الإسلام وتفاعل الحضارات
أضافه الحوار اليوم في

الإسلام وتفاعل الحضارات
- أ.د عون الشريف قاسم
- أستاذ بجامعي و وزير الأوقاف الأ سبق
- حين قال المولى جلا وعلا في محكم تنزيله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة : 3 ) , كان إيذانا بتحول جذري في مسار الإنسانية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
إذ كان الإسلام بذلك إكمالا لدين الله الذي أرسله لخلقه بواسطة رسله منذ آدم عليه السلام, وخاتما لرسالات الله إلى الأرض. ومن ثم لم يكن موجها مثل الرسالات من قبلة لقوم بعينهم ، بمن فيهم العرب الذين انزل بلسانهم وكان رسوله منهم ، بل كان للإنسانية جمعاء قال تعالى:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ : 28 )، وقد اقتضى شمول الرسالة للبشر اجمعين اعتبارات هامة كان على الرسلة الخاتمة أن تراعيها، وعلى رأس ذلك اختلاف الناس وتعدد ألوان حياتهم باختلاف البيئات الأزمان قال تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات : 13) .
ومن أبرز مظاهر هذا الاختلاف بعد الأعراق اختلاف الأديان، وتلك فطرة الله فى خلقة قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة : 48) ومن ثم اعتراف الإسلام بالديانات من قبيله وجعل الايمان بها وبرسلها من تمام الإيمان بالله جلت قدرتة، قال تعالى:( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران : 84). ورغم أن الإسلام قد جاء مهيمنا على الديانات من قبيله قال تعالى:( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف : 9) وهو وحده الدين الحق الذى لا يقبل سواه قال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران : 85) فقدجعل لأهل الكتاب ومن جرى عليه حكمهم من أهل الديانات الأخرى، مكانة خاصة إذ جعلهم فى ذمة المسلمين، لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالوفاء لهم بذمة الله ورسوله. وقد حدد القرآن الكريم للمسلمين سبل التعامل مع غير المسلمين فى قوله تعالى :( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت : 46), وأمر ببرِّهم والقسط إليهم ما لم يبادروا بالاعتداء، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة : 8). وفتح آفاق التعامل الاجتماعي معهم فأحلَّ للمسلمين طعامهم قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة : 5), وأحلَّ زواج المسلم من الكتابية وإن لم تُسلم, وأمره باحترام دينها وتيسير سعيها لتأدية شعائره إن رغبت في ذلك, ولم يحل زواج المسلمة من غير المسلم لأنه لا يؤمن بدينها ولا يحترمه بعكس المسلم الذي يؤمن بالمسيحية واليهودية كما سلف القول.
ومن مظاهر الاختلاف بين الأمم التي راعاها الإسلام في توجهه للبشرية جمعاء اختلاف الألوان واللغات قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم : 22). وقد احترم الإسلام لغات الأمم ولم يفرض على من دخل الإسلا م من غير العرب أن يتخذ العربية لسانا رغم أنها لغة القرآن, ولغة الدين, ولاتصح صلاة المسلم إلا بفاتحة الكتاب وآية أو بضع آيات يرتلها بالعربية أثناء الصلاة, أما في غير ذلك فليس ملزما بتعلم العربية. ومن ثم حافظ المسلمون من غير العرب على لغاتهم, وعلى رأسهم الفرس والأتراك, بل إن الإسلام ساعد المسلمين على الحفاظ على لغاتهم وتطويرها فقدم لهم الحرف العربي لكتباتها وأمدهم بذخيرة لغوية هائلة من المصطلحات الدينية والفلسفية والعلمية اغتنت بها لغات المسلمين, وكانت حتى قريب أكثر من مائة لغة كانت تكتب بالحرف العربي الذي تم تطويعه لتلبية حاجات هذه اللغات من ناحية الأصوات والحروف التي لاتوجد في اللغة العربية. بل إنه ذهب في هذا التيسير إلى أبعد من ذلك إذ ابتدع لغات للمسلمين لم تكن موجودة من قبل مثل السواحلية في أفريقيا, والأردية في شبه القارة الهندية, والمالطية في مالطا, والموركية في الأندلس. ومثل ذلك كان موقفه من الألوان والأجناس كما قال صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
وبما أن العالمية هي سمة الإسلام الكبرى, فإن انفتاحه على العالم اقتضى أمرين في تعامله مع البشر في بيئاتهم المتباينة.أولهما الانفتاح على كل الحضارات والثقافات, وثانيهما المرونة والتسامح في التعامل معهما. أما انفتاحه على كل الحضارات فبارز في استيعابه لكل ما كان معروفا من كتب الأقدمين وعلومهم وفلسفاتهم في المائة سنة الأولى من تاريخه, إذ انتقلت إليه علوم اليونان والرومان والفرس والهنود إلى جانب ما حفظ من تراث الساميين والمصريين ومن إليهم. وقد تم نقل كل هذه العلوم وإن خالف بعضها أسس الإسلام وتعاليمه. وكان هذا الإنفتاح على أوسع مداه حين انتقل الإسلا م من جزيرة العرب إلى غيرها من الأمصار أولا وإلى كل بلاد المسلمين فيما بعد, ولم يشترط في التعامل مع موروثات الأمم إلا أمرين, عدم مصادمتها لوحدانية الله في المقام الأول, والتزامها بكرامة الإنسان وعدم الإضرار بحياته أو صحته في المقام الثاني. فنفى كل مظاهر الوثنية والشرك, وألغى كل الممارسات والطقوس المهلكة للحياة أو الضارة بالصحة, مثل القرابين البشرية, وعروس النيل, وتشويه الأجساد وما إلى ذلك مما كان مألوفا في بعض الأمم.
وما عدا ذلك فقد كان انفتاحه على تراث الأمم غامرا وفاعلا, إذ استوعب في إطاره العام كل القيم الحية الباقية من الحضارات القديمة, وفعل ذلك في يسر وتؤدة ومرونة وتسامح . فكان يتسرب في حياة الأمم يعدّل ويبدّل ويأخذ خير ماعند الناس ويضيفه إلى حصيلته ويرتقي به من نطاق المحلية الضيق إلى رحابة الإسلام وعالميته, ويصبح كل جزءا من الإسلام. وبذلك يأخذ المسلم في إطار إسلامه كل قيم تاريخه الفاعلة, نافيا كلم ما يصادم قيم الإسلام في وحدانية الله وكرامة الإنسان. فيصبح المصري المسلم مثلا قد أخذ في إطار إسلامه كل تاريخ أمته الذي اكتسب بفعالية الإسلام حيوية جديدة, جعل من التاريخ حياة معاشة في إطار عالمية الإسلام. وبذلك لا يفقد المسلم بإسلامه أصالة أمته ولا تاريخها بل يكتسب كل ذلك حياة جديدة.
وكان أبرز مظاهر هذا الانفتاح والمرونة أن جعل الإسلام العرف والعادة أداتين محكَّمتين ضمن أصول التشريع. وقد انعكس ذلك على طبيعة التشريع الإسلامي الذي من أهم أسسه تغير الأحكام بتغير الأحوال واختلاف البيئات والثقافات، تعددت المذاهب الفقهية لتلائم هذا الاختلاف.. والدارس للمذاهب الفقهية يلحظ أثر البيئة في تنزيل أحكام الشرع, وخير شاهد على ذلك مذهبا "الشافعي", فحين كان في العراق برز "مذهبه القديم", وحين انتقل إلى مصر برز "مذهبه الجديد"!. وكلاهما يعبِّر أصدق تعبير عن الشريعة الإسلامية وهي تتنزل على البيئات المختلفة فتتغير أحكامها بتغير الأحوال. ولهذه الميزة الأساسية للإسلام انتشر في كل ماهو صالح ومفيد ويدخله في إطاره فيكتسب الإسلام بذلك صيغة محلية تحافظ على عادات الناس الكريمة وقيمهم الفاضلة الموروثة, ولكن هذه الصبغة المحلية, لا تبقي على محليتها المحدودة , بل تكتسب بفضل عالمية الإسلام وشمول قيمته الإنسانية بعدا عالميا تجعل المصري المسلم مثلا على مصريته أخ الهندي المسلم مثلا على هنديته.
وكثير من الناس وبالذات الغربيين يخطئون فهم هذه الظاهرة فيتحدثون مثلا عن الإسلام السوداني, أو المصري أو الهندي ويطلقون على ذلك مصطلح الإسلام التاريخي في مقابل مايسمونه بالإسلام الأصولي, وهو فهم خاطئ نابع عن خطأ في فهم أسلوب الإسلام في تعامله مع الشعوب والأمم المنسجم مع عالميته وشمول نظرته للإنسانية كافة.
ولعل من الملاحظات الهامة في هذا المجال أن الكثرة الغالبة من المسلمين الذين يزيد عددهم الآن على المليار قد أصبحوا مسلمين بعد أن دالت دولة الإسلام في أعقاب الغزو التتري الذي أسقط دولة الخلافة العباسية في بغداد, ولم يكن إسلامهم في معظم الأحوال نتيجة غزو بالجيوش, وإنما كان عن طريق القدوة الحسنة وجهود الدعاة، وكثير منهم من التجار والمتصوفة.
ومن الملاحظات الهامة في هذا السياق, أن الفتوحات الإسلامية قد تمت في معظمها بالجيوش التي خاضت حروبا معلومة منذ القرن الهجري الأول, ولكن انتشار الإسلام في هذه البلاد المفتوحة لم يكن عن طريق القوة أو السيف كما يزعم أعداء الإسلام بل تم عن طواعية واختيار بقوة الإسلام الذاتية, ونموذجه الرائع في الإخاء والتكافل الذي دفع بالملايين لاعتناقه إلى الدرجة التي هددت تمويل الدولة على عهد بني أمية, إذ أن من يسلم تسقط عنه الجزية - وهي بمثابة ضريبة الدفاع- مما دفع بالحجاج بن يوسف إلى إصدار أمره العجيب بأن يدفع حتى من أسلم ما كان عليه من الجزية, وقد أثار ذلك ثائرة الموالي فثاروا بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث اليمني, واستمر الأمر إلى زمن عمر بن عبدالعزيز الذي ألغى هذا التدبير وردَّ الأمر إلى نصابه كما أراده الإسلام, وكان شعاره المعروف "دعاة لا جباة". - هذا التاريخ الحافل بالمآثر والمكرمات في مجال تفاعل الإسلام مع غيره من الشعوب والحضارات يقابله تاريخ آخر يعرض نموذجا مختلفا من التعامل مع الشعوب والحضارات والثقافات, وهو تاريخ الحضارة الغربية المعاصرة.
ومن الملاحظ أنه حيثما حلت هذه الحضارة في مكان لا ترضى بغيرها بديلا, ولا تكتفي بالتفاعل الإيجابي الذي يأخذ ويعطي بينها وبين حضارات الأمم المغلوبة, بل ترمي إلى الإلغاء والحلول محل ما ألغت, والسعي لتغيير كل مظاهر الحياة الفردية والجماعية روحيا وثقافيا واجتماعيا لتصبح غربية شكلا وموضوعا إن أمكن ذلك. وتضيف في شكلها الأنجلوسكسوني إلى ذلك إلغاء البشر إن أمكن ذلك والحلول محلهم, مثل ماحدث في أمريكا الشمالية مع الهنود الحمر, ومع السكان الأصليين في أستراليا الذين أبيدوا ولم يبق منهم سوى بعض العشائر التي حفظت في زرائب, ولا يظهرون عادة إلا في أفلام رعاة البقر وفتوحات الغرب الأمريكي. وأما ماحدث في أفريقيا فمعلوم, إذ أن الأفارقة كانوا من الكثرة بحيث استعصوا على الإبادة العرقية, فكان أن اتجه المستعمرون الإنجليز ورصفاؤهم الهولنديون المعروفون بالبوير إلى العزل العنصري, بأن أقاموا دويلات بيضاء في جنوب أفريقيا وروديسيا الشمالية والجنوبية وحظروا عليهم الاختلاط بالسادة البيض حتى قريب من زماننا هذا.
ورغم الاختلاف في السياسات المتبعة نحو الأمم المستعمرة, ما بين تطرف في حمل الأمم المغلوبة على الفرنسة والتغريب عند الفرنسيين, وأناة وتدرج في ذلك عند الإنجليز مثلا, فإن الاتجاه العام لدى الجميع هو حمل الناس على التغريب وإلغاء الثقافات الوطنية وإهمالها ومحاربتها في معظم الأحوال. وأبرز نموذج في السودان بعد الاحتلال الثنائي, فقد كان من الممكن الاستفادة من التعليم الإسلامي الراسخ الجذور وتطويره بقيم تراثهم, موصول الأسباب بمستجدات الحاضر. ولكن عداء الغرب للإسلام وضع حدا لهذا التطور الطبيعي الذي بدأ بالفعل في مصر والشام والدولة العثمانية حيث بدأت النهضة العربية في القرن الثامن عشر, وبدأ المصلحون من المسلمين في المزاوجة العضوية بين الموروث الإسلامي وعلوم الغرب, بحيث كانت العلوم بما فيها الطب على عهد محمد علي, تدرس باللغة العربية حتى عام 1883م حين أوقف الإنجليز هذا التطور, وغيروا لغة التدريس إلى الإنجليزية. ولم يكتفوا بتغيير السياسة التعليمية وإنشاء تعليم أوروبي مواز للتعليم الإسلامي الذي أهملوه وحاربوه, وناصبوا خريجيه العداء, بل أضافوا إلى ذلك ضرب القاعدة التي أنشأها محمد علي, فأغلقوا كثير من المصانع المنتجة لصبغة النيلة والأقمشة وما إليها, فعطلوا بذلك نهضة مصر الصناعية, التي بدأت قبل نهضة اليابان بما يقرب من الأربعين عاما, إذ بدأ محمد علي في عشرينيات 1820م بينما بدأت النهضة اليابانية في عهد الميجي حوالي 1860م.
ونقل الإنجليز نفس سياسة دنلوب في التعليم من مصر إلى السودان فأهملوا قاعدة التعليم الإسلامي وهي الخلوة, وأقاموا نظاما جديدا لا يهتم بعلوم الإسلام إلاّ في أضيق الحدود, ونجم عن ذلك الثنائية المعروفة بين تعليم ديني بقى على حاله لا يتصل بحياة العصر إلا في الحدود وبين تعليم حديث علماني متصل بالخدمات وأجهزة الدولة غير متأثر بتوجهات الإسلام إلا من حيث أن متلقيه من المسلمين, ولا بد أن يعبروا عن إسلامهم الموروث في شكل من الأشكال. وقد كان هذا أقصى ما في استطاعة الاستعمار الإنجليزي في شمال السودان, حيث الغالبية العظمى مسلمون أما في المناطق الأخرى من السودان, حيث يقل المسلمون ويكثر غيرهم, فقد كانت سياستهم هي الفرض والإملاء, وقمع كل ثقافة أو حضارة منافسة, مما عرف بسياسة المناطق المقفولة , حيث منعوا دخول جبال النوبة ومناطق الانقسنا, وفرضوا منذ أواخر العشرينيات ماعرف بالسياسة الجنوبية في جنوب السودان. وهدفها اجتثاث الإسلام والعربية في الجنوب, إذ تم ترحيل المجموعات المسلمة في مناطق التماس مع كردفان إلى مناطق أخرى وخاصة منطقة القضارف وكسلا "ومعظم هؤلاء من الفلانيين", وعدلوا الحدود في منطقة "كاجو كاجي" ليبعدوا الأثر العربي والإسلامي من الجنوب. وحرَّموا صلاة الجماعة على من بقي من المسلمين, وساعدوا على إدخال التجار المسيحيين من الشوام والإغريق لمنافسة الجلابة المسلمين.
أما فيما يتعلق بالجنوبيين, فقد حرَّموا عليهم لبس الزي العربي, وفرضوا عليهم الزي الأوروبي, وحرموا عليهم اتخاذ الأسماء العربية, ومن كان يحمل اسما عربيا فعليه تبديله باسم أوروبي أو جنوبي, ومن رفض ذلك أعطوه رقما بديل اسمه حتى ينصاع، ولا تستخدم اللغة العربية في المخاطبة وفي الكتابة الرسمية, وأطلقوا للإرساليات المسيحية للإشراف على التعليم بإعانات من الدولة. واستمرت هذه السياسة حتى الحرب العالمية الثانية, حين تبين لهم خطأهم وعدم جدواها, فبدأوا منذ عام 1946م إلغاءها ورفع الحظر عن اللغة العربية والإسلام في الجنوب, بعد أن زرعوا بذور الشقاق والعداء بين أبناء الوطن الواحد.
وهذا العداء للإسلام من قبل الحضارة الغربية قديم قدم الإسلام, إذ لم ينس الغرب أن الإسلام اقتطع معظم أراضي الدولة الرومانية البيزنطية في الشام وتركيا ومصر والمغرب, وغزاهم في عقر دراهم حين أستولى على الأندلس وصقلية ومالطة.
ولذلك سرعان ما انتهز الغربيون فرصة التمزق التي ألمت بالمسلمين في بداية القرن الحادي عشر الميلادي, وشنوا حروبهم الصليبية, التي انتهت باحتلال الشام وفلسطين وإقامة عدد من الدويلات اللاتينية, التي استمرت لما يقارب من مائتي عام, ولم تنته سطوتهم إلاّ على يد صلاح الدين الذي حرر القدس من تسلطهم. وبعد أن تمكنوا من طرد المسلمين من الأندلس عام 1492م , واستوعبوا كل معارفهم , وبنوا عليها نهضتهم الجديدة, ظلوا يعملون في دأب لأكثر من ثلاثة قرون لمحاصرة المسلمين برا وبحرا بالسيطرة على طرق التجارة العالمية التي كانت في أيدي المسلمين أولا, ثم الانقضاض على بلاد المسلمين من قبل المستعمرين البرتغاليين والفرنسيين والهولنديين والبلجيك والإنجليز والروس وغيرهم من الأوربيين, حتى سقط معظم العالم الإسلامي في أيديهم.
وشرعوا في رسم مخططاتهم لعزل المسلمين عن دينهم, بإحلال قوانينهم محل الشريعة, وفرض لغاتهم في التدريس والعمل الرسمي بدل العربية, وغيروا مايقرب من مائة لغة إسلامية من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني. ومكنوا لزيهم الأوروبي بدل أزياء المسلمين القومية, ونقلوا إلى المسلمين أفكارهم عن فصل الدين عن الدولة والمجتمع, النابعة من تاريخ المسيحية, والتي لا علاقة لها بالإسلام الذي يتصل فيه الدين بالدنيا اتصالا عضويا قد يتميز فيه الدين عن الممارسة السياسية, ولكنه لاينفصل عنها.
مهما زعم الغربيون بأنهم لا يكنون للإسلام عداء, فإن واقع الحال يوحي بغير ذلك. فقد كان الإسلام ومايزال هو الحضارة الحية التي تصدت للغزو الغربي لما يقرب من الألف عام, في حين أن معظم حضارات العالم القديم قد فقدت حيويتها أو تحنطت, ولم تعد تشكل خطرا على الحضارة الغربية. والغرب المنفصم بين الدين والدنيا, يدرك أن الإسلام المتصل دينا ودنيا يضع أمام الإنسانية نموذجا في تكافل الشخصية الإنسانية القائم على الانسجام والتوازن بين حاجات الجسد وحاجات الروح, مما لا تستطيع الحضارة الغربية الأحادية النظرة أن تقدمه, في زمان تحتاج الإنسانية فيه إلى الروح، وهو ما لا تستطع الحضارة الغربية الأحادية النظرة أن تقدمه، في زمان تحتاج فية الإنسانية إلى تكامل كل قواها الروحية والمعنوية والمادية لمواجهة مخاطر التطور في هذه المراحل المتقدمة من جهد الإنسان المركز على العلم والتقنية العالية، وقد أدرك ذلك كثير من مفكريهم الذين اتخذوا الاسلام دنيا.
وهذا يعود بنا الى ما سبق ان بدانا به الورق من أن خاتمية الإسلام القائمة على خلق الفرد الإنساني الجديد الذي يمتزج فية الدين بالدنيا امتزاجا عضويا تتنقل به قيم الجماعة إلى ضمير الفرد ليصبح ضميرا اجتماعيا بالضرورة لخلق الفرد ـ الجامعة او الموطن ـ الدولة، هذه الخاتمة هي التي تعبر عن هذه المرحلة من التطور البشري، مرحلة المجتمع المدني البالغ التعقيد الذي تنهار فية قيم الإنسان بفعل التطور ولا يقوى علي مواجهة مخاطره إلا هذا الفرد ـ الجماعة ـ الذي ختم به الإسلام الرسالات ولخص فية كل التطور الاجتماعي في آخر مراحله، وهذا النموذج وحده هو النموزج الصالح لمجابهة التطور، وليس النموذج الغربي المنفصم الذي يغذي الجانب المادي من الإنسان في أغفل لجانبة الروحي، فلا ينجم عنه إلا الكوارث والحروب مما يهدد الإنسانية بالفناء.
وعلى المسلمين، طال الزمن أم قصر، أن يعيشوا بالعلم والتقدم التقني نموذجهم الخاتم، ويقدموه، للبشرية، لأنه وحده سبيل الخلاص في عالم يزداد تقدمه يتقلص إنسانه بفعل حضارة الغرب, التي جاء الإسلام أصلا للحلول محلها، وكان في ذلك خاتمته.
إن انسان الحضارة الإسلامية ـ الإنسان (الفرد – الجماعة) - هو نهاية التاريخ وآخر البشرية, وليس الإنسان الرأسمالي المنفصم, الذي يريد الياباني المتأمرك فرانسيس فوكاياما أن يختم به التاريخ, ويجعله النموذج الخاتم لجهد الإنسان على الأرض.
ومن الطرائف في هذا المقام أن نهاية هذا البطل الرأسمالي الذي تحدث عنه فوكاياما قد جاءت بأسرع مما كان يتصور أحد من الناس إثر الإنهيار الكبير الذي ألم بسياسة الغرب في السوق الحر والنظام العالمي الجديد وتردي إقتصاديات دول جنوب شرق آسيا, مما أضطر الاقتصاديين في الدول الرأسمالية إلى عقد مؤتمرهم بسويسرا, الذي عدلوا فيه من سياساتهم, وقلصوا من تفاؤهلم في نجاح اقتصاديات السوق الحر, وأضاف فشل مؤتمر التجارة العالمية في سياتل بأمريكا صفعة أخرى للنظام الراسمالي الذي طلبوا بحمده (*), وتبين في نهاية الأمر أنه في واقع الأمر يقف على قاعدة من الرمال المتحركة. لأنه نظام لا يقوم على الأخلاق والمبادئ, بل يقوم على طلب الربح والمزيد من دون مراعاة لما يصيب الإنسانية من جراء هذا التكالب على جمع المال واكتناز الثروات في أيدي قلة تضخم شركاتها عابرة القارات لتضع العالم وفق العولمة في أيدي قلة تزداد قلتها مع إزدياد قدراتها على ابتلاع غيرها من الممارسين, وتصبح كل ثروات العالم في نهاية المطاف في أيدي 20% من سكان العالم وتصبح بقية ال80% من سكان العالم عالة على هؤلاء, بناء على الدراسات التي أجهراها بعض خبراء المستقبليات من الأمريكيين. ونخلص من ذلك إلى أن كل تاريخ الإسلام حافل بالتفاعل مع غيره من الحضارات سوى في ذلك تلك الخارجة عن دائرته بما في ذلك حضارة الغرب إن في صورتها الإغريقية القديمة أو في صورتها الأوربية والأمريكية الحديثة, أم تلك الدائرة في فلكه كما هو الحال في كل بلاد المسلمين التي تختلف ثقافتها المحلية, بإختلاف بيئتها. ولكن المأزق الذي يواجهه الإسلام في الحاضر, كما تواجهه كل حضارات العالم القديم, هو هذه الهجمة الغربية الكاسحة, التي تسعى إلى نسخ غيرها من الحضارات, وصب كل الناس في القالب الغربي. وقد صمد الإسلام حتى الآن أمام هذا الهجوم, وهو بقيمة وقدرته الذاتية كفيل بصد الهجوم, هذا نصف المعركة, ولكن نصفها الأهم هو تقديم نموذج الخاتم للإنسانية في مرحلة الاجتياح الغربي للعالم, وهو مايجب أن يدفع بالمسلمين للتوحد وتكثيف الجهود للتعاون على خلق مؤسسات تربوية وتعليمية وصناعية وإعلامية واقتصادية وسياسية مشتركة يواجهون بها هذا الهجوم, ويسعتدون من خلاله لعرض حضاراتهم في صورة مقبولة لبقية العالم.
وللإسلام في ذلك تجربته الرائدة في التفاعل الحضاري منذ أيامه الأولى. ولكن الفرق الجوهري بين تلك التجربة الأولى وبين هذه التجربة المعاصرة, أن التفاعل الأول تم بنيه وبين حضارات تاريخية لم تعد تسندها قوة مادية, بينما لقاء اليوم يتم مع حضارة حية تسندها قوة لم يشهد العالم مثيلا لها من قبل, وقد نجحت بقوتها المادية والمعنوية في محاصرة بقية الثقافات والحضارات, ودخلت عن طريق منجزاتها الصناعية والثقافية كل بيت في العالم, على تفاوت في هذا الدخول.
ولايجدي في هذه المواجهة الساخنة التقوقع والاحتماء في دهاليز الماضي, وإلا أصبحنا من مخلفات الماضي التي أهملها التاريخ ونسيتها الإنسانية, بل لا بد من مواجهة التحدي بأساليب المعركة الدائرة علميا وإعلاميا, خاصة والمجال مفتوح لكل صاحب قضية أن يعرب عن قضيته إن استطاع تجويد أسلوب العرض والنفوذ إلى ساحة المنافسة المحتدمة التي هي الآن قاصرة في معظمهما على ابتداعات ومنجزات الغربيين. والله غالب على أمره وهو الهادي إلى سواء السبيل.
____________________
(*) وفي السنوات الأخيرة – بعد وفاة كاتب السطور- جاءت الأزمة المالية العالمية، أثبتت عجز النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي، وجعلت اقتصاديي الغرب يهرعون إلى الاقتصاد الإسلامي يلتمسون في الحل والمخرج من أزمتهم.
الحوار الخارجي: