نحو نهضة إسلامية حضارية شاملة
نحو نهضة إسلامية حضارية شاملة
يشغلني كثيرا سؤال النهضة وأفكارها لأن الواقع يلح في طلبها والعقل يئن بحثا عنها سيما وقد ولدنا جميعا شاعرين بالأزمة ألما من حال كل ما ننتمي إليه. فأمتنا العظيمة التي قادت فتوحات علمية وعسكرية وإنسانية هائلة صارت في الحضيض بلا سيف أو قلم اللهم إلا محاولات فردية فيما الآخر يملك من أسباب القدرة والمنعة ما يجعل كثيرين منا يشعرون باستلاب روحي هو أخطر ما يكون أثرا على نفس المسلم.
· صناعة الإنسان أولا :
في الصفحة الأول لمقدمة الدكتور عبد الكريم بكار في سلسلته الرائعة "المسلمون بين التحدي والمواجهة" وفي الجزء الثاني منها تحديدا وكان بعنوان "من أجل انطلاق حضارية شاملة – أسس وأفكار في التراث والفكر والثقافة والاجتماع" جاء كتابه الماتع وصفة دوائية لكثير من الأدواء واستشرافا لحلول أكثر لواقعنا المعقد. لكني أعود فأقول إن الأمر قدر ما يظهر معقدا قدر ما يظهر بسيطا إذ يقول في أول صفحة من مقدمته "إننا نعتقد أن تحضير الإنسان شرط أساسي وسابق على إشادة العمران. وما لم ننجح في ذلك، فإن جهودنا في إعمار الأرض ستكون ضعيفة الثمار، محدودة النجاح. بل إن كل إنجازات الإنسان على الصعد المادية والعمرانية على مدار التاريخ كان يتم تدميرها بسبب حماقات الإنسان ورعونته وانحرافه عن الصراط المستقيم!"
وحتى أستخلص من كلام الدكتور بكار ما يحدث في النفس أثرا من الواقع المعاش خاصة وأنه أعقب المقدمة بحديث جد مهم عن كبرياء المسلم الجريحة عند مقارنته بين ماضيه العظيم وحاضره البائس ثم تحدث على نحو آسر عن مثاقفة التساؤل وكيف أن من سيئات بعض الأساتذة والمؤسسات العلمية كبت التساؤل عند الشباب وإضعاف ملكة الاستفهام لديهم إذا ضاق بعض الأساتذة ذرعا بأسئلة طلاب العلم شكا منهم في كون الطالب يسعى إلى إثارة فتنة أو تعجيز العالم أو بعث الشكوك...أقول إني ووجهت في جامعتي بامتعاض شديد في غير ذات مرة بقول الأستاذ لي: أتناقشني؟! وهو يقولها بغضب وتأفف!
إذا كانت المناقشة في حد ذاتها أمرا مستهجنا إلى هذه الدرجة وخطأ يستوجب التقريع والتوبيخ فكيف عسى نحقق أي فتح علمي أو إنجاز معرفي هو الأسبق في التحقق من أي عمران أو تقدم مادي تقني؟!
ثم عند حديث الدكتور بكار الماتع عن صناعة الإنسان وهي أثقل الصناعات كيف عسى تبني شابا مسلما فتيا عظيم النفع لبلده وأهله وقد كنت أرى بنفسي رفيقي في الفصل في الابتدائية يبول على نفسه رعبا من قسوة بعض المعلمين ووحشيتهم حتى إني أراه الآن مهشما مكسورا!!
· ثم إدراك الواقع :
أما إدراك الواقع فباب عظيم لا يسعنا أن نكتفي فيه بالعموميات لأن لكل قطر من بلاد الإسلام خصوصيات المكان والإمكانات والمشكلات والطموحات. وفي هذا يتحفنا الدكتور بكار بكتاب الكواكبي "أم القرى" عن مؤتمر متخيل جمع فيه المؤلف مندوبين من أقطار العالم الإسلامي والأقليات الإسلامية حيث ذهب كل واحد إلى تحديد السبب الأعظم في ركود الأمة وانحطاطها على نحو يخالف ما ذهب إليه الآخرون.
ولا ريب أن إثارة الدكتور بكار هنا لما يسميه إشكالية فهم الواقع الناتجة عن عدم اكتراثنا بلغة الأرقام وتوثيق المعلومات فضلا عن شحها ابتداء إنما ترتكز على تميز الإسلام بتقديمه تصورا شاملا مترابطا للكون والحياة والإنسان. فقد رعى الإسلام الجسد مثلما رعى الروح ووضع تفاصيل تقسيم الميراث مثلما فصل الحديث عن الدار الآخرة.
· ثم التخطيط الحضاري :
أما عن التخطيط الحضاري اللازم للنهضة فيعرفه الدكتور بكار بقوله "التصور المنتظم لمجموعة العمليات المتناسقة، والهادفة إلى تحقيق إنسانية الإنسان وسعادته، وفق الإمكانات والموارد المتاحة."
لكن التخطيط الحضاري يلزمه "ما قبل". أي الموازنة بين استقدام أفضل الخبرات والطرق التعليمية ونوع التعليم الذي تحتاج إليه الدولة في أرض الواقع. لكن المشكلة الكبيرة هي كما يكرر الدكتور بكار عدم اكتراث القائمين على الأمر لدينا بالشفافية وتوضيح الأرقام والحقائق عكس الحال في بعض الدول الآسيوية الناهضة مثل سنغافورة وماليزيا.
· كيف نتعامل مع التراث :
أما التراث فيعرفه الدكتور بكار بقوله "مجموعة عطاءات الآباء والأجداد على المستوى الروحي والمادي عبر تفاعلهم مع الدين، وضمن خضوعهم لقيود الزمان والمكان اللذين تم الإنجاز فيهما."
أما التراث الذي لا يدخل في تعريفه الكتاب أو السنة فإن لدينا سلطة تقويمه بما تراكم لدينا من خبرات حضارية متنوعة ووفق المنهج الرباني المحفوظ بحفظ الله. لكن الجميل الذي وجدت الدكتور بكار منتبها له هو أن هذه الحركة التي أنعشت إعادة نشر التراث وترويجه قد شابها بعض الارتزاق سيما وهناك كتب كثيرة جدا لم يكن لها يوم أن ألفت أية قيمة علمية، ولم تحدث في زمانها أية أصداء ثقافية، وربما لم تقرأ حينها، كما أنها لا تمثل اليوم أية إضافة فكرية أو معرفية لما هو مطبوع ومنشور في علومها وفنونها. وهناك كتب تحيي معارك عقدية وفقهية وتاريخية بين فرق ومذاهب ليس لها وجود الآن، وكتب مشتملة على أحاديث ضعيفة وموضوعة كثيرة تنشر دونما تحقيق بل حيث تستند إلى باب واسع من الخرافات والأساطير عن الجن وتفسير الأحلام من دون تأصيل علمي.
· خبرة حياتية :
أذكر بهذه المناسبة أني كثيرا أقرأ إعلانات عن الحاجة إلى باحثين شرعيين فأفرح بشدة أن في زماننا هذا مع التطلعات المادية وتعقيد الحياة وكثرة الالتزامات التي تشغل الوقت من يتفرغ لنشر وتحقيق التراث والبحث عن باحثين شرعيين يعينونه على ذلك.
وفي إحدى المرات ذهبت في منطقة العباسية إلى أحدهم وهو مشهور جدا هو وصديق له ولديهما مكتبة ضخمة من كتب التراث غثها وسمينها على حد سواء، ويبدو العمل هناك كما لو كان طاحونة نشر. فقط يكتفي هذا الشخص الأزهري بإعادة كتابة كتاب من كتب التراث غير المعروفة على جهاز الكمبيوتر ويتفق مع دار نشر مغمورة على نشره وانتهاز فرصة معرض الكتاب لتسويقه هناك لأكبر عدد ممكن من المشترين مكتفيا بوضع بعض الحواشي التي لا تسمن ولا تغني من جوع أيا كان نوع الكتاب المنشور الذي يدر عليه دخلا كبيرا لسبب بسيط أو أنه لا توجد حقوق نشر هنا فليس للكتاب صاحب ولا ورثة يطالبون بحقهم في إعادة نشر الكتاب.
· نقدي للمؤلف :
ومما آخذه على الكتاب هو عادتنا عموما في التوسع في إيراد قول المخالف والانشغال بالرد عليه عن الهدف الرئيس من الكتاب. فقد تعود الدكتور بكار إيراد أقوال المخالفين مثل زكي نجيب محمود وأدونيس وحسن صعب وغيرهم والانشغال بالرد عليهم والإيغال في الرد إلى درجة السخرية والتحقير، وهذه آفة كبيرة متفشية في كثير من الكتابات. المشكلة في هذه الآفة ليس في الرد نفسه وإلا فإن دحض الشبهات عمل جليل لكن العيب هو أن الرد أحيانا يخرج عن الغرض الأول للبحث والكتابة ويدخل بنا في استطراد وترسل لا لزوم لهما.
· مثال من مصر:
على سبيل المثال لم يكن النائب في مجلس الشعب عن الإخوان المسلمين في مصر في حاجة ملحة وسط المشكلات الاقتصادية الكارثية والأزمات الاجتماعية الحادة وانهيار منظومة الأخلاق في الشارع والمصنع والجامعة في بلادنا أن يشغل نفسه بكاتب أو كاتبة نكرة ويظل يفحص في الكتاب حتى يخرج ببيت شعر ماجن أو جملة خارجة عن المألوف والأخلاق لأنه بهذا قد منح الكاتب أو الكاتبة المغمورة شهرة وأثار حوله جدلا يتمناه أو يتمناها، ثم إنه انشغل عما هو أهم فكان الحزب الوطني المنحل يمرر قانون الطوارئ والاحتكار رغم وجود كتلة إخوانية من ثمانية وثمانين عضوا!!
وهكذا فحتى عندما يرفع الإخوان المسلمون شعار "الإسلام هو الحل" أجد مع إخلاصهم أن الجملة ناقضة. فهي مبتدأ لخبر محذوف، والتقدير هو "الحل الإسلامي هو كذا وكذا". ولذا فالتعويل على البرنامج التفصيلي الذي يعالج الواقع معالجة دقيقة أهم بكثير من الدخول في جدليات ونقاشات وردود لا طائل من ورائها.
ثم إننا لو سألنا رجلا أميا لم يقرأ في القضايا الكبرى عن كيفية التعامل مع التراث لقال بالضبط: استلهام ما فيه من خير وتجاوز ما فيه مما ليست له فائدة في الواقع لأن التراث عمل بشري منه الأدب والتفسير والتاريخ مع ما دخل فيهم من روايات منحولة وأحاديث ضعيفة وكتابات تم توجيهها وجهة سياسية محضة أو هي محكومة بظرفها التاريخي.
بل إن الدكتور بكار نفسه يتعجب من انشغال كثير من علمائنا سابقا بالشرح وشرح الشرح وذكر أمثلة على ذلك أن ألفية ابن مالك ظهر لها ما يزيد عن 120 شرحا، وأفرد الترمذي (ت 279 هـ) شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم في كتاب، فجاء بعده أكثر من 13 مؤلفا اشتغلوا بشرحه، وكتب القاضي عياض كتاب (الشفاء)، فإذا أكثر من 20 مؤلفا يشرحونه ويختصرونه.
ومنذ القرن السابع الهجري حتى القرن الرابع عشر ألف بعض العلماء نحوا من 29 كتابا فقط في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. ورغم أن هذا لا شيء فيه إلا أن هناك جوانب أكثر أهمية في حياة رسول الله صلى الله عليهم وسلم كانت بحاجة إلى تركيز أكبر سيما والأمة تعاني مشكلات جمة والطاقات محدودة والوقت لا ينتظرنا، كما أن أوقات القراء وأموالهم محدودة.
· الاستطراد والترسل بعيدا عن جوهر الموضوع :
بعد ذلك تحدث المؤلف عن الحضارة الغربية وساق كل شاردة وواردة لأجل أن يثبت انهيار الحضارة الغربية وكونها أبعد ما تكون عن النموذج الحقيقي للتقدم واعتمد في هذا على مقتطفات من مقالات الدكتور المسيري رحمه الله ومقولات لقادة الاتحاد السوفيتي ومسؤولين أمريكيين. الحقيقة أن نفس المشكلة تتكرر هنا لأن الاجتزاء مشكلة ولا يمكن بحال أن ننكر أن لدى الغرب قدرا كبيرا من القيم لا التكنولوجيا فقط. فهناك عدل ورخاء وحرية وكرامة يشهد بها المغترب المسلم بل وكنت أتصور أن يتعاظم دور المسلمين هناك بفعل هذه القيم المتاحة ليكونوا أداة ضغط (لوبي إسلامي) يدافعون به عن فلسطين وكل المكلومين في ديارنا لكن هذا يثبت لنا أن المسلمين في الغرب قد قصروا كثيرا في حق أنفسهم لما ذابوا هناك وانشغلوا بلقمة العيش.
النقطة الأهم أنه مع التسليم بكون هذه القيم الغربية قد شابها الشطط وأن بهذه المجتمعات آفات خطيرة إلا أن الأولى كما قلت أن ندخل في صلب الموضوع بحيث لا يشغلنا شاغل عن البحث عن حل لواقعنا نحن ومشكلاتنا نحن لا هم. وعليه نقفز على كل هذه الفقرات لنصل إلى الفقرة التي بعنوان "نحو نموذج إسلامي للتحضر" نعم هكذا يكون الكلام لا أن ننشغل بنتف ومقتطفات من هنا وهناك فقط لنثبت أن الغرب به كل الآفات!
واختصار فإن الجانب الأخلاقي في الإسلام هو توأم الجانب المادي وهنا الفكرة أنك إن أردت نهضة وحضارة فاغرس هذه المنظومة الإسلامية الأخلاقية في نفس الطفل المسلم أولا وعلمه ما يقويه من العلم الشرعي وساعده في الأخذ بأسباب التقدم بعد أن تكون قد تخلصت من أسوأ ما يمكن أن يبتلي الله به أمة المسلمين: الاستبداد السياسي.
وأما العزيمة فأمر لا يستهان به وإلا فما هي التكلفة التي يمكن أن تتحملها الدولة لمحو الأمية؟ صفر. بمعنى أن الجيش يستطيع أن يفرض على المتعلمين فيه أن شرط أداء الخدمة العسكرية الإجبارية هو أن يقوم المتعلم بمحو أمية عشرة من الأميين وهنا سيجتهد المجند في ذلك حتى يتم مدة خدمته بدون أن تتكلف الدولة مليما واحدا. إنها الإرادة لا أكثر والقرار السياسي فقط وليس الموارد والإمكانات والطاقات.
نفس الشيء يمكن قوله عن إنشاء بيوت خبرة (مراكز بحثية) يجتمع فيها الموهوبون مع أساتذة خبراء يدربونهم لإيجاد سوق أفكار تخدم الأمة ووضع تصور لمشروع كبير يكون من بين عناصره ترجمة أفضل ما لدى الغرب من طروحات ورؤى.
ومع كثرة حديث المؤلف عن الأفكار وضرورتها للنهوض إلا أنه انشغل بتوصيف المشكلات ولم ينشغل بتخليق الأفكار ووضع الرؤى المستقبلية وتلك آفتنا على أية حال. بل لم يعط أمثلة واكتفى في الخاتمة أن يقول إن الأفكار التي سطرها ليست مشروعا حضاريا، ولا هي مقدمات له، وإنما هي جملة من المفاهيم والملاحظات والتأملات التي يرى أن بإمكانها فتح بعض الآفاق على طريق تحسين واقع الأمة والنهوض به.
والملاحظ على كتابنا هذا (الكلام ما يزال للمؤلف) قلة الأمثلة في مواضع كثيرة منه. وهذا أمر أملته طبيعة الموضوع. انتهى كلامه لكني غير مقتنع بهذا التبرير لأن الكتاب تنيف صفحاته على المائتين ولم أستفد شيئا سوى أنه يحوم حول الفكرة ولا يعطي مثالا لها ولا يضع برنامجا تفصيليا رغم أنه يشكو في بداية الكتابة من التعميمات في الأفكار والاستلاب الروحي للغرب رغم أن في حواشي الكتاب أشياء كثيرة (منها مقتطفات حشرت قسرا في الكتاب بلا طائل) منقولة عن مفكرين غربيين لا تقدم ولا تؤخر سوى أن قائلها خواجة!!!
لكني أقدر كثيرا للمؤلف اهتمامه بالطرح نفسه ومحاولته حتى وإن لم تكن على الوجه الأكمل وحتى وإن بدا كثيرا أنه ناقل ومكرر لمقتطفات لا أكثر. محاولته مهمة وطيبة ولها كل التقدير ويبقى أن تتحول إلى أفكار ملموسة تحقق أعظم الإنجازات بأقل الإمكانات.
المصدر: http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=1728