خصائص التغيير الثقافي الحضاري

خصائص التغيير الثقافي الحضاري

  • محمد ياسين العشاب
  • طنجة/المغرب
  • "لا سبيل إلى الاندماج في الحضارة الحديثة بغير التنازل عن مقومات الثقافة" مقولةٌ يُسَلِّمُ بها دُعَاةُ ورُعَاةُ الحداثةِ ومن يَسْتَشْرِفُونَ عهدَ ما بعد الحداثة، فلا مَفَرَّ من التراجع بشكل أو بآخرَ عن موروثٍ حضاريٍّ لم يَعُدْ لـه مكان تحت شمسِ المدنية الحديثة، حيث الثقافةُ والحضارةَُ تلتقيان فلا تفترقان في المفهوم، لأنك ـ من هذا المنظورـ إنِ انْدَمَجْتَ في العالم الحداثي ضِعْتَ من أصولكَ وتِهْتَ عن المعاني التي نَشَأْتَ عليها بغير شعور منك، لأن اندماجك في الحضارة الحداثية يعني بكل بساطة اِندماجكَ في الثقافة الحداثية، فنجد مثلا الفرنسي" فرنان بروديل " يعرف الحضارة في كتابه " هوية فرنسا " بأنها:" الطريقة التي نولد بها ونحيا ونحب ونتزوج ونفكر ونؤمن ونضحك ونتغذى ونلبس ونبني منازلنا وننظم حقولنا ويتصرف بعضنا إزاء بعضنا الآخر " .
    فما الذي عساه يتبقى إذن؟ سؤال يُطرَحُ للنقاش على من ينادون بضرورة الاندماج الكامل في الحضارة الحديثة مع عدم التفريط في مقومات حضارتنا المجيدة!
    وسؤال آخرُ نعود به إلى نقطة البداية: ما الذي يجعل التنازل عن مقومات الثقافة شرطا لازما لدخول باب الحضارة الحديثة؟
    إن البوادي والحواضر تقفان على طَرَفَيْ نقيض، فالهُوَّةُ بالغةٌ في نمط الحياة والسلوكيات المعتادة وفي الأفكار المعتقَدَة، والأرياف تعيش حياةً هي أكثر أصالةً واستمساكًا بالجذور الثقافية، يساهم في ذلك ابتعادها عن الاتصال بالمجتمعات الحضارية بما تحمل من عادات وتبعث من أفكار غريبة عن النواة الأصل، ومجتمعاتُ الحضارة في الدول الأقل تقدما أكثر استمساكا بأصولها الثقافية، هذه ظاهرة واقعية ملاحَظة، كأنما رواسب الأفكار والعادات والمعتقدات الموروثة قبل حصول (البعث الحضاري) الناتج عن التفتح على الأجانب تعد عاملَ هدمٍ وحائلاً دون الاتصال الحضاري الكامل، فكلما ازداد الاقتراب من الثقافة الشخصية الموروثة زادت مساحة التباعد عن المعنى الحضاري الحديث، وازدادت النفوس نُفُورًا من أيِّ مُسْتَحْدَثٍ وتَعَلُّقًا بما عَهِدَتْ عليه نفسَها، وهذا يعني بلا ريب صعوبة إمكانية تنازل الأمم والشعوب عن أفكارها ومعتقداتها لعملاق حضاري يفرض نموذجا حضاريا/ ثقافيا موحدا، على هذا الصعيد يتبلور التقـــارب بل التطابــق بين معـنى الحضارة ومعنى الثقافة، فهما شيء واحد ووجهان لعملة واحدة.
    لكن على المستوى الداخلي لمجتمعاتنا التي صُنِّفَتْ ضمن العالم الثالث يتباعد المعنيان بل ويتناقض كُنْهُ المفهومين، لأن الثقافة كما هي على الصعيد المحلي والهُوَيةَ الشخصيةَ شيءٌ والحضارةَ بمفهومها الحداثيِّ العصريِّ شيءٌ آخر، وبتناقض المعاني وتعدد المفاهيم المتباينة تبذر بذور التشتت والفرقة، عكس وضوح الأفكار الذي يعد من عوامل الوحدة، والذي يهمنا التوصل إليه هو وجودُ حقيقة تعدد الثقافات، وإن تبايَنَ مدى اقترابها أو ابتعادها من " مُسَلَّمَةِ الحضارةِ الأُحادية العولمية "، أو الثقافة الغربية المُغَرِّبَةِ للعالَمِ غير الغربي.
    من الواضح الآن أنه يمكن الحديث عن ثقافاتٍ لكلٍّ منها حضارة، وحَضَارَاتٍ لكلٍّ منها ثقافة، وتتفاوتُ هذه الحضاراتُ في الصعود والنزول بحسب العوامل المعنوية والمادية، وإن الشعوبَ ذات المكونات الحضارية الخاصة تستطيع أن تنهض بنفسها ومن منطلق ثقافتها لتصنع أو تُحْيِيَ حضارتَها التي يمكن أن تشكل في يوم من الأيام محورَ التدافع بينها وبين الحضارة العملاقة المهيمِنة.
    نستعمل مصطلح " التدافع " بدل الصدام أو الصراع وما إليه، فهي مصطلحات تفيد معانيَ فيها من العنفِ والتنافس والتكالب على الدنيا الكثير، أما " التدافع " فسنةٌ إلهية قديمةٌ ومصطلَحٌ قرآني، مصدره الآية 251 من سورة البقرة: " وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الاَرْض. وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين "، والآية 40 من سورة الحج: " وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُه.ُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "، هكذا في قراءتي ورشٍ وقالون، وفي القراءات الأخرى" دَفْعُ اللهِ الناسَ " بدل دِفَاعِ، ولا فَرْقَ في المعنى، فلولا دَفْعُ/ دِفَاعُ اللهِ الفاجر َبالبَرِّ والطالحَ بالصالح لَفَسَدَتِ الأرض، وتَدَافُعُ الشيءِ أن يدفعَهُ كل واحد عن الآخر حسب لسان العرب، أو هو التَّدَارُؤُ عندما يَدْرَأُ كُلٌّ الشرَّ عن أخيه حسب صاحب كتاب العين، وهو المراد، فالتدافعُ غَلَبَةُ حقٍّ على باطلٍ وظهورُ نورٍ على ظلام وهدايةٍ على ضلالة، وليس صِدَامًا أو صِرَاعًا عَصَبِيًّا لصالح حضارةٍ موروثةٍ في ظلِّها خَسَارَةُ الدينِ والأخلاق.
    بسرعةٍ ننعطف إلى تدافُعٍ ثقافي/حضاري من نوع آخَر، تدافعٍ حاصل على مستوى جبهة داخلية مجتمعية، بين الآباء الملتزمينَ والأبناء (المتحررين)، بين المحافظين على تقاليدهم في العادات والحفلات والأعراس والمرتبطينَ بأشكال الحفلات والعادات الأجنبية التي تُعَدُّ كذلك حضارية بالمعنى الأحادي التغريبي، وأخيرا بين جيلٍ أَخَذَ حظه من التغريب الاستعماري وجيلٍ يتطلَّعُ إلى فجر الإيمان، لا يصرفُه عن ذلك شيءٌ أو تَحُولُ بينه وبين مقصده عَقَبَات.
    ذلك أن المستوى الأخلاقيَّ تهددهُ القيم الجديدةُ الغريبةُ عنه، وأن اعتناقَ تلك القيم يُجَرِّدُ من المعالم الأخلاقيةِ بالتدريج، فهو يقتضي في بعض الأحيان التنازل عن المرجعية الأخلاقية الفطرية والاستسلامَ لمظاهر حياتية جديدة، ليس فيها من الخلق الفاضل شيء، إلا معالمُ ورِمَمٌ وأخلاقياتٌ سيئة أُحِيطَتْ بسياجٍ من الشرعية الحضارية.
    حقا هناك صيحات تنبعث من هنا وهناك داعيةً إلى الاستمساك بالأصول الثقافية والمرجعية الأخلاقية، ونداءات لها اليقين في جدوى إعادة البناء من منطلق أخلاقيٍّ وجدانيٍّ بعيدا عن آفة التغرب، لكن التساؤل المطروح الآن: ما الذي جَعَلَ أخلاقَنا وأفكارَنا وثقافتنا الخاصة تتراجع أمام طغيان المارد الحضاري الغربي؟ ألا يَدُلُّ ذلك على هشاشة تلك الثقافة كمشروع حضاري قادر على الاستغناء بنفسه؟ إنه لمن العبث حقا أن نناديَ بتشييد بناءٍ حضاريٍّ جديدٍ أساسُهُ موروثٌ ليست له أدنى قدرة على مواجهة قوة الحداثة، أو الدعوة إلى التغرُّبِ واستلاب مقوِّماتِ حداثةٍ لا صلةَ لها أساسا بجوهر تفكيرنا الحضاري، وهل الطريقة التي نحياها والعاداتُ التي تَرَبَّيْنَا عليها والأخلاقَ التي عَهِدْنا بيننا قادرةٌ على بَعْثٍ صحيح؟
    إن الهاجس الإصلاحي الأساسي في الدعوة الإسلامية يكمن في بَعْثِ مكارم الأخلاق، ومنذ كان الرسل والأنبياء كانوا متميزينَ بصفات خُلُقية خَصَّهُمُ الله سبحانه وتعالى بها، حتى قبل اصطفائهم للرسالة، فقال سبحانه عن إبراهيم:" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم " ، وعن يحيى:" وكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ ولَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيَّا" ، وعن موسى:" واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَّ كَانَ رَسُولاً نَّبِيئَا " ، وعن إسماعيل:" إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْد " ، صلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله جميعا.
    لكن عندما أراد الله سبحانه وَصْفَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وَصَفَهُ بما يُزَكِّي عمومية رسالته الأخلاقية، فقال عز وجل: " قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعَا " ، " ومَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين " ، " وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَّنَذِيرَا " ، كما وَصَفَه سبحانهُ وتعالى بما يَشْمَلُ أخلاقَ الأنبياء جميعا ويزيده عليهم فضلا ورفعة، فقال عز وجل :" وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم " ، ويزداد الأمر وضوحا بقول النبي الخاتِم صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "، وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله بلفظ " صالح الأخلاق "، والإمام مالك رحمه الله بلفظ " حُسْنِ الأخلاق "، وهي عبارة تلخص مجملَ دعوة الإسلام.
    ودعوةُ الإسلام هدايةٌ للناس ورسالةٌ ربانيةُ مُنْطََلَقُها الوحي، فهو الأمانةُ التي يحرصُ على تبليغِها الدعاة، وهو أساس المشروع الأخلاقي الإصلاحي وركنُه ، ذلك المشروع الذي يحمل على عاتقه مسؤولية إعادة بناء كيان الأمة وهُمُومَ إحياء ذاتيتها وبَعْثِ روحها من جديد، وذلك ببَعْثِ أخلاقها وتنبيهها إلى حقيقةِ علاقتها بخالِقها ومصيرها الأخروي من المنبَعِ الرباني ومرجعية الوحي، فلا مناصَ من عودةٍ إلى الله منطلقُها الأساسي هو التزكية، تزكية النفس وتطهير الجوارح بالتَّخَلِّي عن سَيِّءِ العاداتِ والأخلاقِ والتَّحَلِّي بأرفعِها وأسماها، فكل فردٍ يدين بدين الإسلام مسؤول أمام خالقه عن تصرفاته وسلوكياته الظاهرة والباطنة، " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاَ " .
    وعندما يَصْحُو ضمير الإنسان المؤمن وتستيقظُ حَوَاسُّه، تبدأُ أول الطريق لمحاربة الفساد، والتزكيةُ لا تقتصر على الفرد مع نفسه، فلا جدوى تُرجَى من ورائها إن لم تَقْتَرِنْ بدعوة وسائلها ثلاث: دعوة باليد أو باللسان أو بالقلب، والحديث النبوي بهذا الصدد معروف ، كما أن التزكية تظل ناقصة إن لم تقترن بركنٍ ثانٍ هو التفكر، ويشمل التأملَ في حال الخَلْقِ وقدرةِ الخالقِ والاعتبارَ من أحوال الخليقة، كما يشمل العلم والتعلُّمَ وتوسيعَ المعارف والمدارك، وإخضاعَ التعليم جملةً للمعاني التربوية الإيمانية الخاصة بعيدا عن آفة الاستلاب الحضاري.
    يقول الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ: " قُلِ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ. أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا " .
    فحقيقة الدعوة الإسلامية إذن أنها دعوةُ تجديدٍ وتغيير وإحياء، غايَتُها تربية النفوس وتطهيرُها ثم تأهيلُها لترجمة السلوك الإيماني على الواقع، كما كان شأن الجماعة الأرقمية المباركة التي رَبَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحيى بها الأمة جميعًا، وإلا فإن التمسكَ بالمعاني الحضارية والثقافية جِدَارٌ قد يَحُولُ دون التَّحَوُّلِ إلى المعاني النورانية النبوية، خالصةً من دون المعاني الأخرى إن يَسَّرَ اللهُ أسبابَ معرفتها، فلا يُبْعِدُ عنها إن وَضَحَتْ واتَّضَحَتْ إلا مصالِحُ وغاياتٌ أورَثَتْهَا الناسَ الثقافةُ وجَذَّرَتْهَا فيهمُ الحَضَارة، ليُؤَسِّسَ الباطلُ بينهمْ شرعيَّتَهُ من مُنطَلَقِ فَهْمِ آلياتِ الصراع الاجتماعي فَهْمًا خاصًّا وتغليفِ الحقائق، فلا يَظَلُّ على الحقِّ إلا قليلٌ ينفرُ منهم المجتمعُ أو يَصِمُهُمْ بما يُزْرِي بهم داخلَه، ويَجِدُ الناسُ فيما هم عليه خطرًا قد يهدد معالم حياتهم، فإن دُعُوا إلى صَلاَحٍ أجابوا بما أجاب به سَلَفُهُم في كل مرة:
    " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءنَا. أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ " .
    " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوِا اِلَى مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءنَا. أَوَلَوْ كَانَ آبَآؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ " .
    " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءنَا. أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمُ إِلَى عَذَابِ السَّعِير " .
    إن المشروع الحضاري الغربي كان لازما عليه أن يحارب ثقافة الأرياف ليفرض نفسه، ومشروع العولمة الغربية يقتضي محو غيره من الثقافات العالمية المختلفة، بالرغم من أنه يدعي غير ذلك، فهو بالتالي نموذج حضاري منفرد بثقافته ومرجعيته التاريخية والنفسية والجغرافية الغربية الخاصة، وليس كما يُقَالُ مبدأً طبيعيا أو إنسانيا عاما وخالدا، وهو ما يفرض بالضرورة صراعا بين قيمة وقيمة، بين ماض وحاضر ومستقبل، وخلافا حادا بين فكر وفكر ورؤية ورؤية، ذلك أمرٌ لا ريبَ فيه وإن رُفِعَتْ شعاراتُ الحرية المُدَبَّجَةُ بجمالية الثقافة العالمية الإنسانية الطبيعية الواحدة !
    نتساءل بعد ذلك: كيف سيكون واقع عودة الإسلام النبوي الصحيح بمبادئه؟ وهل يمكن أن يكون هناك تدافعٌ بينه وبين الحضارات العالمية من جهة والثقافة المحلية الموروثة من جهة أخرى؟
    يُحَلِّلُ بعض المثقفينَ اللاَّهِِجِينَ بُكْرَةً وعَشِيًّا بأمجاد حضارتهم واقعَ المفاسدِ المُحيطةِ بالمجتمع وما يَتَهَدَّدُ حياته السلوكيةَ من أخطار، ويبحثون أسبابَ ما يُهَدِّدُ استقرارَ المجتمع الأخلاقي، فيَعْزُونَ ذلك إلى انحراف الأفراد عن أصيل العاداتِ وعريقِ الأعراف، أو زَيْغِهِمْ عن التقاليد أو بعبارة أفضل عن مكونات ثقافتهم التي نَشَأَ عليها مجتمعهم منذ البداية، رغم أن المبالغة في الاستمساكِ بتلك المكونات الثقافية قد تشكل في حد ذاتها مُهَدِّدًا خطيرا، على حد قول القائل: " الخطر لا يكمُنُ في التجديد والإيمانِ بالتغيير أكثر من التمسك بتقاليد وأنماط حياة الأموات ".
    فلا بد أن نؤكد إذن أن مفهوم ما يسمى بالثقافة قد لا يتوافق مع مبادئ الإسلام وغاياته، إذا كان المفهوم الثقافي يقتضي بالضرورة الحفاظَ على الموروث الفكري كيفما كان، والتعصُّبَ للمَذْهَبِ المحلي وعادات الآباءِ والأعراف والتقاليد، ومنطلَقُنا الذي نعتمد منه مصطلحَ التغيير مضمونُ الآيةِ الكريمة: " ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً اَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " . " إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " .
    وذلك أن حلولَ معجزة الإسلامِ برسالته العالمية إنما كان لبناء حياة جديدة ومجتمع جديد، لاقتلاع جذور حياة أسماها جاهليةً لما ساد فيها من جهلٍ وجَوْرٍ وضَيَاع، فوَجَدَ في جزيرة العرب ثقافة مُتَجَذِّرَةً قوامها الأصنامُ وعبادة الجهل والفسادُ الاجتماعي، وعادات وأفكار موروثة طَبَعَهَا طابعُ التقديس، ولا ريب أن هذه الثقافة كان لها كَيان أخلاقي، نلمس آثاره في الجود والكرم والحلم والنجدة والشجاعة والإباء... غير أن التركيب الأخلاقي عشوائي إلى أبعد حد، فتشعل النجدة نيرانَ الحروب بين القبائل ويُتْلِفُ الجودُ الأموال ويقتل الشرف الأولاد... وهكذا، فلم تكن هناك ضوابط ومبادئ حقيقية، تضبط حتى حدود حبِّ الأرضِ والموطن، فجاءت المعجزة التي حَلَّتْ بمبدأ أسمى وأعظم، هدفه المنشودُ إعمارُ الأرض بالعدل والرحمة، وإنقاذ كل الأرض والإنسانية جمعاء، لا قِطَعًا صغيرةً وأفرادًا أمام عالمٍ يعاني ألم الضياع.
    مَعَانٍ أَجَادَ في بيانِها فضيلةُ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي إذ يقول: " أما الجزيرة العربية فقد كانت... تتراءى فيها الفطرة الإنسانية السليمة، والنزعة القوية إلى الاتجاهات الإنسانية الحميدة، كالوفاء والنجدة والكرم والإباء والعفة، إلا أنه كانت تعوزهم المعرفة التي تكشف لهم الطريق إلى كل ذلك، إذ كانوا يعيشون في ظلمة من الجهالة البسيطة والحالة الفطرية الأولى... وهذه الحالة هي التي عَبَّرَ الله عز وجل عنها بالضلال حينما وصفهم بقوله:" وَإِن كُنْتُم مِّنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّين " ، وهي صفة إذا ما نُسِبَتْ إلى حال الأمم الأخرى إذ ذاكَ تَدُلُّ على الاعتذار لهم أكثر من أن تَدُلَّ على تسفيههم أو تعييرهم بها.
    ذلك أن الأمم الأخرى كانت تستهدي لانحرافاتها العظيمة بمشاعل الحضارة والثقافة والمدنية، فكانت تتقلب في حمأة الفساد عن تَبَصُّرٍ وتخطيطٍ وفكر " ، قلت: فذلك حال الأمم الْمُتَحَضِّرَةِ الْمُثَقَّفَةِ الْمُتَمَدِّنَةِ اليوم.
    ولم يَكُنْ بمُستطَاعِ قبائل العرب المتنافرة المتناحرة أن تَتَفَهَّمَ أن الإسلام هو للناس جميعا، وأنه رسالةُ هدايةٍ كاملةٍ شاملة حَامِلَةٍ معانيَ الوحدةِ والمساواة لأممٍ غافلةٍ خاملة، فمضمونُ عالمية الإسلام أنه رسالةُ رحمةٍ وبُشرى وإنذارٍ للناس عامة، لا صلة لها بنظام الدولة ـ الأمة والجماعات والكتل البشرية التي تجمعها ثقافة وأفكار محدودة، رغم أن الشخصية القانونية لا يعترف بها في المجتمع الدولي لدولةٍ حتى تندرج في النمط الحداثي، أي حتى تفقد أكثر عناصر ثقافتها وهويتها، فإذا حَصَلَتْ على هذا الاعتراف ضاع معناها بين حداثةٍ مفروضة وثقافة محلية فارغة، تدور فيها مفاهيم القومية في فلك هويات خاوية المضمـون، وتُـثَـارُ النـزاعـاتُ الكـبـرى بسبب حدود وهمية ومساحات صغيرة ومباريات كروية... ويضيع الأمل بانقشاع الأحلام القومية بعد ذلك، ويزداد الخَوَاءُ خَوَاءً..
    وكانت الصاعقةُ شديدةً على صناديد الثقافة الجاهلية، وغَلَبَ عليهمُ التعلقُ بما عَهِدُوا عليه أنفسَهُم كدفاع ضد هذه البدعة الدخيلة، وهذه الأفكار المستَحدَثةِ التي تَجْعَلُ الساداتِ الذينَ تَرَبَّوْا في كَنَفِ الجاهِ والأموال والتبجيلِ سواسيةً مع عبيدهم، فما أغربَ كلام هذا الرجل الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواقِ ويقول:" الناس سواسيةٌ كأسنان المشط "، كأنما الآباءُ والأجداد كلهم كانوا على خطأ هذه السنين الطوال ليأتي هذا الأمي فيتكلم بالصواب، " وَانْطََلقَ الْملَأُ مِنْهُمُ أَنِ امْشُوا واصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُّرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَآ إِلَّا اخْتِلَاق " ، فهذه البيئة وهذا المجتمع بحسب المفهوم الثقافي قد ارتضى لنفسه هذه الأفكارَ والمعتقدات، واندمجت نفسيته مع حياته التي نظمها لنفسه، واكتملت قناعة أفراده بما وَجَدُوا عليه أصولَهُم، وعندما يحدثُ إجماعٌ كهذا على تفكيرٍ معينٍ باطلٍ يَصْعُبُ الإصلاحُ والتغيير، ويعلن أربابُ الثقافة المعهودة عن غرابة المنظومة الفكرية التي تَحْمِلُها دعوةُ الإصلاح، وتتجلى هذه الغرابة في دعوة الناس إلى ما لم يَعْتَادُوا عليه، وتنبيههـم إلى وضعٍ جديدٍ يُغَيِّرُ مجرى حياتِهِمْ ويُكَسِّرُ الرتابةَ التي اطمَأَنُّوا إليها لطولِ جَهَالَتِهِم، فتَفِرُ النفوس النائمةُ من الِاستيقاظ، وتخافُ العقولُ الجامدة من التحرك، ويأبى أهل السيادة التنازلَ عن عصبيتهم، ويصبح التخلي عن كل ذلك عارًا وشَنَارا، هنا ينبغي أن نستحضر نص الحديث النبوي حسب رواية مسلم:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء " .
    ولا تعني الغربة هنا فقط غربةَ المسلم الفرد الذي يمسك بزمام دينه، في مجتمع لا يعرف من الإسلام إلا الاسمَ ولا من القرآن إلا الرسم، حيث تَعْمُرُ المساجد بالأبدان والقلوبُ خَرِبَةٌ من الهدى كما في الأحاديث الشريفة، وإنما يُقْصَدُ بالغربة والغرباءِ من يرفعون دعوة الإصلاحِ بما يخالف ما اعتادَه الناس على فَرَاغِهِ وبُطْلانه، وما انْبَنَتْ عليه الثقافةُ المُتَجَذِّرَةُ بأفكار معينة وعاداتٍ مُتَوَارَثَة، فيَغْتَرِبُ أولئك الذين لا يرتبطونَ بما أجمعَ عليه مجتمَعُهُم، وتَشْمَئِزُّ النفوسُ ممن يدعونَ لإصلاحِ العُرْفِ وتغييرِ منهاج الحياة، تلك هي الغربةُ التي يعاني منها الإسلامُ اليومَ بين أهله، هذه الغربة هي التي تفسر إشكالية القطيعة الحاصلةِ بين أفكار جيل وجيل، وضرورة استشرافِ أفق جديد لا صلة بينه وبين سلبيات الماضي، أفق لا يتأسس فقط على ما يسمى بالمكونات الحضارية والثقافية الإسلامية بكل ما تحمله هذه العبارة من معان، فهذه المكونات في حد ذاتها تحتاج لتصفيةٍ حتى الوصولِ إلى مَعَادِنِِ المعاني النبوية الخالصة، تلك المعادنُ الْكُنُوزُ التي احتفظ بها الصحابةُ خالصةً من كل شائبةٍ والتابعونَ وتابعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، لَمَّا دَلَّهُمُ اللهُ على مفتاح الصحبة.
    إن مادة حياتنا وركنَ ثقافتنا هو العقيدة الصحيحة والإيمان ومكارم الأخلاق، والتعلق الكامل بالله عز وجل في كل السكنات والحركات، فلا مناصَ من إعادة النظر في واقعٍ تتجلى فيه حقيقة الضياع، بين ثقافة محلية ضعيفة وفكر استعماري مُتَغَرِّبٍ ومُغَرِّبٍ يضرب بجذوره في قلبِ المجتمع، فكرٍ وحضارةٍٍ أَلَّهَا العقلَ فانطلقَا بعصر الأنوار ليخترقَا الحدودَ ويعتنقَا دين الحرية المطلقة، فلا مكان لحقيقة الغيبِ ولا مُتَّسَعَ لإيمانٍ ولا اعتبارَ لوحي، ليتسع المجالُ لعودة حياة ما قبل الوحي في حُلَّةٍ مَوْشِيَّةٍ مُدهشةٍ من تقنياتٍ ومخترعاتٍ هائلةٍ تَصْرِفُ عن مُصَرِّفِ الكون، وتنقلِبُ الحقائقُ لتَتَصَدَّرَ المحسوساتُ السفلى ويُسْتَهَانَ بالمعاني الربانية العليا السامية، وتضيعَ معاني الحياة بفساد الأخلاق والانبهار بنتائج العلم الحديث دون استحضار قدرة الله وآياته، كأنما عالَمُ ما قبل الرسالة الخاتمة ينهض من جديد، بارتفاع رؤوس الأصنام التي انتَكَسَتْ ليلة ميلاد المختار صلى الله عليه وسلم، لكن في صور تلائم ذروةَ التطور وغرور العقل، فيُعْبَدُ صنم العقل باسم الفكرِ والهوى باسم الحرية والانسجام مع المجتمع، ويصبح الإنسان آلةً كالعقلِ الإلكتروني والإنسان الآليِّ الذي صَنَعَهُ بيديه، ويتبلورُ التشتت الكامل بين الأسرِ فلا رَحِمَ ولا جوارَ بدعوى كثرة الانشغالات وظروف العصر، ويأكل القوي الضعيف في ظل مجتمع دولي يعبد القوة والسلاح باسم إحقاق العدل والحفاظ على السلام والأمن العالمي، فيَسْلُبُ الدول الضعيفة حقوقَها ويُقِرُّ عليها مبادئ قانونه الدولي قَسْرًا، وصُورَةٌ مُوحِشَةٌ لضياع (حقوق الإنسان) بشكل متصاعدٍ منذ الإعلان العالمي لميثاق حقوق الإنسان، في نفس السنة التي دَخَلَ فيها الكيان الصهيوني ثالثَ الحرمينِ ليُشَرِّدَ الآلافَ المؤلفةَ من الأبرياء، ويتوالى مسلسل المآسي في كل بقاع الأرض، دماءٌ على ساحات بلاد المسلمين بسلاح المغضوب عليهم، ومخططات وبروتوكولاتٌ عَمِلَتْ وتعمل لابتلاعِ المظهر الإسلامي من خلال شبكة جهنمية، وصورٌ للدعارة والفساد تَجْثُمُ على الصدورِ وتستقطِبُ الشبابَ وغيرهم زرافاتٍ ووحدانا، ليس عن طريق صاحبات الرايات الحمر اللواتي كُنَّ يُثرْنَ المارينَ بنداءاتٍ ماجنة، ولكن يُعْلَنُ عن دعارة عالمية مُشَرْعَنَةٍ تقتحم البيوتَ الهادئةَ المطمئنةَ العفيفةَ اقتحاما وتتموقعُ عبر شبكة الإنترنت...
    وتزداد الغفلة بالسخرية ممن يتحدثون عن مخططات وعداوات صهيونية وفسادٍ حياتي، فإنما هي مبالغة في الكلام وأوهام تُبْعِدُ عن التقدم الحَثِيثِ في طريق الحداثةِ واستشراف حياةٍ أوفر تحضُّرًا وحيوية! ودعوة للتمسك بتراث حضاري ثقافي لا معنى لـه في ظل المدنية الحديثة، فلا سبيل إلى الاندماج في الحضارة الحديثة بغير التنازل عن مقومات الثقافة: عَوْدٌ على بَدْء!!
  • المصدر: http://www.meshkat.net/node/13463

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك