السلوكيات الاقتصادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم (الشخصية والأسرية)
السلوكيات الاقتصادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(الشخصية والأسرية)
فأين نحن الآن من حياة الرسول الاقتصادية في بيته... ونحن ندَّعي أن الرسول زعيمنا والرسول قدوتنا والرسول معلمنا والرسول حبيبنا... ألم نستحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلتزم بمنهجه في جميع نواحي الحياة ومنها النواحي الاقتصادية حتى نحيا حياة طيبة في الدنيا ونفوز برضاء الله في الآخرة؟
تمهيد:
كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصية والأسرية مليئة بالعبر والدروس في كل نواحي الحياة ومنها الاقتصادية، ولقد تضمنت العديد من المواقف والوصايا والنصائح والنماذج الاقتصادية العملية التي تؤكد تأكيداً جازماً بأن الإسلام منهج شامل لكل نواحي الحياة، ويتضمن برنامجاً اقتصادياً قادراً على معالجة مشاكلنا المعاصرة.
وسوف نتناول في هذه الدراسة السلوكيات الاقتصادية لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في أوقات الكساد والرخاء، وفي اليسر والعسر، وفي المكره والمنشط لنأخذ منها العبر والدروس.
سلوكيات الرسول صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقتصدا في طعامه وشرابه وملبسه... فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الاقتصاد نصف المعيشة" (ابن السني وأبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد" (رواه أحمد). ومن آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام الاقتصاد، وعدم الشره، ولم يكن أكولاً أو مسرفاً كما هو الحال في معظم رؤساء وحكام العرب المسلمين اليوم، وكان يقلل من الأكل حتى يقوى على عبادة الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، حسب ابن أدم لقيمات يقمن صلبه، فإن لم يفعل، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه" (رواه الترمذي وقال حديث حسن)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من فقه الرجل قصده في معيشته" (رواه أحمد).
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس وينام على الحصير:
يقول عمر بن الخطاب : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قال عمر: فجلست، فإذا عليه إزار وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، وإذا بقبضة من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية من الغرفة، وإذا إهاب معلق، فابتدرت عيناي بالدموع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟" فقال عمر: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ؟" قلت بلى. (رواه النسائي).
لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعد عن حياة البذخ والترف وهي من أسس الاقتصاد وموجبات استقرار الحياة الرغدة .
فشتان الفارق بين حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة حكام المسلمين اليوم، هم في القصور والسيارات والحرير والذهب والمكيفات.... ألم يعتبروا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الإسراف والتنعم:
لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسراف بصفة عامة في المأكل والمشرب والملبس وفي كافة نواحي الحياة، ويقصد به تجاوز الحد، حيث يعتبر من السلبيات الاقتصادية.
ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم في هذا المقام ما يلي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "والله ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز ولا لحم مرتين في يوم واحد" (رواه الترمذي وقال حسن صحيح).
ولقـد مر النبي صلى الله عليه وسلم على سعـد بن أبـي وقاص وهـو يتوضأ فقال له: "لا تسرف"، فقال سعد: أَوَ في الماء سرف يا رسول الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، وان كنت على نهر جار" (رواه ابن ماجة).
وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم).
وعن عبد الله بن سرجس، قال رسول الله "السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة" (رواه الترمذي).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان (مائدة) حتى مات، وما أكل خبزا مرققا حتى مات" (رواه البخاري).
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التنعم وحياة البذخ والترف فقال: "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون بالكلام" (رواه الطبراني).
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من تخزين الطعام:
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وعنده صرة من تمر، فقال: "ما هذه يا بلال ؟" قال: أعد ذلك لأضيفك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما تخشى أن تكون لك دخان في نار جهنم، انفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا"(رواه الطبراني).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أطيار فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتيته بهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألم أنهك أن ترفع شيئا لغد فإن الله تبارك وتعالى يأتي برزق غد" (رواه البيهقي).
هذه نماذج عملية تحث الناس على عدم تخزين الطعام بدون ضرورة حتى لا يحدث غلاء في الأسعار مثل ما يحدث في مثل هذه الأيام، فعندما يشعر الناس أن شيئا ما سوف يرتفع سعره فيهرعون لشرائه وتخزينه فيزداد سعره ارتفاعا كبيرا، والضحية هو الفقير المسكين الذي ليس معه مال حتى يشتري الضروريات اللازمة.
أما ما يدخره الناس في بعض المواسم لبعض السلع فهو جائز.. حيث ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل واحدة من زوجاته مائة وسوق من خيبر.. وكان صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنتهم من تمر وغيره.. ومعيار ذلك أنه إذا كان شراء الناس لا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار فإن الفقهاء قد أجازوا ذلك.
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مظاهرة نسائه من أجل التوسعة في النفقة:
تروي كتب السيرة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم تظاهرن من أجل التوسعة في النفقات، ولاسيما بعد الحصول على الغنائم، فنزل فيهم قول الله عز وجل: " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما " (سورة الأحزاب: 28-29)، ولقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على زوجاته واحدة تلو الواحدة فقالت عائشة: "بل أختار الله ورسوله".
هل تستطيع النساء المسلمات أن لا يسببن مضايقات لأزواجهن ولا سيما في وقت الأزمات؟ وهل يستطعن أن يصبرن ويتحملن مصاعب الحياة خاصة في هذه الأوقات ويقتدين بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ويخترن الله ورسوله والدار الآخرة ؟.
سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم وقت الأزمات الاقتصادية:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجاً للخشونة والصبر ومقتصداً في طعامه وشرابه، ومن مناقبه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يوصي صحابته ويقول لهم: "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم".وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: "لقد رأيت نبيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه" (رواه مسلم). وأوصى بأن ندخر لنوائب الدهر، فقال صلى الله عليه وسلم "رحم الله امرأ اكتسب طيباً، وأنفق قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وحاجته" ( أورده الهندي في كنز العمال ج4/6 ).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض" (رواه البخاري ومسلم).
وعن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "والله يا ابن أختي إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وكنا نعيش على الأسودين (التمر والماء)" (رواه مسلم).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالـي المتتابعـة خاوياً هـو وأهلـه لا يجدون عشاءاً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ).
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها "أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما يأتي إليها ضحوة (الضحى) فيسألها: هل عندك من طعام ؟ فإن قالت له: لا، قال: إذن نصوم".
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وقت الأزمات وغيرها يطلب من صحابته وأهل بيته بالدعاء بالشبع، فقد روى البيهقي عن عمران بن حصين قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت فاطمة رضي الله عنها فوقفت بين يديه فنظر إليها، وقد ذهب الدم من وجهها، وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدني يا فاطمة، ثم أدني يا فاطمة، فدنت حتى قامت بين يديه، فرفع يديه فوضعها على صدرها في موضع القلادة وفرج بين أصابعه ثم قال: اللهم مشبع الجاعة ورافع الوضيعة أرفع فاطمة بنت محمد، قال عمران: فنظرت إليها وقد ذهبت الصفرة من وجهها، وغلب الدم، قال عمران: فلقيتها بعد فسألتها، فقالت: ما جعت بعد ذلك يا عمران" (رواه البيهقي).
ولقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة" (رواه البخاري ومسلم).
تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
قالت عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وما في بيتي من شئ يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي" (رواه البخاري)، كما روي عن عمر بن الحارث أنه قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا موقوفة لابن السبيل والصدقة، كما ورد فـي روايـة أخـرى أنـه مـات ودرعـه مرهونا عند يهودي (رواه البخاري).
دروس وعبر من سلوكيات الرسول صلى الله عليه وسلم الاقتصادية:
من السلوكيات الاقتصادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم السابقة يتبين بدون ريبة أو شك أنه قدوة حسنة.
ومن أبرز تلك السلوكيات ما يلي:
v كان مقتصداً في معيشته؛ في طعامه، وشرابه، وملبسه، وفي سائر حياته.
v كان متقشفاً وقت الأزمات الاقتصادية؛ وكان ينوي الصيام إذا لم يجد طعاماً.
v كان متواضعاً ينام على الحصير مع أنه رئيس دولة ورمز أمة.
v لقد نهى عن تخزين الطعام بدون ضرورة وعدم الشراء فوق الحاجة حتى لا يحدث انخفاض في عرض السلع الضرورية، وحتى لا ترتفع الأسعار.
v كما نهى عن الإسراف في كل شيء حتى في الماء، ونجد في هذه الأيام الدعوة إلى أهمية ترشيد استهلاك المياه، حيث أن الكثير من الناس يسيئون استعمالها في غير ضرورة.
v كان نزيهاً عن ما في بيت مال المسلمين من غنائم بالرغم من مظاهرة نسائه له.
v كان لا يأخذ من مال الزكاة تعففاً وتنزهاً وقدوة.
v كان يتعاون مع أهله في شئون البيت.
v كان يعامل غلامه معاملة طيبة حسنة وكأنه أخوه في الله.
v عاش فقيراً ومات فقيراً فلم يترك قناطير من الذهب أو الفضة أو الاستثمارات أو الأموال المودعة لدى الحسابات السرية في البنوك.
الخلاصة
مما سبق كانت نماذج اقتصادية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته وهناك العديد من النماذج الأخرى يضيق المقام عن سردها فأين نحن الآن من حياة الرسول الاقتصادية في بيته... ونحن ندَّعي أن الرسول زعيمنا والرسول قدوتنا والرسول معلمنا والرسول حبيبنا... ألم نستحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلتزم بمنهجه في جميع نواحي الحياة ومنها النواحي الاقتصادية حتى نحيا حياة طيبة في الدنيا ونفوز برضاء الله في الآخرة؟
إن الأمة التي تعمل بهذه التوجيهات العظيمة وتقتضي برسول الله صلى الله عليه وسلم هي أمة تبتغي الهدى في محله، فهل تكون لنا الآخرة وتكون للفاسقين المرتشين المحتكرين الظالمين الطغاة المترفين هذه الحياة الدنيا الزائلة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟.
المصدر: دار المشورة.