العولمة و تغير مكانة الدولة كفاعل في النظام العالمي

العولمة و تغير مكانة الدولة كفاعل في النظام العالمي

د. مروة نظير*

 

شهدت مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة متغيرات في غاية الأهمية تركت تأثيراتها بشكل أو آخر على القانون الدولي عبر أبعاد وصور متعددة.

 

ويمكن بقدر كبير من الثقة القول بأن أبرز المتغيرات في هذا السياق هي العولمة، باعتبارها تعبيرا عن الحالة الراهنة التي آل إليها عالمنا المعاصر، من حيث انفتاح أجزائه المختلفة على بعضها البعض الآخر، وما صاحب ذلك من تدفقات وموجات سياسية واقتصادية وثقافية، أصبحت تتجاوز من حيث تأثيراتها ونتائجها الحدود السياسية للدولة بعامة. وقد ارتبط ذلك كله بما يسميه البعض تصاعد حركات رأس المال والشركات متعددة الجنسية والنشاط، فضلا عن التطور الهائل الحادث في صناعة وعمل وسائل الإعلام. إلا أن أهم ما يميز مفهوم العولمة أنه أضحى يعكس ملامح واقع سياسي دولي جديد أخذت ملامحه تتشكل على نحو تدرجي منذ بداية تسعينيات القرن العشرين. ويتمثل هذا الواقع السياسي الدولي الجديد في بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب وحيد في النظام الدولي ذي قوة عسكرية واقتصادية ضخمة ونفوذ سياسي، يمتد ليشمل مختلف أرجاء العالم.

 

·        العولمة وتأثيراتها على النظام السياسي العالمي:

 

يرتبط بالعولمة عدد من المتغيرات الوسيطة التي تترك بصماتها على العديد من موضوعات القانون الدولي العام ومفاهيمه، من ذلك على سبيل المثال تزايد الاهتمام بحقوق الإنسان، وتآكل سيادة الدولة في معناها التقليدي بعد ما أضفى عليها الواقع مضامين جديدة، واكتساب مساعي تحرير التجارة الدولية قوة دفع كبيرة بعد ما انتهى المتفاوضون في جولة أورجواي إلى التوقيع على الوثيقة الختامية لها في مراكش في أبريل 1994، وما ترتب على ذلك من إنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO) التي دخل اتفاق إنشائها حيز النفاذ في الأول من يناير 1995، والتي ستتولى -على ما يرى البعض- توقيع العقاب على الدول التي لا تذعن لمساعي تحرير التجارة الدولية، الأمر الذي سيزداد معه تركز الثروة وتتسع الفجوة بين الأفراد والدول بشكل غير مسبوق، فالمستفيدون الرئيسيون من اتفاقيات جولة أورجواي بشأن حقوق الملكية الفكرية، وبشأن تحرير قطاع الخدمات، وغيرها هم الشركات العابرة للقارات من دول الشمال وليس فقراء العالم.

 

حاصل القول، أن عالم اليوم يشهد نوعا غير مسبوق من السيولة السياسية، التي تختلط فيها الكثير من القيم والأفكار والمصالح، وهي سيولة لابد وأن تحدث آثارها على القانون الدولي، عبر نشوء العديد من القواعد القانونية الجديدة لتناسب متطلباتها، ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى اتفاقات التجارة الدولية وإنشاء منظمة التجارة العالمية فضلا عن الكم الكبير من القرارات التي تصدرها المنظمات الدولية، والتي تؤدي إلى نشوء ما أصبح يعرف بالقانون الهش أو المرن Soft Law  والتي سرعان ما تجد طريقها إلى التدوين في اتفاقيات عامة تغدو نافذة.

 

·        ظهور كيانات جديدة:

على خلاف الحال فى ظل القانون الدولي التقليدي، لم تعد الدولة الآن-  وباتفاق آراء الباحثين - هى وحدها المخاطبة بقواعد القانون فى إطار منظومة الدولي، كما أنها لم تعد هي الفاعل الأوحد في العلاقات الدولية، فقد أضحى هناك في الوقت الحاضر كيانات دولية جديدة تضطلع بدور مواز لدور الدولة في إطار هذه المنظومة، إن لم يكن بديلا عنه في بعض الأحيان. وكما هو معلوم، فقد اتخذت هذه الكيانات الدولية الجديدة أشكالا قانونية شتى منها منظمات دولية حكومية، ما أصطلح حديثًا على تسميته مؤسسات "المجتمع المدني الدولي" كالمنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط الدولية، إلى جانب الهيئات أو المؤسسات دولية النشاط؛ كالمشروعات الدولية العامة والشركات متعددة الجنسيات.

 

فالملاحظ، أن هذه المؤسسات قد تزايد عددها بشكل مطرد أيضًا خلال السنوات الأخيرة، وإن كانت نشأة البعض منها تعود إلى سنوات طويلة سابقة، كما في حالة كل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد البرلماني الدولي. وبصفة عامة هناك ما يشبه الاتفاق العام لدى الباحثين على التسليم بحقيقة أن هذه المؤسسات الدولية -على اختلاف أنواعها ومراكزها القانونية- قد أسهمت بدورها في رفع درجة كثافة التفاعلات الحادثة في إطار منظومة العلاقات الدولية، وإلى الحد الذي قاد البعض إلى التحدث صراحة عن سياسة مدنية عالمية أو  World Civic Politics

 

·        التغير في مفهوم السيادة:

 

من ناحية أخرى يمكن التحدث عن تغير في أهم وظائف القانون الدولي بمعناه التقليدي، وهي تلك المتعلقة بتوفير الحماية للسيادة الإقليمية والاستقلال السياسي للدول، والتي من المفترض أن تشمل شقين: شقا إيجابيا، وشقا سلبيا. أما الشق الإيجابي فهو حق الدولة في الانفراد بممارسة جميع اختصاصاتها الإقليمية في حدود قواعد القانون الدولي. أما الشق السلبي فهو التزام الدول الأخرى بالامتناع عن التدخل فى شئون الدولة وإعاقة ممارسة اختصاصاتها السيادية بصفة عامة. فمبدأ عدم التدخل (non- intervention) في شئون الدول الأخرى هو من المبادئ الأساسي العامة للقانون الدولي، لأنه ينبثق مباشرة من مبدأ السيادة الإقليمية للدول. 

 

بعبارة أخرى، يمكن الدفع بأن التطورات التي شهدها النظام الدولي منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين، قد أثرت -وما تزال- في العديد من الجوانب ذات الصلة بمكانة الدولة كفاعل على الساحة الدولية، كما ترتب عليها النيل أيضًا من العديد من المفاهيم والمبادئ ذات الصلة الوثيقة بمبدأ سيادة الدولة أو المنبثقة عنه أساسًا، بحيث بدا أن بعضها قد تجاوزه الزمن إلى حد كبير، وأن بعضها الآخر قد طرأت عليه مراجعات مهمة، سواء في المضمون أو في نطاق التطبيق، وتتمثل أبرز مظاهر تلك التأثيرات في العودة من جديد إلى إعمال فكرة "التدخل الدولي".

 

ويمكن القول أن مفهوم التدخل الدولي وإن كان له مدلول عام فهو يأخذ أشكالا عدة للتعرض لسيادة واستقلال الدول لتحقيق أهداف مختلفة. ويمكن التفرقة بين مظهرين للتدخل غير المشروع لإعاقة حق الدولة في ممارسة اختصاصاتها الإقليمية أو حرمانها منه كلية؛ المظهر الأول هو الانتهاك المباشر للسلامة الإقليمية للدولة أو استقلالها السياسي، أما المظهر الثاني فهو التدخل في شئون الدولة الداخلية بصفة عامة. ويأخذ كل مظهر منهما صور عدة، كما أنه قد يتضمن عنصر استخدام القوة العسكرية أو لا يتضمنه، ومن أهم صوره التدخل لمكافحة ظاهرة الإرهاب الدولي، والتدخل "لاعتبارات إنسانية" والتدخل "لنصرة الديمقراطية". 

ويقصد بالتدخل الدولي الإنساني أو التدخل لاعتبارات إنسانية" بمعناه الواسع، إمكان التدخل باستخدام القوة المسلحة وبغير ذلك من وسائل الضغط السياسي أو الاقتصادي أو الدبلوماسي لحمل الدول على الكف عن انتهاك حقوق الإنسان. وقد ذهب الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في تقريره أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والخمسين في سبتمبر 1999 إلى الإقرار "بحق" التدخل الدولي الإنساني، شريطة أن يتم هذا بقرار من مجلس الأمن وتحت إشراف منه حيث قال "إذا عرفت الدول التي ينطوي سلوكها على الإجرام أن الحدود لا تحميها حماية مطلقة وأن مجلس الأمن سيتحرك لوقف الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية فإنها ستحجم عن الإقدام على مثل هذه التصرفات ".   أما التدخل الدولي لمحاربة الإرهاب فيقصد به استخدام القوة بغرض الدفاع الوقائي عن النفس، وقد مارسته الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان وتهدد بممارسته إزاء بعض الدول الأخرى بزعم أن ذلك إنما يتم من جانبها دفاعاً عن النفس في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.  

 

أما التدخل العسكري لنصرة الديمقراطية، فتعكسه الفكرة الأمريكية الداعية للحرب على الاستبداد ودفع الدول ذات النظم الشمولية نحو الديمقراطية، ويرى كثيرون إن التدخل الأمريكي في العراق في 2003 هو النموذج الأكثر وضوحا لتلك الفكرة التي تبلورت في أعقاب فشل الولايات المتحدة الأمريكية في العثور على أسلحة الدمار الشامل التي جعلت منها المبرر الرئيسي والشرعي لإسقاط النظام العراقي بالقوة المسلحة. 

 

وبصفة عامة، يثير التدخل الدولي المسلح أو العسكري تساؤلات حول من له حق القيام به. هل يجوز لدولة بمفردها أو مجموعة من الدول أن تتدخل عسكرياً بمحض إرادتها فى دولة أخرى لأي من الاعتبارات السابقة دون أن تحصل على إذن بذلك  من مجلس الأمن باعتباره صاحب الاختصاص الوحيد فى تقرير مدى خطورة الوضع ومدى تهديده للسلم والأمن الدوليين، على نحو ما حدث من تدخل جنوب إفريقيا في ليسوتو عام 1998، وعلى نحو ما  فعل حلف الأطلنطي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة إقليم كوسوفا؟ وهل يجوز لمنظمة دولية إقليمية كجامعة الدول العربية أو الاتحاد الإفريقي أن تضطلع بأمر هذا التدخل العسكري دون تفويض بذلك من الأمم المتحدة ؟ أم أن الأمر يكون في جميع هذه الحالات حكراً على الأمم المتحدة تمارسه بنفسها أو تفوض فيه من تراه الأجدر والأقدر على القيام بهذه المهمة ؟. الواقع أنه ليس ثمة شك في أن مجلس الأمن الدولي هو صاحب الاختصاص الأصيل في هذا الصدد. ومن ثم فإن التدخل الدولي الإنساني بمعناه المسلح يصبح حقاً أصيلاً للأمم المتحدة في الحالات التي يقرر فيها مجلس الأمن مناسبة استخدام القوة. غير أنه لما كان مجلس الأمن لا يمتلك حتى الآن قوات مسلحة تكفل له القيام بمثل هذا التدخل، فإن المجلس مضطراً إلى تفويض سلطاته في هذا الصدد إلى منظمة دولية إقليمية أو إلى دولة أو مجموعة معينة من الدول وهكذا، فإن التدخل الدولي الإنساني المسلح من جانب منظمات دولية إقليمية يصبح غير مشروع لمخالفته لصريح نص ميثاق الأمم المتحدة، إلا إذا حصلت تلك المنظمات على إذن بذلك من مجلس الأمن، أو أقرها المجلس على ذلك، من نحو ما فعلت قوات الإيكوموج ECOMOG التابعة للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس ECOWAS) في الحرب الأهلية الليبيرية عام 1990.

 

وعلى الرغم من ذلك فإن الجانب الأكبر من دول العالم الثالث وفقهائه يذهبون –وبحق– إلى عدم إمكانية التسليم بوجهة النظر هذه لأنها تحمل في طياتها تهديداً خطيراً لسيادات الدول الصغرى من جانب الدول الكبرى رافعة لواء التدخل الدولي الإنساني. فالقول بها يعنى إطلاق يد الدول الكبرى التي قد تكون راغبة في التدخل لاعتبارات أخرى خفية خلاف الاعتبارات الإنسانية المعلنة وإضفاء المشروعية على أعمالها في هذا الصدد.

 

·        الخلاصة:

 

ختاما، يمكن القول أنه لابد من التسليم بتأثير ظاهرة العولمة في مفهوم السيادة الوطنية، فهناك ما يمكن اعتباره إجماعا على أن الاتجاه نحو تقليص دور السيادة الوطنية في نطاق العلاقات الدولية آخذ دون شك في التزايد وبشكل مطرد، على الأقل خلال المستقبل القريب،  ويمكن إرجاع ذلك ذلك إلى أن العديد من التطورات الحادثة الآن في نطاق هذه العلاقات لا تزال فعالة ومؤثرة في تشكيل بنية النظام الدولي، ولكن في النهاية لا يمكن التسليم بأن هذه التطورات ستفضي في نهاية المطاف إلى زوال مبدأ السيادة الوطنية تماما. فأقصى ما يمكن أن يترتب على هذه التطورات هو تغيير طبيعة الوظائف التي تضطلع بها الدول، مقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام الدولي التقليدي، فالسيادة ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية، التي لم يجرؤ أحد حتى الآن على القول بأنها ستنهار أو ستختفي بشكل كامل.  وإجمالا يمكن الدفع بأن تأثيرات العولمة سيختلف مداها من حالة إلى أخرى، وفق محددات أهمها مقدار ما تتمتع به الدولة المعنية من قوة على خريطة توازنات القوى الدولية.

 

 

·         مدرس العلوم السياسية- المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- مصر

المصدر: http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=1161

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك