بين حضارتهم وحضارتنا
بين حضارتهم وحضارتنا
ولنعلم أن ما يقوم به الغرب الآن ضدنا بل ضد العالم كله من افتعال للإرهاب والفساد والصراعات, هو تخبط من يعاني من سكرات الموت, فنهاية الاستكبار الغربي وشيكة. أما ما يعانيه العالم الإسلامي من آلام وأوجاع فهي ألام وأوجاع مخاض ولادة جديدة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
إن التّحضر لا يعني فقط البدن الرّشيق والمظهر الأنيق, بل هو في حقيقته سلوك ايجابي وتصرف يليق.
فالمتحضر حقاّ هو الذي يتميّز بالمعاني الإنسانية والخلقية السامية, التي تجعله يتفاعل بايجابية مع محيطه بما فيه الأحياء والأشياء, فيكون متعاونا مع بني جنسه , وقّافا عند الحدود الخلقية الرّوحية والإنسانية , ولا يعتني بالظّاهر على حساب الباطن , بل يعتني بطهارة باطنه من أدران التّوحش الغريزي والأناني والعنصري, أكثر من عنايته بأناقة مظهره, لأن دمامة الباطن أقبح وأسوأ من دمامة الظّاهر.
فالأخلاق مظهر أساسي للتّحضر الإنساني , وبما أن الأخلاق منبعها العقيدة والدين, فلا يُتصور تحضّر بالمعنى الصّحيح من غير التّمسك بالقيم الرّوحية الإسلامية.
فهل يعتبر متحضِّرا من لا همَّ له إلا إرضاء غرائزه وأنانيته على حساب الإنسان والكون والقيم , ولو كان ذلك بوسائل متطوّرة ؟؟ كلا , إننا نقول عنه"أنه متطوّر" أو" متمدّن" ولا يصح أن نقول عنه "أنه متحضّر" كمن يستعمل الإعلام الآلي لبثّ الفاحشة والهوس الجنسي بالمواقع الإباحية,أو يستعمل تطوّر وسائل الاتّصال لتضليل الناّس وإشاعة الكذب والزّور, أو يستعمل التكنولوجيا الحديثة لصناعة السّلاح الفتاك وإبادة الأبرياء به ( كما فعلوا في زليتن ), وقس على ذلك...فالأمثلة كثيرة في التّحضر بمفهومه المادي الغربي.
أما التّحضر بالمفهوم الإسلامي فهو تطوّر مادي وسموٌّ روحي وخلقي
يهدف إلى خدمة الإنسان أيا كان, وتعمير الأرض في سلام وأمان, من غير عنصرية, ولا استعلاء, ولا فساد, ولا عدوان , شعاراته في قول الله عز وجل:
"وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنياََ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَساَدَ فِي الأرْضِ إنّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ"(القصص77)
فالآية تبين معالم الحضارة التي يدعو الإسلام المسلم إلى إقامتها على الأرض وهي:
1- ابتغاء وجه الله والدار الآخرة: أي أن يعمل على إرضاء الله عز وجل بها ليفوز بالجنة في الآخرة , لان هذه الحياة دار للامتحان والاختبار ودار الجزاء هي الآخرة ,
فهل يرضى الله بالظلم , أو الكبر العنصري , أو الفساد والرذيلة , أو الغش والنفاق والاحتيال , أو السّطو على ممتلكات الناس وأرواحهم وأعراضهم أو الجشع والأنانية والاستغلال ؟.....
لقد وضع القرآن للمسلم منهجا كاملا يبين له سبيل ارتضاءه والفوز في الآخرة ويتمثل باختصار في الإيمان الصّحيح, العمل الصّالح, والخلق الفاضل
قال تعالى في سورة العصر: (والعَصْرِ إنّ الإنسانَ لَفِي خُسْرِ إلاّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا باِلحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبر)
والمسلم موقن أن الله معه يراقبه ويسجّل أعماله كلها , فلا قدرة له على التهرب من تبعات أفعاله أمام الله ولا مفرّ له منه مهما كانت قوته أو سلطته أو غناه , فلا يفكر في التحايل أو التّمرد على أوامر ربّه فإذا زلّ واخطأ, وتلك طبيعة الإنسان , عاد وأصلح وتاب.
2- أن لا ينسى نصيبه من الدنيا: أي يقوم بتعميرها واستثمار خيراتها والاستفادة منها في حياته من غير جشع ولا أنانية ولا إفساد أو تبذير’ فالإسلام اعتبر الإنسان خليفة لله على الأرض , واعتبر العمل المفيد في تعمير الأرض عبادة يثاب عليها بل يستمر ثوابه بعد وفاته كمن بنى بناية أو أصلح طريقا أو غرس شجرا أو ألف كتبا أو اخترع آلة نافعة , وهو يرغب في الزواج والأكل من الطيبات والحفاظ على الصحة.... ويمنع الرّهبنة بكل أشكالها
والآيات والأحاديث التي تحث على تعمير الأرض كثيرة جدا.
3- الإحسان إلى المخلوقات الأخرى التي تعيش معه من إنسان وحيوان ونبات , والإحسان يعني أن يكون ايجابيا في تعامله مع تلك المخلوقات بالمساعدة والرعاية والاحترام والمسامحة إلى درجة مقابلة السيئة بالحسنة ومعاملة العدو معاملة الولي الحميم قال تعالى:( ادْفَعْ بِالتِي هِي أحْسَنْ فإذا الذِي بينكَ وَبينَهُ عَدَاوَةٌ كَأنّه وَلِيٌ حَمِيمْ )
4- عدم الإفساد في الأرض, والإفساد باختصار هو إلحاق مضرّة مقصودة بالنّفس أو الناس أو الحيوان أو النبات أو المحيط, فالحروب الظالمة فساد , واستغلال الناس ماديا ومعنويا فساد, والزنا والفواحش فساد , وتلويث البيئة فساد, والاستغلال الجشع للثروات فساد,.....
وقد فصل الإسلام تفصيلا في بيان ما يعد فسادا في الكتاب والسنة.
إن الحضارة التي لا تلتزم بهذه المقومات لا تعتبر حضارة إسلامية ولو كان أفرادها مسلمون , لذلك فالحضارة السائدة الآن هي الحضارة الغربية حتى في الدول الإسلامية , والمفاسد التي نراها في بلداننا تحسب على الحضارة الغربية ولا تحسب على الحضارة الإسلامية المغيبة عن الأرض. والتي لا نجاة للبشرية إلا بعودتها إلى الوجود , والتي يعمل الغرب والحركة الصهيونية على منع عودتها بكل الوسائل حتى العنيفة منها كما فعلوا في العراق وفي غزة ويفعلون في ليبيا الصامدة.
فحبذا لو يتعاون علماء المسلمين وكتابهم وشعراؤهم ومربوهم على إظهار الوجه الحقيقي لحضارتنا الإسلامية فيما يكتبون ويخطبون, ويزيحون القناع عن دسائس الغرب الذي يفعل كل ما في وسعه لتشويه هذه الحضارة , وبالتالي تشويه الدين الذي تستند إليه, حتى ينفر العالم منه بعد أن تأكد أن المستقبل له, وقد اهتدى إلى حيلة خبيثة بالغة في المكر لكنها مكشوفة لذوي الألباب والبصائر, وهي استعمال السائبين من أبناء المسلمين في التشويه وبث النفور, مستغلا الأزمة التي تمر بها الأمة , لكن هيهات..فقد يعرقل ذلك انبعاث الحضارة الإسلامية حينا ثم ما تلبث أن تنبعث حتما, لان الله وعد هذه الأمة( ووعده الحق) أنها تسود في الأرض, والعاقبة لها مهما كاد الكائدون وقال عز وجل: "وَعَدَ اللهُ الذينَ آمَنُوا منكمْ وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَماَ اسْتخلفَ الذينَ من قبلهمْ وَلَيُمَكِنَنّ لهمْ دينَهمْ الذي ارْتَضَى لهم ولَيُبَدّلَنّهم ْمن بعدِ خوفهمْ أمناً يعبدوننٍي لا يُشركونَ بي شَيئا"(النور55)
وقال" يُريدونَ ليُطفئُوا نورَ اللهِ بِأفواهِهمْ والله متمٌّ نورِهِ ولو كرِه الكَافرون َ"الصف8
وقال أيضا" إنّهمْ يَكيدونَ كيداً وأكيدُ كيداً فمهِل الكافرينَ أمْهلْهمْ رُويدا َ"(15-17الطارق
ولا يعني ذلك أن نتواكل ولا نعمل فالسعي واجب والحذر مطلوب.
فقد حذرنا القرآن الكريم من غلهم وسخائمهم في عدة آيات منها قوله تعالى: "إن يَثقَفوكُمْ يَكونُوا لكمْ أعداءً ويَبسُطوا إليكمْ أيدِيهُم وألسنتَهم بالسُّوءِ وَوَدُّوا لو تكفرُونَ "(الممتحنة2)
والاتحاد والتلاحم واجب وضرورة لكي لا يتسللوا من خلال انشقاقاتنا لضربنا ببعضنا كما يحدث في العراق وكما حدث في الجزائر من قبل. قال عز وجل: "وأطيعوُا اللهَ ورَسولَه ولا تنازَعُوا فَتفشَلوا وتذهبَ ريحُكم واصبِروا إنَّ اللهَ معَ الصَّابرينَ"(الانفال46)
وقال في وصف الرعيل الأول من المسلمين: "محمَّد ٌرسولُ اللهِ والذينَ معهُ أشدَّاء ُعلى الكُفَّار رُحَمَاءُ بينهمْ "(الفتح29)
ومن ذلك أن تحسن الأمة الإسلامية رعاية أبنائها وكفايتهم حتى لا يستغلهم الأعداء في تنفيذ مخططاتهم الشيطانية ضدنا , والمسؤولية تقع على الجميع؛ الحكومات والمجتمع خاصة أرباب الأموال فيه.
ألا فلنرجع إلى التكافل والتعاون والقناعة والتسامح والصبر وغير ذلك من القيم التي يدعوا إليها ديننا وتمتاز بها حضارتنا, حضارة الروح والمادة معالا المادة فقط.
ولنعلم أن ما يقوم به الغرب الآن ضدنا بل ضد العالم كله من افتعال للإرهاب والفساد والصراعات, هو تخبط من يعاني من سكرات الموت, فنهاية الاستكبار الغربي وشيكة. أما ما يعانيه العالم الإسلامي من آلام وأوجاع فهي ألام وأوجاع مخاض ولادة جديدة.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر:رابطة أدباء الشام.