى أراه قد أتى المشاهد . قال آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمداً فإن اسمه فى التوراة أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض واسمه فى الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض واسمه فى الفرقان محمد فسميه بذلك . (5)
(1) سطيح : كان كاهناً بالشام ، وقيل أنه كان أعجوبة من العجائب حيث كان جسداً لا جوارح له ، ولا عظم فيه إلا الرأس ، ووجهه فى صدره ، وقد عاش كثيراً واشتهرت أخباره - غالباً – بالصدق .
(2) أبو داود ، أحمد ، البزار والطبرانى .
(3) البقرة - الآية: 129
(4) سورة: الصف - الآية: 6
(5) راجع : دلائل النبوة ، للبيهقى .
2- غيض بحيرة ساوة التى كانت تُقدس ، وخمود نار فارس وكان لها ألف عام لم تخمد حيث كانت توقد فى اصطخرأباد ويعبدها المجوس .
3- اضطراب اليهود لولادته : ففى رواية عائشة ( رضى الله عنها ) أنها قالت : كان يهودى قد سكن بمكة فلما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله () قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : لا نعلم . قال : انظروا فإنه ولد فى هذه الليلة نبى هذه الأمة بين كتفيه علامة . فانصرفوا فسألوا فقيل لهم قد ولد لعبد المطلب غلاماً فذهب اليهودى معهم إلى أمه فأخرجته لهم فلما رأى اليهودى العلامة خر مغشياً عليه وقال : ذهبت النبوة من بنى إسرائيل . يا معشر قريش أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب . (1)
4- حادثة الفيل التى حكى عنها القرآن الكريم . وهى لم تكن من حوادث ليلة مولده () ولكنها كانت فى العام الذى ولد فيه محمد () .
- وهناك من الآيات والمعجزات التى صاحبته فى طولته منها :
1- إظلال الله له بالغمام فى سفره مع ميسرة فى تجارة خديجة (رضى الله عنها ) إلى الشام .
2- أنه كان إذا أكل مع عمه أبو طالب وآله شبعوا ورووا ، وإذا غاب فأكلوا فى غيبته لم يشبعوا . وقالت أم أيمن ( رضى الله عنها ) حاضنته ومولاته : ما رأيته شكى جوعاً ولا عطشاً صغيراً ولا كبيراً.
3- البركة التى حصلت لآل بيت " حليمة السعدية " مرضعة الرسول () . وهى حادثة مشهورة .
ثالثاً : ما أخبرت به الكتب القديمة عن مجيئه وأوصافه () :
1- اعتراف بحيرا الراهب بأوصافه () عندما ذهب محمد () مع عمه أبى طالب إلى الشام وهو ابن اثنى عشر عام ، فصنع بحيرا طعاماً لقريش ، ثم نظر وإذا بالغمامة التى تظل القافلة باقية فى مكانها . قال : فالذى أريده إذاً مازال باقياً هناك فأرسل إليه من يأتى به () . وقال لعمه أبى طالب : عد به إلى مكة ، فاليهود حساد يكيدون له ، فإنا نجد أوصافه فى التوراة .
2- ما رواه البخارى من طريق عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت : أخبرنى عن صفة رسول الله () فى التوراة . قال :" أجل والله إنه لموصوف فى التوراة ببعض صفته فى القرآن : يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين ، أنت عبدى ورسولى ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا اله إلا الله ، ويفتح بها أعيناً عمياً ، وآذاناً صُماً ، وقولوباً غلفاً " (2)
وإذا كانت رسالة الرسول () دليل صدقها فيها - لأنها مستمدة من رب العالمين سبحانه وتعالى – فإن وجود البشارات فى الكتب السابقة لدليل يقيم الحجة على من أنكر هذه الرسالة ، فقد تعددت البشارات بمحمد () رسول الإسلام فى التوراة والإنجيل ، ولكن أصحابها أزالوا عنها كل معنى صريح ، وصيروا نصوصاً
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك عن عائشة ( رضى الله عنها ) وحسنه ابن حجر .
(2) أخرجه البخارى ى كتاب البيوع ح 2125 .
احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه () ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الأدلة على معناها الأصلى من حملها على رسول الله () لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال . (1)
بشارات العهد القديم :
والعهد القديم الذى يؤمن به اليهود والنصارى على أنه كلام الله ، أما العهد الجديد فهو الذى يؤمن به النصارى وحدهم على أنه كلام الله .
والعهد القديم أو ما يسمى بـ " الكتاب المقدس " عبارة عن موسوعة تضم أسفاراً أصغر تبلغ ستاً وستين منها : سفر التكوين ، والخروج ، والعدد ، والتثنية ، وأشعياء .... وغيرها .
ففى سفر أشعياء وردت رواية بدء الوحى على محمد () الذى يقول : " فى الكتاب المنزل إليه ، الأمى ، قل : اقرأ يقول : ما أنا بقارئ " أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة . (2)
وفى كتاب التثنية ( 18 : 18 ) الذى يقول : " أقيم لهم نبياً من وسط أخوتهم مثلك واجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيهم به " وهذا يؤكد قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِيَ إِسْرَائِيلَ عَلَىَ مِثْلِهِ (3) (4) .
وورد فى سفر التثنية أيضاً : الإصحاح (133) الفقرات ( 1- 2 ) : " وهذه هى البركة التى بارك بها موسى رجل الله بنى إسرائيل قبل موته " فقال : " جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران " .
وفى هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات :
الأولى : نبوة موسى عليه السلام التى تلقاها على جبل سيناء .
الثانية : نبوة عيسى عليه السلام وساعير هى قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى أمر رسالته.
الثالثة : نبوة محمد () وجبل فاران هو المكان الذى تلقى فيه محمد () أول ما نزل عليه من الوحى ، وفاران هى مكة المكرمة مولد ونشأة الرسول () ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذى به غار حراء الذى تلقى فيه الرسول () بدء الوحى .
وترتيب الأحداث الثلاثة فى العبارة المذكورة : جاء من سيناء ، وأشرق من ساعير ، وتلألأ من فاران هذا الترتيب الزمنى دليل على أن " تلألأ من فاران " تبشير قطعى برسول الله () (5) .
(1) راجع : حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين ، الشبهة الثانية والأربعون ص 312 ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية . مصر .
(2) أشعياء فصل 29 ، النص 12 ترجمة دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط 1987م .
(3) سورة: الأحقاف - الآية: 10.
(4) محمد () المثال الأسمى ، لأحمد ديدات ص 80 ترجمة محمد مختار .
(5) حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين ص 321 – 322 .
وفى الفصل الحادى عشر من سفر التثنية أن موسى عليه السلام قال لبنى إسرائيل : " إن الرب إلهكم يقيم نبياً مثلى من بينكم ، ومن إخوتكم فاسمعوا له " وقد ورد فى هذا الإصحاح ما يؤكد هذا القول ويوضحه وهو قول الله لموسى – حسب ما تروى التوراة - :" أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذى لا يسمع لكلامى الذى يتكلم به باسمى أنا أطالبه – أو أنا أنتقم منه " (1)
- وهذه البشارة تنطبق على محمد () من وجوه نذكر منها :
1- اليهود مجمعون على أن جميع الأنبياء الذين كانوا فى بنى إسرائيل من بعد موسى لم يكن فيهم مثله . والمراد بالمثلية هنا أن يأتى بشرع خاص تتبعه عليه الأمم من بعده ، وهذه صفة محمد () لأنه من إخوتهم – أى من العرب – وقد جاء بشريعة ناسخة لجميع الشرائع السابقة ، وتبعته الأمم عليها ، فهو كموسى ، هذا فضلاً عن أن لفظه ( من بينهم ) الواردة فى البشارة قد أكدت وحددت الشخص المراد : فموسى قد جاء بشريعة وكل من جاء من بعده من بنى إسرائيل لم يكن واحد منهم صاحب شريعة وإنما كانوا على شريعة موسى عليه السلام حتى عيسى عليه السلام جاء متمماً ومعدلاً ومجدداً الدعوة على هدى شريعة موسى ولذلك فلا مثلية بين هؤلاء الأنبياء وإنما المثلية تتحقق لصاحب شريعة لها سلطانها الخاص بها مثلما كانت لموسى وهى بلا شك شريعة الإسلام وصاحبها محمد () . (2)
2- أن النص يدل على أن النبى الذى يقيمه الله لبنى إسرائيل ليس من نسلهم ولكنه من إخوتهم فكل نبى بعث من بعد موسى كان من بنى إسرائيل وآخرهم عيسى عليه السلام ولم يبق من إخوتهم – أى العرب – غير محمد () .
- بشارات العهد الجديد :
وبشارات الأناجيل والرسائل – العهد الجديد – تعلن أحياناً فى صورة الوعد بملكوت الله وملكوت السماوات ، وأحياناً أخرى بالروح القدس ، ومرات باسم المعزَّى (3) أو الفارقليط أو الباركليت وهى كلمة يونانية تعنى بالعربية أحمد أو محمداً أو محمود فمعناها يدور حول الحمد ومشتقاته المشار إليها .
وكذلك لها من المعانى الأخرى فى القواميس كالناصر ، والمنذر ، والداعى ... يذكر يوحنا – صاحب رابع الأناجيل – بشارات الرسول () فى مواضع متعددة من إنجيله . ومن ذلك ما يرويه عن المسيح عليه السلام : " الذى لا يحبنى لا يحفظ كلامى ، والكلام الذى تسمعونه ليس لى بل للأب الذى أرسلنى . بهذا كلمتكم وأنا عندكم . وأما المعزَّى الروح القدس ؛ الذى سيرسله الأب باسمى فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بما قلته لكم (4) .
كما يروى يوحنا قول المسيح مع تلاميذه : " إنه خير لكم أن أنطلق . إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى
(1) سفر التثنية : الإصحاح (18) الفقرات ( 18 – 19 ) .
(2) راجع فى ذلك : حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين ص 324 – 327 ، ومحمد () فى العهد القديم لعبد الرحمن السحيم ص 8 ، 9
(3) المعزى : اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى . (4) الإصحاح (14) الفقرات ( 24 – 26 ) .
ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ، ومتى جاء ذلك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر وعلى دينونة " (1) .
ويروى كذلك قول المسيح لتلاميذه : " وأما إذا جاء روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ... " (2)
- ومن هذه الروايات يصف المسيح عليه السلام المعزى وهو – محمد () بأوصاف منها :
1- إنه يعلم الناس كل شىء . وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح فى الدنيا والدين . وذلك هو الإسلام .
2- إنه يبكت العالم على خطية ، والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه أيضاً شمول الإسلام لكل أجناس البشر ، عرباً وعجماً ، فى كل زمان ومكان ، ولم توصف شريعة بهذا إلا الإسلام .
3- إنه يخبر بأمور آتية ، ويذكر بما مضى ، وقد تحقق هذا فى رسالته () . (3)
المبحث الثانى
إخباره () بغيوب كثيرة وقعت كما أخبر بها عن الله تعالى
إن هناك كثيراً من الأخبار الغيبية الصادقة أخبر بها الرسول () لتكون دليلاً وبرهاناً ومعجزة على صدق رسالته ، وأنه لا ينطق عن الهوى . وهذه الغيوب ولأجل الوصول إلى إدراك حقيقتها – كما يقول بديع الزمان – إدراكاً كاملاً يجب أن نضع بين يديها أسساً مقدمة لها :
أولاً : أن الله تعالى أرسل محمداً بشراً رسولاً ليكون بأعماله وحركاته كلها إماماً ومرشداً للبشر كافة ، وفى أحوالهم كافة ليحقق لهم بها سعادة الدنيا والآخرة ، وليبين لهم خوارق الصنعة الربانية وتصرف القدرة الإلهية فى الأمور المعتادة . ولو كان محمداً () فى جميع أحواله وأفعاله خارقاً للعادة ، خارجاً عن طور البشر ، لما تسنى له أن يكون أسوة يقتدى بها ، وما وسعه أن يكون بأفعاله وأحواله وأطواره إماماً للآخرين ؛ لذا ما كان يلجأ إلى إظهار المعجزات إلا بين حين وآخر عند الحاجة ، إقراراً لنبوته أمام كفر المعاندين ، وكذلك لتثبيت إيمان المؤمنين .
ثانياً : أن سر الامتحان والتكليف يقتضيان فتح مجال الاختيار أمام العقل دون سلب الإرادة منه ليسلم من أسلم عن بينة .
ثالثاً : أن الرسول () بشر ولم يخرج عن بشريته وهو مبلغ لرسالة ربه ، وناطق أمين باسم الله تعالى ، ورسالته تستند إلى حقيقة الوحى – سواء الوحى الصريح كالقرآن وبعض الأحاديث القدسية من دون أن يكون له () تصرف أو تدخل منه ، أو وحى ضمنى يستند إلى الوحى والإلهام وتصويره يعود إلى الرسول () – ولذلك فهو لا يعلم الغيب ما لم يُعلَّمه الله تعالى وما أخبر عنه () من حوادث مستقبلية إنما بوحى وإلهام من الله سبحانه وتعالى .
(1) الإصحاح (16) الفقرات ( 7 – 8 ) .
(2) الإصحاح (16) الفقرات (13) .
(3) راجع : حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين ص 334 – 337 – مرجع سابق .
رابعاً : أن قسماً من حوادث المستقبل التى أخبر عنها الرسول () هو حوادث كلية ، تتكرر فى أوقات مختلفة ، وليس بحادثة جزئية مفردة . فالرسول () قد يخبر عن تلك الحادثة الكلية بصورة جزئية مبيناً بعض حالاتها . حيث أن لمثل هذه الحادثة الكلية وجوهاً كثيرة (1) .
والغيوب التى أخبر عنها الرسول () كثيرة منها ما تحقق فى حياته () ، ومنها ما تحقق بعد مماته بفترة قصيرة ، ومنها ما يتحقق فى أيامنا ونحن عليها من الشاهدين .
أولاً : ما أخبر عنه الرسول () وتحقق فى حياته () :
1- أنه أخبر الفئة المستضعفة بمكة أن دينه سيعم جزيرة العرب .
عن خباب بن الأرت () قال : شكونا إلى رسول الله () وهو يومئذ متوسد بردة فى ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا الله تبارك وتعالى – أو ألا تستنصر لنا ؟ قال : " قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحضر له فى الأرض ، فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل بنصفه فما يصده ذلك ، والله ليتمن الله عز و جل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى ، والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " (2) .
وقد وقع ذلك فى حياته () بأن دانت الجزيرة كلها بالإسلام .
2- إخباره () بما حدث فى غزوة مؤتة وهى على بعد مسيرة شهر من حدود الشام .
حيث أخبر () عن أحداث المعركة أمام الصحابة قال : " أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحة فأصيب – وعيناه تزرفان – حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم " (3) وبعد مرور بضعة أيام عاد بعلى بن منبه من ساحة المعركة وقبل أن يخبر عما جرى هناك بين الرسول () ما دار فى المعركة مفصلاً ، فأقسم يعلى وقال : " والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفاً واحداً "
ثانياً : ما أخبر به () وتحقق بعد وفاته بقليل :
1- إخباره بفتح جزيرة العرب ثم فارس ثم الروم .
روى مسلم عن نافع بن عقبة قال : كنا مع رسول الله () فى غزوة قال : فأتى النبى () قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصرف فوافقوه عنه أكمة فإنهم لقيام ورسول الله () قاعد . قال : فقالت لى نفسى ائتهم فقم بينهم وبينه لا يقتلونه . قال ثم قلت لعله نَجىٌ معهم فآتيهم فقمت بينهم وبينه حفظت منه أربع كلمات أعدهن فى يدى قال : " تغزون جزيرة العرب يفتحها الله ، ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله ، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله " (4)
وكلها بحمد الله وقعت ما عدا الدجال فهو من علامات الساعة .
(1) راجع : مكتوبات سعيد النورسى ، المكتوب التاسع عشر عن موقع saidnur.com .
(2) أخرجه البخارى ح 3612 ، وأبو داود ح 2649 ، والنسائى ح 5335 ، وأحمد فى " مسنده " ( 5 / 109 – 110 ) .
(3) أخرجه البخارى فى كتاب المغازى ح 4262 .
(4) أخرجه مسلم فى كتاب الفتن وأشراط الساعة ح 2900 .
2- إخباره () عن استشهاد الحسين بكربلاء .
عن عبد الله بن نجى عن أبيه : أنه سار مع على ( ) – وكان صاحب مطهرته – فلما حازى " نينوى " وهو منطلق إلى حطين فنادى على : اصبر عبد الله بشط الفرات ، قلت : وماذا ؟ قال : دخلت على النبى () ذات يوم وعيناه تفيضان ، قلت ، يا نبى الله : أغضبك أحد ، ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : " بل قام من عندى جبريل قبل فحدثنى أن الحسين يقتل بشط الفرات ، قال ، فقال : هل لك أن أشمك من تربته ؟ قال قلت : نعم ، فمد يده – أى جبريل – فقبض من تراب فأعاينها فلم أملك عينى أن فاضتا " (1)
ومن حديث أم سلمة ( رض الله عنها ) قول جبريل للنبى () إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء ، فلما أحيط بحسين حين قتل ، قال ما اسم هذه الأرض ؟ قالوا : كربلاء ، قال : صدق الله ورسوله أرض كرب وبلاء . (2)
3- أنه قال لعلى ( ) ستقاتل الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين . وبذلك أخبر عن موقعة الجمل ، وصفين وعن الخوارج .
وقال للزبير ( ) : " لتقاتلنه وأنت له ظالم " عندما رآه وعلياً يتحابان .
وقال لأزواجه الطاهرات : " كيف باحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثيرة .... " وبعد ثلاثين سنة تحققت هذه الأحاديث ، وذلك فى موقعة الجمل بين على ( ) وعائشة ومعها طلحة والزبير ( ) . كما تحققت وقعة الصفين بين على ومعاوية . وكذلك وقعة حروراء ونهروان بين على والخوارج .
ثالثاً : إخباره بغيوب تتحقق فى أيامنا ونحن عليها من الشاهدين :
ونذكر من هذه الغيوب :
1- تداعى الأمم على أمة الإسلام :
عن ثوبان ( ) قال : قال رسول الله () : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " فقال قائل : ومن قلة يؤمئذ : قال " بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة وليقذفن فى قلوبكم الوهن " فقال قائل : وما الوهن ؟ قال : " حب الدنيا وكراهة الموت " (3)
2- حديثه () عن وقوع الحكم الجبرى (4) :
عن حذيفة ( ) قال : قال رسول الله () : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة ثم يرفعها الله ثم تكون ملكاً عاضاَ (5) فتكون ما شاء الله أن تكون فيرفعها الله ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ثم سكت . (6)
(1) أخرجه أحمد فى " المسند " ( 2/265 ) ، الطبرانى فى المعجم الكبير ( 3/112 ) (2) أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير .
(3) أخرجه أبو داود ح 4297، وأبو نعيم فى الحلية ، والألبانى فى الصحيحة برقم 958 وقال : إسناده لا بأس به ، وأحمد فى مسنده (5/278) .
(4) الحكم الجبرى كما هو مشاهد فى الانقلابات العسكرية والحدود السياسية وحكم الشعوب بالحديد والنار.
(5) الملك العاض : أن يأخذ الابن الحكم من أبيه والأخ من أخيه .
(6) أخرجه أحمد فى مسنده ، وقال الهيثمى فى المجمع 5/192 : رواه أحمد والطبرانى ببعضه فى الأوسط ورجاله ثقات وذكره الألبانى فى الصحيحة رقم 5 .
وقد وقع الحكم الجبرى كما أخبر عنه () فى بدايات القرن العشرين وكذلك الملك العاض .
3- ظهور السيارات والمركبات والنساء الكاسيات العاريات :
عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله () : " يكون فى آخر أمتى رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد ، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤسهن كأسنمة البخت العجاف ، العنوهن فإنهن ملعونات ، لو كان وراءكم أمة من الأمم خدمهن نساؤكم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم " (1) وعند الحاكم " ... يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب المساجد " وهذه المراكب الحديثة التى أخبر عنها النبى () مثل السيارات وغيرها ، ووقوف الناس بها على أبواب المساجد فى الصلوات ، وركوب النساء الكاسيات العاريات للسيارات .
المبحث الثالث
عظـمــــــة محمـــــــــد ()
إن جوانب العظمة فى شخصية الرسول () لا تكمن فى درجة تأثيره كعظيم فقط ، ولكن فى مقوماتها الذاتية ، وعناصرها التى تتكون منها . فكل عظيم ذكره التاريخ لنا إنما يشتهر غالباً فى ميدان واحد أو اثنين من ميادين العظمة ، كاشتهار الفاتح بفتوحه ، والشجاع بشجاعته ، والمخترع بفرط ذكائه ، ... ولكن أن تجتمع كل دعائم العظمة الشاملة وصفاتها لتكون نموذجاً يحتذى للكمال البشرى والحياة الصالحة فهذا لا يكون إلا لشخص كرسول الله () فهو العظيم فى الشجاعة ، والحرب ، والسلم ، والعدل ، والصدق ، والعقل ، والحزم ، والحكمة ، والتدبير ، والأخلاق ، والعلم ، والجود ، والزهد ، والإخلاص ، والإيثار ، وحب الغير ، والبلاغة ، وجوامع الكلم ، والتشريع ، والقضاء ، و ........ وبحيث يكون هو الشاب المثالى منذ شبابه ، والأمين المثالى ، والصادق المثالى ، والتاجر المثالى ، والصديق المثالى ، والزوج المثالى ، والأب المثالى ، والقائد المثالى ، والمحارب المثالى ، والمربى المثالى ، و .......... فإن هذه العظمة الشاملة هى فوق مراتب العظماء !! إنها عظمة محمد () . (2)
قال أحد المؤرخين: يجب أن يحكم بعظمة الرجل من خلال ثلاثة اختيارات :
1- هل كان عند معاصريه ذو عزم صادق ؟
2- هل كان من العظمة بحيث يرتفع فوق مستوى من هم فى سنه ؟
3- هل ترك شيئاً كتراث دائم للعالم كافة ؟
وإذا نظرنا إلى حالة محمد () العظيم فيمكن أن تمتد هذه القائمة إلى أبعد مدى ، فهذه الخيارات تتحقق بوضوح ولأعلى درجة فى شخصية الرسول محمد () .
(1) أخرجه ابن حبان فى صحيحه ( 1454) ، والحاكم فى المستدرك ( 4/436 ) ، وأحمد فى مسنده 2/223 ، والطبرانى فى الصغير 2 / 127 ، وأورده الهيثمى فى المجمع 5 / 140 .
(2) راجع : عظمة محمد () خاتم رسل الله لمصطفى الزرقا ص 38 – 40 – مرجع سابق .
وهذا ما جعل مايكل هارث أن يضع الرسول () على رأس قائمة أعظم مائة شخصية ممن ظهروا وأثروا فى التاريخ – فى كتابه العظماء مائة – واعتبره أعظم العظماء فى تاريخ البشرية ولقد وضع – د. مصطفى الزرقا – مقاييس صحيحة للشخصية العظيمة ، وأنها تقوم على مقومات ودعائم ، أهمها أربع :
الأولى : الصفات النفسية والأخلاق الشخصية فى الشخص العظيم .
الثانية : مدى الإبداع والسمو فى المبادئ والأعمال التى أتى بها .
الثالثة : مدى كفايته ونجاحه فى تحقيق منهاجه الإصلاحى ، أى مدى قدرته التنفيذية .
الرابعة : مدى نجاح العظيم فى تكوين جيل قيادى صالح ، مؤهل لحمل مسئولية المحافظة على المبادئ ومتابعة تنفيذها .
هذه المقومات بالإضافة إلى الاختيارات السابقة تتحقق بجلاء ووضوح وسطوع لا ينكره إلا معاند أو مكابر فى شخصية الرسول () . وإذا جاز لنا أن نعدد بعضاً من هذه الصفات فإننا نذكر منها :
أولاً : أن النبى () عند معاصريه ذو عزم صادق .
ثانياً : تمتعه () بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة .
ثالثاً : نجاحه فى تحقيق ما جاء به وله .
رابعاً : أنه () أوتى بمنهج دائم للبشر كافة وهو " القرآن الكريم " .
أولاً : أن النبى () عند معاصريه ذو عزم صادق :
إن معاصرى محمد () – الأصدقاء والأعداء – اعترفوا بالشمائل النقية والاستقامة الخالصة والفضائل الكريمة والإخلاص المطلق والأمانة المطلقة لرسول الله () فى جميع مناحى الحياة وفى كل مجال النشاط الإنسانى ، حتى أن اليهود وأولئك الذين لم يؤمنوا برسالته قبلوه حكماً فى نزاعاتهم الشخصية بسبب ما عرفوه عنه من تحريه عدم التحيز (2) وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف ة قوله سبحانه : وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ (3) وحتى الذين لم يؤمنوا برسالته ويعلمون يقيناً أنه أمين وصادق فيما جاء به أعلنوا أنهم لا يتهمونه بالكذب ولكنهم جحدوا بآيات الله : قَدْ نَعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُنُكَ الّذِي يَقُولُونَ فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (4) .
وإذا قرأنا سير الأولين السابقين إلى الإسلام لوجدنا المقربين منه () كخديجة ، وأبى بكر ، وعلى ... رضى الله عنهم الذين عرفوه معرفة وثيقة وعرفوا أمانته وصدقه قد صدقوا رسالته وأيقنوا بأصالة ما أوحى إليه .
(1) عظمة محمد () خاتم رسل الله ص 9 – 10 .
(2) محمد () المثال الأسمى ، لأحمد ديدات ، ترجمة محمد مختار ص 37 ، 38 .
(3) المائدة 43 .
(4) الأنعام 33 .
وها هو الخباب بن الأرت جعلوه يرقد على جمر محترق مما جعل جلده ينصهر ، وهذا ياسر يُمزق وزوجته سمية تطعن بالحربة ، وخباب بن عدى يُقتل ويمثل بجسده ، وحينما كان يسأل وهو يعذب إذ كان يرجو لو أن محمداً () كان مكانه وهو – أى خباب – آمن ى بيته وبين أهله ، كان يعلنها صريحة بأنه يفتدى محمداً بنفسه وأهله ومن فى الأرض لينجى رسول الله () من وخز شوكة حتى لا يشاكها .
يقول – ديدات – معلقاً على هذه الأحداث : ما السبب فى أن أبناء وبنات الإسلام هؤلاء لم يسلموا لنبيهم طاعة وتسليماً فحسب ، وإنما جعلوا أجسامهم وقلوبهم وأنفسهم فداه ؟ ألم يكن إيمان أتباع محمد () المباشرين واقتناعهم الشديد أرفع شهادة على صدقه واستغراقه التام فى المهمة التى كان بها ؟! (1)
تقول دائرة المعارف البريطانية : " إن محمداً هو الأكثر نجاحاً وتوفيقاً من كل الأنبياء والشخصيات الدينية " وأن هذا النجاح لم يكن نتيجة مصادفة مجردة . لم يكن ثمرة أسقطتها الرياح . لقد كان اعترافاً بحقيقة أن معاصريه وجدوه ذو عزم صادق . وكان نتيجة لشخصيته التى تدعو إلى الإعجاب وتدفع بشدة إلى الانتباه . (2)
إن أول الناس مسارعة إلى تصديقه () والإيمان به هم أصحاب العقول الراجحة وأولوا الألباب السليمة كخديجة ( رضى الله عنها ) ، وأبى بكر الصديق ( ) و.......... وهم الذين عايشوه عن قرب . وهناك من لم يعرف الرسول () قبل بعثته ولكنهم أهل عقل وحجة لما عملوا من دلائل نبوته () أمثال أبو زر الغفارى ، وضماد ( ) . ومنهم من آمن به لأنهم وجدوه مكتوباً عندهم فى الكتب القديمة كعبد الله بن سلام الذى كان على ملة اليهود ، وجرير الرومى الذى كان على ملة النصارى .
- إسلام خديجة :
أول من آمن بمحمد () وكان إيماناً عن دليل وبرهان ، لم يكن مجرد تقليد وإتباع لزوج . فقد عرفت فيه الصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الخلق والرحمة بالخلق ومثله لا يخزيه الله أبداً . ولقد برهنت على ذلك أن رسول الله () كان يتمتع بأخلاق كثيرة ذكرت منها الأخلاق الأساسية التى لمستها عن قرب خلال خمسة عشر عاماً قضتها فى كنفه الشريف () . وهذه الأخلاق لو توفرت فى إنسان كمحمد () لن يخزيه الله أبداً لقد قالت له :
1- إنك لتصل الرحم . 2- وتحمل الكل . 3- وتكسب المعدوم .
4- وتقرى الضيف . 5- وتعين على نوائب الدهر .
إنها الأخلاق الأساسية لكل داعية إلى الله تعالى ، وعلامة صدق لرجل حمل الأمانة : أمانة الدعوة وبلغها إلى العالمين .
وعندما انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وكان أمرءاً تنصر فى الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبرانى يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمى ، فقالت له خديجة ( رضى الله عنها ) يا بن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : " يا ابن أخى ماذا ترى ؟ فأخبره
(1) راجع : محمد المثال الأسمى لأحمد ديدات ص 41 .
(2) المرجع السابق ص 41 – 42 .
الرسول () خبر ما رأى قال له ورقه هذا الناموس الذى أنزله على موسى يا ليتنى فيها جذعاً . ليتنى أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال () أو مخرجى هم قال نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى وأن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً . ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى " (1)
- ومن دلائل نبوته () فى هذا الموقف ما يلى :
1- أن النبى المرسل () له علامات عرفها ورقة من خلال قراءاته فى الإنجيل والتوراة وأن ما أتى الرسول – وهو جبريل – لا ينزل على البشر العاديين بل على نبى مرسل .
2- أن النبى () علم من ورقة أنه سيؤذى ويعادى من أهله وسيخرجونه من بينهم . ولو لم يكن النبى () على حق وصدق ويقين لتراجع عن موقفه وعما قال مؤثراً السلامة والعيش السعيد الهانئ مع زوجته وأولاده وبين قومه وفى موطنه .
والمتأمل للتاريخ يدرك جيداً مدى أهمية الموطن والمنشأ للعربى القديم ومدى عزة نفسه فى أن يطرد ويخرج عنوة من موطنه الذى نشأ فيه .. " إنه طبيعة هذا الطريق المستقيم ، فهو ليس سهلاً ميسراً ، ولكنه شاق طويل كله محن وابتلاءات وعقبات ، ومجاهدة للنفس ، ومدافعة للباطل وأهله بكل ما يملكون من قوة وبطش وسلطان ، وصراع دائم بين الحق والباطل " (2)
3- لقد تحقق ما قاله " ورقة " وأوذى وعودى () ولكنه كان دائماً يجد الصدر الحنون والملاذ الآمن – بعد ملاذ الله تعالى – فى زوجته السيدة خديجة ( رضى الله عنها ) التى عرفت أخلاقه ومدى صدقه فلم تسمعه إلا ما يعينه على دعوته وهى تعلم ما يترتب على هذه الدعوة من تبعات ومشقة .
إسلام أبو بكر الصديق ( ) :
وهو من أوائل الناس إسلاماً وتصديقاً برسالته () عن يقين ودليل وبرهان تحقق بفضل صحبته الطويلة قبل البعثة للنبى () ولمعرفته اليقينية بالرسول () وقد كان ثبات الصديق على هذا الدين وضربه المثل الكامل للمؤمن الصادق ، وتطبيقه الفريد لحقائق الدين لهو دليل على صدق محمد () . قد علم أبو بكر صدقه علماً ضرورياً لما أخبر بما جاء به ، وقرأ عليه ما أنزل عليه () وبقى القرآن الذى قرأه آية أخرى على صدقة () ، فاجتمع الصدق والأمانة مع القرآن ومع القرائن الأخرى فوجب علماً بالضرورة أنه صادق . وكما قال ابن تيمية : وخبر الواحد المجهول من أحاد الناس قد تقترن به قرائن يعرف بها صدقه بالضرورة ، فكيف بمن عرف صدقه وأمانته وأخبر بمثل هذا الأمر الذى لا يقوله إلا من أصدق الناس من أكذبهم ، وهو يعلم أنه من الصف الأول دون الثانى . (3)
- إسلام ضماد ( ) :
وهو من أزد شنوءة ، كان خبيراً بالرقى وعليماً بكلام العرب .
(1) أخرجه البخارى فى كتاب التعبير ح 6982 .
(2) راجع : صفة الابتداء لعبد الفتاح شاهين ص 19 ، دار الكنوز مصر .
(3) النبوات لابن تيمية ص 312 – مرجع سابق .
روى مسلم والبيهقى من حديث داود بن أبى هند عمرو بن سعيد بن جبير عن ابن عباس () قال : قدم ضماد مكة وهو رجل من أزدشنوءة وكان يرقى من هذه الرياح فسمع سفهاء من سفهاء مكة يقولون :
إن محمداً مجنون ! فقال : أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى ؟ قال : فلقيت محمداً فقلت : إنى أرقى من هذه الرياح ، وأن الله يشفى على يدى من شاء فهلم !! فقال محمد () : " إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأن لا اله إلا الله وحده لا شريك له . ثلاث مرات – " فقال ضماد : والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام فبايعه رسول الله () فقال له : " وعلى قومك " فقال : وعلى قومى . (1)
ثانياً : تمتعه () بصفات نفسية وأخلاق شخصية أهلته لحمل الرسالة :
لقد عرف رسول الله () باستقامته وصدقه ، وكان يلقب بين قومه – قبل البعثة وبعدها – بالصادق الأمين ، رفيع الأخلاق ، سامى الخصال ، عصمه ربه من الانزلاق فى مهادى رذيلة قومه وأوثانهم .
يقول المستشرق " جرسان دتاس " : " إن محمداً ولد فى حضن الوثنية ، ولكنه منذ نعومة أظافره أظهر عبقرية فذة ، وانزعاجاً عظيماً من الرذيلة وحباً جاداً للفضيلة ، وإخلاصاً ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه فى ذلك العهد اسم الأمين . " (2)
وبديهى أن يعتبر المؤرخون المسلمون تلك الصفات وهذه السجايا من دلائل النبوة ، وتتمثل أشد ما تتمثل فى عصمة الله لرسوله المرتقب من أجواء الرذيلة الشائعة فى الجاهلية ، وأنه () كان يشعر انطلاقاً من حدسه بأن عليه الابتعاد عن المعاصى والموبقات .
يتحدث الباحث الأرجنتينى دون بايرون ( 1839 – 1900 ) فى مؤلفه " أتح لنفسك فرصة " فيقول : " لا يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه فى طينته أرق من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاءً وعبقرية ، وأن الله اختاره لأمر عظيم ، وقد اتفق المؤرخون على أن محمد بن عبد الله كان ممتازاً بين قومه بأخلاق حميدة ، ومن صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى سماه أهل بلده الأمين ، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم ، وكان لا يشرب الأشربة المسكرة ولا يقيم للأوثان احتفالاً ، وكان يعيش مما يدره عليه عمله من الخير ... " (3)
ومن عظمته () التى اشتهر بها وتفوق بها على أقرانه ومن هم فى مثل سنه " حكمته () " . وتجلت يوم وضع الحجر الأسود عندما تنازعت قبائل قريش فيما بينهم – عند بناء الكعبة – من الذى يضع الحجر مكانه ؟ فقالوا : نحكم أول من يدخل من باب بنى شيبة ، فكان أول من دخل منه محمداً () . فأخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر وسطه ، وأمر كل فخذ من قبائل قريش بأن يأخذ بطائفة من الثوب فرفعوه ثم أخذه بيديه الشريفتين فوضعه مكانه " (4)
(1) رواه مسلم ح 868 .
(2) جرسان دتاسى ، نقلاً عن كتاب الرسول فى الدراسات الاستشراقية المنصفة لمحمد الشيبانى ص 20.
(3) دون بايرون : أتح لنفسك فرصة تعريب عبد المنعم محمد الزيادى .
(4) رواه أحمد فى " المسند " وأبو داود الطياليسى ، والبيهقى ، وأبو نعيم .. وحسنه الهيثمى .
لقد ربط أرثر جيلمان فى كتابه – الشرق – بين هذه الحادثة التى منعت اقتتال القبائل التى هى بطون قريش وَوَحَدَت أرادتهم فى بناء الكعبة وبين المرحلة اللاحقة لبدء البعثة ، والتى تشكل مقدمة للنبوة وعلامة من علاماتها بقوله : " لابد أن يكون محمد قد تأثر بإعجاب قومه وتقديرهم العظيم ، هذه الفكرة التى بسطت السلام بين مختلف القبائل ، وقد اتفق المؤرخون على أن محمد كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة : من صدق الحديث ، والأمانة ، والكرم ، وحسن الشمائل والتواضع ، حتى سماه أهل بلده " الأمين " وكان من شدة ثقتهم به يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم ، وكان لا يشرب الأشربة المسكرة ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً " (1)
وهذه عصمة لمحمد () عن كل أسباب التلوث العقائدى ، والتلوث الفكرى ، والعملى ، وتمهيداً لما هو مقبل عليه من حمل الرسالة وإصلاح البشرية كلها .
وكان محباً للفقراء ، عطوفاً على الضعفاء ، ناصراً للمظلوم ، حتى إنه دخل فى حلف الفضول الذى تعاهد فيه فريق من ذوى الكرم والنجدة من قريش فى الجاهلية على إغاثة الضعفاء ، والمظلومين وتخليص حقوقهم التى يهضمها الأقوياء المستعِبدون من زعماء العشيرة .
ولذلك وصفته السيدة عائشة ( رضى الله عنها ) بأنه " كان خلقه القرآن " (2) أى كما جاء فى القرآن من تعاليم . ولما سألته ( رضى الله عنها ) : هل أتى عليك يوماً كان أشد من يوم أحد ؟ - حيث وقع رسول الله () فى حفرة حفرها المشركون ليقع فيها المسلمون وشج وجهه ، وكسرت رباعيته ودخلت حلقتان من المغفر الذى يستر به وجهه فى وجنته وجرحت شفتاه وسال دمه الشريف الطاهر على وجهه ولحيته ، فأخذ يمسح الدم عن وجهه وهو يقول : " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدماء ؟! " ومع ذلك رفع يديه إلى السماء وقال : " اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون " - عند ذلك أجاب رسول الله () : " لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل " وذكر لقاء الطائف وما لقاه من ثقيف من صد وظلم وتكذيب وعدوان وطغيان ، من أجل هذا الخلق العظيم والصبر الجميل يرسل له رب العالمين ملك الجبال يستأمره أن يطبق عليهم الأخشبين فقال النبى () : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً "
فهذه أخلاق الرسول () والذى ما عرفت البشرية بأسرها كمحمد () بهر الدنيا بسيرته ، وملأ التاريخ بعظمته ، وشمل الخلائق كلها برحمته حتى أثنى عليه ربه بقوله : وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ (3) ، يقول إدوارد مونتيه أستاذ اللغات الشرقية فى جامعة جينيف ( 1856 – 1927 ) : " أما محمد فكان كريم الخلق حسن العشرة ، عذب الحديث ، صحيح الحكم ، صادق اللفظ ، وقد كانت الصفة الغالبة عليه هى صحة الحكم ، وصراحة اللفظ والإقناع التام بما يقبله ويقوله . إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد ، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص ... " (4)
(1) أرثر جيلمان ، الشرق ص 117 .
(2) رواه مسلم ح 512 ، 513 ، وأحمد فى " مسنده " ( 6 / 91 ، 163 ) ، والبيهقى فى سننه (2/499) ، والبخارى فى الأدب (308)
(3) الأنبياء 107 .
(4) إدوارد مونتيه عن حاضر الإسلام ومستقبله ، راجع : محمد فى الدراسات الاستشراقية المنصفة ص 137 .
ويذكر هذا المعنى المستشرق الأسبانى جان ليك ( 1822 – 1897 ) فى كتابه " العرب " بقوله : " وحياة محمد التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله نفسه بألفاظ قليلة ، بين فيها سبب بعثة النبى محمد : وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ، ولكل محتاج إلى المساعدة ، كان محمد رحمة حقيقية لليتامى والفقراء وابن السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكد والعناء ، وإنى بلهفة وشوق لأن أصلى عليه وعلى أتباعه " (1)
والى جانب رحمته () وبساطته وزهده وترفعه عن الشهوات كان () رقيق فى معاملته مع الآخرين يعامل كل الناس باحترام وتقدير ولين وسهولة جانب ، ودمائة خلق دون تصنع ولا تكلف . وهى صفات اعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء .
يقول المستشرق البريطانى لين بول ( 1852 – 1917 ) فى كتابه " رسالة فى تاريخ العرب " متحدثاً عن أخلاق محمد () : " إن محمداً كان يتصف بكثير من الصفات كاللطف والشجاعة وكرم الأخلاق ، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات فى نفسه ، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً من غير ميل أو هوى ، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله ، وعشيرته سنوات بصبر وجلد عظيمين ، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد مصافحه حتى ولو كان يصافح طفلاً ، وأنه لم يمر بجماعة يوماً من الأيام – رجالاً كانوا أم أطفالاً – دون أن يسلم عليهم ، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة ، وبنغمة جميلة كانت تكفى وحدها لتسحر سامعيها ، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذباً ، وقد كان محمد غيوراً ومتحمساً ، وما كانت حماسته إلا لغرض نبيل ، ومعنى سام ، فهو لم يكن يتحمس إلا عندما كان ذلك واجباً مفروضاً لا مفر منه ، فقد كان رسول من الله ، وكان يريد أن يؤدى رسالته على أكمل وجه ، كما أنه لم ينس يوماً من الأيام كيانه أو الغرض الذى بعث من أجله ، دائماً كان يعمل له ويتحمل فى سبيله جميع أنواع البلايا ، حتى انتهى إلى إتمام ما يريد " (2)
وقد وصفه أبا سعيد الخدرى () قال : " كان رسول الله () أشد حياءً من العذراء فى خدرها " (3) وكان لا يستأثر بطعام ولا شراب ولا يملأ بطنه ، فقد روت عائشة ( رضى الله عنها ) أنها قالت : " ما شبع آل محمداً من خبز الشعير ثلاث ليال متوالية " (4)
وكان يجيب دعوة الداعى فيقول : " لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ، ولو أهدى إلى ذرا أو كراع لقبلت " (5) .
وكان إذا جلس بين أصحابه لا يعرفه الغريب . فعن أبى ذر وأبى هريرة – رضى الله عنهما – قالا : " كان رسول الله () يجلس بين ظهرى أصحابه يجىء الغريب فلا يدرى أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله () أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه . قال : فبنينا له دكاناً – أى دكة – من طين فجلس عليها وكنا نجلس بجانبة " (6)
(1) جان ليك : العرب ص 43 .
(2) لين بول : رسالة فى تاريخ العرب من كتاب محمد فى الدراسات الاستشراقية ص 144 .
(3) أخرجه البخارى ح 3562 ، 6102 ، ومسلم ح 2320 .
(4) أخرجه البخارى ح 5416 ، ومسلم ح 2970 .
(5) أخرجه البخارى فى كتاب الهبة وضلها ح 2568 .
(6) أخرجه أبو داود ح 4698 ، والنسائى ح 5006 .
وكان لا يأنف أن يمشى معه الأرملة والمسكين ليقضى لهم حاجتهم . فعن عبد الله بن أبى أوفى قال : " كان رسول الله () يكثر الذكر ، ويقل اللغو ، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ، ولا يأنف أن يمشى مع الأرملة والمسكين فيقضى له حاجته " (1)
وارتعد منه رجل فقال له () : " هون عليك ! فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد " (2) وكان يرقع ثوبه ، ويخصف نعله ، ويكون فى مهنة أهله – أى خدمتهم – وقيل لعائشة ( رضى الله عنها ) : ما كان النبى () يصنع فى بيته ؟ قالت : " كما يصنع أحدكم : يخصف نعله ، ويرقع ثوبه " (3)
وكان ينام على الحصير حتى أثر فى جنبه وعندما رآه عمر () يبكى فيقول له () : " ما يبكيك ؟ " فقال عمر : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ! فقال : " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة " (4)
ومن مظاهر رحمته وحسن أخلاقه أيضاً ، ما ورد أن الصحابى الجليل أبا ذر () كان يكسو خادمه ثوباً من نفس ثوبه ، وحلة من نفس حلته ، فلما سئل عن ذلك قال : سمعت رسول الله () يقول : " إخوانكم خولكم – خدمكم – أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون " (5)
ولم يقتصر حسن خلقه على أتباعه بل شملت أعداءه أيضاً . عندما طلب منه الدعاء على المشركين قال () : " إنى لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة " (6)
وعن عائشة ( رضى الله عنها ) قالت : كان اليهود يسلمون على النبى () يقولون : السام عليك ففطنت عائشة إلى قولهم فقالت عليكم السام واللعنة قال النبى () : " مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق فى الأمر كله " (7)
وهكذا كان () يدعو إلى حسن الخلق الذى يوجب التحاب والتآلف والتوافق بين جميع البشر بعيداً عن التحاسد والتدابر والتباغض ولذلك قال () فى وصية جامعة شاملة لمعاذ () . قال معاذ : أوصانى رسول الله () فقال : " يا معاذ أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه فى القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح ، وأنهيك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً أو تطيع آثماً أو تعصى إماماً عادلاً أو تفسد أرضاً ، وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر وأن تحدث لكل ذنب توبة . السر بالسر والعلانية بالعلانية " (8)
(1) أخرجه النسائى ح 1413 ، والدارمى ح 74 ، والبيهقى فى الشعب 8114 ، والحاكم فى " المستدرك " ( 2 / 614 ) .
(2) رواه ابن ماجة فى سننه ح 3313 ، والطبرانى فى الأوسط ح 1260 .
(3) أخرجه أحمد فى مسنده .
(4) أخرجه البخارى ى كتاب التفسير ح 4913 ، ومسلم فى كتاب الطلاق ( 179 / 31 ، 32 ، 33 ) .
(5) أخرجه البخارى ح 30 ، ومسلم ( 1661 / 38 ) .
(6) أخرجه مسلم ح 2596 ، والبخارى فى الأدب 321 ، والطبرانى فى الكبير ( 9 / 189 ) ، والبغوى فى شرح السنة .
(7) متفق عليه : أخرجه البخارى 6024 ، ومسلم 1706 ، والدارمى ح 2794 .
(8) إتحاف السادة : المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7 / 95 – نقلاً عن مجلة الأزهر ص 367 ربيع الأول 1427 هـ .
ثالثاً : نجاحه () فيما جاء به وله :
والمقصود بها القدرة على نشر الدعوة الإصلاحية وتطبيقها فى كل الميادين وإدخالها فى القلوب المتحجرة والأدمغة الصماء حتى تلين وتقبلها ، مع تحمل ما فى سبيل ذلك من أعباء ومصاعب وأهوال ومتاعب (1) فطهر العقول والنفوس من عبادة الأصنام وأقام مكانها عقيدة التوحيد القائمة على الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له ، وكتبه ، ورسله السابقين ، واليوم الآخر يوم الحساب والثواب والعقاب على أعمال الدنيا من خير وشر .
وأقام مجتمعاً جديداً مبنى على مفاهيم وأسس اجتماعية جديدة تنعدم فيه العصبية القبلية ، والتفاخر بالأنساب ، وإضاعة حقوق المرأة ... ولذلك انتصر الإسلام على الجاهلية ، ودخل الناس فى دين الله أفواجاً بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم ومشاعرهم ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون فى أنفسهم حرجاً مما قضى ، ولا تكون لهم الخيرة من أمرهم ويسلموا تسليماً .
ويصفهم أبو الحسن الندوى بقوله : " هذا والرسول () يغذى أرواحهم بالقرآن ، ويربى نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات فى اليوم ، عن طهارة بدن ، وخشوع قلب ، وخضوع جسم ، وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ، ونقاء قلب ، ونظافة خلق ، وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ، ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصفح الجميل والصبر على الأذى وقهر النفس . ولم يزل () يربيهم تربية دقيقة عميقة ، ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويزكى جمرة قلوبهم ومجالس الرسول تزيدهم رسوخاً فى الدين ، وعزوفاً عن الشهوات ، وتفانياً فى سبيل المرضاة ، وحنيناً إلى إلى الجنة ، وحرصاً على العلم وفقهاً فى الدين ومحاسبة للنفس ويطيعون الرسول ى المنشط والمكره وينفرون فى سبيل الله خفافاً وثقالاً ، قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة فى عشر سنين ، وخرجوا بأمره للقاء الأعداء أكثر من مائة مرة فهان عليهم التخلى عن الدنيا وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم فى نفوسهم ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه (2) ولذلك يصفه الباحث الفرنسى المستشرق ديزرية بلانشيه بقوله : إن النبى محمداً يعد من أبرز وأشهر رجال التاريخ ، فقد قام بثلاثة أعمال عظيمة دفعة واحدة وهى : أنه أحيا شعباً ، وأنشأ إمبراطورية ، وأسس ديناً . (3)
أما الفرنسى قولتير برغم علمانيته إلا أنه لم يكتم إعجابه بعظمة شخصية الرسول الفذة فيقول : " إن فى نفس محمد لشيئاً عجيباً طريفاً رائعاً يحمل الإنسان على الإعجاب والتقدير ، ولعمرى إن الرجل وقف يدعو إلى الله ، ويتحمل الأذى فى سبيل هذه الدعوات سنوات عديدة ، وأمامه الجموع المشركة تعمل جهدها لمعاكسته وقتل فكرته ، إنه اذاً يستحق كل تقدير وتمجيد . " (4)
(1) عظمة محمد () خاتم رسل الله لمصطفى الزرقا ص 25 ، بتصرف .
(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، لأبى الحسن الندوى ص 126 .
(3) ديزريه بلانشيه : دراسات فى التاريخ الدينى .
(4) فرانسوافولتير : " محمد " عن محمد فى الدراسات الاستشراقية المنصفة ص 101 .
ويقول لامارتين ( 1790 – 1869 ) فى كتابه " تاريخ تركيا " : لو أن عظم الغاية ، وصغر الوسائل ، وقلة الموارد ، والنتائج المدهشة هى ثلاثة معايير لعبقرية الإنسان ، فمن يجرؤ على مقارنة أى رجل عظيم فى التاريخ الحديث بمحمد ؟ إن أشهر الرجال صنعوا الأسلحة وشرعوا القوانين ووضعوا النظريات وأسسوا الإمبراطوريات فقط ، فهم لم يؤسسوا – لو اعتبرنا أنهم أسسوا شيئاً يذكر – أكثر من قوى مادية أو سلطات مادية كثيراً ما انهارت وزالت أمام أعينهم أما هذا الرجل – محمد – فإنه لم يحرك ويؤثر فى الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر فقط ولكنه حرك وأثر فى ملايين الرجال ، بل الأكثر من ذلك أنه أزاح الأنصاب ، والمذابح والآلهة الزائفة وأثر فى الأديان وغير الأفكار والاعتقادات والأنفس . (1)
" فمن يجرؤ على مقارنة أى رجل عظيم فى التاريخ الحديث بمحمد ؟ ... إنه سؤال استفهام غرضه النفى فكأنما يقول ضمناً : لا يوجد إنسان أعظم من محمد () .... ومحمد أعظم من عاش أبداً .
فأما عن عظمة الغاية :
فالتاريخ يثبت أن الفترة التى بعث فيها الرسول () كانت أكثر فترة مظلمة فى التاريخ البشرى ، فكانت هناك حاجة لبعث رسول ليكون إصلاحاً للبشرية كلها وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ (2) .
يقول - ديدات – فى الرسول الخاتم : ... ماذا يستطيعون أن يقولوا – أى أعداء الدين – عن الحقيقة التاريخية أنه قبل موته أرسل خمس رسائل واحدة إلى كل من البلاد الخمسة المحيطة ، يدعهم إلى دين الإسلام : إمبراطور فارس ، ملك مصر ، نجاشى الحبشة ، إمبراطور الروم هرقل بالقسطنطينية ، وملك اليمن . وهو بذلك يضرب لنا مثلاً فى تنفيذ رسالته السماوية و " عظمة الغاية ، وإصلاح البشرية كلها بهدايتها للإيمان بالله . فهل يمكن أن يضارع أى دين آخر عالمية الإسلام ؟ . ولم يبعث محمد () لكى يسجل أو يحطم أى أرقام قياسية وإنما بعث لكى يقوم بالمسؤولية التى أسندها إليه رب العالمين . (3)
وأما قلة الوسائل :
فإن محمداً () ولد يتيماً وعاش كذلك بعيداً عن الملذات الحسية ومتاع الدنيا ، والشيء والوحيد الذى كان بوسعه أن يقدمه لأتباعه هو الوعد برضوان الله تعالى إن هم أطاعوه وساروا على نهجه () .
ولذلك كانت حياته () كتاباً مفتوحاً أمام من يدعهم : عرفوا نبل أخلاقه وكمال غايته وصدقه وأمانته وحماسته من أجل الحق الذى يدعو إليه ويستمسك به ولذلك يقول ستانلى لان بوول : لقد كان مفعماً بالحماسة لهذا المفهوم النبيل ، وعندما تصبح الحماسة ملح الأرض تكون الشيء الوحيد الذى يحفظ الناس من الفساد ما داموا أحياء ... لقد كان – محمداً – مفعماً بالحماسة عندما كانت الحماسة الدينية الشيء الوحيد المطلوب ليحول الدنيا إلى شعلة متوهجة وحماسته هذه كانت نبيلة ولهدف نبيل . (4)
(1) لامارتين : تاريخ تركيا المجلد الثانى ص 276 ، 277 . طبعة باريس 1854م . نقلاً عن محمد المثال الأسمى لأحمد ديدات ص 51 ، 52 .
(2) الأنبياء 107 .
(3) الرسول الخاتم ، لأحمد ديدات ص 61 ، ترجمة محمد مختار .
(4) ستانلى لان بوول . عن المرجع السابق ص 63 .
إن ضعفه () كان قوته .. وإن حقيقة أنه لم يكن يملك أى إمكانيات مادية لمساندته جعلته يضع ثقته التامة فى الله . والله الرحيم لم يتخلى عنه ونجاحه كان مذهلاً .. أليس من حق المسلمين أن يقولوا بالعدل والإنصاف أن الانجاز كله من صنع الله ؟ وكان محمداً () أداته ؟ (1)
أما عن النتائج الرائعة :
فمن تابع واحد بدأ به دعوته () إلى أكثر من مليار تابع الآن . أو كما يقول توماس كارلايل من رجل واحد فى مقابل جميع الرجال إلى 24 ألف تابع فى حجة الوداع وحدها . (2)
ولذلك كانت مقاييس – لامارتين – الثلاثة : عظمة الغاية ، وقلة الوسائل ، والنتائج المذهلة هى جزء من عظمة محمد () وعندها نقول بكل تواضع .. لا يوجد إنسان أعظم من محمد () . وإن من أهم دلائل نبوته () هى : " معجزاته فى منجزاته الحقيقية " .
رابعاً : أن محمداً () جاء بمنهج دائم للعالم كافة " القرآن الكريم " .
إن الرسالة التى حملها الرسول () لم تكن مطلقاً لشعب بذاته دون غيره ، أو لجنس دون سواة . بل كانت رسالة عالمية وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ (3) .
يقول ميخائيل إيمارى : " لقد جاء محمد نبى الإسلام بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكون ديناً لكل الأمم لأنه دين كمال ورقى ، دين دعة وثقافة ، دين رعاية وعناية ، ولا يسعنا أن ننقصه ، وحسب محمد ثناء عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة فى موضوع رسالته . " (4)
فقد حمل كل نبى رسالة النور والهداية إلى أمة مخصوصة وكان هدفها تطهير النفس البشرية ، ولكن هذه الرسالة – رسالة محمد () – فكانت كونية ، ونوره كان عالمياً ، ونطاق مشاركته الوجدانية كان يستغرق البشرية كلها . (5)
ولقد اتفق العلماء – المسلمين والمنصفين من غير المسلمين – على أن القرآن هو المنهاج والمعجزة الحقة الباقية أبد الدهر .
يقول المستشرق الانجليزى بووشورت اسمث ( 1815 – 1892 ) فى مقدمة كتابه " الأدب فى أسيا " : " إن المعجزة الخالدة التى أداها محمد هى القرآن ، والحقيقة إنها لكذلك ، وإذا قدرنا ظروف العمر الذى عاش فيه ، واحترام أتباعه إياه احتراماً لا حد له ، ووازناه بآباء الكنيسة أو بقديس القرون الوسطى ، تبين لنا أن أعظم ما هو معجز فى محمد نبى المسلمين أنه لم يَدَّع القدرة على الإتيان بالمعجزات وما قال شيئاً إلا فعله وشاهد منه فى الحال أتباعه ، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأت بها أو أنكروا مبدأ صدورها منه ، فأى برهان أقطع من ذلك " (6)
(1) الرسول الخاتم ، لأحمد ديدات ص 65 .
(2) توماس كارلايل . عن المرجع سابق ص 65 .
(3) سورة: سبأ - الآية: 28.
(4) ميخائيل إيمارى : تاريخ المسلمين نقلاً عن محمد () فى الدراسات الاستشراقية المنصفة ص 108 .
(5) مولانا محمد على : حياة محمد ورسالته ص 280 .
(6) بوسورث سميث : الأدب فى أسيا .
والمعجزة – فى اصطلاح علم الكلام – أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدى ، سالم عن المعارضة (1) والمعجزة دليل النبوة ، فلا تصح نبوة بدون معجزة . وهذا مبدأ مقرر ومتواتر بالإجماع عند النبيين والمرسلين . فقد سماها القرآن : سنة الأولين : فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً (2) ، وسماها السلطان المبين : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ (3) .
فالمعجزة على أنواعها ، هى سلطان الله المبين لصحة النبوة ، وسننه المتواترة فى رسله ودعماً لدعوتهم . يقول الإمام السيوطى – رحمه الله – المعجزة نوعان : " إما حسية وإما عقلية . وأكثر معجزات بنى إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم . وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال إفهامهم ، ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر " . (4)
ولذلك يقول الإمام البيهقى : " فأما العلم الذى اقترن بدعوته ولم يزل يتزايد أيام حياته ودام فى أمته بعد وفاته فهو القرآن العظيم المعجز المبين وحبل الله المتين الذى هو كما وصفه به من أنزل تعالى : إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (5) وقال تعالى : إِنّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مّكْنُونٍ (6)
وقال تعالى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مّحْفُوظٍ (7)
وقال تعالى : إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ اللّهُ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
وقال تعالى : قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (9)
فأبان جل جلاله أنه أنزله على وصف مباين لأوصاف كلام البشر لأنه منظوم وليس بمنثور ونظمه ليس نظم الرسل ولا نظم الخطب ولا نظم الشعر ولا هو كأسجاع الكهان . (10)
والرسول () قد تحدى به قومه أن يأتوا بمثله إن كانوا يقدرون مدللاً على صدق نبوته وصدق ما أوحى إليه وأنه ليس بكلام البشر بل هو كلام رب العلمين . ثم يتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات : قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ (11) فلم يستطيعوه أيضاً ثم كان التحدى الأعظم أن يأتوا بسورة واحدة : فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ (12)
- فكان من دلائل نبوته فى ذلك ما يأتى :
1- أن الرسول () لا يمكن أن يقول ما قال إلا وهو واثق متحقق أنهم لا يستطيعونه ولا يكون هذا اليقين وقع له إلا من قبل ربه الذى أوحى إليه به فوثق بخبره .
(1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى . (2) [سورة: فاطر - الآية: 43]
(3) سورة هود 96: 97 . (4) الإتقان فى علوم القرآن 2 : 116 .
(5) سورة: فصلت 41 : 42 . (6) سورة: الواقعة 76 : 78 .
(7) سورة: البروج 21 : 22 . (8) سورة: آل عمران - الآية: 62 .
(9) سورة: الإسراء - الآية: 88
(10) راجع : دلائل النبوة للإمام البيهقى ص 19 ، 20 ، دار الكتب العلمية بيروت ط 1405 هـ .
(11) سورة: هود - الآية: 13 . (12) سورة: البقرة - الآية: 23 .
2- أنهم لما تحداهم الرسول () وهم أهل لسان وفصاحة وشعر وخطابة ومع ما وقع معهم من حروب وقتل لصناديدهم لم يستطع أحد منهم أن يدعى بأنه قادر على أن يأتى بسورة من مثله بل بان عجزهم ، وفى بيان عجزهم بيان أيضاً أنه () فى العجز مثلهم إذ كان بشراً مثلهم لسانه لسانهم وعاداته عاداتهم وطباعه طباعهم وزمانه زمانهم ، وإذا كان كذلك وقد جاء القرآن وجب القطع بأنه من عند الله تعالى ومعجزة ودليل على نبوة محمد () . (1)
- والقرآن الكريم يقدم لنا دليلين على صدق نبوة سيدنا محمد () وأنها رسالة الله إلى العالمين :
أولاً : يقول سبحانه : وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـَؤُلآءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الْكَافِرونَ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (2)
فالله تعالى يقرر أنه هو الذى أنزل الكتاب على محمد الأمى الذى لم يقرأ ولم يكتب ولم يتعلم ، مع كل ما فيه من الآيات والعلوم والتاريخ والحكمة والمعرفة وأخبار السابقين واللاحقين .. أليست هذه آية وإعجاز .
يقول توماس كارليل عن شهادات محمد العلمية : " هناك اعتبار يجب ألا نغفله أو ننساه ، وهو أنه لم يكن لديه أى تعليم مدرسى مما نسميه التعليم المنهجى على الإطلاق " (3) . والأكثر من ذلك أن الله تعالى منزل هذا الوحى يشهد أن محمداً لم يكن ليستطيع أن يضيف أو يجمع ما فى هذا الكتاب من محتويات ولا يمكن أن يؤلفه .
ثانياً : أما الدليل الآخر فهو القرآن نفسه : الذى يحمل دليله الذى يبرهن على أنه وحى إلهى من عند الله أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (4) .
وفى الدلائل : حكى الشيخ أبو سليمان الخطابى عن بعض أهل العلم أن الذى أورده المصطفى () على العرب من الكلام الذى أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب فى الآية وأوضح فى الدلالة من إحياء الموتى أو إبراء الأكمة والأبرص لأنه أتى أهل بلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين فى الألسن بكلام مفهوم المعنى عندهم كان عجزهم أعجب من عجز من شاهد المسيح عن إحياء الموتى لأنهم لم يكونوا يطيقون فيه ولا فى إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه . وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة فدل أن العجز عنه إنما كان لأن يصير علماً على رسالته وصحة نبوته وهذا حجة قاطعة وبرهان واضح . (5)
ولهذا وصفه الرسول () بقوله : " .. ولا يخلق عل كثرة الرد ، ولا تنقضى عبره ، ولا تفنى عجائبه ، هو الفصل ليس بالهزل ، لا يشبع منه العلماء ، ولا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، هو الذى لم تنته الجن حين سماعه أن قالوا : إِنّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِيَ إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ " (6) (7)
(1) راجع دلائل النبوة للبيهقى ص 15 (2) العنكبوت 47 ، 48 .
(3) راجع : القرآن معجزة المعجزات لأحمد ديدات ص 20 ، ترجمة محمد مختار .
(4) النساء 82 . (5) دلائل النبوة للبيهقى ص 16 ، 17 .
(6) الجن 1 ، 2 . (7) رواه الترمذى فى فضائل القرآن ح 2906 باب ما جاء فى فضل القرآن ( 5/ 172 ) .
وقوله () : " فيه نبؤكم ، وخبر ما كان قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، ولا يخقله طول الرد ولا تنقضى عجائبه ، هو الحق ليس بالهزل ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به أفلح ، ومن قسَّم به أقسط ، ومن عمل به أجر ، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم . " (1)
- ولقد قرر القرآن الكريم نبوة محمد () فى آيات كثيرة نذكر منها :
1- أن محمداً () لم يكن بدعاً من الرسل وإنما مصدقاً لما بين يديه من الكتب القديمة . فقال سبحانه : يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً (2) .
يقول الإمام القرطبى : قوله : يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ : أن الآية نزلت فى جميع المؤمنين والمعنى : يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم وأثبتوا عليه وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ أى القرآن وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ أى كل كتاب أنزل على النبيين . (3)
ولذلك يقول الرسول () : " والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى أو نصرانى ثم يموت ولا يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " (4)
فرسالته () إلى الناس جميعاً : فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ (5)
2- أن الله قرر نبوته بأنه أمى لا يقرأ كتاباً ولا يخطه بيمينه ، ولا جالس أحد من أهل العلم بالكتب السابقة : وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (6) .
3- أن الله تعالى قرر نبوته بما حازه الرسول () من أخلاق حميدة ، وأوصاف الكمال . فوصفه تعالى بأنه يعلو الخلق العظيم : وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ (7) .
ووصفه بالرؤوف الرحيم : لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ (8) .
ووصفه بالصدق : وَالّذِي جَآءَ بِالصّدْقِ وَصَدّقَ بِهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ (9)
4- أن الله قرر نبوته بأنه () موصوف فى الكتب السابقة إما باسمه أو بأوصاف أمته .
يقول سبحانه : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِين ٌ (10) .
(1) رواه الترمذى فى فضائل القرآن ح 2905 . (2) النساء 136 .
(3) الجامع لأحكام القرآن فى تفسير الآية . (4) رواه أحمد فى " مسنده " ، ومسلم فى كتاب الإيمان ح 240 .
(5) آل عمران 20 (6) العنكبوت 48 .
(7) القلم 4 . (8) التوبة 128
(9) الزمر 33 . (10) الصف 6
ويقول سبحانه : وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (1) .
5- أن الله تعالى قرر نبوته بحفظه وعصمته له ، ومنعته ونصره ، وما ذاك إلا لأنه رسول الله حقاً وصدقاً .
والعصمة التى أوجبها الله تعالى لرسله تتعلق بالاعتقادات ، والتبليغ ، والأقوال ، والأفعال .. وخص رسولنا محمد () بعصمة بدنه الشريف من القتل : وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ (2)
- عصمته () دليل نبوته وسبيل حجية القرآن والسنة :
قدم الوحى حياة الرسول () وسيرته الطاهرة قبل البعثة دليلاً على نبوته () فقال سبحانه : قُل لّوْ شَآءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (3)
فهذه الآيات كانت جواباً من النبى () على ما طلبه المشركون منه بأن يأتيهم بقرآن غير هذا لا يعيب آلهتهم أو يبدله من تلقاء نفسه حتى يقبلوا دعوته ولذلك كان الجواب : إِنْ أَتّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَىَ إِلَيّ (4) والرسول () يدل على صدقه وأمانته بأنه نشأ بينهم وكبر حتى بعث فلم ينتقدونه على شيء يعيرونه به . لهذا لما سأل هرقل – ملك الروم – أبا سفيان ومن معه – وهو يومئذ ما زال على شركه – فيما يسأله من صفة النبى () قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : لا (5) ثم ينفى الله تعالى عنه الضلال والجنون فيقول جل جلاله : أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ (6) ويقول سبحانه : مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىَ (7) ، وقال تعالى وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (8) وقال تعالى : مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (9)
فهذه الآيات كان التعبير فيها " بصاحبكم " تذكيراً لأهل مكة – وهم أعرف الناس بمحمد () – أنه لم يفارقهم ، ولم يفارقوه ؛ بل صحبهم وصحبوه ، ولازمهم ولازموه ، ولذلك كان اتهامهم له () بالضلال والجنون من باب الكبر والعناد ، والدليل حالته قبل البعثة واعترافهم له بالأمانة ، والصدق ورجاحة العقل والخلق القويم . (10)
ولذلك يبين القرآن الكريم حالتهم فى قوله : فَإِنّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ وَلَـَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (11) ولرسول الله () خصوصية عصمته فى بدنه – أى من القتل – فيقول سبحانه : يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ (12)
(1) سورة: البقرة - الآية: 89 (2) المائدة 67 . (3) يونس 16 (4) يونس 15
(5) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ( 1/ 42 – 44 ) ، ومسلم فى كتاب الجهاد والسير ح 1773 .
(6) الأعراف 184 (7) النجم 2 (8) التكوير 22 (9) سبأ 46 .
(10) راجع : رد شبهات حول عصمة النبى () د. عماد الشربينى ص 35 ، 36 . ناقلاً عن محمد رسول الله لمحمد صادق عرجون (11) الأنعام 33 (12) المائدة 67
وقوله تعالى : إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (1) .
فى هذه الآيات عصمة له () من القتل وقد تحدى بهما الرسول () قتله الأنبياء المرسلين من بنى إسرائيل – يهود المدينة – بأنهم وإن كان وقع منهم قتل الأنبياء من قبل ، فهم مع محمد () لم ولن يفلحوا . ولذلك يذكرهم الله بمواقفهم من الأنبياء فى قوله : قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مّن قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (2) .
وكذلك يقرر الله تعالى عصمته فى تبليغ الوحى ، وشهادته سبحانه لمحمد () بأداء واجب البلاغ على أكمل وجه .
يقول سبحانه : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ (3)
ويقول سبحانه : وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ (4)
وقوله سبحانه : وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ِ ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (5)
وقوله سبحانه : فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (6)
فهذه شهادات من الحق تبارك وتعالى لرسوله () بعصمته فى تبليغ الوحى على أكمل وجه وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً .
6- كذلك يقرر القرآن نبوته () بما أخبر به من الغيوب المستقبلية التى وقعت ى زمانه والتى لا تزال تقع فى كل وقت .
فمن ذلك إخبار القرآن الكريم بنبأ غلبة الروم وهم أهل كتاب – نصارى – بعد أن غلبوا : غُلِبَتِ الرّومُ فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (7) . وقد وقع هذا خلال زمن النبوة ، والذى حدد بـ " بضع سنين " من الثلاث إلى التسع سنوات . ودارت السنون ودالت الروم على الفرس وانتصروا من بعد غلبهم .
(1) الحجر 95 . (2) آل عمران 183 (3) النجم 3 ، 4 (4) الأحزاب 22 .
(5) الحاقة 44 - 47 (6) الحاقة 38 – 40 (7) سورة: الروم 2 .
الفصل الثانى
شبهات المشككين وشهادات المنصفين غير المسلمين
ويشتمل على تمهيد ومبحثين :
المبحث الأول : شبهات المشككين حول رسول الله () والرد عليها .
ويشتمل على :
أولاً : شبهاتهم حول غزوات الرسول () والرد عليها .
ثانياً : شبهاتهم حول أن الرسول () هو مؤلف القرآن الكريم والرد عليها .
المبحث الثانى : شهادات المنصفين غير المسلمين حول شخصية الرسول () ونبوته .
تمهيد :
لقد اهتمت طائفة من الباحثين غير المسلمين بدراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية متخذين السمت العلمى ، الموضوعى المنهجى وقد سموا بـ " المستشرقين " . حيث قاموا برصد كل نشاط إسلامى - فكرى أو حركى - بما هو ميسر لهم من أدوات ، سواء بقراءة ما يكتبه المسلمون بلغاتهم ، أو التحدث المباشر إليهم بألسنتهم لمعرفة أفكارهم وأحوالهم بقصد فتنة المسلمين عن دينهم ، وتشتيت جهودهم وأفكارهم عن إقامة حركة بانية هادفة لتحقيق الإسلام فى الأرض ، وذلك بإثارة القضايا والشبهات والدعاوى للشوشرة على أذهان المسلمين وأرواحهم ، واستثارتهم للرد عليهم ، وإنفاق طاقتهم فى هذه المحاولة بدلاً من التفرغ للبناء .
ويضم المستشرقين عدداً من المسيحيين واليهود واللادينين الذين أظهروا الولاء للبحث العلمى ، وجعل الكثير منهم العلم أداة مسخرة لمخططهم وأغراضهم الخبيثة ، لهدم الدين والتشكيك فى نبوة رسول الله () .
وهذا لا يمنع أن هناك طائفة أخرى من المستشرقين أخلصت للعلم ، فأقبلت على الإسلام تدرس وتستنتج فى أمانة ودقة ثم خرجت على الملأ بآرائها الصادقة المنصفة .
وفى هذا الفصل نورد آراء الفريقين : المشككين وأفكارهم والرد عليهم وتفنيدها . ثم فى المبحث الآخر نورد آراء المنصفين منهم .
المبحث الأول
شبهات المشككين حول رسول الله () والرد عليها
لقد بلور المشككين اهتمامهم فى صورة بحوث ودراسات يتناولون فيها الإسلام من جوانب كثيرة وكذلك المسلمين : ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم وهدفهم : حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ (1) ووسيلتهم خلط الأمور لتبدوا فى ظاهرها تجرداً علمياً يوهمون به المسلمين بأنهم دعاة حق وأنهم يؤمنون بهذا الحق الناتج عن تجاربهم العلمية ولكنهم فى حقيقة الأمر : قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (2)
ومن الشبه التى يثيرونها :
أولاً : شبهاتهم حول غزوات الرسول () والرد عليها .
ومن الشبه التى أثارها المستشرقون : أن غزوات الرسول () وحروبه ما كانت إلا من أجل السيطرة والتسلط والقهر وانتزاع خيرات البلاد ، واكتساب أرضاً جديدة ذات خيرات كثيرة خاصة أنهم عاشوا فى بيئة صحراوية قفراء !! وكذلك أنه - - لجأ إلى السيف – على حد قولهم – لنشر رسالته وإجبار معتنقيها على ذلك !!!
(1) البقرة 217 (2) آل عمران 118
رد الفرية :
نقول : إن فى واقع البشر أن العدوان على الآخرين يكون نتيجة طبيعية للإحساس بالقهر والظلم واليأس من العدل .. وهنا تفقد النفس ضوابطها ولم تعد لديها القدرة على احتمال مزيد من الظلم فيقع الاعتداء .. اعتداء فى صورة قتال أو عنف ، أو إرهاب . وهذا ما يحدث فى كل المجتمعات فى واقعنا المعاصر . ولكن محاولة الربط بين ذلك كله والإسلام لأمر قد جانبه كل الصواب والتبست فيه كل المفاهيم الخاطئة .
فالإسلام قد نهى فى آيات كثيرة عن العدوان حتى فى أشد المواقف وأصعبها – فى ساحة القتال – فقال سبحانه : وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ (1) كما أن الله سبحانه وتعالى يحذر المسلمين من أن يحملهم بغضهم لقوم أن يعتدوا عليهم . فيقول سبحانه : وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ (2)
وإن وقع على المسلمين اعتداء فى حالة رده يشترط المثلية دون تجاوز . فيقول سبحانه : فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ (3) ، ويقول سبحانه : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ (4) .
ولذلك كان القتال فى الإسلام حالة مرتبطة بأوضاع وظروف ليست هلى أصل الحياة .
ويمكن إيضاح ذلك فى الآتى :
أولاً : أن رسولنا محمد () جعل ساحة القتال مجالاً للتحضر الإنسانى فلم يجعل التحريض على القتال لمجرد القتال دون أن يكون هناك مسوغاً شرعياً واجتماعياَ وإنسانياً لهذه الدعوة . ولم يكن القتال أيضاً لشهوة نفس أو لسلطان فى الأرض ولا عقاباً لكفر كافر أو لشرك مشرك . بل يمكن القول أن القتال فى الإسلام ليس من معدن البغى والعدوان وجر الغنائم ؛ بل شرع لتمكين الحريات فى التفكير والعقائد والعبادات – حتى ولو كانت لغير الله – وعدم تقييدها وسلبها ، ودفع الظلم عن المظلومين والمستضعفين فى الأرض ومنع فتنتهم فى دينهم حتى تنكسر النزعات الإنسانية الذميمة والرغبات الدنيئة من حب استعباد الناس وقهرهم بقوة السلطان .
ولقد جاء محمداً () ليجعل أهداف الجهاد – القتال – مجملة فى أصل واحد وهو وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله (5) .
فالقتال إنما مقصوده الأعلى أن يكون فى سبيل الله ، ولتكون كلمة الله هى العليا وليس بطراً ورئاء الناس ، حتى تكون بواعثه شريفة وغاياته الإنسانية عالية حتى لقد قال كتاب أوروبا : " إن العالم لم يعلم فاتحاً أرحم من العرب " . (6)
(1) البقرة 190 (2) المائدة 2 (3) البقرة 194 (4) النحل 126 (5) الأنفال 39
(6) الفيلسوف الفرنسى جوستاف لوبن
إن المتأمل للتاريخ يدرك أن المسلمين ما انتصروا من كثرة عدد ولا عدة ، ولم يقاتلوا فى معركة وهو أكثر عدداً وعدة من الذين يقاتلونهم - اللهم إلا يوم حنين ، حينما غر المسلمين كثرة عددهم وقالوا لن نهزم اليوم من قلة فكانت الدائر عليهم قبل أن ينتصروا – ولذلك فإن العقل البشرى لا يمكن أن يقبل أن ينتصر دائماً السلاح الأضعف والقوة الأقل اللهم إلا أن يكون هناك عوامل أخرى كامنة فى النفوس المسلمة هى التى تحملهم دائماً وتبشرهم بالنصر : من حسن التوكل على الله ، والصلة بالله ، والإيمان به ، والإخلاص لدينه .. وما هُزموا إلا بمعصية أو مخالفة ولم ينتصروا إلا بطاعة والقرآن الكريم يؤكد ذلك فى مواضع كثيرة منها قوله تعالى : قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَىَ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ (1) وقوله سبحانه وَمَا النّصْرُ إِلاّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (2) .
ثانياً : أن المسلمين فى بداية الدعوة وقع عليهم الاعتداء ، ولم يترك المشركين سبيلاً لأذى المسلمين إلا سلكوه ، والرسول () يغذى أرواحهم بالقرآن ، ويربى نفوسهم على الإيمان والصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفوس مع أنهم أمة كما يقول أبو الحسن الندوى " رضعوا حب الحروب وكأنهم ولدوا مع السيف " ولكن الرسول () يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ويقول لهم : كُفّوَاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ (3) فكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس ألماً فى غير جبن ومن غير عجز .
والرسول () لم يسلم من أذاهم حتى هموا بقتله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (4) حتى بعد الهجرة إلى المدينة أخذوا يؤلبون عليه القبائل ، غروراً بقوتهم وإمكاناتهم حتى قالوا : مَنْ أَشَدّ مِنّا قُوّةً (5) فكان لابد من قوة ترهبهم ، وتكف أذاهم ، وترد اعتداءاتهم حتى لا يتحول الأمر إلى استسلام ومذلة وخضوع .. فكان القتال فى صورة سلام فى كنفه حرية الاعتقاد والفكر ، ومنع الظلم ، وفرض المساواة والعدل لكل الناس – مسلمهم وغير مسلمهم – ولذلك يقول سبحانه بعد أن أمر بالقتال وعدم الاعتداء : وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ (6) فكانت هذه الآيات
(1) آل عمران 13 (2) الأنفال 10 (3) النساء 77
(4) الأنفال 30 (5) فصلت 15 (6) البقرة 190 – 194
هى قانون القتال فى الإسلام : إنها تُحد الابتداء والانتهاء ، وتحد الغاية والداعى ، فسبب القتال هو الاعتداء ، والفتنة فى الدين ، ابتدأ القتال بوجودهما ، وينتهى بانتهائهما ن فهما اللذان سوغا القتال ، وهما اللذان ينهيانه ، فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ (1) ولذلك سوغ الله لرسوله والمسلمين من بعده كل طرق الغلب من غير أن يخرج المسلمون عن نطاق الحق ، عدم تجاوز العدوان حدوده . ثم التقوى فى القتال – أى مجانية الخروج عن الحدود التى رسمها الإسلام لرد الاعتداء - والتقوى هنا شعور إسلامى خالص يزع المسلم أن يتجاوز حدود إنسانيته وإسلاميه حتى فى ميدان القتال ، حتى ولو أفرط الخصم فى عدوانه .. كل ذلك لئلا يتخلى الخير عن خواصه ولا المسلم عن نهجه ولا أن تنزلق الفضيلة لتنازع الرذيلة فى خواصها ، لأن أخلاقيات المسلم الذى رباه " محمد " () لابد أن تظهر فى كل أعماله حتى ولو كان ذلك فى مشتجر السيوف وساحات القتال . (2)
ثالثاً : أن الرسول () حينما أذن له بالقتال وفتح البلدان لم يكره أحداً على الدخول فى الإسلام وإنما أفسح المجال أمام الشعوب – التى كانت مستعبدة – لتتعرف على الإسلام وأخلاقياته ومبادئه وتوازن بين ما هم فيه من نظم أو ديانات فتختار عن حرية واعتقاد دون إكراه ما يتفق وحريتها .
والإسلام لم يجعل الإكراه وسيلة من وسائل الدخول فيه ، بل جعل وسيلة ذلك إعمال العقل والفكر فى حرية ودون أى قيود فقال سبحانه : لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ (3) وإنما مهمة الرسول () هى البلاغ بالدعوة ابتداء ، والتبيان بالحجة انتهاء : إِنْ عَلَيْكَ إِلاّ الْبَلاَغُ (4) .
فلم يكن السيف لقهر الناس وإجبارهم على اعتناق الإسلام ، وإنما لضمان حرية الرأى والتخلية بين الناس والدعوة إلى الله ، ثم بعد ذلك : فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ (5) .
ولو أن الإسلام قهر الشعوب بالسيف – كما يزعمون – فكيف نفسر وجود أبناء ديانات أخرى فى البلاد المسيحية ، وما بقى فى البلاد المفتوحة من يعتنق غير الإسلام سواء عن قناعة أو قهر وما بقيت معابد النار تملأ بلاد فارس وكرمان وخراسان بعد فتح المسلمين لهذه البلاد .. ولكن شاءت إرادة الله أن يُحمل السيف لا ليقهر الناس ولكن ليؤدب به الذين يحولون دون وصول العقيدة الصحيحة للناس ثم بعد ذلك من شاء آمن ومن شاء بقى على عقيدته . ولذلك كان الرسول () يقول لرجاله : " تألفوا الناس وتأنوا بهم ، ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم ، فما على الأرض من أهل مدر ولا وبر ، أن تأتونى بهم مسلمين أحب إلى من تأتونى بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم " (6)
إن نبينا محمداً () قد جعل ميدان القتال – كما ذكرنا سابقاً – ميداناً للتحضر الإنسانى الراقى . فأعلن القانون الإسلامى العظيم الذى يجمع فيه أصول الرحمة – وهى الاعتبارات الإنسانية - مع الملحمة – وهى المتطلبات الضرورية . فقال () : ( أنا نبى المرحمة ، وأنا نبى الملحمة ) وهما متناقضين لم
(1) البقرة 193 (2) راجع : فى ظلال القرآن لسيد قطب . (3) البقرة 456 (4) الشورى 48 (5) الكهف 29
(6) راجع : خاتم النبيين للإمام محمد أبو زهرة ص 2 ، دار الفكر العربى مصر .
يستطع أى قانون بشرى أن يوفق بينهما . وذلك حتى يستقر فى قلب المسلم المجاهد بأن يضرب بيد العدالة لا بيد البطش والتنكيل ، وعندما تضرب فى الملحمة يكون لدرء الفتن وتحقيق الأمان وليس لإعلاء جاه ولا سلطان . فجعل () التقاء المرحمة والملحمة التقاء تكامل وليس التقاء نقيضين ... التقاء لتحرير المستضعفين من الرجال والولدان والنساء ... التقاء حتى يكون الدين كله لله ... التقاء حتى يكون القتال فى سبيل الله بكل آدابه وأخلاقياته وهذا ما يميز حروب المسلمين عن غيرها من الحروب .
يقول المؤرخ الانجليزى جيبون ( 1737 – 1794 ) : إن شريعة خبيثة قد ألصقت " بأمة محمد " وهى واجب استئصال جميع الأديان بالسيف ... يقول : أن هذه التهمة الجاهلة والمتطرفة يدحضها القرآن كما يدحضها تاريخ الفتوحات الإسلامية ، وما اشتهر الفاتحون به من تسامح تجاه العبادة المسيحية معروف ومشروع " (1)
ولقد فطن لبطلان ادعاء انتشار الإسلام بالسيف " توماس كارليل " حيث قال فى كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " : " إن اتهامه – أى الإسلام ورسوله () – بالتعويل على السيف فى حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ، إذ ليس مما يجوز فى الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو يستجيبوا له ، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد أمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحروب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها " (2)
ويذكر الفيلد مرشال مونتجمرى فى كتابه – الحرب عبر التاريخ – إنسانية حروب المسلمين حين ذكر أن المسلمين : " كانوا يستقبلون فى كل مكان يصلون إليه كمحررين للشعوب من العبودية ، وذلك لما اتسموا به من تسامح وإنسانية وحضارة ، فزاد إيمان الشعوب بهم ، علاوة على تميزهم فى نفس الوقت بالصلابة والشجاعة فى القتال ، وقد أدى كل هذا إلى اعتناق معظم الشعوب التى انتصر عليها العرب للدين الإسلامى " (3)
رابعاً : أن الرسول () لم يعلن قانون " المعاملة بالمثل " والمعروف الآن كعرف دولى فى حالة الحروب . فحروب المسلمين مقيدة بالفضيلة والأخلاق السامية فإذا انتهك الآخر حرمات الفضيلة فلا ينتهكها المسلمون ، فالانطلاق من قيود الفضيلة عند الآخر لا يبيح للفاضل أن ينطلق هو أيضاً من قيودها . ولذلك وضع الرسول () آداب وأخلاقيات يجب أن تراعى فى ساحة التحضر الإنسانى – ساحة القتال – نذكر منها :
1- عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ :
فعن ابن عمر () : " أن النبى () نهى عن قتل النساء والصبيان " (4) . وقوله () : ( لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلا ً ولا امرأة ) (5) .
(1) محمد ()المثال الأسمى ، لأحمد ديدات ص 24 ، 25 .
(2) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص 166 طباعة الهيئة المصرية العامة للكتاب .
(3) الحرب عبر التاريخ ، تعريب فتحى عبد الله النمر .
(4) أخرجه البخارى ح 2528 ، 3015 ، ومسلم ح 1744 .
(5) أخرجه أبو داود ح 2614 .
وروى ابن عباس () فى قوله تعالى : " ولا تعتدوا " . يقول : ولا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير . (1) وعن عمر بن الخطاب () أنه أوصى سلمة بن قيس فقال : " لا تقتلوا امرأة ، ولا صبياً ، ولا شيخاً هرماً " . وقد أومأ النبى () هذه العلة فى المرأة التى قتلت فى الحرب فقال : ( ما بال هذه قتلت وهى لا تقاتل ) (2)
ولقد كان () يغضب إذا بلغه أن بعض قواده قتلوا أحداً من هؤلاء الضعفاء ، كما رُوى أن أحد قواده قتل بعض الأطفال – عن خطأ – فوقف () يقول لجنده : ( ما بال أقوام تجاوز بهم القتال حتى قتلوا الذرية ، ألا لا تقتلوا الذرية ، ألا لا تقتلوا الذرية )
وإذا قورنت هذه الأخلاقيات بأخلاقيات الحروب الحديثة ، ففى الحرب العالمية الثانية أصدر هتلر التعليمات الآتية لقادة جيوشه : يجب محو موسكو ولننجراد من على الأرض للتخلص تماماً من سكان المدينة حتى لا نضطر لإطعامهم فى فترة الشتاء وتقوم الطائرات بالإبادة وليست هناك ضرورة لاستخدام الدبابات ، وبالنسبة للمدن الأخرى فينبغى أن تكون القاعدة هى : " قبل غزوها ينبغى أن تتحول إلى أنقاض بنيرات المدافع والغارات الجوية " .
ويروى المؤرخ الرومانى " بلوتارك " أن القائد الرومانى " ماريوس " عندما سار لغزو بلاد اليونان قال لأصحابه : " لا تدعوا على ظهرها إنساناً حياً إلا قتلتموه ، ولا زرعاً إلا أحرقتموه ليعرف الناس أنكم الرومان " (3)
2- لا يقتل الأعمى ولا الزمنى ولا الراهب ولا الفلاحين ولا الصناع ولا تقطع شجرة مثمرة :
وهذه الوصية نقلها الخليفة الصديق أبو بكر () ووصى بها أسامة بن زيد () وجيشه فقال : " يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى : " ولا تخونوا ، لا تغلوّا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع – أى العبادة – فدعوهم وما فرغوا أنسهم له ، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام ، فإذا أكلتم مكنها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها " (4)
3- عدم نقض العهد :
روى أحمد فى مسنده أن معاوية بن أبى سفيان () كان يسير بالجيش فى أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد (5) ، فأرادوا أن يدنوا منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم . فإذا شيخ فى الجيش ينادى : وفاء لا غدر يا معاوية . إن رسول الله () قال : ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقده ولا يشدها حتى ينقضى أجلها ، أو ينبذ إليهم على سواء ) فلما سمع معاوية ذلك رجع بالجيش . (6)
(1) ابن جرير الطبرى فى تفسيره ( 2/ 110 ) الآية 190 البقرة .
(2) أخرجه أبو داود فى الجهاد ، وأحمد فى مسنده ( 5959) وقال أحمد شاكر : صحيح الإسناد .
(3) المدخل إلى العقيدة والإستراتيجية العسكرية الإسلامية ، للواء أ . ح / محمد جمال الدين محفوظ ص 18 ، 19 .
(4) تاريخ الأمم والملوك للطبرى ( 4 / 47 ) .
(5) الأمد : العهد (6) رواه أحمد فى مسنده
ويقول () : ( إنى لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس الرسل – أى رسل الحرب ) (1) .
وقال () : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً ) (2) وهذا امتثالاً لأمر الله تعالى : وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ (3) ، وقوله سبحانه : فَأَتِمّوَاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىَ مُدّتِهِمْ (4) ، وقوله سبحانه : وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىَ سَوَآءٍ (5)
4- عدم هدم المنازل وحرق الزرع وقتل الدواب وفتح السدود لإغراق العدو :
نهى رسول الله () عن قتل النحل (6) ، ونهى أن يقتل شيئاً من الدواب صبراً (7) يقول ابن قدامة فى المغنى : كذلك الحكم فى فتح البثوق – السدود – عليهم لإغراقهم ، وإن قدر عليهم بغير لم يجز إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصداً .. (8)
5- منع التمثيل بجثث الأعداء :
نهى رسولنا محمد () عن المثلة وعن تشويه الأجسام ، كما أوجب على المسلمين دفن القتلى – أى قتلى العدو – حتى لا يتركوا نهباً للوحوش والطيور وهذا تكريماً للنفس الإنسانية ولجسد الإنسان وما حدث فى قتلى بدر خير دليل على ذلك قد أمر () المسلمون بأن يضعوا قتلى المشركين فى القليب – بئر جاف – حتى لا تنهش أجسادهم الوحوش .
يقول ابن قدامة : ويكره نقل رؤؤس المشركين من بلد إلى بلد ، والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سمره بن جندب () قال : كان النبى () يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة . (9)
6- عدم قتل الأسرى :
ففى غزوة بدر عنى رسول الله () بالأسرى، فلم يقتلهم ولم يعذبهم حتى إن بعض المسلمين رأى أن الإثخان فى القتل أحب من استبقاء الأسرى ، ولكن الرسول () قال لهم : ( استوصوا بهم خيراً ) .
كما أنه نهى أن يفرق بين الأم وولدها فى الأسر . فقد روى أبو أيوب () قال : سمعت رسول الله () يقول : ( من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ) (10) وفى زمن معاوية () نقض الروم عهدهم مع المسلمين ، وفى يدهم رهائن للروم ، فامتنع المسلمون جميعاً عن قتلهم وخلوا سبيلهم وقالوا : وفاء بغدر خير من غدر بغدر لقول الرسول () : ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) (11)
(1) أخرجه أبو داود ح 2758 ، وصححه الألبانى .
(2) أخرجه البخارى ح 2995 ، 3166
(3) النحل 91 (4) التوبة 4 (5) الأنفال 58 .
(6) أخرجه أبو داود ح 5267 ، وابن ماجة ح 3224 ، والدارمى ح 1999 ومالك ح 447 ، وأحمد فى المسند 3067 / 3242 .
(7) أخرجه البخارى ح 5514 ، ومسلم ح 1550 وأبو داود ح 2816 ، وأحمد 2 / 94 .
(8) المغنى مع الشرح حـ 12 ، ص 672 .
(9) المغنى مع الشرح حـ 12 ص 675 .
(10) أخرجه الترمذى .
(11) أخرجه أبو داود ح 3534 ، وأحمد فى مسنده ( 3 / 414 ) ، وأورده البيهقى ى مسنده ( 1 / 277 )
7- عدم انتهاك حرمات الأعداء :
فإذا وطئ مسلم امرأة من الأعداء حُدّ – أى أقيم عليه الحد – لأن الزنى فى ذاته فاحشة ، وانتهاك أعراض الناس – كل الناس – جريمة وأخلاق المسلمين لا تتجزأ . فقد روى حارث بن نبهان عن إبان بن عثمان عن النبى () أنه قال : ( انهوا جيوشكم عن الفساد ، فإنه ما فسد جيشاً قط إلا قذف الله فى قلوبهم الرعب ، وانهوا جيوشكم عن الغلول ، فإنه ما غل جيش قط إلا سلط الله عليهم الرَجَلَة ، وانهوا جيوشكم عن الزنى فإنه ما زنى جيش قط إلا سلط الله عليهم الموتان ) (1)
هذه هى أخلاقيات رسول الله () المتحضرة فى ميدان القتال . وإذا قارنا بينها وبين ما يحدث الآن لوجدنا المقارنة مستحيلة . وإذا قارنا عدد القتلى لوجدنا البون شاسعاً :
فى حروب المسلمين سواء كانت غزوات أو سرايا أو مناوشات والتى ابتدأت فى السنة الثانية للهجرة ودامت حتى السنة التاسعة أى ما يقرب من ثمان سنوات فلم يزد عدد المقتولين من الفريقين – المسلم وغير المسلم – على ألف وثمانية عشر نفساً ( 1018 ) . المسلمون منهم 259 شهيداً ، وغير المسلم 759 قتيلاً (2)
أما فى الحرب العالمية 1914 – 1918 م فبلغ عدد قتلاهم سبعة ملايين ، والمصابون واحد وعشرين مليون نفس . أما الحرب العالمية الثانية 1939م . فعدد المصابين لا يقل عددهم عن خمسين مليون نفساً . (3)
وبعد هذه العجالة الآن نتساءل هل كان رسول الله () حقاً يريد أرضاً جديدة ، وخيرات بلاد جديدة وسيادة جديدة ؟ وأى سيف استخدمه رسول الله () حتى يدخل الناس فى دين الله ؟ فلا نقول أكثر مما قاله المستشرق " كارليل " إنه سيف العقل ! .
ولذلك وصف الله تعالى هذا الدين بأنه سيسود فى العالم ويتغلب ويخلف وراءه كل دين آخر
هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً (4) سيسود لأنه وعد الله ووعده حق ولكن ليس بقوة السيف ولكن بقوة الحجة والبرهان والبيان والبلاغ – أى بسيف العقل !!
ثانياً : شبهاتهم حول أن الرسول () هو مؤلف القرآن !!! والرد عليها :
يقول المستشرق الألمانى " بروكلمان " فى كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية : كان محمداً يأخذ بأسباب التحنث والتنسك ويسترسل فى تأملاته حول خلاصه الروحى ، ليالى بطولها فى غار حراء ، قرب مكة . لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة ، فكان يفتح فى نفسه هذا السؤال : إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم ، ما دام هو عز وجل قد تجلى آخر الأمر للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه ؟ وهكذا نضجت فى نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة ، رسالة النبوة ، ولكن حياءه الفطرى حال
(1) الميزان ( 1649) بإسناد فيه ضعف . (2) هذه الإحصائية من كتاب رحمة العالمين لمؤلفة محمد سليمان المنصور فورى
(3) هذا التقرير كتبه المستر ماكستن عضو البرلمان الانجليزى واعتمدت فى النقل على كتاب مشروعية القتال فى الإسلام للدكتور / محمود محمد بابللى . (4) الفتح 28
بينه وبين إعلان نبوته فترة غير قصيرة ، ولم تتبدد شكوكه إلا بعد أن خضع لإحدى الخبرات الخارقة فى غار حراء ، ذلك بأن طائفاً تجلى له هناك يوماً - هو الملك جبريل - فأوحى إليه أن الله اختاره لهداية الأمة . !!! (1)
فهذه المزاعم تطعن فى الوحى المنزل على رسول الله () كما أنها تطعن فى عصمته فيما بلغه من الوحى عن الله تعالى ... وبالتالى تطعن فى رسالته ونبوته () !! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً (2)
رد الفرية :
نستطيع أن نرد على الفرية – بعون الله – فى نقاط :
أولاً : أن ما جاء به محمد () وما بلغه وحى الله تعالى من عقائد وتشريعات فى العبادات والمعاملات ، والحدود ، والجنايات ، والاقتصاد ، والسياسة ، والأخلاق ، والآداب ، وأحوال الحروب ، وأحوال السلم ، .... كل ذلك لا يمكن أن يكون وحياً نفسياً مبنياً على معلومات وأفكار مدخرة فى باطن الرسول () لأنها تشريعات لم تكن موجودة وما عرفت فى الشرائع السابقة – سماوية أو غير سماوية – فكيف يوحى إليه خياله أن يأتى بأشياء لا وجود لها وتخالف كل ما كان سائداً فى العقائد الموجودة كالوثنية ، والمجوسية ، والتألية ، والتثليث وإنكار البعث .
فإذا جاء بشراً برسالة – من نفسه كما يدعون – تخالف معتقدات قومه فإنه سوف يفتح على نفسه أبواب التكذيب ، والمواجهة ، والصد ، والإيذاء .. وهو فى غنى عن هذه الأشياء لأنه يريد أن يكون مسموعاً فى قومه ، مطاعاً فمن باب أولى أن يأتيهم بما يقبلون ولا يقول لهم إلا ما يحبون . فكيف إذ هم آذوه وآذوا أتباعه وناصبوه العدوان وقاطعوه وهموا أن يقتلوه وأخرجوه من بينهم ... أليس ذلك دليلاً على أن رسالته سامية إلهية ؟
ثانياً : اشتمل الوحى الإلهى الذى بلغه رسول الله () – قرآناً وسنة – على أسرار وغيوب أخبر عنها ووقعت بعضها فى عهده () وبعضها بعد وفاته ، وبعضها نراه بعيوننا فى وقتنا الحاضر ، واشتمال الوحى أيضاً على أسرار فى الكون والأنفس والآفات ، ما كانت لتخطر على بال بشر قط ، ولم يظهر تأويلها إلا بعد تقدم العلوم والمعارف فى العصر الحديث . وهى علوم ما كان لقوم محمد () علاقة بها ولا يمكن لعقولهم أن تدركها فكيف أدركها خيال محمد () وتكلم عنها ؟!!
ثالثاً : أن محمداً () لم يكن يتلوا من كتاب ولا خطة بيمينه ولا اطلع على كتب السابقين ولم يكن من الراسخين فى العلم ولذلك قال الله له : تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـَذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ (3)
(1) تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 36 ، وينظر رد شبهات حول عصمة النبى () لعماد الشربينى ص 317 ، 318 .
(2) الكهف 5 . (3) هود 49
وقوله سبحانه : وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (1)
ويقول المصطفى () : ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) (2)
ولقد كانت من حكمة أمية النبى () – والله أعلم بحكمته – أمرين :
الأمر الأول : قطع أسباب الريب عن قصار النظر من هواة الباطل وضعاف الإدراك حتى لا يقال أن القرآن من صنعة محمد () ومن تأليفه , وسداً لهذه الذريعة أرادت إرادة الله تعالى وحكمته أن يكون صاحب الدعوة أمياً اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (3) .
الأمر الثانى : أن الله تعالى لم يرض أن يكون من البشر أستاذاً ومعلماً لصاحب الدعوة يجلس محمد () بين يديه يتلقى عنه العلم . ولكن قضت مشيئته سبحانه أن يكون معلمه " الله الواحد الأحد " بواسطة روحه الأمين جبريل عليه السلام ولذلك يقول سبحانه : وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (4) أما حكمة أمية قومه () فتتجلى فى الآتى :
1- إعدام لوساوس شياطين الإنس والجن التى تزعم أن لمحمد معلم من البشر ، إذ كيف يكون لهذا المعلم وجود فى بيئة أمية . ولو كان محمداً . وهو يعرفونه جيداً – ويتردد على واحد منهم لعرفوا ذلك وما خفى عليهم هذا الأمر .
2- لما احتاج قومه أن يدعوا هذه الدعوة لم يجدوا عربياً واحداً من قومه أن يكون معلماً لمحمد () فنسبوا تعليمه – زوراً – لرجل أعجمى لا يعرف العربية . ولذلك فضحهم القرآن بقوله تعالى : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ (5) ثم يبطلون دعواهم بألسنتهم لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَـَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ (6) . فكيف يتعلم رجل لا يعرف لغة معلمه ولا معلمه يعر لغته ؟!! (7) ولذلك يقول سبحانه : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نّهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ (8) .
رابعاً : لو كان القرآن من صنعة محمد – وحاشاه ذلك – لما ارتضى محمداً () أن يسجل العتاب على نفسه أو أن يوجهه إليه ، إذ العتاب يثقل الوطأة على النفس الحساسة وعلى الشعور المرهف . والقرآن يسجل آيات العتاب فى قوله تعالى : عَبَسَ وَتَوَلّىَ أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ (9) .
خامساً : أن القرآن الكريم عندما تحدث عن النساء المصطفيات ، تكلم عن مريم عليها السلام وهى من بنى إسرائيل قوم موسى عليه السلام ، وجاء القرآن يحمل سورة باسمها ، ولو كان القرآن من عند محمد () فلماذا يختار مريم أم عيسى عليه السلام ولم يختار أمه آمنة بنت وهب أو زوجته خديجة أوعائشة أو
(1) العنكبوت (48) (2) أخرجه البخارى (3) الأنعام 124 . (4) النساء 113
(5) النحل 103 (6) النحل 103 (7) راجع : افتراءات المستشرقين على الإسلام للدكتور عبد العظيم المطعنى ص 191 ، 198 . (8) الشورة 52 ، 53 (9) عبس 1 ، 2
إحدى بناته وما كان يعجزه ذلك ولكن حاشاه أن يفعل ذلك , فلم يكن له خيار ولم يكن لديه الحق فى التعبير عن هواه ولكن إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ (1) (2)
سادساً : أن النبى () لم يكن يستشرق النبوة ، وما كان يرجوها ن ولم يطمع فى حصولها له ولم يدون المحدثون عنه ذلك كما دونوا لفرد فى الجاهلية يسمى أمية بن أبى الصلت كان يتوقع فى نفسه أن يكون نبياً . ولقد أيد القرآن ذلك فى قوله : وَمَا كُنتَ تَرْجُوَ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ (3)
سابعاً : أن اختلاء الرسول () فى غار حراء كان بقدر الله تعالى ومقوياً قوياً لذلك الاستعداد ، وعصمة ربه له بالعزلة وعدم مشاركة المشركين فى شيء من عباداتهم وعاداتهم ولم يكن استعداداً للنبوة لأنه لو كان لأجل ذلك ما أرهبه رؤية الملك ولا خاف على نفسه حين رآه أول مرة (4) ولا يدرى من هو إلا عندما أعلمه بذلك ورقة بن نوفل .
ثامناً : أن الله تعالى بين أن الوحى ليس نابعاً من داخل محمد () بل حمله جبريل عليه السلام من عند الله فقال سبحانه : وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ عَلَىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مّبِينٍ (5)
فحامل الوحى ملك منفصل عن ذات محمد () ليس خيالاً فيه ، وله من الصفات التى بينها سبحانه وتعالى فى قوله : إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مّطَاعٍ ثَمّ أَمِينٍوَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالاُفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ (6)
وقد جاءت أيضاً إجابات القرآن الكريم عن أسئلة هواة الجدل الذين أرادوا الحرج لمحمد () إجابات مفحمة ملجمة . ففى قوله تعالى : وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (7) وقوله سبحانه : فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ (8)
وغير ذلك من الآيات المحكمات التى تضيء مع غيرها فى القرآن الكريم – معجزة محمد الأولى – العقد النورانى فى السيرة المحمدية الكونية لإخراج الكون من الظلمات إلى النور بإذن البارئ عز وجل فالتصديق بالله الواحد الأحد هو فى نفس الوقت تصديق برسالة محمد () التى تبلورت فيها رسالات الأنبياء والمرسلين السابقين جميعاً . (9)
يقول الإمام الماوردى – رحمه الله – قال بعضهم : صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحى وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أن ما بطل به إلهام المعارف فى التوحيد كان إبطال المعارف به فى النبوة أحق .
والثانى : أن الإلهام خفى غامض يدعيه المحق والمبطل فإن ميزوا طلب أمارة وإن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام . (10)
(1) النجم 4 (2) محمد المثال الأسمى لأحمد ديدات ص 9 – 10 . (3) القصص 86 .
(4) رد شبهات حول عصمة النبى () لعماد الشربينى ص 319 ، 321 . (5) الشعراء 192 ، 195 .
(6) التكوير 19 – 25 (7) يس 78 ، 79 (8) الإسراء 51
(9) حاجة الأمة إليه () ، للأستاذ / محمد مصطفى البسيونى – مقال بمجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1427 هـ .
(10) أعلام النبوة ، للماوردى ص 14 .
ويقول : فإذا ثبت أن النبوة لا تصلح إلا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه فصحتها إليه معتبرة بثلاثة شروط تدل على صدقه ووجوب طاعته :
أحدهما : أن يكون مدعى النبوة على صفات يجوز أن يكون مؤهلاً لها لصدق لهجته وظهور فضله وكمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها وفقد أمانتها.
بعث رسول الله () خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام فقالوا يا خالد : صف لنا محمداً قال : بإيجاز أم بأطناب قالوا : بإيجاز قال : هو رسول الله والرسول على قدر المرسل .
والشرط الثانى : إظهار معجز يدل على صدقه ويعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ليعلم أنها منه فيصبح بها دعوى رسالته لأنه لا يظهرها من كاذب عليه ويكون المعجز دليلاً على صدقه وصدقه دليلاً على صحة نبوته .
والشرط الثالث : أن يقرن بالمعجزة دعوى النبوة فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى لم يصر بظهور المعجزة نبياً لأن المعجز يدل على صدق الدعوى فكان صفة لها فلم يجز أن تثبت الصفة قبل وجود الموصوف (1).
المبحث الثانى
شهادات المنصفين غير المسلمين حول شخصية الرسول () ومكانته
إذا كان دأب المستشرقين وأعداء الإسلام إثارة القضايا والشبهات حول كل ما هو إسلامى ابتداءاً برسول الله () مروراً بسيرته وما أوحى إليه ؛ إلا أن ذلك لم يمنع أن منهم طائفة أخلصت للعلم وأقبلت على الإسلام تستنتج الآراء الصادقة المنصفة فى أمانة وحيدة وخرجت منصفة حول الرسول () والرسالة نذكر منها :
عالمية رسالته () :
- يقول العالم الفرنسى لوزون ( 1786 – 1837 ) أستاذ علوم الكيمياء فى كتابه " الله فى السماء " : " وليس محمد نبى العرب وحدهم ، بل هو أفضل نبى قال بوحدانية الله ، وإن دين موسى وإن كان من الأديان التى أساسها الوحدانية إلا أنه كان قومياً محضاً وخاصاً ببنى إسرائيل ، وأما محمد () قد نشر دينه بقاعدتيه الأساسيتين وهما : الوحدانية والبعث . وقد أعلنها لعموم البشر فى أنحاء المسكونة ، وإنه لعمل عظيم يتعلق بالإنسانية جملة وتفضيلاً عند من يدرك معنى رسالة محمد الذى اعتنق مبدأه ، وعمل على رسالته أربعمئة مليون من الناس , فرسول كهذا الرسول يجدر بإتباع رسالته ، والمبادرة إلى اعتناق دعوته ، وإذ أنها دعوة شريفة ، قوامها معرفة الخالق ، والحث على الخير ، والردع عن المنكر ،
بل كان ما جاء به يرمى إلى الصلاح والإصلاح ، والصلاح أنشودة المؤمن . هذا هو الدين الذى أدعو إليه جميع النصارى " (2)
(1) أعلام النبوة ، للماوردى ص 15 . (2) الله فى السماء : لوزون
- ويقول د. وغسطون كريستا الايطالى : " كان محمد () يعلن أنه رسول الله تعالى ، لإصلاح دين إبراهيم المطهر الذى أفسده أبناؤه وأقام العبادة القويمة التى أنشأها ذلك النبى ، وفسدت على مر الزمن ، وليؤيد وهو – خاتمة الرسل – ما كان الله أنزله على من سلفه من الأنبياء : موسى ، وداود ، وأشعياء ، وعيسى .... إذ هذه الجدران العالية ، لدليل على قوة عظمة محمد ، مثال القيادة ، ورمز السياسة " (1)
أخلاق محمد رسول الله () :
- يقول المستشرق الانجليزى السير وليم موير : " امتاز محمد () بوضوح كلامه ، ويسر دينه ، وأنه أتم من الأعمال ما أدهش الألباب ، لم يشهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق الحسنة ، ورفع من شأن الفضيلة فى زمن قصير كما فعل محمد " (2)
- يقول المستشرق الفرنسى إدوار مونتيه ( 1856 – 1927 ) أستاذ اللغات الشرقية فى جامعة جينيف : " أما محمد فكان كريم الأخلاق ، حسن العشرة ، عذب الحديث ، صحيح الحكم ، صادق اللفظ ، وقد كانت الصفة الغالبة عليه هى صحة الحكم ، وصراحة اللفظ ، والإقناع التام بما يقبله وبقوله ، إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد ، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص ، فقد كان محمداً مصلحاً دينياً ، ذا عقيدة راسخة ولم ينهض إلا بعد أن تأمل كثيراً ، وبلغ سن الكمال بهاتيك الدعوة العظيمة ، التى جعلته من أسطع أنوار الإنسانية .. " (3)
رحمته () :
- يقول المفكر الانجليزى توماس كارليل فى كتابه " الأبطال وعبادة البطولة " : " وكانت آخر كلماته تسبيحاً وصلاة ، صوت فؤاد يهيم بين الرجاء والخوف أن يصعد إلى ربه . ولا تحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله ، كلا بل زادته فضلاً ، وقد يروى عنه مكرمات عالية ، منها قوله حين مات غلامه – يقصد ابنه إبراهيم – " العين تدفع ، والقول يوجع ، ولا نقول ما يسخط الرب " ، ولما استشهد مولاه زيد – ابن حارثة – فى غزوة مؤتة قال محمد : لقد جاهد زيد فى الله حق جهاده ، ولقد لقى ربه اليوم فلا بأس عليه ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلك يبكى على جثة أبيها ، وجدت الرجل الكهل يذوب قلبه دمعاً ! قالت : ماذا أرى ؟ قال : صديق يبكى صديقه . فمثل هذه الأفعال ترينا فى محمد () أخا الإنسانية الرحيم أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق ، وابن أمنا الأولى – يقصد حواء – وأبينا الأول – آدم " (4)
عظمته () :
- يقول المستشرق الفرنسى ساديو لوى ( 1807 – 1875 ) : " لم يكن محمد نبى العرب بالرجل الفاتح للعرب فحسب بل للعالم لو أنصفه الناس ، لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب ، وأن تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم فى دينه ، عظيم فى صفاته ، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبى الإسلام " (5)
(1) الكياسة الاجتماعية : غسطون كريستا ( نقلاً عن كتاب محمد عند علماء الغرب ص 114 )
(2) حياء محمد : السير وليم موير ، ص 31 . (3) الأبطال وعبادة البطولة ، لتوماس كارليل ترجمة محمد السباعى .
(4) تاريخ العرب ، لساديو لوى ، ص 37 .
- يقول المستشرق الألمانى تيودر نولدكه ( 1836 – 1920 ) : " نزل القرآن على محمد نبى المسلمين بل نبى العالم . جاء بدين إلى العالم عظيم ، وبشريعة كلها آداب وتعاليم ، وحرى بنا أن ننصف محمداً فى الحديث عنه لأننا لم نقرأ عنه إلا كل صفات الكمال فكان جديراً بالاحترام " (1)
- يقول الكاتب الروسى ليون تولستوى : " إن محمداً نبى الإسلام الذى آمن به الآن أكثر من مئتى مليون نفس ، قد قام بعمل جليل ، فإنه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهلية وسفك الدماء ، وتقديم الضحايا البشرية إلى معرفة الإله الواحد ، وأنار أبصارهم بنور الإيمان ، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله سبحانه ، والحق الذى لا مراء فيه أن محمداً قام بعمل عظيم وانقلاب كبير فى العالم " (2)
- يقول المستشرق الانجليزى السيروليم موير : " وباختصار – فإنه مهما ندرس حياة النبى محمد () نجدها على الدوام عبارة عن كتلة فضائل مجسمة مع نقاء سريرة وخلق عظيم ، وستبقى تلك الفضائل عديمة النظير على الإطلاق فى جميع الأزمات : فى الماضى ، وفى الحاضر ، والمستقبل " (3)
عصمة الرسول () :
- يقول المستشرق الألمانى كارل هينرش بيكر ( 1876 – 1937 ) : " لقد أخطأ من قال إن نبى العرب دجال أو ساحر لأنه لم يفهم مبدأه السامى : إن محمداً جدير بالتقدير ، ومبدؤه حرى بالإتباع ، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم ، وإن محمداً خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال ، كما أننا لا نرى أن الديانة الإسلامية بعيدة عن الديانة المسيحية .. " (4)
- أما المستشرق الروسى جان ميكائيليس ( 1717 – 1791 ) يقول فى كتابه " العرب فى آسيا " : " لم يكن محمداً نبى العرب المشعوذ ولا الساحر ، كما اتهمه السفهاء فى عهده ، وإنما كان رجلاً ذا حنكة وإدارة وبطولة وقيادة وأخلاق وعقيدة ، فلقد دعا لدينه بكل صفات الكمال ، وأتى للعرب بما رفع شأنهم ، ولم نعرف عن دينه إلا ما يتلاءم مع العصور مهما تطورت " (5)
- أما المستشرق الألمانى دى تريس فردروك ( 1821 – 1903 ) قال : " إنا لو أنصفنا الإسلام لاتبعنا ما عنده من تعاليم وأحكام ، لأن الكثير منها ليس فى غيره ، وقد زاده محمد نمواً وعظمه بحسن عنايته وعظيم إرادته ، ويظهر من محمد أن دعوته لهذا الدين لم تكن إلا عن سبب سماوى . إنا نقول هذا لو أنصفناه فيما دعا إليه ونادى به ، إن من اتهم محمداً بالكذب فليتهم نفسه بالوهن والبلادة وعدم الوقوف على ما صدع به من حقائق " (6)
(1) تاريخ القرآن ، ليتورد نولدكة ص 83 .
(2) ليون تولستوى : الإنسان والحياة ( نقلاً عن كتاب محمد عند العلماء الغرب ص 123 ) .
(3) وليم موير : حياة محمد ( نقلاً عن محمد () فى الدراسات الاستشراقية المنصفة لمحمد الشيبانى ص 156 )
(4) كارل هينرش بيكر : الشرقيون ( نقلاً عن المصدر السابق ) .
(5) جان ميكائيليس : العرب فى آسيا .
(6) دى تريس فردروك : مقولات أرسطاطاليس ص 56 .
- ويقول الباحث الانجليزى الكولونيل بودلى فى كتابه " حياة محمد " : " إن أعظم الكبائر فى نظر الإسلام الشرك بالله ، وإن محمداً لم يدع لنفسه صفة إلهية ، وكثيراً ما صرح بأنه بشر يوحى إليه ، وأن السبب فى سرعة انتشار الإسلام عن غيره من الأديان هو عدم إدعاء النبى محمد صفة إلهية ، وعدم دعوته إلى عبادة شخصية ، وكذلك تسليم القرآن بصحة الديانات المنزلة من قبل " (1)
- صدق العقيدة :
- يقول المستشرق الفرنسى أتيين دينيه ( 1861 – 1929 ) : " والحق أنا نرى من بين جميع الأنبياء الذين أسسوا ديانات أن محمداً هو الوحيد الذى استطاع أن يستغنى عن مدد الخوارق والمعجزات المادية ، معتمداً فقط على بداهة رسالته ووضوحها ، وعلى بلاغة القرآن الكريم الإلهية ، وإن فى استغناء محمد عن مدد الخوارق والمعجزات لأكبر معجزة على الإطلاق . " (2)
- يقول الشاعر الفرنسى دى لامارتين ( 1790 – 1869 ) فى كتابه السفر إلى الشرق : " إن حياة محمد وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته ، وجاهلية شعبه ، وشهامته وجرأته وبأسه فى لقاء مالقيه من عبدة الأوثان ، وثباته وتقبله سخرية الساخرين ، وحميته فى نشر رسالته وحروبه التى كان جيشه فيها أقل نفراً وعدداً من عدوه ، ووثوقه بالنجاح وإيمانه بالظفر ، وتطلعه إلى إعلاء الكلمة وتأسيس العقيدة ، ونجواه التى كانت لا تنقطع مع الله ، كل هذا أعظم دليل على أنه لم يكن يضمر خداعاً ، أو يعيش على باطل ، بل كان وراءها عقيدة صادقة ويقين مضيء فى قلبه ، وهذا اليقين الذى ملأ روحه هو الذى وهبه القوة ، على أن يرد الحياة فكرة عظيمة وحجة قائمة ومبدأ مزدوج ، وهو وحدانية الله سبحانه " (3)
- ويقول هـ . أ . ر . جب : " إذ لو كان القرآن من تأليف محمد لكان من الممكن أن ينافسه ويضارعه رجال آخرين . وليأتوا بعشر آيات من مثله مفتريات . وإذ لم يستطيعوا ( ومن الواضح أنهم لم يستطيعوا ) فليقبلوا القرآن كمعجزة وبرهان ظاهر " (4)
ويقول أتيين دينيه : " لم يدر بخلد محمد يوماً ما أنه سيحمل هذا العبء الهائل ، ولئن كان بعض الرهبان قد تنبئوا بشيء منه ، فإنه لم يعر تنبؤا تهم أى اهتمام ، بل لقد نسيها . وأن اضطرابه ، وخوفه حينما فوجئ بالوحى من أن يكون فريسة لتخيلات شيطانية ليؤكد لنا صحة ما نقول " (5)
فهذه استئناسات كثيرة لأقوال المنصفين من غير المسلمين لتكون حجة عليهم وعلى كل من لم يتبع رسالة محمد () ويشكك فى صدقها وربوبيتها ، وصدق رسولنا الكريم إذ يقول : ( والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى أو نصرانى ثم يموت ولا يؤمن بالذى أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) (6)
(1) الكولونيل بودلى : حياة محمد ( نقلاً عن مجلة الأزهر ) .
(2) أتيين دينيه : محمد رسول الله ص 49 – ترجمة عبد الحليم محمود ، ومحمود عبد الحليم .
(3) دى لامارتين : السفر إلى الشرق ص 84 .
(4) هـ . أ . ر . جب : المحمدية ص 32 ، طبعة لندن ( نقلاً عن كتاب محمد () المثال الأسمى ، لأحمد ديدات ص 74 ) .
(5) أتيين دينيه : محمد رسول الله ص 110 . (6) سبق تخريجه فى الفصل الأول ص
الخاتمـة
وتشتمل على :
1- نتائج البحث : -
2- الفهرست .
الخاتمة
نتائج البحث :
يطيب لى فى النهاية المطاف بدلائل نبوة محمد () وإبراز بعض جوانبها ، والرد على شبهات المشككين حول نبوته ورسالته () وإبراز بعض أقوال المنصفين من غير المسلمين حول مكانة الرسول () وأثره . أن أوضح أهم ما توصلت إليه من نتائج وأذكرها فى نقاط :
1- أن آيات الأنبياء هى أدلة صدقهم ، وبراهين من الله تعالى تتضمن إعلام الله تعالى وإخباره سبحانه . فلا يتصور أن تكون آيات الرسل إلا دالة على صدقهم .
وأن دلائل نبوة رسول الله () لها آثارها المستلزمة لها ، بدون إخبار النبى () بأنه نبى بل متى اختصت به وهى من خصائصه كانت آية بعد موته ، أو على يد أحد من الشاهدين له بالنبوة ، وكلها من دلائل النبوة .
2- أن الرسول () لم يكن بدعاً من الرسل ، وإنما كانت دعوته () حلقة من حلقات الأنبياء فى الدعوة إلى الله تعالى .
3- أن دليل نبوته () يكمن فى صدق رسالته وصدق ما بلغ عن ربه وما جاء به من قرآن وسنة وتتمثل أيضاً فى عظمة محمد () النابعة من :
أ- صفاته النفسية وأخلاقه الشخصية مما دعا أصحاب العقول الراجحة من كل أمة وملة إلى تصديقه والإيمان به () . فقد كان عند معاصريه ذو عزم صادق ونموذجاً لكل كمال بشرى وحياة صالحة .
ب- قدرته ومثابرته وتحمله فى سبيل نجاح دعوته وتوصيلها وتطبيق منهجه الإصلاحى فى الأرض .
ج – من أعظم دلائل نبوته " القرآن الكريم " ذلك المنهج الصالح والمصلح لكل أركان المعمورة ؛ لأن رسالته () رسالة عالمية شمولية لكل الناس كافة ، ونوره عالمياً ، ونطاق مشاركته الوجدانية يستغرق البشرية كلها .
4- إن طائفة الباحثين – غير المسلمين – الذين اتخذوا السمت العلمى والموضوعى والمنهجى وسموا أنفسهم " بالمستشرقين " ، قاموا برصد كل نشاط إسلامى وذلك لفتنة المسلمين عن دينهم وتشتيت جهودهم وأفكارهم ومعتقداتهم وذلك بإثارة الشبهات والدعاوى للشوشرة على أذهان المسلمين والطعن فى شخصية رسول الله () .
ومن الأشياء التى أثاروها – حقداً من عند أنفسهم – أن غزوات الرسول () وفتوحاته ما هى إلا لنزع خيرات البلاد ، وانتشار الإسلام بالسيف !! . وقد بينت هذه الشبهات وكان الرد عليها بالأدلة القرآنية ، واستعراض السيرة النبوية المطهرة ، وكذلك استخدام الأدلة العقلية ثم الاستئناس بما كتبه المنصفين منهم حتى نقيم الحجة عليهم .
وقد تم توضيح النقاط الآتية :
أ- أن الرسول () جعل من ساحة المعركة ساحة للتحضر الإنسانى الراقى ، حيث لا يجوز القتال إلا لتمكين الحريات فى الأفكار والعقائد والعبادات حتى ولو كانت لغير الله فـ – لا إكراه فى الدين – ورفع الظلم عن المظلومين والمستضعفين فى الأرض ومنع فتنتهم فى دينهم .
ب- أن الأصل فى الجهاد فى الإسلام أن يكون فى سبيل الله وليس لمطمعاً أو مغنماً . والواقع يؤيد أن المسلمين لم ينتصروا من كثرة عدد ولا عتاد وإنما لأنهم يقررون مبادئ سامية وفى سبيل غاية عالية ألا وهى " فى سبيل الله " .
جـ - أن المسلمين تحملوا فى بداية الدعوة ما وقع عليهم من أذى واعتداء ، ولم يترك المشركين سبيلاً للإيذاء إلا سلكوه . ولكن الرسول () غذى أرواحهم بالقرآن ، وربى نفوسهم على الصبر ، وعلى تحمل الأذى مع أنهم قوم قد رضعوا حب الحروب والبأس ولم يتحملوا ما لاقوه عن ضعف وإنما لأن الإسلام ما كان لينتشر بالمواجهة والقتال والصدام .
د – أن الرسول () استخدم " سيف العقل " بالحجة والبرهان والبلاغ فى نشر الدعوة ، ولم يلجأ إلى السيف إلا للأسباب التى ذكرناها سابقاً .
هـ - أن الرسول () وضع آداب وأخلاقيات لساحة التحضر الإنسانى – ساحة القتال – منها : عدم قتل النساء ، والأطفال ، والشيوخ ، والأعمى ، والزمنى ، والراهب ، والفلاح ، والصانع ، والأسرى ، وعدم قطع الأشجار المثمرة ، وعدم نقض العهود مع العدو ، وعدم هدم المنازل وقتل الدواب وحرق الزرع ، وعدم انتهاك حرمات الله تعالى .
ثم كانت شبهاتهم حول أن الرسول () هو مؤلف الوحى وكان الرد عليهم يتمثل فى :
أ – أن ما جاء به رسول الله من عقائد وتشريعات لم تكن موجودة وما عرفت فى الشرائع السابقة ، فكيف ، يأتى له خياله بأشياء لم يعهدها البشر ؟!!
ب- أن القرآن الكريم اشتمل على غيوب وأسرار وقع بعضها فى عهده () وبعضها بعد وفاته ، وبعضها لم يظهر إلا مع ظهور تقدم العلوم والمعارف الحديثة .
جـ - أن رسول الله () لم يكن يتلو الكتاب من قبل ولم تخطه يمينه ولم يطلع على كتب السابقين ، ولا أحوال الأمم السالفة . فكيف يستطيع أن يؤلف القرآن بخياله ؟!!
د- أن القرآن اشتمل على آيات عتاب للنبى () ، فكيف يسمح محمد () أن يعاتب نفسه ويقرأ عتابه على الناس فالعتاب يثقل الوطأة على النفس الحساسة والشعور المرهف !!
هـ - أن القرآن عندما تحدث عن النساء المصطفيات ، تكلم عن سيدة من بنى إسرائيل وهى السيدة مريم عليها السلام ، وإن كان القرآن من وحى وخيال رسول الله () لاختار خديجة أو عائشة أو إحدى بناته أو أمه ليفضلها على نساء العالمين !!!
و – أن النبى () لم يسجل عليه استشرافه للنبوة من قبل وما كان يرجوها مثل أناس آخرين ذكرهم التاريخ بأن كان يستشرفون النبوة أمثال أمية بن أبى الصلت وغيره .
ز- أن الله تعالى قد بين فى كتابه الكريم أن الوحى ليس نابعاً من خيال الرسول () فى آيات كثيرة وإنما إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَىَ .
5- هذا لم يمنع أن هناك طائفة أخرى من المستشرقين أخلصت للعلم فأقبلت على الإسلام تدرسه وتستنتج فى أمانة ودقة ثم خرجت بآراء منصفة حول الرسول () ومكانته وأثره ذكرنا بعضاً منها .
وهذا وقد بذلت فى هذا البحث جهداً أحتسبه عند الله تعالى ، فما كان من توفيق وإصابة فمن الله تعالى وتوفيقه ، وما كان من خطأ فمنى ومن الشيطان وأسأل الله العافية .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
صدق الله العظيم
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
فهرس المراجع والمصادر
- القرآن الكريم
( أ )
1- الأبطال : توماس كارليل ، ترجمة محمد السباعى .
2- أتح لنفسك فرصة : دون إيرون ، تعريب عبد النعم محمد الزيادى .
3- الإتقان فى علوم القرآن : جلال الدين السيوطى ، المكتبة التوفيقية مصر .
4- أعلام النبوة : أبو الحسن على بن محمد حبيب الماوردى ، موقع صيد الفؤاد الالكترونى .
5- افتراءات المستشرقين على الإسلام : د. عبد العظيم المطعنى ، مكتبة وهبة القاهرة .
( ب )
6- التعريفات : لسيد الشريف الجرجانى ، مكتبة القرآن للطبع والنشر ، مصر .
7- تفسير السعدى : عبد الرحمن السعدى ، مكتبة الإيمان بالمنصورة ، مصر .
( جـ )
8- الجامع لأحكام القرآن " تفسير القرطبى " : الإمام القرطبى ، المكتبة التوفيقية ، مصر .
( ح )
9- حجة الله على العالمين فى معجزات سيد المرسلين : يوسف بن إسماعيل النبهانى ، المكتبة التوفيقية مصر .
10- الحرب عبر التاريخ لمونتجمرى ، تعريب العميد فتحى عبد الله النمر .
11- حياة محمد ورسالته : مولانا عمر على .
12- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ، طباعة الهيئة المصرية العامة للكتاب .
13- حقائق الاسلام فى مواجهة شبهات المشككين : مجموعة علماء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، مصر .
( خ )
14- خاتم النبيين : الإمام محمد أبو زهرة ، دار الفكر العربى ، مصر .
( د ، ز ، ر )
15- دلائل النبوة : الإمام البيهقى ، دار الكتب العلمية ، بيروت .
16- دلائل النبوة : إسماعيل الأصبهانى .
17- دلائل النبوة فى القرن العشرين : مبارك البراك ، مكتبة جزيرة الورد المنصورة ، مصر ط3 ، 1999م .
18- زاد المعاد فى هدى خير العباد : ابن قيم الجوزيه ، دار الفجر للتراث مصر 1420هـ .
19- رد شبهات حول عصمة النبى () : عماد الشربينى ، دار اليقين بالمنصورة مصر 1425 هـ - 2004 م .
( س )
20- سنن أبى داود ، أبو داود السجستانى الأزدى ، دار الحديث القاهرة ط 1420 هـ - 1999م .
21- سنن ابن ماجة : الحافظ أبو عبد الله يزيد القزوينى ، دار الحديث ، القاهرة 1419هـ - 1998م .
22- سنن الدارمى : الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى ، دار الحديث ، القاهرة 1420 - 2000م.
23- سنن الترمذى : عمر بن عيسى الترمذى ، دار الكتب العلمية ودار الحديث القاهرة 1408هـ .
24- السيرة النبوية : ابن هشام ، دار ابن رجب ، فارسكور مصر ط 1423هـ - 2003م .
( ش )
25- الشفا : القاضى عياض ، المكتبة التوفيقية ، القاهرة .
26- الشمائل المحمدية : الإمام الترمذى ، المكتبة التوفيقية ، القاهرة .
( ص )
27- صحيح البخارى : الإمام الحافظ أبو عبد الله بن إسماعيل البخارى ، مكتبة فياض ، المنصورة مصر 1422هـ .
28- صحيح مسلم : الإمام أبو الحسن مسلم النيسابورى ، مكتبة الإيمان بالمنصورة مصر .
29- صفاء الابتداء : عبد الفتاح شاهين ، دار الكنوز المصرية .
( ع )
30- عظمة محمد خاتم النبيين () : د. مصطفى الزرقا ، دار القلم دمشق ط 1417هـ - 1987م .
( ف )
31- فى ظلال القرآن : سيد قطب ، مكتبة الشروق ، مصر .
( ق )
32- القرآن معجزة المعجزات : أحمد ديدات ، ترجمة محمد مختار .
33- القواعد الحسان المتعقلة بتفسير القرآن : عبد الرحمن السعدى ، مكتبة ابن رجب فارسكور – مصر.
( م ، ن )
34- محمد رسول الله : أتيين دينيه ، ترجمة عبد الحليم محمود ، محمد عبد الحليم ط2 1958 نهضة مصر .
35- محمد () فى الدراسات الاستشراقية المنصفة : محمد الشيبانى ، موقع صيد الفؤاد الالكترونى .
36- محمد () المثال الأسمى : أحمد ديدات ، ترجمة محمد مختار .
37- محمد () : فى القرآن الكريم : عبد الرحيم السحيم ، موقع صيد الفؤاد الالكترونى .
38- محمد () فى العهد القديم والجديد : عبد الرحيم السحيم ، موقع صيد الفؤاد الالكترونى .
39- مختار الصحاح : الرازى ، دار الحديث ، مصر .
40- المدخل إلى العقيدة والاستراتيجية العسكرية الإسلامية : للواء أ . ح / محمد جمال الدين محفوظ .
41- المفردات فى غريب القرآن : الراغب الأصفهانى ، المكتبة التوفيقية ، مصر .
42- مفاهيم أساسية فى دراسة السيرة النبوية : محمد جلال الدين القصاص ، موقع صيد الفؤاد الالكترونى .
43- المغنى مع الشرح الكبير : ابن قدامة ، دار الحديث ، القاهرة 1416هـ - 1996م .
44- النبوات : تقى الدين بن تيمية ، مكتبة فياض ، المنصورة مصر ط 2005م .
- المجلات والحوليات : مجلة الأزهر الشريف .
- المواقع الالكترونية :
- saaid.net .
- salafi.net .
- saidnur.net .
- alwihdah .com .
- alukah.net .
- almeshkat .com .
- balagh.com .