الحوار بين الإفهام والإفحام
الحوار بين الإفهام والإفحام
فقد كَثُر في الآونة الأخيرة الحديثُ عن الحوار ومفاهيمه وأنواعه، وبالَغ بعض المهتمِّين به، حتى جعَله بديلاً لمعظم وسائل التغيُّر والتأثير الأخرى، ولا ريبَ أنَّ وصول الأطراف المختلفة إلى تفاهُم أو تقارُبٍ، أو تنازل إيجابي عبر الحوار، أفضل من الوصول إلى هذه الغايات بوسائلَ أخرى، خلا الإقناع التلقائي، والتعليم على أن الإقناع قد يَحتاج إلى حوار، وكذلك التعليم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحْبه ومَن اتَّبع هُداه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ..
فقد كَثُر في الآونة الأخيرة الحديثُ عن الحوار ومفاهيمه وأنواعه، وبالَغ بعض المهتمِّين به، حتى جعَله بديلاً لمعظم وسائل التغيُّر والتأثير الأخرى، ولا ريبَ أنَّ وصول الأطراف المختلفة إلى تفاهُم أو تقارُبٍ، أو تنازل إيجابي عبر الحوار، أفضل من الوصول إلى هذه الغايات بوسائلَ أخرى، خلا الإقناع التلقائي، والتعليم على أن الإقناع قد يَحتاج إلى حوار، وكذلك التعليم.
وموضوع الحوار كثير المواد وفير المصادر، وسيَنحصر الحديث هنا في غرَضين مهمِّين للحوار:
أوَّلهما: الإفهام.
والثاني: الإفحام.
فالإفهام: هو إيصال المعلومة إلى العقل بطريقة علميَّة، تعتمد على البرهان والحُجَّة، والاستدلال بدليل عقلي أو فِطري أو حِسِّي، أو بأمرٍ شعوري عاطفي.
أما الإفحام: فهو إسكات الشخص المقابل وقطْع حُجَّته بمغالبة منطقيَّة برهانيَّة أو خطابيَّة إنشائيَّة مجرَّدة.
الإفهام: هو طريق الإقناع.
أمَّا الإفحام: فهو قطْع الطريق على الشخص المقابل، والغالب على الحوارات الإيجابيَّة استعمالُ الإفهام، وقد تكون هناك ضرورة لاستعمال الإفحام، ولكنَّه ليس هو الأصل والمنطلق، إلاَّ عند مَن يقصد مجرَّد المغالبة، ويَهِدف إلى الانتِصار والظهور بحقٍّ أو بباطل، وهذا هو المِراء المنهي عنه، أو الجِدال بالباطل؛ كما قال تعالى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56].
وإذا كان الإفهام هو الأصل، والإفحام هو الاستثناء، فإنَّ ذلك يختلف باختلاف القضايا واختلاف حال المحاورين، وعلى ذلك فيُمكن تقسيم الأمر إلى أربعة أقسام:
الأول: ما يحتاج إلى إفهام وإفحام، وهذا في القضايا ذات الشرط العلمي الموضوعي، التي لا يقتنع المحاور فيها بالأدلة والبراهين، فيحتاج إلى صدْمة إفحامٍ تُزيل غِشاوة الشُّبهة، وتَقشَع غَيْمَ اللَّجاجة، واستعمال الإفحام هنا كاستعمال الدواء الذي يُقْصَد منه شفاء حالة معيَّنة، فإذا زالت الحالة تَمَّ إيقاف الدواء.
الثاني: ما يحتاج إلى إفهام دون إفحام، وهذا هو الأصل كما سبَق، وهو ميدان المتحاورين الباحثين عن الحقيقة، وميدان التعليم والدعوة، والنُّصح والوعظ والإرشاد، وهو يَعتمد على أساليب الحِكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
الثالث: ما يحتاج إلى إفحام دون إفهام، وهذا يُستعمل في حقِّ المُكابرين والمستطيلين بالباطل، والمُراغِمين للحقائق والمتكبِّرين المُكابرين، وأصحاب الخصومة بالباطل، والذين يَسعون في نشْر أباطيلهم، وبثِّ ضلالتهم ببَهارِج الأقوال والأفعال.
الرابع: ما لا يحتاج إلى إفهام ولا إفحام، وهذا في القضايا التي ليس لها شرْط علمي، كالذوقيَّات الشخصيَّة، كالأصوات والألوان، والمطعومات والمشروبات، ونحوها مما هو مُباح شرعًا، ففلان يُعجبه صوت القارئ الفلاني، وآخر لا يعجبه، فهذا لا يحتاج إلى إفهام ولا إلى إفحام؛ لافْتِقاره إلى الشرط الموضوعي، وكثير من الناس يَتجادلون في قضايا من هذا القبيل، ويُكثرون حولها الكلام، وقد يَصِلون إلى مرحلة الخِصام، ولو فَطِنوا إلى أنها لا تحتاج إلى ذلك، لَمَا أهْدَروا جهودَهم فيما لا طائلَ من ورائه.
وفي القرآن العظيم قصة حوار بين نبي ومَلك كافر، بُدِئت بالإفهام وانتَهت بالإفحام، وذلك في قصة إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- مع النّمرود، حين تجرَّأ على المحاجَّة في الله - تشكيكًا أو جُحودًا، بسبب عناده وإصراره على إظهار الارتياب فيما لا يَقبل التشكيك، مستعليًا بسُلطته التي حَمَلتْه على الطُّغيان والفساد والاستكبار، فزعَم أنَّه يفعل كما يفعل الله، فاستعمَل إبراهيم - عليه السلام - منطقًا عقليًّا وبرهانًا حِسيًّا؛ ليُفْهِمه الحقيقة، فقال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]؛ أي: إنه هو المتفرِّد بأنواع التصرُّف، وخصَّص إبراهيم - عليه السلام - الإحياء والإماتة؛ لكونهما أعظمَ شواهد التدبير الإلهي، وأوضحَها حِسًّا وعقلاً، حينها أجاب النُّمرود بقوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]. وزعَم أنه يستطيع ذلك بأن يأتي بشخصين، فيقتل أحدهما، فيكون قد أماتَه، ويَستبقي الآخر، فيكون قد أحياه، وهذه مُغالطة واضحة، ومُجادلة باطلة، ومُماحَكة صَلْعاء، حينها لَم يَستطرد إبراهيم -عليه السلام- في بيان فساد قوله وبُطلان ما ذهَب إليه، حين ذهَب يُغالط في مُجادلته، ويتحدَّث بشيءٍ لا يَصلح أن يكون شُبهة، فضلاً عن كونه حُجَّةً، فلم يبقَ حينها إلاَّ استعمال الإفحام بالإلزام، فكأنه قال له: إنْ كنتَ صادقًا في دعواك، {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، وهذا إفحام منطقي حِسي، لا قُدرة للنُّمرود على ردِّه أو التشويش عليه بمُغالطة من أيِّ نوع؛ ولذلك حصَل له ما أخبر الله به: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]؛ أي: تَحيَّر وانقطَع، فلم يُرْجِع إليه جوابًا، وهذا حال المعاند المُبطل، الذي يحاوِل أن يُقاوم الحقيقة ويُغالبها، فإنه إذا وجَد مَن يُجادله بعلمٍ وإدراكٍ، فإنه مغلوبٌ لا مَحالة، داحضُ الحُجَّة ساقطُ الاستدلال.
المصدر: المركز العالمي للوسطية.