أثر الفعاليَّة الحضاريَّة في المنحنى الحضاري
أثر الفعاليَّة الحضاريَّة في المنحنى الحضاري
لكلّ حضارة دورة تاريخيَّة تشرح تطورها ابتداءً من إرهاصات الميلاد إلى صرخات الشيخوخة ونحن هنا نُقدّم الدورة الحضاريَّة على أنَّها منحنى يعرض تصوّرًا لمراحل نشأة الحضارات وانهيارها من خلال محوري فعاليَّة الأشخاص وعددهم في الزمن مع مراعاة العوامل المُؤثّرة في معادَلَتَي الفعاليَّة السابق ذكرهما… ويُمكننا أنْ نقول أنَّ الدورة الحضاريَّة كما اتفق عليها أغلب علماء الاجتماع تمرُّ بثلاثة أطوار؛ الميلاد والانتشار والانحسار.
الطور الأوَّل: الميلاد:
المرحلة الأولى: انعدام الفعالية (الإمكانيات الصفرية):
ويُمكننا أنْ نُطلق عليها مرحلة ما قبل ميلاد الفكرة الحضاريَّة التي تسير لاحقًا في التاريخ، وهي مرحلة تتّسم بصفريّة الإمكانات والصفريَّة هنا لا تعني انعدام وجود الممكنات، بل انعدام فعاليتها، لذا فالمعنى الأكثر دقة هو انعدام فعالية الممكنات المتاحة، سواء كانت معنوية أو مادية.. فدائمًا وأبدًا يكون هناك طاقة بشريَّة وتراب مكدَّسة يمكن استغلالها.. حتى في أسوء الظروف، وتتميَّز تلك المرحلة بكثرة التحديات وسيطرتها على مجريات الأمور كما تتّسم بوجود العديد من الأفكار الميتة والمميتة والقناعات الباطلة، كل تلك الأفكار تمثّل تحدّيًا للقيام والنهوض وتُمثّل عائقًا عن الدخول في دورة المنحنى الحضاري.
المرحلة الثانية: ميلاد الفكرة:
وهي قد تكون أهم لحظة في تاريخ الأمم، وقد تكون لحظة منسية، وهذا يتعلق بموضوع فلسفة الأفكار ونشأتها ودورة حياتها، ربما نتطرق له لاحقًا لكن ما يعنينا هنا هو نشوء الفكرة ووضعها في الفعل..
وأي فكرة لها لحظة ميلاد، تلك اللحظة عبر عنها ابن نبي أنَّها لحظة صرخة أرشميدس "وجدتها"، وهي تلك اللحظة التي تجلَّى فيها جبريل للنبي محمد عليه الصلاة والسلام قائلاً له: "اقرأ"، وهي لحظة ذهبيَّة لابد من إحسان استغلالها، وهي لا تأتي إلا لمن يستحقها طبقًا لقانون الاستحقاق، فالفرصة لا تأتي إلا لمن استعد لها وبكل شغف انتظرها، كذلك الفكرة لا تأتي إلا لمن داوم البحث عنها.
المرحلة الثالثة: تنمية الإيمان:
والتي يمكن تسميتها كذلك مرحلة الحشد النوعي.. وتتسم تلك المرحلة أنَّ العمل الأساسي بها، هو محاولة نشر الفكرة في النفوس وتنمية الإيمان بها، ويكون التركيز شديد على عالم الأفكار والمشاعر والتحفيز الروحي والمعنوي، وفي هذه المرحلة تجتمع نواة الفئة المبدعة أو النفر القدوة الذين يؤمنون شديد الإيمان بتلك الفكرة، ويضحون في سبيلها بالغالي والنفيس، وفي هذه المرحلة يكون الاهتمام بنوعيَّة الرّجال لا عددهم، هؤلاء الرجال هم النماذج الحيَّة لتلك الفكرة، وفي هذه المرحلة يزداد وقع التحديات، إذ تتحوَّل التحديات المجتمعيَّة إلى عوائق في وجه الفكرة الحضاريَّة، ومع زيادة وقع التحديات تبدأ عملية التوازن بين الرد العقل والشحذ الإيماني، فتزداد قيمة الدافعيَّة، وبالتالي تزداد قيمة الفعاليَّة الحضاريَّة الشخصيَّة، وبالتبعيَّة الفعاليَّة الجمعيَّة.
المرحلة الرابعة: النقطة الحرجة للانطلاق:
كلما زاد التحدي أمام الفكرة الإيمانيَّة وزاد التضييق والخناق عليها مع زيادة عدد الأشخاص المؤمنين بها تصل الفكرة إلى النقطة الحرجة للانطلاق، وتلك النقطة هي التي تكتمل عندها الكتلة النوعيَّة، أي الفئة المبدعة أو النفر القدوة، أو ينضم إليها أشخاص بفعاليَّة حضاريَّة شديدة الارتفاع تتسبب في نقلة نوعيَّة للفكرة من طورِ الاستضعاف إلى الانطلاق، وهذه النقطة شديدة الأهمية لأنَّ عندها يحدث تفاقم شديد للتحديات قد يؤدي إلى موت الفكرة وانحسارها إن لم تكن تملك رجالاً يقدموا استجابة خلَّاقة لهذه التحديات، فتنطلق الفكرة على أكتاف هؤلاء الرجال لتدخل الدورة الحضاريَّة الحقيقيَّة.
الطور الثاني: الانتشار:
المرحلة الأولى: المدنيَّة:
وفي تلك المرحلة يتوفر الحد الأدنى من الاستقرار، والذي يتيح الفرصة لزيادة إعمال العقل في كافة الأمور، وفي تلك المرحلة تتحوَّل عمليَّة التنميَة من التركيز على الإيمان إلى التنميَة بالإيمان، وهي عمليَّة تحويل الطاقات الإيمانيَّة الضَّخمة إلى أعمال صالحة، ومع زيادة تلك الأعمال يزداد اطّراد الفكرة وانتشارها وتمثلها في مجموعات كبيرة، وفيها أيضًا تبدأ بوادر النهضة والمدنيَّة في الظهور.
المرحلة الثانيَة: التجاوز نحو الحضارة:
ومع الصعود في الدورة الحضاريَّة تزداد الفعاليَّة لزيادة الإيمان والوسائل والرجال ويزداد الإيمان بشكلٍ مُطّرد وذلك لبداية تحقق الآمال والطموحات التي أرستها الفكرة عند انطلاقها، وهذه النقطة يشهدها الجيل الذي عاصر انطلاق الفكرة وكابد مشقات الدعوة إليها، وبالتالي حين يري بدايات تحقق البشارات يزداد إيمانًا، هذه الزيادة تعمل على موازنة زيادة الاستخدام العقلي الذي تفرضه التحديات الجديدة والمرحلة الجديدة.
المرحلة الثالثة: بناء الحضارة:
وهي تمتد من نقطة التجاوز وصولاً إلى أقصى توتّر لها في المنحنى، وهي تتّسم بعد ثبات الاطّراد أي أنَّ المُنحني يكون أكثر تعرّجًا، هبوطًا وارتفاعًا وإنْ كان في مسارٍ مُطّرد، وهذا التعرّج ينتج عن قلة التحديات الخارجيَّة، فيحدث هبوط في المنحنى يعوضه زيادة في الإيمان لتحقيق البشارات جميعها، فيحدث ارتفاع مرة وتستمر تلك المرحلة خلال الجيل الثاني والثالث وقد تصل إلى الرابع، وفي تلك الفترة مع قلة التحديات تبدأ المجموعة الحضاريَّة في وضع تحديات لنفسها حتى تستطيع تجاوزها، فتبدأ في ظهور الإبداعات الحضاريَّة المتميزة، وتتميز الحضارة بالسبق في عدة مجالات إلى أنْ تصل إلى قمة الفعاليَّة الحضاريَّة، وهي تحدث في الجيل الذي يرى تحقق كل البشارات التي نادت بها الفكرة في مهدها، وهذا الجيل هو قريب العهد بالجيل الذي أطلق تلك الفكرة وبالتالي يحقق توازنًا مثاليًّا بين العقل والروح.
الطور الثالث: الانحسار:
المرحلة الأولى: التراجع الحضاري:
وتحدث في حالة الأجيال التي وُلدت في قمة النضج الحضاري، فهي لم تعاصر مخاض الفكرة وآلام ولادتها ولم تعاصر التحديات وإنَّما خرجت لتجد تميّزًا وسبقًا على المستوى الروحي والعقلي، وبالتالي يكون الإيمان موروثًا وليس حقيقة في الصدور، وهنا تبدأ حالة التراجع الروحي والإنتاج العقلي كذلك لاختفاء التحديات وانقطاع الصلة بأصل الفكرة وأطوار نشأتها، وتبدأ الدورة الحضاريَّة في الانقلاب إلى الأسفل مرّة أخرى أيضًا بشكلٍ مُتعرّج يصحبه صيحات تنبيه من حينٍ لآخر، أحيانًا تأتي الصيحات بنتائج وانتصارات مؤقتة وأحيانًا تكون في الهواء إلى أنْ يزداد الانحدار بتراجع قيمتي العقل والروح، وبالتالي تقل الدافعيَّة ومعها الفعاليَّة ويزداد الانحدار يومًا بعد يوم.
المرحلة الثانية: الانحسار التام:
مع انخفاض قيمتي العقل والروح في المعادلة يتسارع الانحدار ويزداد الاهتمام بإشباع الغرائز نظرًا لحالة الترف المفرط التي يتوصل إليها المجتمع، وبالتالي تزداد حالة الاستهلاك للمنتجات الحضاريَّة والتكديس للطاقات وتعطيلها من جديد، أو استغلالها استغلال خاطئ، وتنتشر الأفكار الميّتة والمميتة وتكون الغلبة لانعدام الفعاليَّة مرة أخرى.
المصدر: يقظة فكر.