تحسين الخطاب الدعوي
تحسين الخطاب الدعوي
"هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به.
فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم...."
ما سبق هو فقرة من كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية الأثير، والعالم المجدد لتراثه، والشارح لفكره، والمضيف لمجهوده. وربما لو كنت قد أخفيت اسم ابن القيم لتخيل المرء أن من كتب هذا المقال يعيش بيننا الآن وقد فرغ لتوه من دراسة فقه المقاصد والمعاني النبيلة للدين التي نحتاج إلى غرسها في عقولنا وقلوبنا لتظهر في سلوكنا.
لقد قمت بنفسي بتجربة بسيطة وهي إحصاء كلمة "مصالح العباد" فوجدتها تكررت في الكتاب ثلاثين مرة بواقع: 8 و 13 و 6 و 3 على الترتيب من الأجزاء الأربعة للكتاب، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد لا لتنفيرهم وتكديرهم.
الجميل في طرح ابن القيم أنه خرج من ضيق المصطلحات الفقهية إلى سعة المعاني الربانية الكبيرة ولم يحبس نفسه في مسألة واحدة أو باب واحد وإنما ألقى نظرة طائر محلق على الشريعة كلها ثم خرج بهذا الرحيق الجميل. وقد قصدت اقتباس كلام ابن قيم لأنه يتعرض لظلم كبير حيث يستسهل بعض الذين لا يحبون الفكرة الإسلامية فيهاجمونه باعتباره حسب ما يزعمون مجرد مقلد جامد ومتشدد.
يقول المولى تبارك وتعالى:" وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم..." وكما نعلم فإن النكرة في سياق النفي تعم، والمعنى أنه ليس ثمة حرج أو مشقة على الإطلاق في الإسلام.
والذي أقصده من هذا كله يقوم على بدهية معروفة لا تقبل النقاش وهي أن الناس لا يستطيعون العيش بدون الدين الذي يشبع الجانب الوجداني عندهم، وإذا جحد أحد قولي هذا فليذهب إلى اليابان التي حققت معجزات اقتصادية وعلمية باهرة وسيرى بنفسه أن في أعقد المصانع والمؤسسات والمعامل هناك دائما ركن للعبادة. تخيلوا عبادة الأوثان، بل لعلك لا تعجب لأنك تعلم أن أكبر علماء البرمجيات في العالم يعبدون البقر ، وهم هنود كنا في مصر نسخر منهم ونطلق عليهم النكات بينما تستعين بهم الولايات المتحدة لديها في وادي السيليوكون المعروف بأعقد تقنيات الكمبيوتر.
إذن الأمر لا دخل له بالتقدم أو التخلف... الأمر في تصوري هو دافع إنساني يلح علينا ويحدونا نحو الإيمان. ومن فضائل الإسلام أنه وفر الجانبين المادي والروحي لأتباعه بما يتفق مع فطرتهم. فالإسلام مع الغنى وضد الفقر، وهو يشدد في نصوصه في القرآن والسنة على إعمار الحياة ونشر السلام، وفي ذات الوقت لا يكف عن تطهير القلب بالعبادة واللجوء إلى الله سبحانه.
لكن لنأت الآن إلى بلادنا لنرى هذا المد البروتستانتي الذي تأثره الدعاة الجدد لدينا فيخرج الواحد منهم مجيدا للغة الجسد والعين (Eye Contact & Body Language) من تسبيل وتحريك مؤثر للذراعين ونظرات خبيرة للكاميرا وابتسامات مدربة ليخرج بصورة درامية مكثفة تجعل من كلامه شكلا من أشكال الدعوة الفنية والتمثيلية لا الفقهية أو العلمية.
لك أن تتخيل معي وأنا أصعد أحد الكباري الضخمة في القاهرة فأجد صورة لداعية شاب ربما من عمري بينما تراه لا يختلف قيد أنملة عن نجم سينمائي حيث رابطة العنق وكريم الشعر ويداه في وسطه وابتسامة عريضة وكل هذا لا غبار عليه فالله جميل يحب الجمال لكن المشكلة في عنوان اليافطة لمحاضرته القادمة وهو:" قصة حب"!!!!!!
الأخطر من هذا أن أجد واحدا من كبار الشيوخ يتكلم في محاضرة طويلة عريضة عن أم الولد (وهي الأمة التي تزوجها سيدها فأنجبت منه) ولا مشكلة في هذا إن كان درسا في الفقه لكنه لا يميل إلى التحدث عن الواقع قط.
فقه الواقع لا مناص من أخذه بالاعتبار لكل من يتصدى لأمر الدعوة سيما في عصرنا المعقد الذي فتحت فيه كل النوافذ وتداخلت العلوم وتشابكت الرؤى وصار واجبا حتميا علينا أن نبني لأنفسنا خطابا جديدا على أن نبدأ بالدين أولاً لأنه الأهم في نفوس الناس وحياتهم والأكثر تأثيرا عليهم.
ولعلنا لا ننسى أن ظهور القنوات الدينية والدعاة الجدد أمر لا يمكن رفضه قط ولا هدمه لأنه في حد ذاته تداع طبيعي ومنطقي لعصرنا ذي الإيقاع السريع والشهرة السهلة لكن واجبنا ألا نكف عن تقديم النصح والنقد البناء قدر ما نستطيع لأن العصر الذي نحن فيه قد فرض علينا تحديات كبيرة أولها سؤال الهوية. ولأن إسلامنا قد بلغ الشرق والغرب وكانت أشهر خصال علماء الدين هي التصنيف والتبويب والكتابة والتدريس والتعليم والنصح والإرشاد إلى المعروف والخير فضمانة التقدم للمسلمين أكيدة فقط لو ثبتنا في أنفسنا وعرفنا من نكون؟
المصدر: http://arabicenter.net/ar/news.php?action=view&id=1000&PHPSESSID=4b509354461bb7a98dc12db52b11cd4c